مصالح اقتصادية أم دواعٍ سياسية.. لماذا عادت الاتصالات بين الأردن والنظام السوري؟
في مطلع أكتوبر/تشرين الأول الحالي، بادر رئيس النظام السوري بشار الأسد بالاتصال بالعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، وتحدَّث الرجلان لأول مرة منذ نحو العقد حول سبل تعزيز التعاون بين البلدين وجهود الحفاظ على استقرار سوريا التي تعاني من عزلة دولية منذ أن اندلعت ثورتها عام 2011.
لم تكن المحادثة مفاجأة، فقد شهدت العلاقات في الأسابيع الأخيرة تحسنا مهّد لهذه الخطوة، منها فتح الأردن معبره الحدودي الرئيس مع سوريا قبل 4 أيام فقط من الاتصال، فيما سبق ذلك لقاء مهم بين قائد الجيش الأردني ووزير الدفاع السوري. بل وفي خطوة أخرى تعكس تقاربا مميزا بين دمشق وعمّان، استُؤنفت الرحلات البرية والجوية بين البلدين. وتأتي إعادة تنظيم العلاقات تلك بعد تحولات عدة في السياسة الخارجية للمملكة الهاشمية، إذ يبدو أن عمَّان حريصة على إنهاء الأزمة السورية التي أثقلت كاهلها اقتصاديا وأمنيا.
العلاقات الأردنية السورية
على مدار فترات طويلة من تاريخ البلدين، عانت العلاقات الأردنية-السورية موجات من الاضطرابات والتوترات السياسية رغم الارتباط الجغرافي والديمغرافي بين البلدين. وقد نشأت هذه التوترات على الأغلب بسبب مواقف البلدين وتحالفاتهما المتناقضة التي وضعت كل طرف منهما في حلف مضاد للآخر طوال معظم فترات "الحرب الباردة"، فبينما انخرط الأردن نسبيا في التحالف الأميركي، اختارت دمشق التحالف مع الاتحاد السوفييتي قبل انهياره ثم مع روسيا.
بحلول أواخر السبعينيات، تحوَّلت العلاقات تدريجيا واتسمت بالاستقرار، ولكن سرعان ما عاد التوتر إبَّان اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011 التي اتخذ الأردن حيالها موقفا حذرا، فظهر متوجسا أحيانا من تأثير الثورة على استقراره وتجاه تداعياتها الأمنية والسياسية، لا سيما وقد تدفق مئات الآلاف من اللاجئين (تقدر المملكة عددهم الفعلي بـ1.4 مليون) إلى الأردن بالتزامن مع مرور البلاد بوضع اقتصادي مأزوم. وفي أحيان أخرى، أبدى الأردن انحيازا لضغوط المجتمع الدولي على النظام السوري، فكان واحدا ممن صوتوا لتعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية أثناء عام الثورة الأول، قبل أن يصبح قناة لإمدادات الأسلحة الغربية والعربية للقوات المعارضة التي تحارب نظام الأسد.
أدّت عمّان -إذن- دورا في دعم المعارضة السورية منذ عام 2012، لكنها حرصت مع ذلك على عدم استفزاز الأسد إلى الحد الأقصى، ما يفسر حرصها على العلاقات الدبلوماسية مع دمشق. بيد أن صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وسوريا عام 2014 شكّل نقطة محورية في موقف الأردن من النظام السوري، إذ توقفت القيادة الأردنية عن اعتبار تغيير النظام في دمشق أولوية، ووجهت جهودها نحو محاربة التنظيم باعتباره التهديد الأبرز الآن للأمن الأردني وليس الأسد.
تلا ذلك التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، ملقيا بظلاله على العلاقة بين الجارتين، إذ باتت القيادة الأردنية أكثر اقتناعا بأن النظام السوري سيستمر في الحكم أطول مما كان متوقعا، علاوة على جهود روسية مُثمرة أقنعت المملكة الهاشمية بأن طريق تحقيق المصالح الأردنية في سوريا يمر عبر الكرملين الذي يمسك بخيوط الأزمة السورية الآن، وليس القوى الغربية التي لم تُبدِ التزاما عسكريا واضحا بإسقاط الأسد كما فعلت مع صدام حسين قبل 20 عاما، وصارت أكثر انشغالا بالملف الآسيوي. ومن ثَم، مضت عمان عام 2015 نحو استعادة بطيئة للعلاقات مع النظام السوري، أبرزها ما حدث في نهاية عام 2018 بفتح المعبر الحدودي الرئيس مع سوريا، لا سيما بعد أن شجعتها خطوات تطبيع بعض الدول العربية مع الأسد، مثل السودان والإمارات والبحرين التي أعادت افتتاح سفاراتها في دمشق.
بحلول عام 2019، بدأت خطوات أسرع من جانب الأردن نحو تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، فقد شارك رئيس برلمان النظام السوري في مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي بعمَّان في فبراير من ذلك العام. وفي الوقت نفسه، رفع الأردن مستوى تمثيله الدبلوماسي لدى النظام السوري إلى درجة قائم بالأعمال بالإنابة، وشهدت دمشق أول لقاء رسمي عقده مسؤول حكومي أردني، هو "طارق الحموري" وزير الصناعة حينها، الذي التقى نظيره السوري "محمد سامر الخليل" في مارس/آذار 2020، وناقشا مستقبل العلاقات الاقتصادية وسبل تطوير عدد من المجالات الحيوية المشتركة.
مصلحة اقتصادية أم سياسية؟
بدأ مشوار العودة التدريجية إلى العلاقات الطبيعية بين الأردن وسوريا بتركيز كبير وواضح على الملفات الاقتصادية في مجال الطاقة والمياه وفتح المعابر لتسهيل الاستفادة من التجارة عبر الحدود. قبل عام 2011، تمركزت الحركة التجارية حول معبرين حدوديين رئيسين بين البلدين، هما "الجمرك القديم" (معبر "الرمثا" في الأردن)، و"نصيب" ("جابر" في الأردن)، إذ صُدِّرت عبرهما البضائع الأردنية إلى دول العالم، واستوردت عبرهما المملكة بضائع من سوريا وغيرها من الدول، لتحقق آنذاك التجارة الحدودية بين البلدين أكثر من 800 مليون دينار أردني.
يعود التركيز على "التطبيع الاقتصادي" إلى ما فرضته جائحة كورونا التي ألقت بظلال ثقيلة على الاقتصاد الأردني، حيث تقلص الاقتصاد الأردني بنسبة 1.6٪ أثناء العام الماضي، فيما وصلت نسبة البطالة إلى حوالي 25% في الربع الأول من العام 2021، ناهيك بالتدفق الهائل للاجئين على مدى العقد الماضي. ولا شك أن الأردن لديه اليوم مصالح اقتصادية وتجارية ومائية مع سوريا، وهو معنيّ بانسياب البضائع عبر الموانئ السورية وأيضا عودة خط النقل السوري عبر الأردن إلى الخليج العربي، إذ إن إعادة فتح الحدود تعني تنشيط التجارة وتوفير دفعة اقتصادية للمدن الشمالية التي اعتمدت اعتمادا كبيرا على التجارة قبل الحرب.
يعتقد المحلل السياسي الأردني "محمد عرسان" أنه رغم السنوات الطويلة من التوتر السوري الأردني فإن ما يجمع سوريا والأردن اليوم مصالح مشتركة لا فكاك منها، ويضيف: "الأردن وسوريا يمكنهما تجاوز الخلافات السياسية لصالح المصالح الاقتصادية، إذ إن المملكة لديها مصلحة بالانفتاح اقتصاديا على سوريا، لا سيما في مجال الطاقة، أي إيصال الطاقة إلى لبنان عن طريق سوريا. وهناك مصلحة أيضا في التبادل التجاري، في تعزيز الميزان التجاري بين البلدين بعد انخفاضه بسبب الحرب والجائحة معا، والعكس صحيح أيضا، فثمة مصالح اقتصادية لسوريا مع الأردن"، حيث ترغب دمشق في الانفتاح على حليف تقليدي للغرب للفكاك من خناق العقوبات الدولية.
يُنوّه "عرسان" إلى أن مجموعة من المسؤولين الأردنيين الذين تحدث إليهم بحكم عمله يؤكدون أن الأردن اليوم معني بعودة حركة النقل بين سوريا من جهة، والخليج وأوروبا من جهة في حال تمت السيطرة على الحدود الشمالية، وهو معني أيضا بالوصول إلى لبنان عن طريق سوريا. وأوضح عرسان: "المسؤول الأردني يشعر أن الأردن تضرر كثيرا من إغلاق الحدود مع سوريا بسبب الحرب، وأن هذا الأمر يجب أن يتوقف، فهناك ما أسماه بعض المسؤولين إعادة الثقة بين النظامين".
سياسيا، تبدو عدم قدرة واشنطن على حل الصراع السوري وحسمه دافعا للأردن إلى التواصل مع الأسد، وبناء على ما سبق، لا ينفي عرسان أن الأردن له مصلحة سياسة من الانفتاح على دمشق، فهو معني بلعب دور مع دول الخليج ومصر في إعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية، مشيرا إلى أن الملك عبد الله تحدث في هذا الأمر مع وسائل إعلام أميركية في أثناء زيارته الأخيرة إلى واشنطن، ثم أردف: "هناك نقطة أخرى تتعلق بقناعة النظام الرسمي الأردني بأن وجود نظام الأسد في مناطق سوريا مصلحة أمنية أردنية، إذ تُفضِّل عمان وجود مناطق مستقرة حدوديا ولو كانت تحت سيطرة النظام، على وجود مناطق تسيطر عليها مجموعات مسلحة معارضة أو غير معارضة".
التراجع الأميركي
"إن الأسد موجود ليبقى، والوضع الراهن الذي أبقى دمشق منبوذة من قبل المجتمع الدولي لا يمكن الدفاع عنه"، بهذه الكلمات أعلن الملك الأردني أنه لن يتردد في الحوار مع دمشق في أثناء زيارته الأخيرة إلى واشنطن في يوليو/تموز الماضي، وقد كانت واحدة من أولويات زيارته الضغط من أجل الحصول على استثناءات من العقوبات السورية. ويمكن قراءة العديد من الاعتبارات وراء توجه الملك الأردني نحو الضغط على واشنطن في هذا الصدد، مثل انتقال الإمارات والسعودية نحو المزيد من العلاقات العلنية مع دمشق، ففي حين أعادت الإمارات فتح سفارتها في سوريا عام 2018، أرسلت السعودية وفدا رفيع المستوى -برئاسة رئيس جهاز المخابرات- للقاء الأسد في مايو/أيار الماضي.
في إطار شكلي، يمكن القول إن الأردن نال جزءا مما أراد حين مُنِح "استثناء غير معلن" من العقوبات المفروضة على سوريا بغية حماية اقتصاد بلاده. ففي نهاية سبتمبر الماضي، فتحت السلطات الأردنية معبر "جابر-نصيب" الحدودي أمام المدنيين وحركة التجارة بعد إغلاق دام سنوات. وقد ظهرت براغماتية واشنطن في استشعار حاجة الأردن إلى الانفتاح على سوريا فيما ألمح إليه السفير الأميركي في بيروت من أن واشنطن ستقدم إعفاءات من قانون قيصر لمصر والأردن ولبنان للسماح بإحياء "خط الغاز العربي"، بحيث يمكن تلبية احتياجات لبنان من الطاقة.
رغم ما سبق، لا يزال صعبا أن تسمح واشنطن للأردن بانفتاح يتجاوز المجال الاقتصادي مع النظام السوري، ولذا سرعان ما أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية أن "الأسد لم يسترد الشرعية من وجهة نظرنا… الولايات المتحدة لن تطبع أو ترفع مستوى العلاقات الدبلوماسية مع نظام الأسد، ولا نشجع الآخرين على ذلك، على ضوء الفظائع التي ارتكبها نظام الأسد بحق الشعب السوري".
على جانب آخر، تحدثنا في "ميدان" مع "عبد الوهاب عاصي"، الباحث السوري في مركز "جسور للدراسات"، الذي أخبرنا أن دوافع تقارب الأردن مع النظام السوري في نظره دوافع سياسية بالدرجة الأولى، فيما لا يعدو التقارب الاقتصادي أكثر من دافع ثانوي، وذلك لكون سوريا غير قادرة بموجب الانهيار الاقتصادي الذي تمر به على أن تساعد الأردن مساعدةً مؤثرة لحل الأزمة التي يمر بها. ويبين عاصي أنه، على خلاف إدارة ترامب التي اتخذت موقفا أكثر حذرا تجاه سوريا بسبب علاقتها مع إيران، تبدو إدارة بايدن أقل اهتماما بسوريا بسبب تراجعها عن سياسة الضغط القصوى على إيران وحرصها على توقيع اتفاق نووي معها.
يشدد عاصي على أن روسيا ربما أقنعت الأردن بمخاطر الاستجابة إلى نموذج التغيير الغربي، ومن ثم حصلت على دعمها الضمني للنموذج الروسي الأكثر استقرارا الآن من وجهة نظر صناع القرار في عمَّان وموسكو على السواء. "مع ذلك، يبدو أن الأردن يطمح بالحصول على امتيازات سياسية أوسع في المنطقة، لا سيما بعد تراجع دوره في القضية الفلسطينية، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بالتقارب مع روسيا التي باتت فاعلا رئيسا في المشرق".
لا يمكن استبعاد أيضا أن يكون الأردن تلقَّى وعودا من روسيا بالحصول على تدفقات مالية أكبر مع البدء بمشاريع إعادة الإعمار، عدا عن العوائد التي سيحصل عليها جراء إصلاح خط الغاز العربي الذي يعبر أراضيه نحو سوريا. وكان من الواضح أن موسكو قادت مفاوضات مع دول منتدى غاز شرق المتوسط لإقناعهم بجدوى أداء دور أكثر فاعلية في الضغط على الولايات المتحدة من أجل الحصول على استثناء لخط الغاز العربي من العقوبات الاقتصادية.
بيد أن العقدة السورية باقية، لا سيما أنها ليست محض مسألة اقتصادية، وإنما أزمة سياسية لبلد بات ممزقا بين مساحة شاسعة تخضع للنظام تُعرف بسوريا المفيدة (وفق التعريف الروسي)، وشريط شمالي يخضع للقبضة التركية، ومثلث شرقي يخضع للولايات المتحدة وحلفائها. لكن النتيجة النهائية لتلك الأزمة لم تعُد تعني عمَّان بقدر ما تعنيها النتيجة الفعلية على المدى القريب، والبعيد كما يُرجَّح، وهو أن المنطقة الملاصقة لها والمرتبطة بأمنها وتجارتها ودورها في المشرق، لن تنفك في المستقبل القريب عن قبضة الأسد. وبالنظر إلى الطيف الواسع من الجماعات المسلحة غير المرغوبة، تبدو عمَّان قد قرَّرت أن قبضة الأسد أخف الضررين، لا سيما إذا صاحبتها منافع مثل إعادة اللاجئين، والمشاركة في إعادة الإعمار، وزيادة التجارة، وبروز الدور الإقليمي للأردن؛ وهي مكاسب باتت أهم من مطلب إسقاط الأسد الذي انتهت صلاحيته منذ فترة لا بأس بها.