شعار قسم ميدان

من أحضان النازية إلى تمويل تنظيم الدولة.. القصة الكاملة لشركة لافارج عملاق الأسمنت الفرنسي

أعلنت(1) شركة "لافارج" (Lafarge) عملاقة صناعة الأسمنت الفرنسية ومجموعة "هولسيم" السويسرية، الثلاثاء، أن لافارج ستسدد غرامة قدرها 778 مليون دولار لوزارة العدل الأميركية لمساعدتها تنظيم الدولة الإسلامية خلال الحرب في سوريا. وصدر عن الشركتين بيان جاء فيه أن "لافارج" وشركتها الفرعية "لافارج للأسمنت سوريا" التي حُلَّت "وافقتا على الاعتراف بالذنب بتهمة التآمر لتقديم دعم مادي لمنظمات إرهابية أجنبية محددة في سوريا منذ أغسطس/آب 2013 حتى أكتوبر/تشرين الأول 2014".

 

ويُعَدُّ إجراء "لافارج" أمام محكمة بروكلين الاتحادية المرة الأولى التي تُقِر فيها شركة بالذنب في الولايات المتحدة في اتهامات بتقديم دعم مادي لجماعة صُنِّفت إرهابية، في حين تواجه "لافارج" أيضا اتهامات في باريس بالتواطؤ في جرائم ضد الإنسانية، بعد أن اعترفت في تحقيق داخلي بأن الشركة التابعة لها في سوريا دفعت أموالا لجماعات لتساعد في حماية العاملين بالمصنع، رغم نفيها التورط في جرائم ضد الإنسانية.

 

أعاد هذا التطور الجديد تسليط الضوء على قصة الشركة التي اندمجت سنة 2014 مع شركة "هولسيم" السويسرية فصارت تُعرَف بـ"لافارج هولسيم"، وقد شاركت الشركة -فيما يبدو- في تمويل التنظيم المُصنَّف تنظيما إرهابيا في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة؛ للحفاظ على مكان لها في الداخل السوري، وتحقيق عدد من المكاسب الاقتصادية في منطقة تُمزِّقها الاضطرابات والثورات والحروب الأهلية.

أيقونة فرنسا في أحضان النازيين

بدأت قصة مجد شركة "لافارج" الفرنسية للأسمنت قبل حوالي قرنين من الزمان بوصفها شركة عائلية متوسطة ذات مسحة كاثوليكية أنشِئَت على أرض "لافارج" بإقليم الأرديش المعروف بتديُّنه المسيحي، ولذا لم تبخل الشركة في بداياتها بأسمنتها على كنائس الإقليم ومدارسه، ثم أخذت الشركة تتوسَّع سريعا، ومع نهاية القرن التاسع عشر، وصل عدد موظفيها إلى 1500 عامل بعد أن بدأت بمجموعة لم تتجاوز الخمسين. وعملت الشركة التي أسستها عائلة "بافان" على ربط نفسها بالمنطقة التي احتضنت بناياتها، فأقدمت على بناء مجمع سكني للعمال يضم كنيسة ومحلات بقالة وحضانة مجانية للأطفال، وكان الهدف من كل هذه الاستثمارات خلق علاقة من الإخلاص والوفاء المتبادل بينها وبين موظفيها.

 

آتت هذه الإستراتيجية أكلها بمرور السنين، وقبيل الحرب العالمية الثانية كان أسمنت "لافارج" قد استُخدِم في تشييد ميناء مرسيليا وقناة السويس وبورصة نيويورك، ووصل عدد مصانع الشركة إلى 12 مصنعا تحت قيادة "هنري بافان". وحين اشتعلت الحرب العالمية الثانية ووصل النازيون إلى قلب فرنسا التي سقطت في قبضة هتلر، وجدت الشركة الفرنسية نفسها أمام اختبار عصيب وحاسم يهدد نشوتها الاقتصادية، لكن بافان لم يتردد كثيرا قبل اتخاذ قراره الحاسم بالتعاون مع النازيين والدخول معهم في صفقات كبيرة.(2)

 

في البداية أعلن بافان دعمه لحكومة "فيشي" الموالية للنازيين، التي ترأسها الماريشال "فيليب بيتان"، ثم التحق بعد ذلك بالمجلس الوطني الذي مثَّل إحدى ركائز النظام النازي(3). في وقت لاحق، اتخذت "لافارج" خطوتها الأهم بعد أن تفاوضت على اتفاق تاريخي لبناء حواجز على طول المحيط الأطلسي غربي فرنسا، في صفقة هي الأكبر في تاريخ الشركة، إذ ناهزت الأرباح التي حققتها 30 مليون يورو (بأسعار الوقت الحالي)، مستفيدة من تسهيلات النازيين للتزوُّد باليد العاملة والمواد الأولية الأساسية. وقد اعتبر القس "إيمانويل بافان"، ابن مدير مصنع "لافارج" حينها، في لقاء مع قناة "فرانس 2″، أن الشركة اتخذت قرار التعاون مع النازيين لاعتبارات مهمة، أولها الحفاظ على الأمان المادي لموظفيها، وثانيها ضرورة الحفاظ على التوازن الاقتصادي للشركة، مضيفا: "كانت الشركة مطالبة باختيار خير الشرين، لا أظن أن الاختيار كان سهلا".(4)

المارشال فيليب بيتان (يسار) يلتقي بأدولف هتلر في عام 1940
فيليب بيتان (يسار) يلتقي بأدولف هتلر في عام 1940

مع نهاية الحرب العالمية واندحار النازيين الذين تمكنت فرنسا من طردهم خارج أرضها، بدأت باريس تحاكم "الخونة الذين تعاونوا مع النازيين"، لكن شركة "لافارج" لم تكن ضمن هذه القائمة السوداء بعد أن غض القضاء الفرنسي الطرف عن صفقاتها المُظلمة، إذ كانت فرنسا في حاجة كبيرة لمصانع الأسمنت كي تعيد بناء البلاد بعد أن دمَّرتها الحرب، إلى جانب بناء مساكن للعاملين القادمين من أفريقيا ليُسهِموا في إعادة بناء فرنسا.(5)

 

طوت "لافارج" صفحة الحرب إذن، وحظيت بدعم من باريس التي رأت فيها سفيرا اقتصاديا فوق العادة، خصوصا بعد أن تمكنت الشركة الفرنسية من عبور الأطلسي والوصول إلى أميركا عبر مصنعها الجديد بمدينة "ألبِنا" شمالي "ميشيغن". من جانبها، أعادت "لافارج" استنساخ تجربتها الأولى عندما أسست نفسها في أرديش، فدعمت المدينة بقوة، وأسهمت عبر آلاف الدولارات في بناء المستشفيات ودعم الفرق الرياضية، بيد أن هذه الخطوات -على أهميتها- لم تُغَطِّ على بعض ممارسات الشركة التي وضعت الأرباح الاقتصادية هدفا أسمى. ففي بداية التسعينيات، خرج سكان المنطقة للاحتجاج أكثر من مرة بسبب السموم التي نفثها مصنع لافارج نتيجة استعمال الشركة لبعض المواد الملوثة للبيئة. بعدئذ، سلكت "لافارج" في مواجهة السكان مسلكا آخر، وهو استثمار بعض المال في اللوبيات القادرة على حماية مصالحها والوقوف في وجه القوانين التي ستضر بتوسعها الاقتصادي، مع التسويق لنفسها على أنها شركة خضراء صديقة للبيئة.(6)

 

لافارج في الشرق الأوسط

تبحث فرنسا منذ سنوات عن إنعاش حضورها الاقتصادي خارجيا، وفي هذا السياق، جاءت قمة باريس في يوليو/تموز 2008، التي جرى خلالها الإعلان عن إنشاء منظمة "الاتحاد من أجل المتوسط" الحكومية التي ضمت عددا من دول الاتحاد الأوروبي ودولا أخرى من شمال أفريقيا والشرق الأوسط. واعتُبِرَت هذه الخطوة بمثابة دفعة تشجيعية لشركة لافارج التي درست التوسع في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما مع حالة الركود النسبي في الأسواق الغربية.

Delegations begin their meeting at the start of a EU-Mediterranean summit in Paris July 13, 2008. Some 43 heads of state and government are attending the French-inspired summit intended to revitalize cooperation between the European Union and Mediterranean countries. REUTERS/Yves Herman (FRANCE)
القمة الأوروبية المتوسطية في باريس في 13 يوليو / تموز 2008

كانت البداية في مصر، إذ تمكنت "لافارج" عام 2007 من شراء شركة "أوراسكوم للأسمنت" مقابل 12.8 مليار دولار، ثم توجَّهت الأنظار بعد ذلك إلى العراق، الذي حطت "لافارج" رحالها به سنة 2009، طامعة في أن يكون لها نصيب الأسد من كعكة إعادة الإعمار المُقدَّرة حينها بـ500 مليار دولار(7). بيد أن الاستثمار الأبرز للشركة الفرنسية كان غير بعيد عن العراق، في سوريا المستقرة قبيل ثورتها، ففي سنة 2010 افتُتِح المصنع الذي اشترته "لافارج" قبل 3 سنوات بمنطقة الجلابية شمالي مدينة الرقة السورية، وقد رأت فيه الشركة الفرنسية جوهرة استثمارها بالشرق الأوسط، وبلغت تكلفته 680 مليون دولار.

 

مع اشتعال الثورة السورية، بدأت الأوضاع الأمنية غير المشجعة تدفع عددا من الشركات الفرنسية إلى الرحيل عن البلاد، وكان هذا هو اختيار كل من "إير ليكيد" و"توتال"، إلا أن "لافارج" فضلت البقاء، معتبرة أن مدينة الرقة بعيدة عن المناطق التي اشتعلت فيها الأحداث. بيد أن الشركة سرعان ما تعاقدت مع النرويجي "جاكوب ويرنس"، الذي يجمع بين التجربة في مجال التجارة، والمكوِّن العسكري والاستخباراتي لحماية استثماراتهما الثمينة من الاضطرابات.(8)

 

تمثَّل عمل ويرنس في حماية المصنع السوري والعاملين به، لكن بعد انسحاب قوات النظام السوري من شمالي البلاد، ووقوع الرقة والرقعة الجغرافية القريبة منها في أيادي عدد من المجموعات المسلحة الكردية بالأساس، قررت "لافارج" في صيف 2012 إجلاء موظفيها الفرنسيين والأجانب، والإبقاء على السوريين لتشغيل المصنع. إلا أنه في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، اختُطِف 9 موظفين من طرف جماعات مسلحة لطلب فدية، وبعد أسابيع من مفاوضات قادها ويرنس، توصل الطرفان إلى اتفاق يقضي بإطلاق سراح الموظفين مقابل 230 ألف دولار.

النرويجي "جاكوب ويرنس"
النرويجي "جاكوب ويرنس"

ظل الوضع على ما هو عليه من تلاشي الأمن وتشبث الشركة الأم في باريس بمواصلة الإنتاج، حتى وصول تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة إلى مناطق قريبة من مكان المصنع، لا سيما تنظيم الدولة الذي سيتخذ بعد ذلك من مدينة الرقة عاصمة له. وتماما كما حدث مع مديري لافارج الذين عاصروا النازية، كان القرار الذي اتخذته لافارج هو البقاء بأي ثمن، حتى وإن تطلب الأمر دفع مقابل مادي لهذه المجموعات المسلحة التي تصنفها الدول الغربية جماعات إرهابية، بهدف الحفاظ على أهم استثمارات الشركة في الشرق الأوسط.

 

حسبما كشفت بعض الوثائق، دخلت لافارج في مفاوضات مع المسلحين للسماح للمصنع بمواصلة الإنتاج، مع عدم التعرُّض للشاحنات التابعة للشركة أو لمزوديها بالمواد الأولية ولا للموظفين الذين يأتون للعمل يوميا(9). ولمّا لم يكن ممكنا لإدارة الشركة أن تدخل في مفاوضات مباشرة مع التنظيم، كان ضروريا أن تجد شخصا يقوم بدور الوسيط بينها وبين رفاق البغدادي، فلم تجد أفضل من "فراس طلاس"، الرجل الذي ساعد الشركة على حط رحالها في سوريا أول مرة، وهو ابن "مصطفى طلاس"، أحد أهم رموز نظام "الأسد" ووزير الدفاع ونائب القائد العام للجيش ونائب رئيس مجلس الوزراء السوري السابق.(10)

فراس طلاس
فراس طلاس

كان فراس طلاس، وفقا لرسائل البريد الإلكتروني التي تبادلها مع إدارة المصنع في سوريا، مكلفا بالتفاوض مع المجموعات المسلحة وتوزيع الأموال عليها مقابل عمولته التي وصلت إلى 5.4 مليون دولار في الفترة ما بين يوليو/تموز 2012 وسبتمبر/أيلول 2014 فقط(11). إذن، يحصل الوسيط والتنظيم على الأموال، وتحصل الشركة مقابل ذلك على ورقة مرور تحمل ختم وزير مالية الدولة الإسلامية، وتُجدَّد يوميا. بيد أن هذا ليس كل شيء، فحسب تحقيق لموقع "ميديا بارت"، اشترت "لافارج" من التنظيم عددا من المواد الأساسية، مثل "الوقود الثقيل" ومواد أساسية أخرى، كما يشتبه في بيعها الدولة الإسلامية الأسمنت الذي بنت به عددا من السجون المعدة للنزلاء المحكوم عليهم بالإعدام.(12)

 

تؤكِّد الوثائق التي نُشِرَت في تحقيقات صحفية متفرقة علم مسؤولين رفيعي المستوى في الشركة بكل صغيرة وكبيرة تم الاتفاق عليها مع المجموعات المسلحة ومن بينها تنظيم الدولة الإسلامية(13). وقد قال "كلود فايارد"، المسؤول الأمني للشركة والقبطان السابق في القوات الخاصة التابعة للبحرية الفرنسية، أثناء التحقيقات، إنه كان من الصعب مواصلة العمل دون تعامل مباشر مع التنظيمات المسلحة التي تصنفها الدول الغربية مجموعات إرهابية(14). أما "كريستيان هيرو لافارج"، مساعد المدير السابق لشركة لافارج، فاعتبر أثناء استنطاقه من طرف السلطات المختصة في أبريل/نيسان 2017 أنه لم يوجد حل وسط، فإما الرحيل وإما البقاء، مضيفا: "مثَّلت ضريبة داعش حوالي 500 طن من الأسمنت، كان لدينا 3 مخازن من 20 ألف طن، هل سنضيِّع كل هذا من أجل 500 طن؟". على كل حال، أُجبرت "لافارج" على الرحيل بعد أن قرر التنظيم السيطرة على المصنع، غير مقتنع بالمبالغ المالية التي حصل عليها من الفرنسيين، وقُدِّرت في الأخير بحوالي 15 مليون دولار.(15)

 

ظلت القضية طي الكتمان حتى رفع 11 عاملا سوريا دعوى ضد الشركة عبر منظمة "شيربا" والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، قبل أن تنشر صحيفة "لوموند" الفرنسية -بدورها- تحقيقا صحافيا ناقش القضية بالتفصيل، وهو ما دفع لافارج إلى فتح تحقيق داخلي كُشفت نتائجه مطلع أبريل/نيسان 2017، حيث اعترفت الشركة بتسليم أموال لوسطاء من أجل توزيعها على عدد من الجماعات المسلحة، ومن بينها تنظيم الدولة الإسلامية؛ للحفاظ على المصنع والإنتاجية وحماية الموظفين فيه، على حد وصف التقرير.(16)(17)

 

وكر التجسس السري

Lafarge Cement Plant in Paris- - PARIS, FRANCE - SEPTEMBER 8: A view of a Lafarge Cement plant is seen in Paris, France on September 8, 2021. France’s top court said Tuesday that cement giant Lafarge should be investigated on charges of complicity in crimes against humanity for allegedly financing the Daesh/ISIS terrorist group in northern Syria.

لم يكن الاتفاق بين مصنع "لافارج" بسوريا وتنظيم الدولة الإسلامية سرِّيا، فقد عمدت الشركة الفرنسية -لحماية نفسها من أي تهم أو ملاحقات قضائية- على وضع الاستخبارات الفرنسية في الصورة، وتزويدها بجميع المعلومات المتوفرة عن التنظيم والمفاوضات. وقد أكد فايارد، المسؤول الأمني للشركة الذي كان -للمفارقة- مرشحا عن حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف في الانتخابات البلدية لمارس 2014، أنه مرَّر جميع المعلومات التي وقعت تحت يده لعناصر من الاستخبارات الفرنسية تواصل معها وكانت تجمع معلومات عن التنظيم وأعضائه.

 

أكَّد هذا الأمر ضابط في الاستخبارات الفرنسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 أثناء التحقيق معه، إذ أفاد أن جهازه عمل على جمع أكبر عدد من المعلومات الممكنة عن الجهاديين الموجودين في سوريا، خصوصا الفرنسيين منهم. لكن، رغم المكاسب المعلوماتية الكبيرة التي حصّلها جهاز المخابرات الفرنسي، فإن الضابط نفسه نفى أن يكون قد طلب من "لافارج" البقاء في سوريا، معتبرا أن قرار البقاء أو الرحيل يعود إلى الشركة نفسها التي اختارت دفع ثمن الحفاظ على مصنعها.(18)

 

في السياق ذاته، نشرت "جريدة الأحد" الفرنسية تحقيقا كشف عن عدد من رسائل البريد الإلكتروني جرى تبادلها بين الشركة عبر ممثلها الأمني فايارد، وعناصر من الاستخبارات الفرنسية(19)، وقد طلب أحد ضباط الاستخبارات من فايارد تزويدهم بأي معلومات يحصل عليها حول الأوضاع في مناطق الداخل السوري، أو حول بعض الأجهزة والمنظمات التي تعمل على تزويد البلاد بالمقاتلين الفرنسيين، واختتم الضابط رسالته بالقول: "طبعا لن أشرح لكم كيف يمكنكم جمع هذه المعلومات، الأمر لا يختلف كثيرا عن طريقة عمل الاستخبارات العسكرية".

A general view shows the Lafarge Cement Syria (LCS) cement plant in Jalabiya in northern Syria, on February 19, 2018 [File: Delil Souleiman/AFP]

أشار التحقيق أيضا إلى أنه، في يناير/كانون الثاني 2013، نقل عملاء يعملون لصالح "لافارج" معلومات إلى الاستخبارات الفرنسية عن الجهادي الفرنسي "كيفي غيافارش" الذي تم توقيفه بعد ذلك أثناء محاولته اجتياز الحدود السورية التركية، بالإضافة إلى معطيات عن جهادية فرنسية تعرف باسم "سلمى وصلاتي"، وهي إحدى النساء المطلوبات للعدالة الفرنسية بسبب مبايعتها لتنظيم أبي بكر البغدادي.

 

لم تكن الاستخبارات الفرنسية وحدها من استفاد من وجود لافارج للتجسس عن قرب على تنظيم الدولة الإسلامية، بل شاركها في ذلك عدد من الدول التي أرادت جمع أكبر عدد ممكن من المعلومات عن التنظيم، فقد نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية في تقرير لها شهادة ضابط استخبارات أردني يدعى "أحمد الجالودي" قال إن مصنع "لافارج" عُدَّ مركزا للعمليات الاستخباراتية التي شاركت فيها مجموعة من الدول من أجل تحرير رهائن تنظيم الدولة الإسلامية، ومنهم الصحفي الأميركي "جيمس فلوي" والمصور البريطاني "جون كانتلي" والطيار الأردني "معاذ الكساسبة".(20)

 

في شهادته، أكد الجالودي أنه تردَّد باستمرار بين مصنع لافارج الواقع في شمال شرق سوريا وبين العاصمة الأردنية عمَّان ومدينة إسطنبول التركية، مستغلا صفته مسؤولا عن المخاطر بشركة "لافارج"؛ وذلك بهدف تحرير الطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي أحرقه تنظيم الدولة حيا بعد ذلك، وأيضا من أجل إعطاء معلومات مفصلة للاستخبارات الأردنية، وهي معلومات وصلت لاحقا لأجهزة استخباراتية عالمية أخرى. لم يكن الجالودي -حسب شهادته- الجاسوس الوحيد الذي عمل داخل المصنع، بل رافقه على مدار سنوات عمله جواسيس من فرنسا وتركيا وبريطانيا والولايات المتحدة عملوا على تحرير الرهائن الذين تم التأكد من احتجازهم بمحطة الأكيراشي النفطية في ضواحي الرقة، إلا أن مخطط تحريرهم فشل بعد تغيير مكانهم قبل أيام قليلة من انطلاق العملية.

أحمد الجالودي
أحمد الجالودي

تحاول "لافارج" الآن الاستفادة من الدور الذي أدّته في تعزيز التعاون بين مختلف أجهزة الاستخبارات من أجل حماية نفسها من تبعات منح تنظيم الدولة ملايين الدولارات التي استعملها في تمويل أنشطته، لكن هذا المعطى لا يبدو أنه أقنع القضاء الفرنسي، لا سيما أن وزير الخارجية الفرنسي السابق "لوران فابيوس" قد أكد أنه لم يكن على علم بأي شيء، رغم تأكيد ضباط المخابرات نقل المعلومات إلى مديريهم وإلى مسؤولين في جهات عليا.

 

في نهاية المطاف، أعاد هذا التعاون بين الشركة الفرنسية وتنظيم الدولة الإسلامية إلى الأذهان وقائع شراكتها مع النازيين قبل عقود، فعلى الرغم من اختلاف الأزمان وتنوع الشركاء، يظل هدف الشركة الفرنسية واضحا وثابتا، وهو الحفاظ على مكاسبها المالية، وأهمها في حالة سوريا حجز مكان على طاولة عملية إعادة الإعمار، التي ستحتاج -بالتأكيد- إلى ملايين الأطنان من الأسمنت الذي طمحت "لافارج" في أن يخرج من مصانعها.

 

بيد أن أحلام لافارج الاقتصادية سرعان ما تبخَّرت، ولم تترك للشركة سوى نقطة سوداء أخرى في سجلها، وسُمعة تلاحقها الآن بأنها على استعداد للنزول إلى أحطِّ أنواع المساومات السياسية، تلك المتوائمة مع الفاشية تارة ومع الإرهاب تارة أخرى، فقط لكي تعلو راياتها "الأسمنتية" خفَّاقة من باريس إلى دمشق.

————————————————————————————————————————————-

المصادر

  1. اتهمت بدعم تنظيم الدولة والتواطؤ في جرائم ضد الإنسانية.. لافارج الفرنسية للإسمنت تقر بالذنب وستدفع ملايين الدولارات
  2. Complément d’enquête. Lafarge : les sombres affaires d’un géant du ciment – 23 mars 2018 (France 2)
  3. المصدر السابق.
  4. المصدر السابق.
  5. المصدر السابق.
  6. المصدر السابق.
  7. «لافارج» تشتري «أوراسكوم للاسمنت» في صفقة بقيمة 12,8 مليار دولار
  8. Complément d’enquête. Lafarge : les sombres affaires d’un géant du ciment – 23 mars 2018 (France 2)
  9. Financement de l’État islamique par Lafarge : la Cour de cassation relance l’affaire\
  10. المصدر السابق.
  11. المصدر السابق.
  12. المصدر السابق.
  13. استقالة رئيس شركة "لافارج" على خلفية فضيحة تمويل جماعات مسلحة في سوريا
  14. Financement de l’État islamique par Lafarge : la Cour de cassation relance l’affaire
  15. المصدر السابق.
  16. Syrie : les troubles arrangements de Lafarge avec l’Etat islamique
  17. استقالة رئيس شركة "لافارج" على خلفية فضيحة تمويل جماعات مسلحة في سوريا
  18. LAFARGE EN SYRIE: LES SERVICES SECRETS FRANÇAIS ÉTAIENT AU COURANT
  19. EXCLUSIF. Les mails secrets de l’affaire Lafarge qui impliquent le renseignement français
  20. Syria cement plant at centre of terror finance investigation ‘used by western spies’
المصدر : الجزيرة