معاهدة أم حملة انتخابية؟.. ٦ أسئلة تشرح لك أسباب التطبيع الإماراتي الإسرائيلي
في 13 (أغسطس/آب)، اختار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإعلان عن اتفاق تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل بأكثر الطرق المفضلة لديه، عبر حسابه الموثّق على تويتر، واصفا الاتفاق بأنه "اختراق تاريخي" في العلاقات العربية الإسرائيلية، وتتويجا لجهود ماراثونية لأعضاء إدارته.
كان الإعلان الأميركي مفاجئا للجميع، ولا تتعلق هذه المفاجأة بالطبيعة المرتبكة للعلاقات الإماراتية الإسرائيلية، حيث وجد البلدان نفسيهما في محاذاة جيوسياسية ضمنية تمتد من الخليج إلى شرق المتوسط وصولا إلى البحر الأحمر دون أن يتمتعا بأي نوع من العلاقات الرسمية، لكن ما كان مفاجئا حقا أن إخراج هذه العلاقات من الكواليس إلى العلن جرى بشكل فجائي، من خلال مفاوضات وترتيبات غُلِّفت بالكثير من السرية.
منذ أكثر من 5 أعوام، وتحديدا منذ اللحظة التي دشّنت فيها الإمارات سياستها التدخلية الحازمة بالمشاركة في حرب اليمن، بدا أن أبو ظبي باتت أقل حرصا على إخفاء مظاهر الدفء في علاقتها مع الدولة العبرية، حيث شهدت العلاقة بين الطرفين قفزات متتالية على مستويات عدة شملت تبادل المعلومات الاستخباراتية، والمشاركة في التدريبات العسكرية والمبادرات الأمنية والدبلوماسية وحتى التعاون في مجالات التكنولوجيا والاستثمار، ورغم ذلك فإن أبو ظبي ظلّت متمسكة بربط التطبيع العلني مع إسرائيل بتنفيذ إسرائيل لتعهُّداتها بالسماح بإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، وفق ما نصّت عليه مبادرة السلام العربية عام 2002.
غير أن أبو ظبي قررت فجأة التخلي عن سياستها في فصل التطبيع الرسمي عن التطبيع العملي، والدخول في مرحلة جديدة في علاقتها مع إسرائيل عبر إبرام اتفاق رسمي، في صفقة أصابت المراقبين بالكثير من الحيرة والانقسام حول مضمونها وتوقيتها، والأهم حول تداعياتها، بين من اعتبر الصفقة حدثا تاريخيا يمكن أن يُغيّر موازين القوى في المنطقة، وبين مَن اعتبرها مجرد "تحصيل حاصل" وإضفاء للصبغة الرسمية على علاقات قائمة بالفعل منذ أكثر من عقد، ولكن ما يتفق عليه الجميع على ما يبدو هو أن الفلسطينيين كانوا هم الخاسر الأكبر من هذا الاتفاق، بعد أن أثبتت الوقائع، مرة تلو المرة، أنهم مَن يدفعون ثمن الطموحات الجيوسياسية لداعميهم الافتراضيين.
حسنا، دعونا في البداية نُذكِّر ببعض البديهيات الجغرافية والتاريخية. بادئ ذي بدء، لا تشترك الإمارات وإسرائيل في أي حدود، ولم يخض البلدان أي حروب ضد بعضهما بعضا، ما يجعل تسمية الاتفاق بينهما بأنه "اتفاق سلام" ينطوي على تناقض لفظي لا يمكن تجاوزه. أما على المستوى الأكثر عملية، تُضفي الاتفاقية الطابع الرسمي على علاقات كانت تتحسّن بالفعل منذ عام 2004، وتحديدا منذ أصبح محمد بن زايد وليا لعهد أبو ظبي، ونائبا للقائد الأعلى للقوات المسلحة، وصانعا أوحدَ للسياسات في الإمارة الخليجية الثرية بسبب تردي الحالة الصحية لأخيه غير الشقيق، خليفة بن زايد آل نهيان، الرئيس الاسمي للبلاد.
تحت حكم بن زايد، تحسّنت علاقات الإمارات مع إسرائيل بشكل ملحوظ، إلى درجة أنها كانت قادرة على تجاوز أزمة اغتيال الموساد للقائد العسكري في حركة حماس محمود المبحوح في دبي عام 2010، وتعمّقت العلاقات بشكل الخاص بفعل المخاوف المشتركة للبلدين تجاه الربيع العربي وصعود إيران والإسلاميين واكتسبت أبعادا تجارية وأمنية وعسكرية، ولكنها ظلّت تُدار خلف الكواليس حتى الأعوام الأخيرة حين قرّرت الإمارات إظهارها بشكل محسوب إلى العلن.
ففي عام 2018، استضافت الإمارات رياضيين إسرائيليين للمشاركة في بطولة للجودو في أبو ظبي، وسمحت لهم برفع العلم وعزف السلام الوطني، ودعتهم -برفقة وزير الرياضة الصهيوني- لزيارة مسجد الشيخ زايد الكبير. وفي العام الماضي (2019)، تم تداول أنباء عن صفقة تُزوِّد بموجبها إسرائيل أبو ظبي بطائرتين للمراقبة المتطورة ونظام دفاع ضد الطائرات بدون طيار، وفي مطلع العام الحالي (2020)، نجح ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد في إقناع رئيس مجلس السيادة السوداني الحاكم عبد الفتاح البرهان بالاجتماع مع نتنياهو في أوغندا في فبراير/شباط، بما يعني السماح للطائرات الإسرائيلية بالتحليق فوق الأجواء السودانية، وكبادرة حُسن نية، زوّدت الإمارات إسرائيل بـ 100 ألف اختبار فيروس كورونا في يونيو/حزيران، وسمحت بأن يكون بها جناح خاص في معرض "إكسبو 2020" في دبي قبل أن يُلغى بسبب الوباء.
من هذا المنظور لا يمكن اعتبار الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي تاريخيا، أو ادّعاء أنه سيُحدث تحولا سياسيا في ميزان القوى القائم بالفعل، وبدلا من ذلك، يرتبط الاتفاق بشكل فعلي بالمصالح الشخصية للأطراف المشاركة فيه، وهم ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، والرئيس الأميركي دونالد ترامب، أكثر مما يرتبط بالرغبة في إحداث تحول جيوسياسي فعلي، ويظهر ذلك بوضوح في حرص كل طرف على تقديم الاتفاق وفق روايته الخاصة، وبما يخدم مصالحه، ففي حين تجنّب محمد بن زايد في بيانه الإشارة إلى التطبيع الكامل ووصف الاتفاق بأنه "خارطة طريق نحو إقامة علاقات ثنائية"، مؤكدا أن الاتفاق يتضمن تعهُّد إسرائيل بتعليق ضم الضفة الغربية، أكّد نتنياهو أن الاتفاق يضمن تطبيعا كاملا، وأوضح أنه لا يزال ملتزما بخطة الضم وأنها "عُلِّقت مؤقتا" للوصول إلى اتفاق مع الإمارات، أما الرئيس الأميركي "ترامب"، فقد ركّز على دوره الشخصي في الصفقة، مكتفيا بالقول إن الضم "بات غير مطروح في الوقت الراهن".
حسنا، يرتبط توقيت الصفقة بشكل رئيسي بمصلحة الوسيط الرئيسي فيها وهو الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيث يواجه الرئيس الجمهوري معركة إعادة انتخاب شاقة بعد أقل من ثلاثة أشهر في الوقت الذي يتأخر فيه في استطلاعات الرأي أمام منافسه الديمقراطي جو بايدن، ما يُهدِّد بجعله أحد الرؤساء القلائل الذين يفقدون مقعدهم بعد فترة رئاسية واحدة في تاريخ الولايات المتحدة.
يبحث ترامب إذن عن إنجاز كبير يُعزِّز به فرصه الانتخابية، وفي ظل صعوبة ترويج إنجاز داخلي في ظل الأداء المتردي للإدارة في مواجهة فيروس كورونا، ترغب الإدارة في تقديم نفسها على أنها صاحبة الفضل في الاختراق الأكبر في العلاقات العربية الإسرائيلية منذ كامب ديفيد، ويبدو أن هذه الرغبة تتوافق مع هوى نتنياهو وابن زايد كليهما، حيث يعتبر الرجلان بقاءَ ترامب في منصبه مسألة مصيرية بالنسبة إليهما.
من جانبه، يواجه بنيامين نتنياهو تهم فساد مالي كبيرة، ويقود حكومة غير مستقرة، ويبدو أنه يتجه لإجراء انتخابات رابعة خلال أقل من عام ونصف، وبخلاف تعزيز أسهمه الداخلية في هذه الانتخابات باعتباره الرجل الذي جلب الدول الخليجية إلى فضاء التطبيع بلا مقابل، لا يرغب نتنياهو في خوض معركة مصيرية جديدة في ظل إدارة ديمقراطية في ظل إدراكه لمدى التوتر في علاقاته مع الحزب الديمقراطي منذ الأعوام الأخيرة لحكم أوباما، ورغبة الديمقراطيين في رؤية وجه جديد يقود الدولة العبرية خلال الفترة المقبلة.
بالمثل، لا يشعر محمد بن زايد بارتياح كبير تجاه رئاسة جو بايدن، حيث يخشى أن يضع الرئيس الديمقراطي قيودا على أنشطة الإمارات العسكرية خارج حدودها وتحديدا في اليمن وليبيا، فضلا عن احتمالية أخذ اتهامات حقوق الإنسان الموجهة إليها وإلى حلفائها بجدية أكبر، بما يضمن السعي لمحاسبة ولي عهد السعودية محمد بن سلمان على جريمة مقتل خاشقجي، ومعاقبة نظام السيسي على انتهاكات حقوق الإنسان، وربما محاسبة الإمارات على جرائمها في اليمن، حيث يواجه ابن زايد شبح الملاحقة القانونية في عدد من دول العالم وعلى رأسها فرنسا.
في الحقيقة، يتعلق التطبيع بالنسبة للإمارات بدعم ترامب، وبالتحوُّط لمواجهة رحيله في الأوان نفسه. ففي الوقت الذي يعتبر فيه دعم إسرائيل إحدى القضايا التي تحظى بإجماع الحزبين في واشنطن، يأمل ابن زايد أن التطبيع مع إسرائيل سوف يمنحه حصانة وقوة أكبر حال صعد بايدن إلى السلطة، حيث سيكون قادرا على الاستفادة من دعم اللوبي الإسرائيلي والمجمعات اليهودية القوية في العاصمة الأميركية.
بالتزامن مع ذلك، يُعزِّز التطبيع مع الدولة العبرية الصورة التي يرغب ابن زايد في ترويجها لبلاده ولنفسه كرجل للسلام والتسامح في المنطقة، وحليف قوي لواشنطن، ومحارب مخلص للإرهاب والجماعات الإسلامية، وملتزم وثيق بأمن إسرائيل. وفي الوقت نفسه، يدرك ولي عهد أبو ظبي أن الساحة العربية تعاني فراغا كبيرا في القيادة، وهو يأمل أن يؤهّله التطبيع لكسب الثقة للعب هذا الدور، بما يشمل الحصول على دعم إسرائيل -ومن خلفها الولايات المتحدة- لسياسات الإمارات الإقليمية، وبوجه خاص مواجهتها متعددة المسارح مع تركيا، ومن هذا الوجه يمكن اعتبار الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي من وجهة نظر أبو ظبي موجّها بالأساس لاحتواء تركيا أكثر من كونه مصمما لمواجهة إيران كما ترى الإدارة الأميركية.
تأمل الإمارات أيضا أن تكون هذه الثقة كافية لفتح الكثير من الأبواب التي كانت موصدة بوجهها بذريعة الحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي، بما يشمل تحقيق أحلامها بالحصول على بعض الأسلحة الأميركية الأكثر تطورا مثل الطائرات بدون طيار ومقاتلات الجيل الخامس الشبحية "إف – 35" وبعض الذخائر المتطورة، رغم أن إسرائيل من المرجح أن تعارض ذلك بقوة حتى في ظل التطبيع، حيث لا تزال تل أبيب تعارض حصول مصر على هذه الأسلحة النوعية رغم التنسيق الأمني والعسكري المتزايد، ورغم مرور أربعة عقود على التطبيع بين البلدين.
بالمثل، تراهن الإمارات أن الاتفاق مع إسرائيل سوف يفتح الأبواب على مصراعيها أمام أبو ظبي للحصول على أحدث التقنيات الأمنية الإسرائيلية خاصة في مجال الأمن السيبراني، بما يشمل أجهزة المراقبة وبرامج التجسس المتطورة لتعزيز قدرة البلاد على متابعة وملاحقة معارضيها في الداخل والخارج، وفي النهاية، يبدو الأمر كله متعلقا بحماية الإمارات العربية المتحدة لنفسها وتعزيز موقفها الإقليمي بالبحث عن حلفاء وضامنين جدد للأمن، قادرين على تقديم الدعم العسكري والسياسي الذي تحتاج إليه الإمارة في ظل مناخ إقليمي وعالمي معقد.
عبر توقيعها لمعاهدة تطبيع مع إسرائيل، تُدرك الإمارات أنها قدّمت تنازلا رئيسيا وكسرت واحدا من أكبر المحرمات السياسية والاجتماعية في العالم العربي، ورغم أنه من الواضح أن أبو ظبي قدّرت أن رد فعل العالم العربي والإسلامي على التطبيع سيكون هزيلا وغير مؤثر، لا يبدو أن أبو ظبي حسبت -بشكل صحيح- ثمن التدهور الكبير في سُمعتها على المستوى الشعبي عربيا وإسلاميا، الذي يتضاءل أمام التراجع الذي أصاب سمعة البلاد بسبب حربها الواسعة ضد الإسلام السياسي والربيع العربي.
وفي محاولة لتقليل هذه الخسائر الشعبية، حرصت الإمارات على تقديم اتفاقها مع إسرائيل على أنه الطريقة الوحيدة لمنع الضم الإسرائيلي للضفة، لكن من الواضح أن هذه الرسالة لم تلقَ قبولا يُذكر، فرغم أن التطبيع الإماراتي ربما يكون قدم غطاء لنتنياهو لتأجيل ضم الضفة، فإن الإمارات لم ينتزع فعليا أي ضمانات أن هذا التأجيل سوف يستمر، وفي المقابل، أكّد نتنياهو في أكثر مناسبة أن خطط الضم عُلِّقت بشكل مؤقت فقط، وهو ما يُهدِّد بكشف الموقف الإماراتي في اللحظة التي يُقرِّر فيها نتنياهو المُضي قُدما في خطته.
بعبارة أخرى، فإن أي قرار يتخذه نتنياهو باستئناف الضم سوف يضع الإمارات ومحمد بن زايد في موقف هش للغاية، ويجعلهم عُرضة للاتهامات بتقديم التطبيع لنتنياهو على طبق من ذهب ودون مقابل، ولسوء حظ ابن زايد على ما يبدو، فإن نتنياهو ربما يشعر بالحاجة إلى متابعة خطته بشكل أحادي حال توجّهت إسرائيل إلى انتخابات جديدة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وهو ما سيضع مصلحته السياسية الخاصة في مواجهة مصلحة الإمارات، وساعتها لن يكون من الصعب التنبؤ بما سيختاره نتنياهو.
يعني ذلك أن الإمارات قد جعلت نفسها عُرضة للصدمات الإقليمية التي يمكن أن تنتج عن أي قرار يتخذه رئيس الوزراء الإسرائيلي بشأن الضم، ويبدو أن هذه الحقيقة هي التي تجعل محمد بن زايد يستميت لجلب دول أخرى إلى التطبيع في أقرب وقت، من أجل ضمان الحفاظ على قرار نتنياهو بتعليق الضم لأطول فترة ممكنة، وتوزيع الصدمات الناجمة على تراجعه عن تعهُّده المؤقت على قائمة متعددة الأعضاء من الدول المطبِّعة.
بشكل عام، جاء الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي في لحظة ضعف غير مسبوقة للسلطة الفلسطينية وجميع المؤسسات الممثلة للفلسطينيين. فمن ناحية، من الواضح أن القضية الفلسطينية قد فقدت مركزيتها على الأجندة العربية على مدار العقد الماضي، تزامنا مع زيادة نفوذ محور الثورات المضادة، وتعميق التنسيق الأمني بين الدول الخليجية وإسرائيل في مواجهة تركيا وإيران، ومن ناحية أخرى، يجد الفلسطينيون أنفسهم خلال العامين الأخيرين في مواجهة حملة لا تهدأ من القصف الدبلوماسي الأميركي في ظل الانحياز الصارخ لإدارة ترامب لصالح دولة الاحتلال، وهو ما ظهر في عدد من الإجراءات التعسفية على رأسها نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وقطع التمويل عن منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، الأونروا.
أصبحت الأمور أكثر سوءا في مطلع العام الحالي (2020)، إثر تقديم الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطته المزعومة للسلام، المعروفة باسم صفقة القرن، التي قدّمت نموذجا معماريا جديدا لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، عبر تثبيت الوضع السياسي الراهن وإطلاق يد إسرائيل في ضم الأراضي الفلسطينية التي تسيطر عليها، مقابل امتيازات اقتصادية للفلسطينيين ووعود مبهمة بدولة غامضة على مساحة غير متصلة من الأراضي. وفي خلفية هذه الخطة، وضعت الإدارة الأميركية حجر الأساس لتحالف عربي إسرائيلي جديد يهدف بالأساس إلى مواجهة إيران، ومحاصرة نفوذ القوى القادمة إلى المنطقة مثل الصين وروسيا.
تحدّت خطة ترامب المبادئ الراسخة للعملية السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ ثلاثة عقود، ودمّرت الرهان الفلسطيني على أن المجتمع الدولي يمكن أن يجبر إسرائيل في لحظة ما على الوصول إلى اتفاق عادل يُعيد للفلسطينيين بعض حقوقهم، ونتيجة لذلك، رفضت السلطة الفلسطينية خطة ترامب بشكل كلي، وقطعت علاقتها مع الإدارة الأميركية، وعلّقت التنسيق الأمني مع إسرائيل بعدما أعلنت أنها ستشرع في تنفيذ خطة الضم، وكان الرهان الوحيد المتبقي للسلطة في هذه الخطوات هو الفيتو التاريخي الذي امتلكه الفلسطينيون على قرارات التطبيع العربي مع إسرائيل، وبعبارة أخرى، راهنت السلطة أن إسرائيل لن تكون قادرة على تنفيذ ضم الأراضي بشكل أحادي، وأن الولايات المتحدة سوف تضطر للضغط على إسرائيل للتراجع عن هذه الخطوة إذا رأت أنها ستعوق مسيرة التطبيع العربي مع الدولة العبرية.
في ضوء ذلك، لا يكون من قبيل المبالغة أن نقول إن اتفاق التطبيع الإماراتي ربما يكون هو الضربة الأقسى التي تلقّتها القضية الفلسطينية منذ هزيمة عام 1967، وربما يفوق أثره تأثير اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، واتفاق التطبيع الأردني الإسرائيلي عام 1994، ويمكن إرجاع ذلك إلى عدة أسباب رئيسية، لعل أكثرها وضوحا هو أن الاتفاق قدّم برهانا دامغا للعالم على أن القضية الفلسطينية لم تعد توحّد العرب بالطريقة التي كانت تفعلها قبل عقد أو أكثر من الزمان، رغم أن إسرائيل لا تزال منبوذة على المستوى الشعبي في الوقت الذي يعارض فيه المسلمون والعرب سيطرتها على المقدسات الإسلامية.
بخلاف ذلك، من الواضح أن الاتفاق خرق الإجماع طويل الأمد بين القادة العرب على اعتبار مبادرة السلام العربية، التي طرحتها المملكة العربية السعودية عام 2002، هي إطار العمل المعترف به لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث ربطت مبادرة السلام العربية التطبيع مع الاحتلال بانسحاب إسرائيل إلى حدود عام 1967، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية والوصول إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين.
وعلى النقيض من اتفاقيتَيْ السلام اللتين وقّعتهما مصر والأردن مع دولة الاحتلال عامي 1979 و1994 على الترتيب، واللتين وُقِّعتا من قِبل دولتين من دول المواجهة، واستندتا بشكل رئيسي إلى مبدأ الأرض مقابل السلام، أي موافقة إسرائيل على إعادة الأراضي التي احتلّتها مقابل التطبيع، لا تُعَدُّ الإمارات دولة مواجهة مع الاحتلال، ولم تخض أي حرب ضدها أو تخسر أراضي تُبرّر توقيع اتفاق سلام لاستعادتها، وفي الوقت نفسه، قدّم محمد بن زايد التطبيع بشكل مجاني تماما، وفق مبدأ "السلام مقابل السلام" الذي وضعه نتنياهو نفسه وتحدث عنه في أكثر من مناسبة، مكتفية بوعد مؤقت وغير مضمون بتعليق إسرائيل ضمّها لأراضٍ جديدة من الضفة الغربية.
وأخيرا، وليس آخرا، مزّق التطبيع الإماراتي الورقة الرابحة الأخيرة للمفاوض الفلسطيني، وهي ربط التطبيع العربي بتقديم إسرائيل لتنازلات لصالح الفلسطينيين، وفتح الباب أمام انضمام دول عربية أخرى إلى مسيرة التطبيع دون مقابل، وقدّمت دليلا إضافيا لنتنياهو على أن احتلاله للأراضي واغتصابه للحقوق الفلسطينية لن يًكلفه الكثير، بل ربما يُكافأ عليه بالتقاط الصور التي طالما حلم بها في قلب العواصم العربية، والخليجية على وجه الخصوص.
أما على مستوى السياسات الداخلية الفلسطينية، فسوف يكون للتطبيع الإماراتي آثار لا تقل أهمية. بداية، أطلق الاتفاق بشكل فعلي رصاصة الرحمة على المسيرة السياسية لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وأثبت فشل إستراتيجيته لمواجهة إسرائيل على الساحتين الإقليمية والدولية، وأعاد مسألة الصراع حول خلافته إلى الواجهة، وفي المقابل عزّز الاتفاق من فرص القيادي المنشق محمد دحلان المقيم في أبو ظبي والمرتبط بعلاقات وثيقة مع القاهرة، وحتى مع إسرائيل نفسها، رغم أن الانقسام حول شخصية دحلان في الداخل الفلسطيني لن يجعل طريق صعوده مفروشا بالورود.
على المديين المتوسط والبعيد، من غير المستبعد أن تُحفِّز اتفاقات التطبيع المجانية موجات من التغييرات الأيديولوجية داخل السلطة الفلسطينية وحركة فتح نفسها، فمع إثبات الخيارات السياسية لفشلها، فإن ذلك قد يفتح مجالا أمام المقاومين في الحركة لاكتساب المزيد من النفوذ، ويمكن أن يخلق في وقت لاحق شكلا من أشكال الإجماع الفلسطيني على خيار المقاومة، وهو الإجماع الذي تعرّض لضربات متتالية بسبب عقود من المفاوضات عديمة الجدوى وسياسات التنسيق الأمني.
من الواضح أن الاتفاق سيكون له تداعيات تتجاوز نطاق الدول المشاركة فيه بشكل مباشر. على المستوى الأكثر مباشرة، قطفت أبو ظبي أولى ثمرات فاكهة التطبيع المحرمة، وأصبحت أول دولة عربية من خارج دول المواجهة تُطبِّع مع دولة الاحتلال، وأول دولة خليجية تنضم إلى قطار التطبيع، ومن المرجح أن تُغري هذه الخطوة دولا أخرى تتمتع بعلاقات سرية مع إسرائيل كانت ترغب في اتخاذ الخطوة نفسها ولكنها كانت متخوفة من أن تحمل عواقب الأخذ بزمام المبادرة.
وتُعَدُّ دول البحرين وسلطنة عمان والسودان على رأس المرشحين لاستكمال مسيرة التطبيع، حيث تتمتع هذه الدول جميعها بعلاقات مع دولة الاحتلال خلف الكواليس، وقد باركت الدول الثلاث بالفعل الاتفاق الإماراتي بصيغ مختلفة، وبدأت في إرسال إيماءات حول استعدادها للحاق بالقطار في وقت قريب، تزامنا مع إشارات أميركية واضحة حول وجود دول أخرى تستعد لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل خلال الأسابيع المقبلة.
في الحقيقة، تمتلك كلٌّ من الدول الثلاث دوافعها الخاصة للهرولة نحو التطبيع. وفيما يتعلّق بالسودان، ترغب القيادات العسكرية والمدنية في الخرطوم في ترسيخ بقائها السياسي من خلال مقايضة التطبيع برفع اسم السودان من قوائم الإرهاب وإلغاء العقوبات المفروضة على البلاد، وبالمثل، تشعر سلطنة عمان أن مكانتها كوسيط سياسي تلقّت ضربة كبرى بعد التطبيع الإماراتي، حيث كانت مسقط تتمتع بميزة كونها الدولة العربية الوحيدة القادرة على استضافة نتنياهو والمسؤولين الإسرائيليين علنا، وهي ميزة تخشى السلطنة من عواقب فقدانها اليوم لصالح الإمارات.
أما البحرين فقد لعبت على مدار السنوات التالية دور بالون الاختبار الخليجي للتطبيع، وقامت بنقل الرسائل بشكل مباشر بين الرياض وتل أبيب، ويبدو أن قادتها على استعداد لمقايضة التطبيع مقابل حفنة من المساعدات، شريطة أن تمنحها السعودية الضوء الأخضر لذلك، وهو أمر غير مستبعد حيث يمكن أن تلعب المنامة دور البوابة الخلفية بين الرياض وتل أبيب بشكل أفضل في ظل التطبيع، أما المملكة نفسها، وعلى الرغم من تمتعها بعلاقات متنامية مع دولة الاحتلال خلف الكواليس، فمن غير المرجح أن تقدم على التطبيع الكامل للعلاقات في حياة الملك سلمان الذي يرتبط تاريخه بشكل وثيق بالقضية الفلسطينية، وكذلك من غير المحتمل أن يدفع ابن سلمان نحو هذه الخطوة قبل صعوده فعليا إلى السلطة خوفا من تأجيج المعارضة داخل الأسرة الحاكمة، وبدلا من ذلك، سيكون ولي العهد حريصا على استخدام هذه الورقة لتأمين الدعم الأميركي المطلق لتوليه العرش.
فيما يتعلق بقطر، من غير المرجح أن تسارع نحو التطبيع في المدى القريب، ويمكن تفسير ذلك بمركزية "القوة الناعمة" في السياسة الخارجية القطرية التي تحرص على تقديم نفسها راعيا لحقوق الإنسان ومدافعا عن القضايا العربية بما في ذلك قضية فلسطين، ونتيجة لذلك، تدرك قطر أنها ستخسر الكثير من رأسمالها الرمزي حال طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، وبدلا من ذلك سوف تسعى الدوحة للاستفادة من الصفقة الإماراتية لتلميع سياستها وتقديم نفسها كمدافع عن الحقوق الفلسطينية، وتعزيز تعاونها مع تركيا في هذا المجال.
في الوقت نفسه، سوف يكون على قطر بذل المزيد من الجهد للحفاظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة وتبرير إحجامها الرسمي تجاه إسرائيل في الوقت الذي تهرول فيه باقي دول الخليج نحو التطبيع، في الوقت الذي ستكتسب فيه الحملات الإماراتية لتصوير قطر كحليف غير صادق للولايات المتحدة دفعة ملحوظة، وعلى المدى الطويل يمكن أن يكون مصير القاعدة الأميركية في قطر مهددا حال أصبحت الدوحة آخر المتخلفين عن التطبيع.
من جانبها، تمتلك الكويت الموقف الأكثر رسوخا بين دول الخليج في رفض التطبيع مع الاحتلال، ويرجع ذلك إلى الديناميات الداخلية للسياسة الكويتية في المقام الأول، فعلى عكس سائر دول الخليج، تتمتع الكويت ببرلمان منتخب وحياة نيابية فعالة نسبيا قادرة على عكس النبض الشعبي على مستوى السياسة الرسمية، ونتيجة لذلك فإن تأثير قرار التطبيع على مستوى السياسة الداخلية في الكويت سيكون كبيرا جدا مقارنة بسائر دول الخليج.
وأخيرا، وعلى عكس ما يُروَّج له من كون الاتفاقية سوف تزيد الاستقرار في دول الخليج، فإن جلب إسرائيل بشكل رسمي وعلني إلى فناء إيران الخلفي من شأنه أن يزيد التوترات في الخليج لا أن يُقللها، كما أن إنشاء محور عربي إسرائيلي ضد إيران من شأنه أن يُعمّق خطوط الصدع الإقليمي بطرق متعددة. على سبيل المثال، من المرجح أن تجد إسرائيل نفسها أكثر جرأة على استهداف المصالح الإيرانية عسكريا بشكل علني، في وقت تدرك فيها أن تتمتع بالدعم العلني من دول الخليج، على الرغم من أن هذه الدول -وفي مقدمتها الإمارات- سوف تكون الخاسر الأكبر حال قررت إيران الرد عبر استهداف حلفاء تل أبيب الجدد. وبالمثل، سوف يمنح التطبيع الإمارات قوة أكبر في مباشرة سياساتها العدوانية في اليمن والقرن الأفريقي وحتى في ليبيا والبحر والمتوسط، وهو ما سيضع أبو ظبي في مواجهة أكثر مباشرة مع تركيا.