شعار قسم ميدان

تأشيرة إلى المجهول.. حكايات المهاجرين العرب على خط النار بين أوروبا وروسيا

مقدمة الترجمة

في مقالها المنشور بمجلة "ذي أتلانتيك"، تناقش الصحفية الأميركية آن أبلباوم مأساة الآلاف من اللاجئين العرب الواقفين الآن على الحدود الفاصلة بين بيلاروسيا وبولندا في انتظار عبور أبواب أوروبا، فهل ينجح هؤلاء المهاجرون في الوصول إلى أرض الأحلام؟ أم أنهم سوف يُشعلون في النهاية صراعا إقليميا في القارة العجوز؟

نص الترجمة

جلس الصبي الكُردي باكيا على أرض الغابة البولندية الرطبة، إذ فصلته كيلومترات قليلة عن الحدود الشرقية مع بيلاروسيا، والهواء من حوله مُثقل بالبرد والضباب. وفي دائرة من حوله التفَّ والداه وأعمامه وأولاد عمومته، الذين أتوا من القرية نفسها قُرب مدينة "دُهوك" بكردستان العراق، وعددهم 16 شخصا منهم سبعة أطفال، أحدهم رضيع وُلِد قبل أربعة أشهر، وكذلك امرأة عجوز تستطيع المشي بالكاد. لا يتحدَّث أيٌّ منهم البولندية أو الإنجليزية، بيد أن "أنوَر"، أحد أقارب الصبي، يتحدَّث العربية، وقد أخبرنا بواسطة مُترجِم أن عائلته تمكث في الغابة وتتردَّد ذهابا وإيابا بين بولندا وبيلاروسيا منذ أسبوعين. هذا ولم يذق أيٌّ منهم طعاما طيلة اليومين السابقيْن.

في دائرة أخرى، التف حول الصبي وأسرته عدد من الأشخاص حاملين كاميرات؛ منهم البولندي والسويدي والسلوفيني والألماني والياباني والأميركي، وقد كُنت واحدا من هؤلاء. لقد أُرسِل إلينا هذا الموقع بالضبط قبل أيام بواسطة "غروبا غرانيتسا"، منظمة بولندية من المتطوِّعين تأسَّست قبل شهرين لمساعدة المهاجرين، ويعني اسمها بالبولندية ببساطة "مجموعة الحدود". أرسل لنا المتحدِّث الرسمي باسم "غروبا غرانيتسا" رسائل نصية بإحداثيات موقع تلك الأسرة؛ لأنهم أرادوا أكبر عدد مُمكِن من الصحافيين لتوثيق اللحظة التي سيطلب عندها أنور من حرس الحدود البولندي اللجوء رافعا لافتة باللغة الإنجليزية، وتاركا مهمة ترجمتها إلى البولندية لـ "يعقوب سِبيانسكي"، العضو في "غروبا غرانيتسا" أيضا. وقال سِبيانسكي إن وجود الإعلام سيجعل من الصعب بمكان على حرس الحدود البولندي أن يتجاهل طلب أنور ويُجبره على العودة مع بقية أفراد أسرته إلى الغابة، تماما كما فعل مع غيرهم على مدار الأسابيع الماضية.

تأشيرة إلى المجهول

وحشية لوكاشِنكو أشد وطأة، إذ يقبع الرجل في السلطة بفضل العُنف ليس إلا، حيث استخدمه لقمع المعارضة الديمقراطية الضخمة والمعقَّدة.

غريبة هي سلسلة الأحداث التي جلبت ذلك الصبي بعينه إلى هذه الغابة بعينها، إذ تراكمت العديد من الحوادث التراجيدية كي تخلق ظروفا مواتية لموقف كهذا، منها الحروب في العراق وسوريا، وصعود الإرهاب، وفشل الديمقراطية في بيلاروسيا. بل والأغرب هو حقيقة أن مصير الصبي سيتحدَّد وفقا للحسابات السياسية لشخصين لن يقابلهما أبدا، ولا يعرف أسماءهما قطعا: "ألِكسندر لوكاشِنكو"، ديكتاتور بيلاروسيا، و"ياروسلاف كاتشينسكي"، رئيس الحزب الحاكم في بولندا وزعيم البلاد الفعلي الذي يُملي على رئيسها ورئيس وزرائها ما يفعلان.

بيد أن وحشية لوكاشِنكو أشد وطأة، إذ يقبع الرجل في السلطة بفضل العُنف ليس إلا، حيث استخدمه لقمع المعارضة الديمقراطية الضخمة والمعقَّدة، واضعا أكثر من 800 معتقل سياسي خلف قضبان سجونه، الذين تعرَّض الكثير منهم للضرب أو التعذيب، علاوة على هجرة الآلاف غيرهم إلى الخارج. وقد فرض كلٌّ من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عقوبات على نظامه بسبب تلك الجرائم، وهو يسعى الآن للانتقام منهما. ففي الصيف الماضي، أطلق لوكاشِنكو برنامجا برعاية الدولة لتهريب البشر صُمِّم لا ليخدع الناس في العراق وسوريا ولبنان وغيرها بمدى السهولة التي يُمكِن أن يدخلوا بها إلى الاتحاد الأوروبي عبر العاصمة البيلاروسية "مينسك" فحسب، بل صُمِّم ليأخذ أموالهم أيضا في الوقت نفسه.

على سبيل المثال، قال أنور إن أسرته سافرت بواسطة حافلة من أربيل بكردستان العراق إلى إسطنبول بتركيا، حيث اشتروا هناك تأشيرات للسفر إلى بيلاروسيا وتذاكر طيران إلى مينسك، من أجل الوصول في الأخير إلى الحدود البولندية. ورغم أن أنور لم يخبرني قيمة المبلغ الذي دفعه، فإن آخرين غيره تكبَّدوا مصاريف تُعَدُّ مبلغا وقدره في الشرق الأوسط. ويحتوي فيلم وثائقي قصير أُنتِج مؤخرا باسم "تأشيرة إلى المجهول" (Visa to Nowhere) على مقابلة مع مواطن سوري كان يعيش في مخيَّم للاجئين بلبنان قبل أن يُخطِّط للسفر إلى أوروبا عبر بيلاروسيا، وقد دفع الرجل 6000 دولار هي تكاليف الرحلة كاملة مقتنعا بأن الأمر يستحق، وأنه سعر زهيد لقاء "الحياة الكريمة" التي يريدها. لقد راسل الرجل عبر فيسبوك أشخاصا نجحوا في رحلتهم، وأخبروه بأن الأمر سهل، حيث "عانوا لبضعة أيام ثمَّ شقوا طريقهم عبر بولندا". علاوة على ذلك، بثَّ بعض المرافقين أيضا تسجيلا مصوَّرا لوكيل إحدى شركات السياحة في بيروت وهو يخبرهم أن التأشيرة وحدها تُكلِّف 1300 دولار، وهي أموال تذهب إلى الحكومة البيلاروسية كما يُفترض.

ينزل المهاجرون في فنادق حالما يصلون إلى مينسك، ويدفعون أيضا لقاء مكوثهم فيها، رغم أنهم يبيتون أحيانا في المطار، وقد أظهرت تسجيلات فيديو منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي أعدادا مُتكدِّسة منهم في مجموعات كبيرة بمركز مدينة مينسك، كما يتناقل السُّكَّان روايات شراء المهاجرين أحذية طويلة من المطَّاط وملابس شتوية. بعدئذ تتوالى أحداث قاتمة، إذ يدفع البعض من أجل نقله إلى الحدود -وقال أنور إن تكلفة كل سيارة مُحمَّلة عن آخرها بالناس تبلغ 300 دولار-، في حين روى آخرون اصطحابهم من طرف رجال بزيٍّ رسمي، هُم حرس الحدود على الأرجح. وحين يصلون إلى السياج الحدودي، يؤمر المهاجرون بعبوره -بصورة غير شرعية- وتنقلهم الشاحنات بطول الحدود، ويساعدهم حرس الحدود البيلاروسي في إيجاد المواقع الخالية حيث يسهُل التسلُّل إلى الجهة الأخرى. هذا وأخبرنا أنور أن حرس الحدود استخدموا مقصَّ الأسلاك لقطع السياج الحدودي والسماح لعائلته بالمرور، أما البعض الآخر فأُعطي مقصَّات الأسلاك وطُلِب منه أن يقطع السياج بنفسه.

ما من خيار أمام المهاجرين إذن حالما يصلون إلى تلك النقطة، فلا يُسمح لهم بالتقدُّم لعبور نقاط التفتيش الحدودية الرسمية طلبا للجوء، رغم أن بعضهم طلب ذلك بالفعل، ولا يُسمح لهم بالعودة إلى مينسك، حتى لو توسَّلوا بأن تُتاح لهم فرصة العودة إلى ديارهم، بل ويرفع حرس الحدود البيلاروسي المُسدَّسات في وجوهِهم قائلا لهم إنهم لا يملكون خيارا بديلا، ومن ثمَّ تبدأ مسيرتهم نحو الغرب.

لُعبة تهريب البشر

بدأ مشروع تهريب البشر هذا على حدود بيلاروسيا مع ليتوانيا، وهي عضوة بالاتحاد الأوروبي. وقد كان عدد المهاجرين ضئيلا في بادئ الأمر، ولكنه سرعان ما ازداد دافعا حرس الحدود البيلاروسي إلى اقتياد الناس إلى الحدود مع لاتفيا، ثمَّ إلى الحدود مع بولندا. الآن، بتوافد الآلاف على مينسك من الشرق الأوسط أسبوعيا، يتغيَّر الوضع مجددا، إذ حشد حرس الحدود البيلاروسي المئات من المهاجرين معا ودبَّر لاعتداء جماهيري على الحدود قُرب بلدة "كوجنيتسا" (Kuźnica) البولندية. وقد أُعطي حرس الحدود البيلاروسي عبوات من الغاز المسيل للدموع كي يستخدموها في مواجهة حرس الحدود البولندي، واستخدموا أيضا أضواء الليزر والمصابيح الومَّاضة (أو المصابيح الاصطرابية كما تُعرف أحيانا التي تُصدر ضوءا مترددا) حتى يعجز البولنديون عن رؤية ما يجري، ولا يزال ضباط الشرطة والجنود البولنديون محتشدين بطول الحدود حتى اللحظة.

إن تكتيك لوكاشِنكو محض استخفاف شيطاني، فهو يُحوِّل يأس البشر إلى سلاح له، ويستميل الناس نحو رحلة خطيرة ومُهلِكة، ويأخذ أموالهم، ويُجبرهم على خرق القانون. أما على الجهة البولندية فتتَّسم سياسات كاتشينسكي بالاستخفاف أيضا وإن بشكل مختلف، إذ يرغب قائد حزب "القانون والعدالة" البولندي بالبقاء في السلطة مثله مثل لوكاشِنكو، ولكن لأن بلده حتى اللحظة ديمقراطية، يحتاج الرجل إلى تأييد شعبي. وقد اعتاد كاتشينسكي على حشد التأييد الشعبي في الماضي عبر استخدام بث الخوف والقلق وكراهية الأجانب، ففي أثناء أزمة اللاجئين السابقة بأوروبا عام 2015، حذَّر الرجل من أن لاجئي سوريا حاملون لطفيليات، وأنهم سيستخدمون الكنائس مراحيضَ لهم.

من هذا المنظور الضيق، تُعَدُّ أزمة المهاجرين الحالية مفيدة لكاتشينسكي، ففي خضم تزايد حالات الإصابة بـ "كوفيد-19" والارتفاع الشديد بمُعدَّل التضخُّم وتفشي الفساد، بوسع كاتشينسكي الآن أن يُغيِّر الموضوع إلى خطر غزو بولندا من جانب المسلمين المُحمَّلين بالأمراض، وكيف يمكنه هو وحده أن يحُل تلك المشكلة. وقد أعلنت الحكومة البولندية في أغسطس/آب الماضي عن سياسة "الدَّفع إلى الخلف" التي تقضي بإعادة أي شخص موجود بصورة غير قانونية في بولندا إلى الجهة الأخرى من الحدود (مع بيلاروسيا). وفي سبتمبر/أيلول، أقرَّت الحكومة حالة الطوارئ في المناطق الحدودية، وأنشأت نقاط تفتيش هناك، ومنعت دخول الصحافيين والمنظمات الإنسانية إلى تلك المنطقة المحظورة. وبالتزامن مع كل ذلك، رفض كاتشينسكي أي مساعدة من الاتحاد الأوروبي، مُصِرًّا فيما يبدو على الاحتفاظ بسردية أنه وحده قادر على حل الأزمة.

ياروسلاف كاتشينسكي

لقد تعلَّم الاتحاد الأوروبي الكثير منذ عام 2015، إذ تتخذ هيئة الحدود التابعة له من العاصمة البولندية "وارسو" مقرا لها، وهي تُعرف اختصارا بـ"فرونتِكس" (Frontex)، وهي هيئة تستطيع تقديم العون لحرس الحدود البولندي (إن أراد). وقد أخبرني مُفوِّض الشؤون الداخلية للاتحاد الأوروبي بأن الموارد المتوفرة لدى هيئة دعم اللجوء الأوروبية وغيرها من حِزَم تمويل الطوارئ مُتاحة إذا ما طلبتها الحكومة البولندية، لكن الأخيرة ترفض أيًّا من ذلك حتى اللحظة، في حين حصلت عليه كلٌّ من ليتوانيا ولاتفيا. ولربما ينجح رهان كاتشينسكي على صعيد السياسة الداخلية، إذ إن خطاب الحرب والغزو والصراع ذا الطابع العسكري، والمسُتخدم باستمرار الآن على شاشة التلفاز الحكومي، يبدو في طريقه بالفعل لتعزيز أرقام مؤيديه في استطلاعات الرأي بعد أن تهاوت مؤخرا.

خلقت تلك السياسة على الأرض فوضى قانونية وإنسانية وأخلاقية، إذ إن المهاجرين الذين "يُدفَعون إلى الخلف" نحو الحدود البيلاروسية لا يجتازونها، ولا يعودون إلى مينسك، ولا يستقلون الطائرات عائدين إلى ديارهم، فكل ذلك مُحال بالنسبة لهم. بدلا من ذلك، يحاول المهاجرون اجتياز الحدود مرة واثنتين وعشرا وعشرين، وبينما يُعلن حرس الحدود البولندي دوريا عن عدد الأشخاص الذين أُوقِفوا، فإنه في الحقيقة يُمسك بالأشخاص أنفسهم المرة تلو المرة.

بيد أن انعدام الكفاءة يُضاهي الفوضى في هذه الأزمة. فقد فشلت سياسة "الدفع إلى الخلف" فشلا كارثيا. أما لوكاشِنكو فلم يرتدع، بل على العكس، شجَّعه خطاب "الحرب الهجينة" الصادر من بولندا على البحث عن أساليب جديدة لاستدراج حرس الحدود البولندي ومن ثمَّ تكديس عدد أكبر من القوات البيلاروسية، وكأن هناك حربا تفرض الحاجة إليهم بالفعل. يُضاف إلى ذلك أن حدود بولندا طويلة مع بيلاروسيا، وأن موارد الجيش والشرطة البولنديَّين محدودة، وأن المهاجرين لديهم حافز كبير لشق طريقهم نحو الاتحاد الأوروبي؛ فهُم يخشون الموت على الحدود إن لم يجتازوها.

أخبرني سائق سيارة أجرة في وارسو أنه سُئِل ما إن كان مستعدا لدخول التجارة المربحة المرتبطة بنقل الناس عبر بولندا من الحدود البيلاروسية إلى الحدود الألمانية، وأنه رفض ذلك، لكنَّ آخرين غيره اتخذوا قرارا معاكسا كما يبدو جليا. فقد حصرت الشرطة في ألمانيا دخول نحو 9000 شخص بعد قدومهم من بيلاروسيا، وجميعهم تقريبا على مدار الشهرين الماضيين. هذا ويتباهى الأشخاص الذين وصلوا إلى ألمانيا بنجاح مسعاهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يُشجِّع المزيد من المهاجرين على القدوم.

الإنساني يناطح السياسي

حلَّ نوع مختلف من الفوضى على قاطني المنطقة الحدودية من البولنديين، إذ توجد حديقة "بيالوفيدجا" القومية، التي تحتوي على الغابة البدائية الوحيدة المتبقية في أوروبا، وتجتذب عادة مراقبي الطيور والمصوِّرين والفنانين، ما يُضفي على الوضع نوعا من التناقض الشديد.

تعيش "كاتاجينا وابَّا" في بلدة "هاينوفكا" الشهيرة والبديعة المتاخمة للحديقة، وهي تضطر الآن إلى عبور نقاط التفتيش والكشف عن بطاقة هويتها كي تتمكَّن من زيارة جدَّتها، وقد قالت لي إن "بيالوفيدجا فيها جنود (الآن) أكثر من السُّكَّان، وإن فنادقها امتلأت عن آخرها بالجنود، فيما تحوَّل الملعب إلى تجمُّع للخيَم الخاصة بهم". وتقضي السياسة الحكومية الرسمية في بولندا بألا يُسمح لأحد بالمرور، ومن ثمَّ ما من شيء لفعله (لحل المشكلة). في الحقيقة، لقد واجه الجميع هُنا أناسا تائهين وجائعين من شتى البلدان -من العراق وسوريا ومصر ولبنان- وهُم يكابدون عبر الحقول والحدائق الخاصة بالسُّكَّان، ويختبئون خلف الأشجار، بل أحيانا يُصيبهم الوهن فيعجزون عن المشي، أو يُصيبهم الخوف فيعزفون عن طلب المساعدة. ما الذي ينبغي للسُّكَّان فعله إذن؟

أخبرتني "كاتاجينا" أنها تجد من المُحال أن يقف المرء دون أن يُحرِّك ساكنا: "إذا ما عرفت أن أحدهم يموت خارج سور منزلي، وقُبالة حديقتي، وفي بلدتي، فما من خيار أمامي. لا يُمكن أن أسمح بموت شخص من الجوع أو العطش أو البرد وهو إلى جانبي مباشرة، ليس أمرا طبيعيا أن يصبح إنقاذ حياة الآخرين جريمة". كاتاجينا واحدة من سُكَّان محليِّين كُثُر نظَّموا مخازن مؤقتة لتخزين الطعام وزجاجات المياه والملابس الشتوية وبطاريات الهواتف المحمولة في المرائب والغرف غير المستخدمة بمنازلهم. كما ابتدعوا مع "غروبا غرانيتسا" ومتطوِّعين من شتى أنحاء بولندا نظام تجوُّل عجيب الكفاءة، حيث تُوزَّع أرقام هواتفهم على الصفحات العربية لوسائل التواصل، ثم تتناقلها مجموعات المهاجرين، وحين يشعر أحدهم باليأس فإنه يتصل بهم، ويرُد المتطوِّعون بحمل البطانيات والأحذية وزمزميات الماء المملوءة بالحساء إلى الغابة. هذا ودشَّنت بعض المنظَّمات الأكثر خبرة، مثل الصليب الأحمر البولندي و"هيئة أوركِسترا الكريسماس العظيمة" (WOŚP) الخيرية والشهيرة في بولندا، نظاما رسميا لجمع التبرُّعات من أنحاء البلاد كافة، في حين تظل الدولة والمنظَّمات الدولية غائبة، ويغلب على المشهد مبتدئون يرتحلون إلى الغابات كي يقدِّموا يد العون ويواجهوا تلك الخيارات القانونية والأخلاقية والطبية العصيبة.

لقد خلقت السياسة الحكومية البولندية فراغا أجبر المتطوِّعين على ملئه، وتُنظِّم "غروبا غرانيتسا" الآن المؤتمرات الصحافية وتتواصل مع العشرات من الصحافيين الدوليين، بيد أنها مثل غيرها تعج بموظفين لم يواجهوا أزمة مشابهة من قبل. مثلا، يدرس "إفو لوش"، المُتحدِّث الصحافي الرسمي باسم المنظَّمة، من أجل الدكتوراه في علم الاجتماع، وقد أجَّل كل أعماله بما فيها تسليم الرسالة لكي يقوم بمهام تحوَّلت إلى عمل بدوام كامل. أما "سِبيانسكي" المُترجِم، فهو أيضا على مشارف الانتهاء من رسالة الدكتوراه الخاصة به في تاريخ العصور الوسطى، وهو خبير في العلاقات بين العالم العربي وبيزنطة، بيد أنه أمضى الشهر الماضي في المنطقة الحدودية بدلا من إتمام دراسته.

ثلوج الموت أم نيران الحرب؟

لا يعني أيٌّ من ذلك أن ثمة حلا واضحا ويسيرا للأزمة، فالحقيقة أنه ما من حل، فلا تستطيع بولندا أو بقية دول أوروبا أن تفتح حدودها للملايين الراغبين في السفر، ولا تستطيع أيٌّ من وارسو أو بروكسِل أن تستسلم لابتزازات مينسك. وللحكومة البولندية الحق كاملا في الدفاع عن حدودها، لا سيما أن وضع الأشخاص الذين نجحوا في اجتياز حدودها مشبوه، فقد خرقوا القانون بالفعل ودمَّروا السياج الحدودي، ورغم أن بعضهم يمتلك أسبابا وجيهة للحصول على حق اللجوء السياسي، فإن الكثيرين ليسوا مؤهَّلين لذلك، بل يريدون الذهاب إلى ألمانيا للعيش مع عائلات لهم هناك، ولأنهم يعتقدون بإمكانية حصولهم على وظيفة، ولأن شبح قضاء عشر سنوات في مخيَّم للاجئين بلبنان أو تركيا شبح مقيت. على أي حال، يُفترض أن يُطلَب اللجوء من أول دولة تطأها قدمك وتشعر فيها بالأمان، ومن ثمَّ يرى البعض أن اللجوء يجب أن يُطلَب في مينسك، وإن كان ذلك صعبا في ظل نقل المهاجرين مباشرة إلى الحدود عبر الحافلات فور وصولهم إلى بيلاروسيا.

لكن مربط الفرس في التعاطي الكارثي من جانب الحكومة البولندية يكمُن بالضبط في أن لوكاشِنكو مُستبِد يستخف بما حوله مُستخدِما البشر سلاحا، وأن خطَّته مُصمَّمة لتقويض القيم الديمقراطية، ولذا على الدول الديمقراطية أن تبلور رد فعل لهذا النوع من الاستفزاز استنادا إلى سيادة القانون والشفافية والآدمية. إن إرسال البشر مرارا إلى حيث هُم مُعرَّضون للخطر، مع العلم باحتمالية موتهم، لهو أمر غير أخلاقي، بالإضافة إلى كونه خرقا للقانون الدولي. أما التظاهر بأن تلك "حرب هجينة"، وليست أزمة إنسانية في الوقت نفسه، فهو سوء فهم جسيم لما يجري على الأرض.

 

يكمُن جزء من الحل في بلورة رد فعل دولي موحَّد، فقد أقنع الضغط الأوروبي الخطوط الجوية العراقية بوقف رحلاتها من بغداد إلى مينسك، وصرَّحت الخطوط الجوية التركية من جهتها بأنها لن تبيع تذاكر ذهاب دون عودة من الشرق الأوسط إلى مينسك. ولربما يكون جزء آخر مهم من حل المشكلة هو تسريع وتوسيع إجراءات النظر القانوني في أوضاع المهاجرين، وبالفعل ستخضع حالات الكثيرين ممَّن وصلوا إلى ألمانيا للفحص، وسيُعاد غير المستحقِّين للجوء إلى ديارهم. وتستغرق تلك الإجراءات في العادة شهرين، وتبدو تلك فترة طويلة حتى نُقارنها بالإجراءات المماثلة التي قد تستغرق بضع سنوات على الحدود الأميركية-المكسيكية. ولكن ماذا لو أمكننا بلورة نظام طوارئ خاص يُسرِّع أكثر من تلك العملية؟ حينها سيبقى المستحقون للجوء أو الجديرون بالعناية الخاصة، وسيرحل البقية، ولعل مشهد الطائرات الضخمة وهي تحملهم إلى أربيل من وارسو يُثني غيرهم عن القدوم.

 

ليس أمامنا الكثير من الوقت. إذا لم يتبدَّل الوضع سريعا، فلربما نشهد وضعا مأساويا على نطاق أوسع. تنتشر الآن على الإنترنت بالفعل تسجيلات مصوَّرة لجنود من بيلاروسيا يُطلقون الرصاص في الهواء قُرب الحدود، فماذا لو بدأوا في إطلاقها عبر الحدود مباشرة؟ ويبدو أن القوات الروسية بدورها تتدرَّب جنبا إلى جنب مع نظيرتها البيلاروسية قُرب الحدود الليتوانية، فماذا لو انعطفت مساراتهم ونزلوا إلى بلدات حدودية داخل بولندا لحماية حلفائهم البيلاروسيين؟ وحتى إذا ما تلافينا صداما مباشرا، فإن التحوُّل الحاد في الطقس قد يخلق أزمة من نوع مختلف، إذ يُمكن أن تهطل الثلوج في بولندا أواخر نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول، تماما كما حدث العام الماضي، وإذا ما حدث ذلك السيناريو، فسيتجمَّد المئات وربما الآلاف حتى الموت.

لقد بدأتُ مقالي بالحديث عن الصبي الكُردي لسبب وجيه، ولذا سأُنهي مقالي بالإشارة إليه أيضا، فالحقيقة هي أن كُل مَن له مصلحة في إطالة أمد الأزمة، أو استغلالها، أو التربُّح سياسيا من خلالها، لا يريدك أن ترى ذلك الصبي، بل يريدونك أن ترى جموعا نُزعت عنها إنسانيتها دون وجوه أو أسماء، وأن ترى أمواجا من البشر ومهاجرين مجهولين سمحوا لأنفسهم بأن يكونوا رصاصا في حرب هجينة. بيد أن المأساة الجماعية ليست إلا سلسلة من المآسي الفردية، وعلينا أن نتذكَّر ذلك جيدا حالما نرى واحدة تتشكَّل أمام ناظرَيْنا.

_________________________________

ترجمة: نور خيري

هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضروة عن موقع ميدان.

 

المصدر : الجزيرة