جيش أدمن السلطة.. لماذا كان انقلاب ميانمار طبيعيا ومتوقعا؟
أعدّ سيباستيان سترانغيو، الصحافي المختص بشؤون جنوب شرق آسيا، تحليلا نشرته مجلة "فورين أفيرز" حول الانقلاب العسكري الذي شهدته ميانمار (بورما سابقا) مطلع الشهر الجاري. يرى الكاتب أن حدوث هذا الانقلاب كان مسألة وقت لا أكثر، إذ تُشير الأوضاع في البلاد إلى تفاقم التوترات بين حزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية" والجيش ووصولها إلى نقطة لا عودة.
كان مقررا لبرلمان ميانمار المنتخب حديثا أن يؤدي اليمين الدستورية في 1 فبراير/شباط، ليبدأ فترة تمتد لخمس سنوات مقبلة. لكن في ساعات الفجر التي سبقت مراسم اليمين الدستورية، استولى جيش البلاد على السلطة في انقلاب عسكري، وسرعان ما احتجز الجيش مستشارة الدولة أون سان سو تشي، القائدة العليا للبلاد، والرئيس وين مينت، بالإضافة إلى عدد غير محدد من المشرِّعين من حزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية" الحاكم، وآخرين من المعارضين للجيش. كما اعتقلت قوات الجيش مسؤولين في الحزب الحاكم ونشطاء من كل أنحاء البلاد، وعطّلت شبكات الهاتف المحمول والإنترنت مؤقتا.
في خضم هذا الانقطاع في التواصل أعلن الجيش فرض حالة الطوارئ على مستوى الدولة لمدة عام، ونصَّب الجنرال السابق مينت سوي، نائب الرئيس والقائد العسكري السابق للعاصمة يانغون، رئيسا للبلاد بالإنابة. كما أعلن الجيش أن مينت سوي حوَّل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى القائد الأعلى للجيش مين أونغ هلاينغ طوال مدة الطوارئ.
وقع هذا الانقلاب، وهو الأول في ميانمار منذ عام 1988، بعد أيام من تداول شائعات وتقارير حول تحرُّك عسكري وشيك. وعلى غرار الانقلابات العسكرية السابقة، وقع الانقلاب باسم الديمقراطية، إذ يسمح الدستور في ميانمار للجيش بالاستيلاء على السلطة من أجل منع أي موقف من شأنه "تفكيك الاتحاد أو اللُّحمة الوطنية أو أن يُسبِّب فقدان السيادة". زعم الجيش في انقلابه الأخير أنه يحتاج إلى التحقيق في ادعاءات تزوير الانتخابات التي شهدتها البلاد في 8 نوفمبر/تشرين الثاني، التي فازت فيها أون سان سو تشي التابعة لحزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية"، مكتسحة حزب "التضامن والتنمية الاتحادي" المحسوب على الجيش.
وفي بيان لجيش ميانمار عشية الانقلاب، يشبه كثيرا مزاعم الرئيس الأميركي السابق ترامب بشأن وقوع مخالفات في الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في 3 نوفمبر/تشرين الثاني، أكّد الجيش "حالات تزوير جسيمة في قوائم المصوّتين خلال الانتخابات العامة الديمقراطية، وهو ما يتعارض مع ضمان ديمقراطية مستقرة"، وأضاف الجيش: "ما لم تحل هذه المشكلة فإنها ستَعوقُ تقدُّم المسار الديمقراطي". وبدا أن الجيش يستبق نتائج "التحقيق" الذي وعد بإجرائه، مُعلِنا إجراء انتخابات جديدة بعد عام من الآن يعقبها تنازل الجيش عن السلطة للحزب الفائز.
لم يكن تزوير الانتخابات هو ما أعاق مسار الديمقراطية في ميانمار، بل عملية الإصلاح السياسي الجزئي المتعثرة التي فاقمت التوترات طويلة الأمد بين المدنيين والعسكر. كان قادة العسكر في البلاد هم مَن بادروا بالإصلاحات بعد الانتخابات الوطنية في نهاية عام 2010، التي أتت على رأس السلطة بحكومة شبه مدنية فتحت المجال السياسي العام وأقامت جسور التعاون مع الولايات المتحدة وغيرها من الحكومات الغربية. لكن جنرالات الجيش سعوا إلى الحفاظ على امتيازاتهم بالإبقاء على سلطة حق النقض (الفيتو) في مسائل دستورية. هدّد الانتصار الكاسح الذي حقّقه حزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية" في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني ميزان القوى الحساس، ولم يرغب الجيش برؤية سلطته تتقلّص أكثر من ذي قبل فعلَّق التجربة الديمقراطية وعاد إلى الحكم العسكري.
يُبرِز هذا الانقلاب عيوب حملة الإصلاح التي بدأها جنرالات ميانمار الذين حكموا طويلا بعد انتخابات 2010، حيث انطلقت الحملة حثيثا وحملت كثيرا من الآمال، لكنها سرعان ما تعثرت وباتت حملة جزئية. في غضون شهور، بداية من منتصف عام 2011، أطلقت الحكومة سراح مئات المحتجزين، ورفعت الرقابة عن الصحافة، وسمحت لأون سان سو تشي بالعودة إلى الحياة السياسية بعد سنوات من الإقامة الجبرية، وأطلقت محادثات سلام مع أكثر من 12 جماعة معارضة. وصلت هذه العملية الإصلاحية إلى ذروة مذهلة عندما فازت أون سان سو تشي وحزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية" بالانتخابات في 15 نوفمبر/تشرين الثاني وتولّوا قيادة الحكومة في مطلع عام 2016.
لم تتوافق تماما سردية إرساء الديمقراطية في ميانمار مع ما يحدث على أرض الواقع. ففي حين رأى الكثير من المراقبين الغربيين أن هذه الأمة قفزت أخيرا لتكون على الجانب الصحيح من التاريخ، كان قادة ميانمار ما زالوا يصارعون تداعيات الاحتلال البريطاني الذي استمر قرنا من الزمان، وستة عقود متوالية من الحرب الأهلية والديكتاتورية العسكرية. شهدت ميانمار في تلك العقود أيضا انقسامات عِرقية ودينية طويلة الأمد، تجلّت مأساويتها في الاعتداء العسكري الوحشي على مسلمي الروهينغا في البلاد، والصراع غير المحسوم على السلطة بين حزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية" والجيش، هذا الصراع الذي يعود تاريخه إلى التظاهرات الحاشدة في 1988، التي قمعها الجيش بقوة غاشمة. ظهرت أون سان سو تشي للمرة الأولى باعتبارها شخصية سياسية بارزة خلال هذه التظاهرات، ويعود صيتها الذائع في مجمله إلى معارضتها الشرسة للحكم العسكري منذ ذلك الحين.
نحَّت الإصلاحات التي بدأت في 2011، متعمدة، هذه الخلافات طويلة الأمد بين حزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية" والجيش جانبا. كان دستور البلاد الصادر عام 2008 قد أرسى محددات "الانتقال الديمقراطي" (كما سارع بعض المراقبين الغربيين إلى تسميته آنذاك). لكنّها الوثيقة التي فُصِّلت صراحة لحماية سلطة الجيش وصلاحياته. فقد ضَمِنَ هذا الدستور، الذي صاغته الطغمة العسكرية ووافق عليه استفتاء شعبي معيب في مايو/أيار 2008، سيطرة الجيش على ثلاث وزارات نافذة وربع عدد مقاعد البرلمان، وهو الرقم المطلوب للاعتراض على أي تعديل دستوري.
كما نص هذا الدستور على مادة تمنع أون سان سو تشي من تقلُّد منصب الرئيس بحكم زواجها سابقا من مواطن أجنبي. وقد وضعت هذه الإصلاحات الدستورية (في عام 2011) حدًّا للنزاع طويل الأمد بين حزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية" والجيش في الهيكل الدستوري للبلاد.
ومن غير المفاجئ أن يسعى حزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية" للدفع بأجندة إصلاح دستوري بعد انتصاره التاريخي في 2015، إذ برزت جهود الحزب في مطلع العام الماضي، حينما تقدّمت الحكومة التي يقودها حزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية" بمقترح لإجراء عدد كبير من التعديلات الدستورية التي تهدف إلى الحد من سلطات وامتيازات الجيش الخاصة أو سحبها تماما. رفض البرلمان التعديلات المقترحة كلها على عجل، بعد تفعيل الجيش سلطة النقض (الفيتو) ذاتها التي كان يسعى الحزب لإلغائها.
بعد ذلك في شهر نوفمبر/تشرين الثاني فاز الحزب في الانتخابات العامة فوزا ساحقا، ما يبدو أنه هز ثقة الجيش في قدرته على إبعاد خطر الإصلاح الدستوري. اكتسحت أون سان سو تشي وحزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية" 83% من مقاعد البرلمان المتنافس عليها. وفي المقابل حصل حزب "التضامن والتنمية الاتحادي" المدعوم من الجيش على نسبة لا قيمة لها تصل إلى 7%. خسر الأعضاء البارزون في حزب "التضامن والتنمية الاتحادي"، وكثير منهم قادة عسكريون سابقون، مقاعدهم على امتداد البلاد، حتى إن حزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية" حقّق فوزا في مناطق كانت تعتبر سابقا مناطق يسيطر عليها حزب "التضامن والتنمية الاتحادي".
ومع ذلك، وبالنظر إلى الحماية الدستورية القائمة، فإنه من غير الواضح إن كان حزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية" قادرا على تهديد امتيازات الجيش وإلى أي مدى يمكنه ذلك؟ لطالما أضمر القائد العسكري مين أونغ هلاينغ، الحاكم الفعلي للبلاد حاليا، طموحاته في منصب الرئاسة، وكان من المقرر إحالته الإلزامية للتقاعد في يوليو/تموز، حينما يتم عامه الـ 65. ومن الممكن أن يكون هلاينغ قد سعى إلى مسار نحو السلطة خارج على القانون، بصرف النظر عن نتائج انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني. وبحسب ما قاله دبلوماسي أجنبي، شريطة السريّة، لوكالة "رويترز": "لم يكن لدى هلاينغ مسار دستوري يُمكِّنه من تقلُّد منصب قيادي في هذه الحكومة". ومن الممكن أيضا أن يكون الجيش قد استثمر بقوة في مزاعمه بوقوع تزوير في الانتخابات، ما جعله يرى أنه لا يمكنه التراجع حفظا لماء الوجه. وعلى أية حال، يبدو أن الانتصار الساحق لحزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية" والهزيمة المدوية لحزب "التضامن والتنمية الاتحادي" قد أوصلا التوترات بين حزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية" والجيش إلى أوجها.
يُمثِّل استيلاء الجيش على السلطة في ميانمار معضلة بالنسبة لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. فمن جهة، يتطلّب اعتداء الجنرالات على العملية الديمقراطية في البلاد ردا قويا من واشنطن. (وبالفعل أصدرت الناطقة باسم البيت الأبيض جين باسكي بيانا تحث فيه "الجيش والأطراف الأخرى كلها على الالتزام بالمعايير الديمقراطية وحكم القانون، وإطلاق سراح المحتجزين اليوم"، وهدّدت باتخاذ إجراء ضد هؤلاء الذين يُقوِّضون التحوُّل الديمقراطي في ميانمار). ومن جهة أخرى، ستسعى الحكومة الصينية إلى الاستفادة من أي خلاف يقع بين ميانمار ودول الغرب الديمقراطية، وستُعلن عن موقفها التقليدي بأن ما حصل الأسبوع الجاري في يانغون هو "شأن داخلي". وبالفعل اتخذت كثير من دول رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) الموقف ذاته.
علاوة على ذلك، فالتاريخ يُرجِّح أنه من غير المحتمل أن تستطيع العقوبات الغربية الإضافية ضد قادة الانقلاب إقناعهم بالتراجع عن مسارهم. وكانت وزارة الخزانة الأميركية وضعت بالفعل مين أونغ هلاينغ على قائمتها السوداء في 2019 لضلوعه في الإبادة العِرقية التي تُرتكب بحق مسلمي الروهينغا. لم يبقَ لدى الجنرال الكثير ليفقده جراء عقوبات إضافية، وربما يُراهِن على أن القوى الغربية لن تفرض عليه عقوبات إضافية بدافع خوفهم من أن يدفع ذلك ميانمار للتقارب أكثر مع الصين. وفي كل الأحوال، فإن القادة العسكريين في ميانمار لديهم سجل طويل مع الخرق المتروِّي للعقوبات الاقتصادية وحظر التجارة، حتى وإن كانت مثل هذه التدابير تُفقر شعبهم.
أيًّا كان ما سيحدث في الأسابيع والشهور المقبلة، فيبدو أن مشكلات ميانمار تتعقّد. وكما علَّق المؤرخ الميانماري ثانت ميينت يو بعد الانقلاب، فإن البلاد تواجه بالفعل تراجعا اقتصاديا حادا على خلفية جائحة كورونا، وفقرا منتشرا، ونزاعات مسلحة بين عشرات الفصائل، ولم يكن وضع البلاد ليتحمّل مثل هذه الأزمة السياسية، إذ قال المؤرخ عبر تويتر: "انفتحت الأبواب للتو ليطل منها مستقبل مختلف كثيرا، لديّ شعور عميق بأنه لا أحد يمكنه السيطرة على ما هو قادم".
——————————————————————————————————-
هذا المقال مترجم عن Foreign Affair ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.