العراق ينتخب.. هل ينجح جيل الاحتجاجات في تجاوز لعنة الطائفية والفساد؟
في الثالث من يناير/كانون الثاني 2020، تناقل العالم خبر مقتل "قاسم سليماني"، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، ورأس حربة سياساته الخارجية العسكرية، وسط مخاوف من أن تؤدي تبعات مقتله إلى إشعال حرب بين واشنطن وطهران، ورغم أن الأخيرة اكتفت بحفظ ماء وجهها عبر توجيه عدة ضربات عسكرية لم تُحدِث خسائر ضخمة في صفوف القوات الأميركية الموجودة بالعراق، فإن الحرب الحقيقية التي سبَّبتها الضربة الأميركية، على غير المتوقَّع، نشبت بين صفوف رجال الميليشيات المسلحة الموالية لإيران في العراق، وكان ضحيتها المباشرة رجلا ارتبط مصيره، دون أن يدري، بذلك اليوم، وهو "هشام الهاشمي".
كان الهاشمي واحدا من رجال الظل في بغداد، ومن القلة النادرة صاحبة الخبرة بشؤون الحركات المسلحة، وذات الصلة العميقة والودية بقادتها من السنة والشيعة على السواء، وبإضافة عنصر الصداقة الشخصية التي جمعته بـ"مصطفى الكاظمي"، رئيس المخابرات الأسبق ورئيس الوزراء الحالي، بات الهاشمي الرجل المطلوب حين تعلَّق الأمر باستشارة في شؤون الحركات المسلحة العراقية من قِبَل القيادة العراقية نفسها أو من قِبَل الأميركيين كذلك.
لم يجعل هذا من الهاشمي شخصا أقل إثارة للجدل، فقد ارتبط تاريخه بعدد من التحوُّلات الحادة، من المذهب الشيعي إلى السني أواخر التسعينيات، ومن صفوف المقاتلين السنة في الفلوجة مطلع الألفينيات إلى صفوف الباحثين ومستشاري الحكومة بعد ذلك، وإن لم يمنعه هذا من نيل رضا قادة الحركات المسلحة الشيعية، وعلى رأس هؤلاء "قاسم سليماني" و"مهدي المهندس" اللذان عُدَّ مقتلهما نهاية للحصانة التي تمتَّع بها الهاشمي فترة طويلة من تهديدات الجماعات الشيعية، لا سيما بعد تأييده للحراك الشعبي الذي اندلع قبيل وفاتهما.
لقد خرج الشباب العراقي إلى الشوارع في أكتوبر/تشرين الأول 2019 مطالبا بالإصلاحات الاقتصادية والقضاء على الفساد وإنهاء الوجود الأجنبي (الأميركي والإيراني)، الأمر الذي هدَّد أركان الدولة العميقة للميليشيات المدعومة إيرانيا، ووضع أجندتها على المحك، لا سيما مع التقارير والتصريحات التي بدأ الهاشمي نشرها مرفقة بمعلومات عن قادة هذه الجماعات وتسليحها ومناطق قوتها ونفوذها. ومن ثمَّ لم يكن غريبا أن وضعته الميليشيات المسلحة على "قوائم الموت" التي خصَّصتها لأسماء أشهر شباب الحراك الشعبي العراقي، وأعلاهم صوتا في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. (1)
كان الهدف من محاولات الاغتيال منع تشكيل جبهة من شباب الشارع العراقي للمنافسة في الانتخابات البرلمانية المُقبلة آنذاك، ومنذ اندلاع الاحتجاجات حتى الآن نجحت أكثر من ثلاثين عملية اغتيال من أصل ثمانين قامت بها عناصر مجهولة لم يُلقَ القبض على أيٍّ منهم حتى اللحظة، ومن بين المحاولات الناجحة أتى اغتيال الهاشمي في يوليو/تموز 2020 أمام منزله وأبنائه ليُجسِّد سطوة الميليشيات ولا مبالاتها بمكانة الرجل، ومكانة أيٍّ ممن سعوا لكبح نفوذها في بغداد. (2)
ربيع العراق
ليست الاحتجاجات الشعبية بالجديدة على الشارع العراقي، فقد بدأت منذ عام 2011 بالتزامن مع الثورات العربية، وبشكل شبه منتظم تقريبا كل عام، في سلسلة من الانتفاضات الشعبية التي تراوحت أسبابها من مطالب التوظيف وتحسين الخدمات العامة وعلى رأسها المياه والكهرباء، وصولا إلى الإصلاح السياسي وإنهاء الفساد المستشري في مؤسسات الدولة. ورغم أن هذه المطالب لم تتغيَّر منذئذ وحتى عام 2019، فإن الاحتجاجات الأخيرة حملت طابعا غير مسبوق، ليس فقط بسبب الحضور الشعبي الضخم، ولكن أيضا بسبب الغضب المتصاعد من الأوضاع الأمنية المرتبطة بحكم الميليشيات وتغلغلها في الأجهزة الأمنية، وهو ما ضاعف من قوة الاحتجاجات واستمراريتها، التي لم يفلح معها القمع الأمني واستهداف المتظاهرين بالرصاص المطاطي والحي والغازات المسيلة للدموع ومقتل ما يقارب 600 متظاهر. (3)
لكن الحراك الشعبي نفسه لم يفلح في فعل الكثير على أرض الواقع بداية، إذ صمَّت حكومة "عادل عبد المهدي" حينها آذانها عن مطالب الشارع، ثمَّ أطلقت يد الأجهزة الأمنية لقمع الاحتجاجات، وهي الأجهزة المكوَّنة من عناصر الميليشيات الشيعية سابقا والموالية لإيران ضمنيا. غير أن استمرار الضغط الشعبي كتب في الأخير نهاية حكومة عبد المهدي، الذي قدَّم استقالته لمجلس النواب في الأول من ديسمبر/كانون الأول 2019، تاركا العراق لعدة أشهر من الفراغ السياسي لم يملؤه سوى مصطفى الكاظمي بعد أن رأس الحكومة الجديدة في مايو/أيار 2020.
مُثقلة بمطالب الشارع وهمومه، كان لازما على الحكومة الجديدة أن تعمل لإيجاد حلول سريعة وفعالة لعقود من سوء الإدارة والفساد والكساد الاقتصادي والحروب، وهو أمر عقَّده بدء وباء "كوفيد-19" الذي اجتاح العالم، وتسبَّبت آثاره على الاقتصاد العالمي في مزيد من التعثُّر للاقتصاد العراقي القائم على صادرات النفط والغاز، المتأثرة بدورها بالوباء. ومن ثمَّ انخفض سعر برميل البترول إلى 56 دولارا عام 2020، بعد أن كان في أعلى مستوياته في العام السابق؛ مُسبِّبا أزمة جديدة لم تكن في حسبان الكاظمي. (4)
انتهى الربيع العراقي شبه كليا مع توقُّف الاحتجاجات ضمن إجراءات التباعد وفرض حظر التجوال التي صاحبت الوباء، ورغم أن هذا لم يوقف حملة الاغتيالات في صفوف قادة الحراك الشعبي، فإن مشكلات القطاع الصحي وعجز الموازنة عن تلبية احتياجات الملايين ممن يعتمدون على الحكومة (مثل العاملين في القطاع العام) بوصفها مصدرا رئيسيا للدخل سواء في الرواتب أو المعاشات، بالإضافة إلى استمرار أزمات الكهرباء والمياه والخدمات عامة، كل هذا تسبَّب في الانشغال عن حركة الاغتيالات والاحتجاجات، والالتفات لمحاولة الإصلاح التي تبنَّاها الكاظمي.
خيوط العنكبوت
كان تشكيل "خلية الطوارئ للإصلاح المالي" أحد أول القرارات التي أصدرها الكاظمي بعد ترؤسه الحكومة الجديدة، وبموجبه شُكِّلت الخلية في 12 مايو/أيار 2020 بهدف دراسة الأوضاع المالية والاقتصادية ووضع الحلول اللازمة للخروج بالبلاد من أزمتها، وصياغة هذه المقترحات ضمن برنامج يُتَّفق عليه ويُشرَّع قانونيا، وبما يضمن اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذه بعد لذلك.
لم تلبث الخلية طويلا، وبعد أكثر من عشرين اجتماعا رسميا أُقيمت بين مايو/أيار وأغسطس/آب 2020، خرجت نتائج أبحاث الخلية ودراساتها ضمن ما يُعرف الآن باسم "الورقة البيضاء" للحكومة العراقية. وقد فصَّلت الورقة تفصيلا دقيقا كيف وصل الاقتصاد العراقي إلى هذه الدرجة من الركود وتوقف النمو بدءا من سبعينيات القرن الماضي، حين وظَّفت الدولة عائدات النفط لخدمة مصالحها، وطوَّعت في الطريق الخدمات والمصالح العامة كافة لتكون في يدها دون غيرها، مرورا بعجزها عن فتح مسار للاقتصاديات الصغيرة والخاصة للنمو، ثمَّ اندلاع حربَيْ الخليج الأولى والثانية. لم يحِد هذا المسار المرتكز للدولة عن طريقه أبدا، ومن ثمَّ باتت الدولة تسيطر سيطرة مباشرة أو غير مباشرة على شتى قطاعات الاقتصاد. (5)
ثمَّ أتى الغزو الأميركي مُغازِلا العراقيين باحتمالية تحسُّن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، لكن دوامة المعارك الداخلية والاقتتال الطائفي واستغلال موارد النفط لكنز الثروات وتصفية الحسابات داخليا وخارجيا، جنبا إلى جنب مع نظام المحاصصة الطائفي الذي اتُّبع بعد إسقاط صدام حسين، فتحت المجال لوضع الانتماء الطائفي والمصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة للشعب العراقي، وتشكَّلت معه أحزاب طائفية وعِرقية ذات أذرع عسكرية ومصادر تمويل وعلاقات خارجية خاصة بها، لتحلّ تلك الشبكة الميليشياتية المعقَّدة محل قبضة نظام صدام حسين، دون تغيُّر جوهري في معادلة الاستبداد والفساد التي أُضيف إليها التشرذم ليس إلا.
تزامنت هذه المشكلات مع زيادة مُطَّرِدة في النمو السكاني في الفترة بين 2004-2020، حيث زاد عدد السكان من 26.3 إلى 40.2 مليون نسمة، وبمعدل زيادة بلغت نسبته 42% للذين تقل أعمارهم عن ثلاثين عاما، وهو ما وصل بنسبة الشباب (الأقل من 30 سنة) إلى 66% من سكان العراق عام 2020. وإذا أخذنا في الاعتبار أن القطاع العام هو القطاع التوظيفي الأكبر والأهم في البلاد، وأن ذلك القطاع يعاني بالفعل من صعوبات في دفع رواتب موظفيه الحاليين ومعاشات المتقاعدين منهم؛ يتبيَّن لنا حجم العراقيل التي واجهتها الحكومة العراقية للتعامل مع الأزمة الاقتصادية.
ألف صَدَّام وصَدَّام
"راح صدام وجانا ألف صدام"، كانت هذه هي كلمات "كاظم شريف حسن الجابوري"، أحد رجال صدام حسين السابقين الذين تخلَّى عنهم صدام ضمن الآلاف غيره وألقاه في السجون لعام ونصف العام. وحين دخل الأميركيون العراق، أصبح الجابوري واحدا ممن ساهموا في إسقاط تمثال صدام حسين الشهير في ساحة الفردوس بالعاصمة بغداد. ورغم ندمه على المشاركة في هذا الفعل بعد ذلك، فإن رقم "ألف صدام" الذي تحدَّث عنهم يبدو أقل بكثير من العدد الحقيقي، حيث يكتظ العراق اليوم بالآلاف من رجال صدام وأعدائه على السواء، ممن استغلوا سقوطه لبناء مجدهم الخاص.
كانت "كتائب حزب الله العراقية" واحدة من هذه المجموعات التي تشكَّلت قبيل الغزو الأميركي بعدة أشهر، وادَّعت الجهاد ضد المحتل الأميركي في العراق بينما عملت في الخفاء لتحقيق مصالحها الخاصة. وقد كتب عنها الهاشمي قبيل موته، ولعل ذلك واحد من الأسباب التي عجَّلت باغتياله من قِبَل رجال محسوبين على الكتائب، كما يدَّعي البعض. وتمتلك الكتائب الموالية لإيران، والمكوَّنة من عدة أذرع مختلفة، مجموعة شركات خاصة بها، وتعمل في جمع الأموال من عمليات التهريب عبر المنافذ والمعابر التي تسيطر عليها، وتسمح من خلالها بمرور عناصر من تنظيم الدولة وعائلاتهم، كما تستغلها للتحكم في دخول البضائع وخروجها.
ليست كتائب حزب الله سوى واحدة من شبكة ميليشيات واسعة محسوبة على طهران، وقد عادت صراحة أثناء موجة التظاهرات الأخيرة، ويُعتقد أنها وراء العديد من عمليات الاغتيال منذ تلك الفترة وحتى اللحظة، وهي تقع ضمن شبكة سيطرة الحشد الشعبي، التي تضم مئات الآلاف من المقاتلين الذين انضموا لأجهزة الأمن العراقية بعد نهاية الحرب ضد تنظيم الدولة، ورغم أنهم يحصلون على رواتبهم من الميزانية العامة المخصَّصة للأمن، فإن هذا لم يمنع قيامهم بعملياتهم الخاصة على هامش مهماتهم الرسمية.
لا تُهدِّد هذه المجموعات العسكرية المسلحة والمُموَّلة من الخارج أمن العراق واستقراره فحسب، بل تُهدِّد علاقاته الخارجية أيضا نظرا لارتباطها الوثيق بإيران، ومن ثمَّ بصداقات طهران وعداواتها التي تُعقِّد باستمرار السياسة الخارجية العراقية. وتمتلك هذه الجماعات أحزابا ورجالا مُمثِّلين عنها في منظومة الحكم العراقية التي بنتها بكفاءة على مدار 18 عاما من الغزو الأميركي، وهي أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت الشباب العراقي إلى الخروج في احتجاجات واسعة منذ 2019، ساعين للفكاك من أسر تلك القبضة المعقَّدة والمتشعِّبة.
لا يُعتقَد بحال أن هذه الاحتجاجات أو غيرها في شتى أنحاء العراق قادرة وحدها على إحداث فارق هائل في مستقبل البلاد، القريب على أقل تقدير، إذ إن الجماعات المسلحة ترسل رسائل اغتيالاتها المستمرة مُحذِّرة مَن يحاول التطاول على نفوذها السياسي. أما الحكومة العراقية التي أتت بدعوات التغيير الاقتصادي والأمني فهي تحاول بحذر تقليم أظافر بعض الميليشيات العسكرية، المناوئة للكاظمي على الأقل، وإن لم تستطع الوقوف لأجل رجل مثل الهاشمي رُغم صداقاته الشخصية مع كبار رجال الدولة والكاظمي نفسه، كما لم تدافع عن نفسها حين حاصرت عناصر الميليشيات المنطقة الخضراء متوعِّدة بالحرب إذ لم تُفرج الحكومة عن "قاسم مصلح"، الذي اتُّهِم في اغتيالات وتفجيرات ضد القوات الأميركية.
ورغم ذلك، لا يزال أمام الشباب العراقي فرصة لنيل زمام المبادرة في الانتخابات النيابية اليوم، التي يتوقَّع كثيرون أن تشهد إقبالا من الشباب ممن بدؤوا مسارهم من الميدان لأجل وطن أكثر وحدة ومشروع سياسي أكثر اهتماما بهم وأبعد عن المعادلات الطائفية. في عراق اليوم، ثمة شباب من جيل جديد وُلِد معظمه بعد 2003 أو قبل ذلك بقليل، ولم يروا أو يعوا سوى بطش الميليشيات، على عكس آبائهم ممن شهدوا بطش صدام، وهُم لا ينتمون للأحزاب الطائفية التي تسيطر على المشهد، بل يسعون نحو عراق موحَّد قرؤوا عنه ولم يروه أبدا. وفيما يبدو، فإن عجلة التاريخ في العراق بدأت تدور عكس ما تشتهيه القيادات الطائفية ورُعاتها في طهران، ورُغم أنها لا تزال قابضة على زمام السلطة والسلاح والنفط، فإن عصرها الذهبي في طريقه للأفول ولن تشهد قبضتها إلا مزيدا من التفكك لصالح مشاريع جديدة، يحاول الكاظمي أن يكون واحدا منها، وستُخبرنا الصناديق وحدها اليوم ما إن كان الرجل قد نجح في إقناع أغلبية العراقيين، والشباب منهم بالأخص، بأنه الرجل المناسب لتلك المهمة أم لا.
—————————————————————-