بعد استشهاد شيرين أبو عاقلة.. لماذا تخاف إسرائيل من مخيم جنين؟
مقدمة التقرير
استشهدت صباح اليوم الأربعاء الزميلة شيرين أبو عاقلة مراسلة قناة الجزيرة عندما أطلق عليها جنود الاحتلال الإسرائيلي الرصاص الحي أثناء تغطيتها اقتحام الاحتلال مدينة جنين بالضفة الغربية المحتلة، وهو ما يسلط الضوء مجددا على المخيم الواقع شمالي الضفة الغربية المحتلة، الذي تحوَّل إلى أبرز معاقل المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وفشلت دولة الاحتلال في إخضاعه رغم استخدامها كل أدوات القمع والتنكيل.
نص التقرير
"أحداث عملية هروب الأسرى الفلسطينيين من سجن جلبوع، وإعلان الجيش الإسرائيلي عن إلقاء القبض عليهم جميعا، أعادت من جديد الحديث عن المكانة المتميزة التي تحظى بها مدينة جنين، ومخيَّمها للاجئين، بين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة".
هكذا يكشف الكاتب الإسرائيلي "يارون فريدمان" في مقاله على موقع "زمن إسرائيل" حجم التخوُّفات الإسرائيلية من منطقة جغرافية فلسطينية بعينها هي مخيم جنين ومدينته الواقعة شمالي الضفة الغربية، التي تبرز إلى الواجهة دوما بوصفها جبهة عصية على الاحتلال خلال المواجهات والسجالات، وآخرها حادثة هروب الأسرى الستة في أغسطس/آب الماضي، إذ حطَّ اثنان منهم رحالهما في جنين بالفعل.
ثمة حقيقة قائمة لا يستطع الإسرائيليون أنفسهم إنكارها، وهي أن مخيم جنين جعل المقاومة الفلسطينية تستنهض حالها في كل مرة اعتقد فيها الإسرائيليون أنها ضعفت أو انهارت، لا سيما في الضفة الغربية، كما يبرز المخيم دوما بوصفه مخرجا لعشرات المقاومين الموحَّدين خلف راية المقاومة الفلسطينية عموما، دون الانضواء تحت راية فصائلية أو حزبية كما يحدث في مناطق فلسطينية أخرى.
جنين.. إرث من النضال التاريخي
في عام 1799، لم يتردَّد سكان جنين الواقعة عند سفح تلال جبل النار "نابلس" في حرق بساتين الزيتون التي يقتاتون منها بُغية وقف القوات الفرنسية الزاحفة بقيادة "نابليون بونابرت" على أراضيهم، فأتى الرد الفرنسي على مقاومة جنين بحرق المدينة ونهبها. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى، وقعت جنين تحت الاحتلال البريطاني مثلها مثل بقية الأراضي الفلسطينية في سبتمبر/أيلول 1918، لكن المحافظة لم تستسلم؛ فقاومت حتى نظَّمت أول مقاومة مسلحة عام 1935 بقيادة "عز الدين القسَّام" أحد كبار المقاومين للاحتلال البريطاني آنذاك، الذي وجد في جنين حاضنة شعبية من الفلاحين تؤمن بالثورة وتدعمها، لتتحوَّل المنطقة منذ ذلك الحين إلى مركز للتمرد الفلسطيني الذي انتقلت قيادته بعد استشهاد القسَّام إلى "فرحان السعدي" سليل إحدى الأُسر المقاوِمة. وكان من أبرز عمليات المدينة ضد الاحتلال قتلها قائدا بريطانيا كبيرا في مكتبه بجنين عام 1938.
وفي عام الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية (1948)، حين قتلت العصابات الصهيونية الآلاف من الفلسطينيين واحتلَّت منازلهم، تخلَّصت جنين من احتلال قصير نال منها بفضل الدفاع الشرس من قِبَل المتطوعين الفلسطينيين والجيش العراقي، ثم آلت المدينة إلى حكم الإدارة الأردنية عام 1949، وفي أوائل الخمسينيات أُنشئ مخيم جنين لإيواء النازحين ممَّن استولت إسرائيل على منازلهم بعد طردهم، وسرعان ما صار المخيم الواقع في ضواحي المدينة معقلا للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي خاصة أثناء السبعينيات والثمانينيات.
أتت مجزرة جنين في إبريل/نيسان 2002 لتصبح أحد أبرز الأحداث التي أظهرت بشاعة الاحتلال وبسالة المقاومة في المخيم، فبعد حصار دام عشرة أيام مُنِعت فيها عن المخيم المياه والكهرباء والطعام والعلاج، قصف الاحتلال المخيم بطائرات "إف-16" وبالمدفعية؛ مما أدَّى إلى استشهاد 52 فلسطينيا، وتدمير 150 بناية بالكامل، كما قُتِل 23 جنديا إسرائيليا على يد عناصر من المقاومة في جنين.
يقول "بلال الشوبكي"، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الخليل، إن ثمة خصوصية تتميَّز بها جنين نابعة من عدة عوامل، من بينها أن المدينة تستند إلى إرث نضالي ممتد وطويل منذ ثلاثينيات القرن المنصرم، فهي من حيث الهوية تشعر دائما بأنها حاضنة العمل المقاوِم منذ تشكيلات عز الدين القسَّام، ثم إنها أثناء الانتفاضتين الأولى والثانية كانت معقلا لمنفذي العمليات الاستشهادية، وكذلك أثناء اجتياح جنين عام 2002 وما تكبَّده أهلها من خسائر بشرية ومادية رُغم ما ألحقوه بالاحتلال من خسائر في الوقت نفسه.
ويُعقِّب الشوبكي قائلا إن "كل ذلك جعل أبناء المحافظة يشعرون بأنهم حالة خاصة في مواجهة الاحتلال، بل ويشعرون بأن لديهم مسؤولية أخلاقية ليُشكِّلوا حاضنة حقيقية للعمل المقاوِم، بحكم أن المخيم ملاصق للمدينة، إذ إن المخيم صورة مُكثَّفة للعدوان الذي يمارسه الاحتلال ضد الفلسطينيين منذ عقود، ويُضاف إلى ذلك كون المحافظة واحدة من أقل المحافظات تأثُّرا بالأنماط الاجتماعية والاقتصادية التي فرضتها مرحلة ما بعد اتفاقية أوسلو؛ فالسياسات الاقتصادية التي مورست في بعض المدن الكبرى مثل نابلس والخليل ورام الله أنشأت أنماطا استهلاكية اقتصادية وبنى مؤسساتية لا تتلاءم مع وضع شعب تحت الاحتلال، ومن ثمَّ بقيت جنين متحرِّرة نوعا من هذه الأعباء التي فرضتها الأنماط الاقتصادية الجديدة".
بندقية المقاومة.. موحَّدة في جنين
في منتصف أغسطس/آب الماضي، اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي وآلياتها العسكرية مدينة جنين بُغية اعتقال أحد عناصر حركة حماس، ولم يكن ذلك ليتم دون وقوع اشتباك مسلح مع مجموعة من المقاومين، أسفر عن استشهاد أربعة شباب فلسطينيين من المدينة ومخيمها، قبل أن يخرج جنود الاحتلال من المخيم تحت غطاء كثيف من إطلاق الرصاص الحي لحماية أنفسهم. كانت العملية العسكرية الإسرائيلية السريعة أمرا معتادا لمقاومي جنين، فلم تكف قوات الاحتلال يوما عن استهداف المخيم. وبالتبعية، لا ينام مُطارَدو المخيم إلا وأياديهم على الزناد، وهم مقاتلون شباب تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين عاما، أي إن جُلَّهم من مواليد زمان انتفاضة الأقصى (2000)، أو زمان مجزرة جنين التي عاشها المخيم عام 2002.
يقطن جنين أربعون ألف نسمة معظمهم من المسلمين مع أقلية مسيحية، وتُعَدُّ جنين أكبر مدن المثلث الواقع بين جنين ونابلس وطولكرم. ولدى مقاومي جنين ما يُميِّزهم عن غيرهم من مقاومي الضفة الغربية، إذ اعتادوا شراء الأسلحة من حر مالهم بدلا من أن توفرها لهم التنظيمات كما هو معتاد في فلسطين. ويقول الشوبكي إن التقديرات الإسرائيلية نفسها تقول إن هناك حالة فريدة للعمل النضالي داخل جنين، وإن من الوارد جدا أن نرى خلية واحدة تضم عناصر من أكثر من فصيل، ويُضيف الشوبكي: "هذا يؤكِّد أن الانتماء للمكان أكبر من الانتماء للفصائل، ولنكون أدق فالإحساس بالانتماء الفلسطيني في حالتهم أكبر من الإحساس بالانتماء لفصيل بعينه، وهذه سمة مهمة جدا لا سيما في ظل ما تشهده الساحة الفلسطينية من انقسامات وقتالات على الصعيد الداخلي".
من جانبه، يُشدِّد "عزيز المصري"، الباحث في تاريخ القضية الفلسطينية، على أن أهم ما يُميِّز المقاومة في جنين هو وحدة الأجنحة العسكرية في المدينة ومخيمها، واحتواؤها على كمٍّ كبير من الأسلحة والذخائر، مع وجود نسبة لا بأس بها من أعضاء كتائب شهداء الأقصى (التابعة لحركة فتح) من المناوئين لحُكم السلطة أو المعترضين على أساليب حُكم السلطة. ويقول المصري إن حالة الوحدة الوطنية بين كتائب الأقصى وسرايا القدس (الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي) في جنين مرتبطة بالمخيم، مُعقِّبا: "انتماء أبناء الفصائل في جنين انتماء لمخيم جنين قبل أن يكون لأحزابهم أو فصائلهم، لذا لم تكن مصادفة أن الأسرى الستة الذين هربوا من سجن جلبوع أعضاء بالجهاد الإسلامي وكتائب الأقصى".
ويُشير المصري إلى أن تاريخ المخيم ومعاركه البطولية تلعب دورا كبيرا في صناعة الوعي القومي الفلسطيني لدى الأجيال اللاحقة على جيل الحصار والمجزرة (2002)، خاصة أن أغلب سكان المخيم آتون من حيفا وجبل الكرمل وعانوا مرارة الهجرة وقسوة الاحتلال، كما أن وقوع جنين في مثلث مدن شمال الضفة، وقُربها من خط التماس مع الأراضي المحتلة، له دوره في تعزيز المقاومة، إذ إن أبناءها يحتكون يوميا بقوات الاحتلال. ولا يستثني المصري وجود صعوبة مكانية لقوات الاحتلال في السيطرة على جنين بسبب الكثافة السكانية والمباني القديمة، ما يعني أن أي اقتحام للمخيم يُكلِّف الاحتلال غاليا، ناهيك بالثقل التنظيمي والعسكري لحركة الجهاد في المخيم، "كل هذه العوامل لعبت دورا كبير في جعل جنين رأس حربة المقاومة وعش دبابير للاحتلال"، هكذا يقول المصري.
لماذا لا تضعف المقاومة في جنين؟
"لقد تعرَّضت جنين، التي عُدَّت دوما أكثر مخيمات اللاجئين تشدُّدا، للضرب والدمار والقمع والدماء من قِبَل إسرائيل، وتبدو روحها محطَّمة هذه الأيام، فكل شخص يواجه مصيره وكفاحه الخاص من أجل البقاء"، هكذا كتب الصحافيَّان الإسرائيليَّان "جدعون ليفي" و"أليكس ليفاك" بصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في مقال بعنوان "جنين، الأكثر تشدُّدا في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين ذات يوم، تلوِّح بالراية البيضاء". كان ذلك في 10 يونيو/حزيران 2016 حين أراد الصحافيان تسليط الضوء على مرور بضع سنوات دون خوض المخيم أي مواجهات بارزة مع الاحتلال، ما اعتُبِر نجاحا نسبيا لإسرائيل.
بيد أن جنين سرعان ما حرمت الاحتلال من لذة الهدوء، وواصلت طقوس مقاومتها المعتادة، فبينما واجه الفلسطينيون الاحتلال بالحجارة في مناطق عدة بالضفة، وقف مخيم جنين وحده مُصوِّبا سلاحه الناري بوجه جنود الاحتلال، ومن ثم تسبَّبت حالة التصدي المسلَّح لقوات الاحتلال في رعب كبير في إسرائيل على مدار السنوات الماضية. ومن جهتها، لم تجرؤ قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية على إرسال أفراد شرطة مسلحين داخل المخيم منذ فترة طويلة، تحسُّبا من ردود الأفعال، بل ولا تدخل السلطة الفلسطينية إلى المخيم حتى من أجل فرض النظام، وهو أمر يضاعف مخاوف الاحتلال الذي يعتمد على التنسيق الأمني مع السلطة كي يكبح جماح المقاومة الفلسطينية.
يقول "عاطف دغلس"، الصحافي الفلسطيني المقيم في نابلس، إن مخيم جنين شكَّل حالة استثنائية بين المناطق الفلسطينية منذ برزت مقاومة المخيم بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 2002 الذي قُتل فيه وأُصيب عشرات الإسرائيليين، حيث توافد المقاومون الفلسطينيون نحوه ليتحوَّل إلى علامة بارزة في مسيرة المقاومة. ورغم بروز سرايا القدس (الجناح العسكري للجهاد الإسلامي) وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لفتح)، فإن هناك لُحْمَة كبيرة بين هذين الفصيلين حول حالة المقاومة في جنين تتجاوز الخلافات الحزبية المعتادة في غيرها من بقاع فلسطين، وهو ما ساهم في تشكيل غرفة مقاومة مشتركة عقب عملية هروب أسرى سجن جلبوع.
تحدَّثنا أيضا إلى "جمال الحويل"، أحد قادة العمل الفصائلي في مخيم جنين، الذي أشار إلى أن الاحتلال يعتقد أن الحل الأمني وقتل المقاومين واعتقالهم يمكن أن يُحقِّق له أمنه المنشود، بيد أن الجيل المقاوِم في جنين دائما ما يوصِّل رسالته الخاصة: فلا أمن ولا سلام بدون حل سياسي وبدون دولة فلسطينية وبدون حق العودة. ويقول الحويل إن "ثقافة المقاومة في المخيم تشي بأن الاحتلال سيظل يدفع أثمانا باهظة ما دام يمارس إرهابه بشكل منظم ويومي ضد الشعب الفلسطيني". ويُشير الحويل إلى شجاعة سكان المخيم في احتضان أي مقاوِم وكأنه من أبنائه دون رهاب من إجراءات الاحتلال.
بالإضافة إلى ذلك، يُشكِّل استعداد مقاومي المخيم للمواجهة والمقاومة نموذجا لبقية محافظات فلسطين، وهو ما يجعل الاحتلال تحت ضغط معنوي ونفسي محاوِلا ردع المقاومة في جنين لإيصال رسائله بالتبعية إلى أي جهة أخرى ترغب في المقاومة، ما يعني أن سياسة الاحتلال تجاه جنين لها أسبابها على مستوى الحرب "المعنوية" أيضا. "يريد الاحتلال ألا تنتقل حالة جنين إلى شتى أنحاء فلسطين. لكن هذا لم يتحقَّق بدليل ما نشهده الآن، حيث يظل مخيم جنين شعلة لبقية الضفة الغربية".
في المحصلة، سيبقى مخيم جنين، الذي يجوب عشرات المسلحين الفلسطينيين شوارعه وأزقته ليلا ونهارا، مُستمسِكا بسلاح المقاومة الموحَّدة وبتاريخه الطويل وبإرثه الزاخر من الصمود في وجه محتليه المتعاقبين، ولن يكون سهلا أبدا على إسرائيل أن تُقْدِم على اقتحامه والاشتباك مع مقاوميه متى تشاء أسوة بما يحدث في مناطق الضفة الغربية الأخرى. وفيما يبدو إذن أن المخيم الصغير في حجمه، الكثيف بسكانه، العنيد بمقاومته، الوحدوي بسموّه فوق النزاعات الحزبية، قد بات حصنا حصينا هو الآخر جنبا إلى جنب مع قطاع غزة، وشعلة من الشعلات القليلة الباقية الحاملة للواء القضية الفلسطينية بالسلاح داخل فلسطين، وعقبة في طريق يُمهَّد منذ سنين لتصفية القضية الفلسطينية وإسكات أهلها تماما بلا رجعة.