الكرملين يغازل الرياض.. هل ينجح بوتين في اختراق التحالف السعودي الأميركي؟

في التاسع من مارس/آذار الماضي، حطَّت طائرة وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" في الرياض في زيارة التقى فيها وزراء الخارجية والدفاع والطاقة السعوديين. جاءت الزيارة متزامنة مع رسائل إيجابية تبادلتها الولايات المتحدة مع إيران عبر قنوات دبلوماسية غير مباشرة، ولم يخفَ على أحد ما أثارته تلك الرسائل من قلق في السعودية، التي تُجابه منفردة الآن تهديدات مباشرة من صواريخ الحوثيين وطائراتهم المسيرة التي تخترق مجالها الجوي باستمرار، وتتخوَّف من تجدُّد الاتفاق الأميركي الإيراني المُنصب على كبح البرنامج النووي دون نظر في الأدوار التي يلعبها حلفاء إيران العسكريون في المنطقة. لذا، باتت الرياض تنظر للروس، خصم الأميركيين الكلاسيكي عسكريا واستخباراتيا، بوصفهم ورقة مهمة في إطار السجال مع واشنطن والبحث عن تحالفات دولية جديدة.
على مرِّ عقود مضت، كان لهجمة إرهابية محدودة قُرب المنشآت النفطية السعودية أن ترفع درجة الاستعداد في صفوف القوات الأميركية بالخليج إلى أقصى حد، كي تؤمِّن القوة العسكرية الأكبر في العالم إمداداتها من النفط. لكن الأهمية المتضائلة لنفط الخليج طوال العقد الماضي غيَّرت الكثير في الإستراتيجية الأميركية، فبات استهداف المواقع السعودية والمنشآت النفطية في شرق المملكة يمرُّ دون اتخاذ خطوات أميركية رادعة بوجه الفاعلين. بيد أن الفراغ الأمني ذاك، كغيره من فراغات تتركها واشنطن في خضم انشغالها بالمحيط الهادي والتنافس مع الصين، جذب أنظار الكرملين ليلعب دورا لم يكن يتخيَّل أحد أن يلعبه قبل بضع سنوات في منطقة طالما عُدَّت أميركية بامتياز.
حين وقعت هجمات أرامكو في سبتمبر/أيلول 2019، لم ينتظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طويلا، بل اتجه إلى الأراضي السعودية كي يعرض السلاح الروسي على المملكة بُغية حماية بنيتها التحتية من أي هجمات، وتقديم العون عبر أنظمة الدفاع المضادة للطائرات المُسيَّرة، وهي دعوة يبدو أن الرياض قرَّرت التجاوب معها سياسيا في ظل الشد والجذب الهادئ مع إدارة بايدن الجديدة العازمة على ألا تكون شراكتها مع السعودية دون شروط. وكما تقول "كوري شاكِه"، مديرة السياسات الدفاعية والخارجية في معهد "أميركان إنتربرايز": "لو كنت مكان السعوديين، لسلكت طريقا إلى موسكو، وآخر إلى بكين؛ بحثا عن شريك أكثر ثقة من الولايات المتحدة"، ويبدو أن هذا هو ما تفعله الرياض بالضبط. [1]
حمل توقيت الزيارة الأخيرة للافروف رسائل عدة، فروسيا، التي تُكثِّف دبلوماسيتها اليوم لتعزيز دورها الإقليمي، تبحث عن فرصة لتحوز أوراقا وخيوطا كافية تصبح معها أقدر على تسيير دفة السياسة الإقليمية، مثلما فعلت مع تركيا في سوريا رُغم التنافر الواضح بين البلدين. ومن ثم هرع لافروف إلى المملكة مُدينا الاعتداء الأخير الذي تعرَّضت له المنشآت النفطية السعودية في رأس تنورة شرق البلاد، ومُتحدِّثا عن اعتداءات الحوثيين وأهمية وقف الحرب في اليمن خلال المؤتمر الذي عُقد مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان، في لحظة بدا فيها الأميركيون أقل اكتراثا بأمن المملكة من أي وقت مضى. تماما كما فعلت مع أنقرة، تبدو موسكو في طريقها لطرق أبواب حليف أميركي جديد فترت علاقته بواشنطن، لكنها محاولة تجري على خلفية تاريخ معقَّد من العلاقات.
سبق الاتحاد السوفيتي العالم حين قرَّر أن يكون أول دولة تعترف بالمملكة العربية السعودية عام 1926، ثم مضى يُعمِّق علاقاته السياسية مع المملكة برفع مستوى تمثيله الدبلوماسي على الأراضي السعودية، فحوَّل قنصليته في مدينة جدة إلى سفارة تُمثِّله بعد أربع سنوات من هذا الاعتراف. غير أن العلاقة بين المملكة حديثة العهد بعالم النفط والقُطب الدولي المنتصر في الحرب العالمية الثانية تدهورت خلال الحرب الباردة، حيث سلكت المملكة المحافظة مسارَ التحالف مع الغرب ضد الاتحاد السوفيتي واقفة بوجه أيديولوجيته الشيوعية. ولم يقف السعوديون مع الغرب فحسب، بل إنهم أقدموا على تسليح المجاهدين الأفغان الذين قاتلوا الغزو السوفيتي لأفغانستان في الثمانينيات وحازوا تمويلهم المالي الأساسي من عائدات النفط السعودي. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، استمرت العلاقات بين السعودية وروسيا دون المستوى، لكن هذا لم يمنع أن يتفق البلدان على مواقف دولية بعينها، مثل تصويتهما شبه الدائم لصالح القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة.
شكَّلت زيارة بوتين للسعودية عام 2007، بوصفه أول رئيس روسي تطأ قدمه الأراضي السعودية، نقطة محورية على صعيد العلاقة بين البلدين. وقد تكرَّرت لقاءات بوتين مع قادة السعودية، فجرى لقاء آخر على هامش قمة "مجموعة العشرين" التي ينتسب لها البلدان عام 2008، ثم التقى بوتين بالملك سلمان في قمة العشرين أيضا عام 2015. تباعا، تعمَّقت المصالح المتبادلة بين البلدين على نحو غير مسبوق، وبلغ التقارب ذروته مع أول زيارة لموسكو يقوم بها عاهل سعودي في تاريخ البلدين حين زار الملك سلمان موسكو عام 2017، فاستُقبِل في قاعة "سانت أندرو" الفخمة في الكرملين على خلفية عرض عسكري ضخم عُزفت خلاله أنغام الأوركسترا الروسية.

خلال تلك الزيارة وُضعت نقاط انطلاق جديدة في العلاقات بين البلدين، حيث وقَّع البلدان اتفاقيات أولية لشراء السعودية نظام الدفاع الجوي الروسي "إس-400" وأنظمة صواريخ موجَّهة مضادة للدبابات، بالإضافة إلى 15 اتفاقية بين صندوق الاستثمارات المباشرة الروسية (RDIF) وصندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF)، تفوق قيمتها مليار دولار، إلى جانب إطلاق مشاريع في مجالات متعددة، كالطاقة والبتروكيماويات. ناقش قطبا الطاقة الأكبر أيضا أُفق التعاون فيما يخص أسعار النفط العالمية، حتى شكَّل النفط بعد عام 2016 محور علاقات البلدين، كما كان سببا رئيسيا في تنافر مصالحهما في أكثر من مناسبة، بعدما شنَّ البلدان حربا نفطية ضد بعضهما بعضا أدَّت إلى أكبر انخفاض في أسعار النفط منذ نحو عقدين. [2]
بصحبة وفد تجاري وأمني وعسكري كبير، عاد بوتين مجددا عام 2019 بعد أكثر من عقد على زيارته الأولى إلى الرياض، حيث تفاوض البلدان مجددا على شراء نظام الدفاع الجوي "إس-400" ونشره. وقد أُعلِن في تلك الزيارة عن توقيع أكثر من عشرين اتفاقا بلغت قيمتها أكثر من مليارَيْ دولار، وكان أبرزها اتفاق لشركة أرامكو السعودية اشترت بموجبه 30% من أسهم شركة "نوفومت" الروسية لمعدات النفط. كان حجم التجارة الثنائية بين البلدين آنذاك يزيد على 1.6 مليار دولار، وتضمَّن ذلك الشحنة الروسية الأولى من القمح إلى المملكة العربية السعودية، البالغة 60 ألف طن، وتلتها شحنة أخرى بالحجم نفسه، ما اعتبره محللون تجاوزا للتوتر الذي ساد العلاقات بين البلدين نتيجة حرب الأسعار النفطية.
في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2019، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قرار سحب نحو ألف جندي أميركي موجودين على امتداد الحدود التركية السورية، وذلك بموجب تفاهم ضمني يسمح لتركيا بشن هجوم عبر الحدود لإقامة "منطقة آمنة" بعمق 32 كيلومترا خالية من قوات وحدات حماية الشعب الكردية، الحليف الرئيس لواشنطن في المعركة السورية الحالية. لم يكن الخذلان الأميركي للأكراد رسالة لهم وحدهم، وإنما بعث برسائل خطيرة إلى حلفاء آخرين لواشنطن، أولهم السعودية. عشية تنفيذ الانسحاب الأميركي ذاك، كان الرئيس الروسي بوتين في زيارته للمملكة العربية السعودية، عارضا على السعوديين أنظمة دفاع روسية قادرة على تعزيز أمنهم أمام التهديدات المتزايدة. كان خبر الانسحاب الأميركي من سوريا فرصة للرئيس الروسي الذي جاء مستفيدا من قلق الرياض حيال خفوت الالتزام الأميركي، فبعد أن أبدى استعداد بلاده تقديم المساعدة إلى المملكة عبر نظام الدفاع الجوي الروسي الأحدث، صرَّح بأن السلاح الروسي يسعه حماية البنية التحتية السعودية من أي هجمات مستقبلية.
هنالك سلسلة من الأحداث أثارت تخوُّفات الرياض ودفعتها للبحث في خيار تنويع الشراكات مع حلفاء عدة بعيدين عن الغرب بوصفهم خيارا أول، ويعود ذلك إلى عام 2011، عام الانتفاضات العربية الذي كشف ما اعتبره السعوديون ودول الخليج كافة تخليا سريعا من واشنطن والغرب عن حلفاء مُهمِّين لهم مثل الرئيس المصري حسني مبارك. أما التحوُّل الأكثر إيلاما بالنسبة للرياض فكان توقيع الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، للاتفاق النووي الإيراني عام 2015، الذي ترك جرحا عميقا في العلاقة الأميركية السعودية. يُضاف إلى ذلك حادثة مقتل الكاتب الصحفي جمال خاشقجي على يد مسؤولين سعوديين في أكتوبر/تشرين الأول 2018، التي أكَّدت للرياض أن الإدارة الأميركية لا تستطيع منع الأصوات المنادية بمحاسبة المسؤولين كافة وصولا إلى ولي العهد نفسه.[3]
على عكس الولايات المتحدة، وفي الفترة نفسها، واصل الروس حماية حلفائهم، وأبرزهم نظام الأسد في سوريا، غاضّين الطرف عن درجة قمعهم لشعوبهم بوحشية، ومُتحرِّرين بطبيعة الحال من أي قيود قانونية أو أخلاقية، فقدَّموا بذلك نموذجا جذابا للأنظمة غير الديمقراطية التي تعج بها المنطقة. بل إن الرئيس بوتين كان الوحيد الذي وجَّه تحية حارة لولي العهد السعودي في قمة مجموعة العشرين التي عُقدت بعد شهرين من مقتل خاشقجي، في حين اختار قادة الدول الغربية تجنُّبه أمام الكاميرات حتى حين، رُغم استمرار علاقاتهم مع السعودية فعليا.
في 13 فبراير/شباط الماضي، وقفت المتحدثة باسم البيت الأبيض "جين بساكي" على المنصة لإلقاء إفادتها اليومية أمام الصحفيين، فيما يخص علاقة الإدارة الأميركية الجديدة بالسعودية، وقالت بساكي: "من الواضح أن ثمة مراجعة لسياستنا تجاه السعودية، وليست هناك مكالمة مخطط لها مع ولي العهد السعودي أنا على علم بها".
لم يكن التصريح السابق وحده نذير نهج أكثر صرامة لرئيس أميركي جديد وصف السعودية أثناء ترشُّحه للانتخابات بـ "المنبوذة"؛ فثمة قرارات اتخذها بايدن تنفيذا لوعوده الانتخابية كانت تشي بحقبة لن تتمتَّع فيها الرياض بالامتيازات ذاتها التي حازتها في عهد إدارة ترامب، وعلى رأسها القرارات التي اتخذتها واشنطن إزاء الحرب في اليمن، مثل قرار تعيين مبعوث من أجل الدفع نحو حل دبلوماسي، وما سبقه من تجميد لمبيعات الأسلحة إلى الرياض بصورة مؤقتة، وإنهاء الدعم الأميركي للعمليات العسكرية هناك، وفتح قنوات تواصل مع الحوثيين. أيضا، لم تتردَّد الإدارة الأميركية في رفع السرية عن تقرير وكالة الاستخبارات المركزية في 25 فبراير/شباط الماضي، الذي يُوجِّه أصابع الاتهام مباشرة إلى ولي العهد السعودي في التورُّط باغتيال خاشقجي. وبعد يومين فقط من تصريح المتحدثة الأميركية، كان المسؤولون في السعودية يبحثون عن بدائل لمواجهة الرياح القادمة من البيت الأبيض، وكالعادة كانت موسكو حاضرة، ليجري اتصال هاتفي لا يمكن تجاهل مغزى توقيته بين ولي العهد السعودي والرئيس الروسي بوتين.
هنالك عدة ملفات يمكن لموسكو أن تُعزِّز بها موقع السعوديين، أهمها إشباع نهم الرياض في شراء الأسلحة ورغبتها في الحصول على نظام "إس-400". فقد عرفت الرياض جدوى التعاون العسكري مع الروس في خريف عام 2017، إبَّان زيارة الملك سلمان لموسكو التي اشترى أثناءها نظام إطلاق الصواريخ المتعددة "سولنتسيبيوك" (TOS-1A Solntsepyok)، واتفق على شراء وتصنيع نظام الصواريخ المضادة للدبابات "كورنِت-إي إم" وقاذفات القنابل اليدوية "إيه جي إس-30". بالتوازي مع تعقُّد العلاقات العسكرية بين الرياض وواشنطن، تُشير تلك الصفقات إلى إمكانية حدوث نقلة نحو الشرق في بنية الترسانة العسكرية السعودية، لا سيما مع اقتراحات روسية صريحة برعاية البنية التحتية الأمنية لمنطقة الخليج.
في النهاية، وفي ظل سعي روسيا للاستفادة من الوضع الحالي لتعزيز علاقتها وتقوية مواقفها مع الرياض بُغية تحوُّلها إلى لاعب مهم في منطقة ظلَّت بمنأى عن النفوذ الروسي لنحو نصف قرن، يمكن القول إن العلاقات الروسية السعودية قد تشهد أبعادا جديدة خلال السنوات الأربع القادمة على خلفية برود العلاقات بين الرياض وواشنطن. صحيح أنه من غير المُرجَّح أن تتدهور العلاقات بين الحليفين القديمين إلى درجة استبدال الأميركيين لصالح الروس بين ليلة وضحاها، لكن تقارب السعوديين مع الروس الآن يعني أن موسكو تخطو خطواتها الأولى نحو البنية الأمنية الأميركية الراسخة في دول الخليج. ولكن بالنظر إلى أن تودُّد واشنطن إلى إيران كان الدافع الرئيسي لتعقُّد علاقاتها مع الرياض، فإن التحالف الوثيق بين موسكو وطهران في ساحة الحرب السورية يعني أن أي شراكة إستراتيجية للرياض مع موسكو لن تقل تعقيدا بأي حال. لا يحتاج السعوديون في الأخير إلى حلف صلب مع موسكو، فهُم يُبدِّلون أوراقهم ويُنوِّعون ترسانتهم العسكرية فحسب في ظل حالة غير مسبوقة من السيولة وعدم الاستقرار في تاريخ منطقة الخليج.
————————————————————————-