آية الله السيستاني.. المرجع "الإيراني" الذي ينافس على القيادة الروحية للإسلام الشيعي

لا تنحصر صورة آية الله "علي السيستاني" في عيون مُريديه وأتباعه بوصفه الأب الروحي لشيعة العراق وأهم زعيم ديني في بلاد الرافدين فحسب، فالرجل "الإيراني" البالغ من العمر عِتيا (91 عاما) يُشار إليه بوصفه مُمثِّل التيار المعتدل المُحافظ في الإسلام الشيعي، وإحدى أكثر الشخصيات نفوذا في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، وصاحب الدور الكبير في تشكيل النظام السياسي بعد فراغ السلطة الذي أعقب سقوط الرئيس العراقي "صدام حسين". ورغم أن حَوزة "النجف" تحت مرجعيته أضحت صاحبة القول الفصل في الشأن العام العراقي، فإن السيستاني ظلَّ طويلا ينأى بنفسه رسميا عن دور اللاعب السياسي المباشر، ويؤدي دورا أقرب للنصح والمشورة، لا التوجيه والأمر.
بيد أن مرجعية النجف شهدت في السنوات الأخيرة تحوُّلات جنحت معها أكثر فأكثر نحو السياسة، حتى بات القرار المرجعي ذا سطوة نافذة على المشهد السياسي والشارع العراقي، ورغم أن المدرسة الفقهية للنجف تُناهض ولاية الفقيه بدرجة كبيرة، التي يُمثِّلها حاليا آية الله "علي خامنئي" في إيران، كونها تُعطي رجال الدين سُلطة المركز السياسي ومفاتيح الحكم والإدارة، فإن السيستاني دفع المرجعية الشيعية في النجف نحو الخروج عن الخطوط القديمة التي رسمها بنفسه سابقا، ودفعها للتحوُّل نحو صورة أكثر خفوتا من ولاية الفقيه المباشرة، أو ما يُمكن تسميته اليوم بـ "وصاية الفقيه غير المباشرة".
السيستاني.. من مشهد إلى النجف
في قلب مدينة النجف، البلدة ذات القدسية الشيعية الأعظم في العراق، وعلى بُعد أمتار من مَرقد الإمام علي بن أبي طالب، تنحدر الأزقة الضيقة المُتفرِّعة من شارع الرسول، وصولا إلى طرقات أخرى ملتوية تحوطها المباني القديمة المتفاوتة في القِدَم. في داخل أحد تلك البيوت يعيش آية الله علي السيستاني بمنزل صغير مُستأجر منذ عام 1970، لا تدل هيئته على أن ساكنه زعيم الحوزة العلمية في النجف، التي يدين لها بالولاء المُطلق عدة ملايين حول العالم من الشيعة الاثني عشرية.
وراء رمزية البيت التقليدي الذي لا يختلف عن أي بيت في النجف، تتكشَّفُ ملامح شخصية السيستاني غير المُحبة للظهور، التي تتخذ لنفسها حجابا يحميها من صخب الشأن العام، ولو تدخَّلت "حوزته" تدخُّلا مباشرا في المسرح السياسي والقرارات المصيرية الكبرى. وكما هو حال بيته القديم، يمتلك السيستاني قصة قديمة أيضا تتخفَّى وراء عمامته السوداء ولحيته الكثيفة وبنيانه الجسدي الهزيل.
تبدأ قصة أهم زعيم ديني في بلاد الرافدين عام 1930، في مدينة مشهد المقدسة، وأعظم مدن خُراسان (شمال شرق إيران) وثاني أكبر مدينة بعد العاصمة طهران؛ إذ وُلِد "علي" لأسرة ذائعة الصيت في الأوساط العلمية الدينية في وقت كانت فيه طهران تستهل رحلتها نحو الحداثة تحت حُكم رضا شاه. وبينما شرع الملك الجديد في رحلته مُقتفيا آثار نظيره التركي المعاصر له، مصطفى كمال أتاتورك، إذ به يواجه معارضة شرسة من رجال الدين الشيعة بسبب هجومه على السلطة الدينية وصلاحياتها. فقد قاد الشاه حملة تغريب واسعة استهدفت تغيير هُوية المجتمع الإيراني المحافظ والمنفصل نسبيا عمَّا يدور في الغرب وفي دول الإسلام الأكثر تحديثا (تركيا ومصر)، وخطا خطواته الأولى بمحاولة حظر الحجاب، وخلعه عن النساء بالقسر والإكراه، فنال كراهية الشعب ورجال الدين معا.

لم تكن عائلة السيستاني بمعزل عن ذلك الصراع، وحين بلغ "علي" سن الخامسة أرسله أبواه إلى مدينة قُم، رأس حربة الصراع مع السلطة السياسية آنذاك، فتلقَّى تعليمه الديني دون أن ينخرط في السياسة، وهي سمة ستُلازمه طوال حياته فيما بعد. وحين أتمَّ الشاب عقده الثاني ارتحل إلى حوزة النجف ذات المكانة الشيعية البارزة منذ أكثر من ألف عام، وهناك حصل السيستاني على إجازة بالاجتهاد من مُعلِّمه آية الله "أبي القاسم الخوئي"، المرجع الشيعي للنجف حينئذ وإمام الشيعة الاثني عشرية في زمانه، ومن ثمَّ نهل السيستاني منه مذهبه في الفقه، لكنه لم يأخذ عنه منهجه في السياسة، إذ كان "الخوئي" ثوريا يميل إلى معارضة النظام القائم علانية.
انعكست ثورية الخوئي على شخصيته بوضوح، فناصر انتفاضة المراجع الشيعية الإيرانية ضد الشاه، ثم دعم الثورة الإسلامية في إيران. وقد أحس نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بخطر تلك الثورة على قبضته الحديدية داخل العراق، لا سيما بين صفوف الشيعة الذين عانوا تهميشا وقمعا شديدين تحت حُكم البعث، ومن ثمَّ خاض نظام البعث حربه الطويلة مع إيران التي اندلعت عام 1980، وطالب صدَّام الخوئي بإصدار فتوى لتأييد انضمام الشيعة إلى المجهود الحربي العراقي، الذين جُنِّدوا قسرا بالفعل آنذاك.
اعتقد صدام خطأ أن الخلاف بين حوزتَيْ "النجف" و"قُم" يمكن استغلاله لصالحه، بيد أن الخوئي رغم رفضه "ولاية الفقيه" امتنع عن إصدار الفتوى التي طلبها الرئيس العراقي، فتعرَّض لمضايقات مع أتباعه، وانتهى الأمر بتفجير سيارته ومحاولة اغتياله، ثم وضعه قيد الإقامة الجبرية، وإعدام عدد من أبرز تلاميذه، وترحيل غير العراقيين منهم خارج البلاد. ورغم أن السيستاني ليس عراقيا، وكان الأكثر قُربا من الخوئي، فإن تعاطيه السلبي مع كل تلك الأحداث، بوصفه عازفا عن خوض السياسة كما كان دوما، جعله يُفلت من غضبة نظام البعث، بل وأتاح له الصعود إلى قيادة الحوزة بعد رحيل شيخه عام 1992.

ولاية الفقيه.. النسخة العراقية
تُشير الفتاوى التي أدلى بها السيستاني، والمنشورة في كتاب "الفوائد الفقهية طبقا لفتاوى السيد السيستاني"، إلى اعتقاده بولاية الفقيه بوصفها واحدة من ضروريات المذهب الشيعي الاثني عشري في ظل غياب الإمامة الكبرى، ولكنها تُشير في الوقت نفسه إلى عدم اعتقاده بالنسخة الإيرانية من ولاية الفقيه التي منحت النفوذ المُطلق للمدن المقدسة على حساب المجال السياسي المدني، ووضعت آيات الله في مركز السلطة فوق النظام السياسي للدولة كاملا مُستأثرة بالملفات السيادية كما تشي لنا بنية النظام الإيراني اليوم. من جهته، يرى السيستاني أن ولاية الفقيه ثابتة في الأمور "الحسبية"، أي ما يتعلَّق بالمسائل الشرعية الدينية المعروفة، أما الولاية بمعناها السياسي الأوسع فثابتة للفقيه أيضا ولكن بشرط حصوله على القبول من الناس.
عقب انهيار نظام البعث العراقي عام 2003، وجد السيستاني نفسه أمام نقطة تحوُّل تعصف بالدور القديم الذي رسمه لنفسه، بعد أن وجدت المرجعية نفسها في بؤرة الأحداث، وتحوَّل دورها عن مراقبة المشهد السياسي وتجنُّب الصدام مع السلطة تحت وطأة المطالبات الشعبية بالتدخُّل والتعامل مع التعقيدات الجديدة المُمثَّلة في غزو العراق والاحتلال الأميركي، والتصدي لقضايا العنف الطائفي والتشرذم السياسي. ونتيجة لذلك، بزغ نجم السيستاني بقوة وبات قطبا سياسيا رغما عنه في عراق ما بعد الغزو، وبرزت فتاواه التي تحث رجال الدين الشيعة على الانخراط في السياسة من أجل توجيه الشعب العراقي إلى القرارات الصائبة، لكنه ظلَّ محافظا في الوقت نفسه على خيط رفيع يفصله عن أن يتحوَّل إلى نموذج المرشد الأعلى الإيراني.
في البداية، حملت فتاوى السيستاني مواقف مُرتبكة تجاه الجميع، حيث توقَّع كثيرون بعد الغزو أن تُصدِر حوزة النجف فتوى لمقاومة الاحتلال الأميركي، بيد أن المرجع الشيعي دعا أتباعه للبقاء على الحياد، وعدم التدخُّل للاشتباك مع القوات الأميركية، وهو أمر خالف العُرف القديم الذي اتبعته حوزة النجف في ثورة العشرين ضد الاستعمار الإنجليزي، حين أطلق علماء الشيعة في النجف فتوى مقاومة الاحتلال.
ولكن رغم فتوى الحياد، لم يُخفِ السيستاني عداءه العلني للإدارة الأميركية، كما رفض مقابلة أي مسؤول من قوات التحالف، لكن تصريحات لاحقة لـ "بول بريمر"، الحاكم المدني الأميركي الذي عيَّنته واشنطن لإدارة العراق، كشف أن السيستاني تعاون مع الإدارة الأميركية بصورة محدودة، وأن الطرفين اكتفيا بقناة اتصال سرية عن طريق مواطن عراقي-أميركي من عائلة شيعية في النجف. لا تنتهي التناقضات في مسيرة السيستاني عند ما ذكره "بريمر"، فرغم معارضة الحوزة لاستنساخ التجربة الإيرانية، وتصدِّيها لبناء دولة على أساس ديني، فإن السيستاني دعا بوضوح لانتخاب الكتل الدينية في أول انتخابات برلمانية بعد الغزو عام 2005، وأصبح منزله فعليا مركزا من مراكز القوة في العراق الجديد.
ظلَّ نفوذ حوزة النجف حاضرا بقوة في المشهد السياسي، وشمل المشاركة في صياغة الدستور العراقي بعد الاحتلال الأميركي، لكن الدور الأكبر الذي لعبه السيستاني وعُدَّ نقطة تحوُّل في الخريطة السياسية للعراق تمثَّل في فتوى "الجهاد الكفائي" التي أفتى بها عام 2014، وأدَّت إلى تشكيل قوات الحشد الشعبي بهدف مواجهة تمدُّد تنظيم الدولة الإسلامية الذي سيطر على أجزاء واسعة من البلاد حينها. ثم امتد نفوذ السيستاني أكثر عندما حثَّ الناخبين عام 2014 على عدم التجديد لحكومة "نوري المالكي" لولاية ثالثة، والأمر نفسه تكرَّر خلال الانتفاضات التي شهدتها البلاد عام 2019، إذ انضمَّت المرجعية لصوت الشارع، وطالبت حكومة "عادل عبد المهدي" بالاستقالة، كما دعت البرلمان لسحب الثقة منها. وأخيرا وليس آخرا، انحاز السيستاني لحكومة "مصطفى الكاظمي" المُشكَّلة حديثا في صراعها مع ميليشيات الحشد الشعبي، وانتقد استخدام فتاواه لتحقيق أهداف سياسية.
العراق بعد السيستاني.. إلى أين؟
لا تتمثَّل أهمية السيستاني في كونه أهم زعيم ديني في العراق فحسب، بل وكذلك فيما يُشكِّله من ثقل في معادلة التوازن (والتنافس) الشيعي-الشيعي بين حوزتَيْ النجف (الصماتة) وقُم (الناطقة)، وبين شخصه وشخص المرشد الأعلى علي خامنئي في إيران، إذ يُعَدُّ الرجلان الأبوين الروحيَّين الأبرز للشيعة الاثني عشرية في العالم الإسلامي اليوم. ورغم تعدُّد المراجع الشيعية من باكستان إلى لبنان، فإن وجود السيستاني لا يزال يحافظ على مكانة حوزتَيْ النجف وعامل مُقابل حوزتَيْ قُم ومشهد الإيرانيتين.

أما الخلافات بين الرجلين فبسيطة فقهيا، وإن كانت جذرية سياسيا، فالسيستاني يعارض حتى اليوم الحكم المباشر لرجال الدين على الطريقة الإيرانية، ورغم دعمه صعود الأغلبية الشيعية داخل العراق ووصولها إلى السلطة، فإنه يحتفظ بمسافة كبيرة عن انخراط العمائم في السياسة، وهو إرث سيبقى من بعده ما لم يقلب خلفه تلك المعادلة، وهو سيناريو غير مُرجَّح لا سيما مع تباين التجربة التاريخية الإيرانية والعراقية.
تبقى المفارقة في الأخير أن السيستاني ليس عراقيا أصلا، لكنه بات عراقيا فعليا -إن جاز القول- بما يُمثِّله اليوم من حائط الصد ضد التدخُّلات الإيرانية والترويج لنسختها من ولاية الفقيه، علاوة على تحرُّكاته لكبح جماح الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، ودعمه لحكومة الكاظمي الذي سعى منذ اليوم الأول في السلطة إلى تخفيف نفوذ إيران في بغداد، وحصر السلاح بيد الدولة وأجهزتها الأمنية، مقابل تجريد الميليشيات المدعومة إيرانيا من أدوات قوتها.
بحسب ما قاله "عباس كاظم"، مدير المبادرة العراقية في المجلس الأطلسي، لوكالة "أسوشيتد برس" الأميركية، قد لا ترغب إيران بوجود سيستاني آخر بعد وفاته، فهُم لا يريدون شخصا قويا مكافئا للمرشد الأعلى في طهران، ولعلها ستستغل الفراغ الناشئ في الحوزة العراقية بعد رحيل السيستاني لتوسيع نفوذها بين الشيعة في العراق. في الوقت نفسه، تبحث إيران عن خليفة مُحتمَل للسيستاني قد يكون أقرب لها، رغبة منها في الانتصار على حوزة النجف سياسيا ودينيا.
بيد أن السيستاني نجح حتى اللحظة في نسج الضبابية حول مَن سيخلفه في منصبه، الذي يكون عادة شخصية قادمة من تيار منافس داخل الحوزة أو شخصا مُقرَّبا من المرجع نفسه، وقد صعد السيستاني نفسه وفق الطريقة الثانية بعد رحيل مُعلِّمه الخوئي، لكن نظام الخلافة في الحوزة مُعقَّد على أي حال، ولا يسير بآليات رسمية أو مؤسسية تُعين على التنبُّؤ بمَن سيخلف الرجل الشيعي الأقوى في العراق اليوم، والمُقاوِم الأبرز لإيران، والرجل غير العراقي الوحيد الذي يثق به العراقيون أكثر من مئات العراقيين الذين تصدَّروا المشهدين السياسي والديني منذ عام 2003.
لذا، سيكون علينا الانتظار ومتابعة ما ستُسفِر عنه تحوُّلات الحوزة العراقية، وكذلك نظيرتها الإيرانية التي تنتظر هي الأخرى رحيل خامنئي، في منعطف مزدوج لعله يُعيد رسم المشهد الشيعي سياسيا ودينيا في البلدين الشيعيَّين الأبرز في العالم الإسلامي كُلِّه.