تحالف الدرهم والشيكل.. اتفاق سلام أم زواج بعد مساكنة؟
بعد إعلان ولي عهد أبو ظبي “محمد بن زايد” والرئيس الأميركي دونالد ترامب عن اتفاق “سلام” بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، مقابل ما أسموه تأجيل إسرائيل لخطة الضم المرتقبة للضفة، فإن هذا الاتفاق لا يؤسس للعلاقات بين الدولتين بقدر ما يتوج سنوات من التواصل والتحالف السياسي والأمني والعسكري في ملفات كثيرة كان أبرزها وأد الربيع العربي ومحاربة الإسلام السياسي، بجانب التحالف الاقتصادي الكبير بين الدولتين والذي تناولناه في هذا التقرير السابق على الاتفاقية.
بيد أن شهرة بن خضرا لا تقف عند حدود دبي فقط، فعلى بعد 2000 ميل من إمارة المال والأضواء، يعرف الفلسطينيون في الضفة المحتلة مواطنهم أيضًا، ولكن بطريقة لا تدعو للكثير من الفخر. هنا في فلسطين، يوقن الجميع أن الأشياء لا تظل على حقيقتها إذا خضبتها الدماء، والماس -على بريقه- ليس استثناءً من ذلك. على أقل تقدير كانت هذه صورة بن خضرا من وجهة نظر أهالي قريتي بلعين وجيوس في الضفة الغربية المحتلة، حين وجهوا مناشدة لعائلة خضرا الفلسطينية للضغط على نجلها لإيقاف شراكته مع رجل يكرهه الجميع هنا، وهو جدير بكراهيتهم بالتأكيد. رجل يعرف باسم ليف لفيف(2)، ويعرفه العالم على أنه "ملك الماس".
يعرف الفلسطينيون ليفيف بطريقة أبعد ما تكون عن بريق الماس الذي يعرف هوية الملياردير اليهودي في سائر بلاد العالم التي تستضيف علامته التجارية الشهيرة. هنا يتم تعريف لفيف من خلال شركاته التي كانت حتى وقت قريب تعمل ليل نهار في بناء منازل المستوطنين فوق أنقاض بيوت الفلسطينيين، حيث كانت شركات لفيف تقوم بتوسيع مستوطنة تسوفيم على أرض جيوس عبر إضافة عشرات الوحدات السكنية الجديدة(3)، في نفس الوقت الذي كانت دبي تفتح أبوابها أمامه بعد أن تحولت تدريجيًا لمركز جديد لتجار الماس الإسرائيليين.
كانت البداية مع تأسيس بورصة دبي للماس عام 2004، معلنة اقتحام الإمارة الخليجية لنشاط تجاري يعلم الجميع أنه يخضع لهيمنة التجار اليهود(4)، بما يعني حتمًا القبول الإماراتي بشكل فعال من أشكال العلاقات مع إسرائيل. وتم قبول عضوية دبي في الاتحاد العالمي لبورصات الماس في نفس العام، بعد موافقة الدول الـ 22 الأعضاء آنذاك، ودون معارضة تذكر من الكيان العبري. ومنذ ذلك الحين ارتفع حجم تجارة الماس في دبي من أقل من خمسة مليارات دولار، قبيل تأسيس بورصة دبي، إلى 40 مليار دولار عام 2012، لتصبح دبي ثاني أكبر بورصات الماس عالميًا بعد بوصة وينتروب الشهيرة، مع حجم تداول للماس الإسرائيلي لا يقل عن 300 مليون دولار سنويًا.
تنبع أهمية دبي لصناعة الماس الإسرائيلية من حقيقة أنها دخلت إلى السوق الذي تبحث فيه الدولة العبرية عن أسواق جديدة، خاصة بعد تراجع السوق الأميركية بسبب الانكماش، أما بالنسبة لدبي، فإن ذلك كان يعني حضورًا لإمارة الأضواء في صناعة تناسب تمامًا تلك الصورة التي ترغب في أن يراها العالم وفقها. ولكن ثمن الفوز بعضوية نادي الأثرياء العالمي لم يكن خفيًا على أحد، حيث كان على الإمارة الخليجية أن تقبل بتسهيل حركة رجال الأعمال الإسرائيليين داخلها، وانتقال رجال الأعمال الإماراتيين لحضور معارض وأسواق المال في إسرائيل، وعلى رأسهم أحمد بن سليم رئيس بورصة دبي الذي زار إسرائيل عدة مرات. وقد عرف لفيف على أنه أحد هؤلاء الإسرائيليين الذين منحوا تلك التذكرة الماسية للمرور عبر دبي، وبهوياتهم المعلنة في كثير من الأحيان، وبمعاملة ترقى إلى معاملة الدبلوماسيين والسفراء.
ومع ذلك، ظلت القوانين الإماراتية التي لا تسمح للإسرائيليين بالعمل في الإمارات بشكل مباشر، وحملات المقاطعة الشرسة آنذاك، عائقًا أمام رجال الأعمال الإسرائيليين في توسيع أنشطتهم خارج بورصات التجار، وصولًا إلى جمهور الحلي الأنيقة الذي تستقطبه الإمارة من كل حدب وصوب. اختار لفيف إخفاء أنشطته المتوسعة عبر الشراكة مع خضرا، رجل الأعمال الصاعد اسمه في السوق الإماراتي المحلي، إلا أن حضور مجوهرات لفيف ضمن معروضات ليفانت، أثناء الافتتاح الضخم لفندق أتلانتيس الأسطوري في جميرا عام 2008، كان أوضح من أن تخطئه الأنظار، ولم يكن كفيلًا بتسليط الضوء على خضرا وحده، ولكنه لفت الأنظار إلى تجارة جديدة واعدة للإسرائيليين في قلب بلد خليجي يفترض أنه لا يقيم علاقات دبلوماسية أو تجارية "رسمية" مع الدولة العبرية.
لا يقتصر الأمر على لفيف وحده. يملك إمبراطور الماس الإسرائيلي بيني شتاينميتز، المسجون منذ عام 2016 بسبب صفقات ماس غير مشروعة في غينيا، تجارته الخاصة للماس في دبي. ويعرف شتاينميتز على أنه شريك لمجموعة "دي بير" في جنوب أفريقيا، وهي مجموعة تسيطر عليها عائلة يهودية وتعرف على أنها أكبر موزع للماس في العالم. بالنسبة إلى شتاينميتز، لا يقتصر "بيزنس" دبي على تجارة الماس فحسب، ولكنه يمتد إلى شراكة شبه معلنة مع درة تاج الإمارة، شركة "موانئ دبي". ففي عام 2008 قامت مجموعة "شتاينميتز" بتوقيع عقد مع موانئ دبي العالمية لإنشاء عدد من الفنادق والمشروعات العقارية في جمهورية الجبل الأسود(5).
مثله مثل لفيف، لا تدعو سجلات شتاينميتز للزهو بالنسبة لبلد عربي لا يزال يعرف نفسه على أنه "داعم للفلسطينيين"، ففي حين عرف الأول باستثماراته في بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتملة، اشتهر الثاني بدعمه للواء النخبة الإسرائيلي غيفعاتي(6) أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2008، حيث ظهر اللواء على قائمة الجهات التي تتلقى الدعم من مجموعة "شتاينميتز"، على الموقع الرسمي للمجموعة آنذاك تحت خانة "المسؤولية الاجتماعية"(7)، جنبًا إلى جنب مع متحف الفنون في تل أبيب، ورابطة مكافحة السرطان الإسرائيلية.
تم اتهام لواء غيفعاتي بارتكاب جرائم حرب تجاه المدنيين والأطفال في قطاع غزة، بيد أن هذه التفاصيل "الصغيرة" لا تشغل بال الحكام في الإمارات على الأغلب فيما يبدو طالما ظلت قيد السرية، تلك السرية التي كانت القاعدة الحاكمة الوحيدة لعلاقات عميقة الجذور، تطورت تدريجيًا، بين الإمارات العربية المتحدة، والكيان العبري، على مدار قرابة عقد ونصف من الزمان.
رغم المفارقة التي يحملها سماح الإمارات، التي لا تقيم علاقات رسمية مع إسرائيل، لرجل أعمال إسرائيلي يعمل في بناء المستوطنات بممارسة نشاطه التجاري فيها، فإن نظرة على الطريقة التي تدار بها الأمور في أبوظبي تكشف لنا أن الأمر لا يعد مدعاة للكثير من الاستغراب. فقبل عدة أعوام، وتحديدًا في عام 2005، ومع تنفيذ خطة الانسحاب أحادي الجانب لإسرائيل من قطاع غزة، وجدت الإمارات نفسها في القلب من الجدل حول قضية الاستيطان، في قصة كان بطلها الرئيسي هو محمد العبار، رجل الأعمال المقرب من الطبقة الحاكمة الإماراتية، ورئيس مجلس إدارة مجموعة إعمار، أكبر المجموعات العقارية في البلاد.
بشكل مفاجئ وغير متوقع، وجد العبار نفسه، وهو الملتحف بحماية سلطة أبوظبي، فجأة في مرمى هجوم الصحافة الإماراتية، بعد زيارة سرية قام بها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، التقى خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، والرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، وفق تأكيدات الصحف العبرية آنذاك. كان هذا هو الاتصال الأرفع من نوعه لأي إماراتي مع قيادة الكيان العبري حتى ذلك التاريخ(8)، إلا أن هذا الاتصال رفيع المستوى لم يكن وحده مفاجأة العبار الأكبر، بقدر الصفقة التي جرى الحديث عنها خلال اللقاء، حيث قدم العبار للإسرائيليين عرضًا مغريًا لشراء 21 مستوطنة إسرائيلية، كان الكيان العبري يخطط لتدميرها قبل الانسحاب من غزة، مقابل مبلغ ضخم قدر آنذاك بـ56 مليون دولار.
كانت "إعمار" قد أعلنت في وقت سابق أنها تخطط لإنشاء فرع لها في الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت اسم "إعمار فلسطين"، بهدف بناء مساكن حديثة ومجهزة للفلسطينيين، بيد أن الشركة الإماراتية كانت تخطط فيما يبدو للاستثمار في مساكن المستوطنين وإعادة بيعها للفلسطينيين. في ذلك التوقيت كانت هذه خطة "أكثر من متهورة" لدرجة أنها دفعت مسؤولين إماراتيين للتبرؤ من سلوك العبار، متهمين إياه "بتخطي صلاحياته التفاوضية" في الصفقة المذكورة.
في خضم هجوم غير مسبوق، وجد العبار نفسه مضطرًا لإنكار الحديث حول الصفقة، فضلًا عن قيامه بلقاء شارون أو بيريز. لكن المفاجأة المتوقعة ظهرت في تسريبات ويكيليكس التي تحدثت عن لقاء عقد في الشهر التالي مباشرة بين ميشيل ساسون، سفيرة الولايات المتحدة في الإمارات، وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان(9)، وهو الاجتماع الذي أكد خلاله ابن زايد -بثقة مفرطة- أنه لم يكن معترضًا على خطط العبار من حيث المبدأ، وأنه يرى "من الأفضل الاستفادة من هذه المساكن بدلًا من هدمها"، إلا أنه نصح العبار أن يمهد الأمر للفلسطينيين أولًا، ولكنه -أي العبار- "لم يتعامل مع الأمر بشكل مناسب" كما يرى ابن زايد.
تلخص هذه الواقعة، وغيرها من أحاديث ابن زايد التي سربتها ويكيليكس، طبيعة نظرته لعلاقة بلاده مع إسرائيل: لا تمانع الإمارات في إقامة أي نوع من الاتصالات أو التبادلات مع تل أبيب، طالما أنها ستبقى قيد السرية ولن تكلف حكام البلاد الضريبة الشعبية لإقامة علاقات مع كيان تنظر إليه الشعوب العربية كعدو أول. تظهر وثيقة ويكيليكس(10)، يعود تاريخها إلى مطلع عام 2007، حوارًا بين ابن زايد والسفير نيكولاس بيرنز مستشار وزارة الخارجية الأميركية. خلال المقابلة، لم يخف ابن زايد شعوره بالغضب أن جمعية يهودية داعمة لإسرائيل أعلنت أنها ستزور أبوظبي، في حين كانت القيادة الإماراتية ترغب أن تكون الزيارة مغلفة بالسرية. وقد أكد ابن زايد لـبيرنز أن "الإمارات لا ترى إسرائيل عدوًا"، وأن "عائلة آل نهيان تدعم الجمعيات المسيحية وبعثاتها الطبية منذ الخمسينيات"، في إشارة مبطنة إلى تسامحه مع النشاط الديني اليهودي.
ولكن هذا التسامح مع الآخر الإسرائيلي الذي يتسع له صدر ابن زايد سرعان ما يتحول إلى ضيق وتململ حين يتعلق الأمر بحركات المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حركة حماس. في أواخر(يناير/كانون الثاني) 2007، وخلال اجتماع لـمحمد بن زايد، ووزير خارجيته شقيقه عبد الله بن زايد، مع نيكولاس بيرنز والسفير جيمس جيفري، استنكر محمد بن زايد التركيز الأميركي على الانتخابات في الشرق الأوسط(11)، بالنظر إلى ما أفرزته في فلسطين من فوز حركة حماس، مؤكدًا أن "الجماهير في الشرق الأوسط تميل إلى الذهاب مع قلوبها، والتصويت بأغلبية ساحقة لصالح الإخوان المسلمين والجهاديين الذين تمثلهم حماس وحزب الله".
يحمل ابن زايد موقفًا واضحًا تجاه الثنائية الفلسطينية الإسرائيلية، وهو موقف مقلوب يحتاج الكثير من التبين والتفريق بين ما هو سري وما هو معلن، وبين التصريحات التي تلقى للاستهلاك الإعلامي وبين السياسات الحقيقية. يتلخص هذا الموقف في رفض للتطبيع العلني للعلاقات مع إسرائيل، ولكنه مصحوب باستعداد غير مقيد لفتح جميع الأبواب الخلفية على مصراعيها لعلاقات من جميع الأنواع مع الكيان الإسرائيلي. علاقات تبدأ بالتجارة والسياحة ولا تنتهي عند الأمن والسياسة، ودعم مُقَنَّع للفلسطينيين يخفي وراءه ازدراءً حقيقيًا لخياراتهم، وانتهازية إماراتية سياسية في التعاطي مع قضيتهم. وهي رؤية تنطلق بوضوح من محددين رئيسيين: أولهما كراهية أبوظبي لإيران وتيارات الإسلام السياسي التي تتزعم الخطاب الشعبي الفلسطيني، وهي "فوبيا" تدفع أبوظبي لإقامة علاقات مع إسرائيل من منطلق قاعدة وجود أعداء مشتركين، وثانيهما إيمان أبوظبي أن مفتاح الحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة لا يمكن أن يأتي دون "مباركة" من تل أبيب.
ويبدو أن الإمارات قد نجحت في الحصول على مباركة الكيان العبري في وقت أبكر مما يظن الجميع. في عام 2006، وبينما كانت موانئ دبي تسعى للحصول على عقد لإدارة ست موانئ أميركية رئيسية، وفي ظل هجوم شديد على الصفقة في الكونغرس، جاء بعضه بحجة أنه لا يمكن تأجير الموانئ الأميركية لشركة لا تقيم علاقات علنية مع الشركات الإسرائيلية، كان الصوت الأبرز المناصر لدبي وصفقتها قادم من هناك من تل أبيب(12)، وتحديدًا من أحد أكثر رجال الأعمال ثراء في إسرائيل وهو عيدان عوفر، مالك شركة "زيم" الإسرائيلية المتكاملة لخدمات الشحن، والذي كتب خطابًا إلى الكونغرس أثنى خلاله على الخدمات التي تقدمها موانئ دبي، مؤكدًا أن شركته يُسمح لها بالعمل في جميع الموانئ التي تديرها الشركة الإماراتية الأولى، على الرغم من المقاطعة الرسمية.
لم تحصل موانئ دبي على الصفقة الأميركية في نهاية المطاف، إلا أن ذلك لم يمنعها من مواصلة العمل مع عوفر لإنشاء محطة حاويات في ميناء شمالي إسبانيا(13)، مبرهنة أن التعاون الاقتصادي بين رجال الأعمال الإسرائيليين والإمارات لا ينحصر فقط داخل البلاد؛ ولكنه يمتد ليشمل إقامة العديد من المشروعات المشتركة حول العالم.
أحد الأمثلة على نموذج العمل العابر للحدود كان الشراكة بين موانئ دبي ومجموعة "إلعاد" الإسرائيلية المُسجلة في لندن(14)، والمملوكة لرجل الأعمال الإسرائيلي إسحاق تشوفا، لإقامة مشروع ضخم في سنغافورة تحت اسم "الشاطئ الجنوبي" (South Beach)، باستثمارات تصل إلى 2.1 مليار دولار في عام 2007، بالشراكة مع شركة محلية وهو المشروع الذي جرى التخرج منه من كلا الطرفين في عام 2012.
توسعت أنشطة الشركات الإسرائيلية في الإمارات لتشمل كافة المجالات، ولتضم جميع فئات الشركات بما في ذلك الشركات التابعة للمستوطنات. بالنسبة إلى إمارة دبي التي أطلقت صافرة البداية للتطبيع التجاري مع إسرائيل، كانت معظم الشركات الإسرائيلية العاملة في الإمارة في مجالات الزراعة وتجارة الماس والشحن البحري، وكان معظمها مسجلة في قبرص أو في لندن أو الهند في بعض الأحيان. على سبيل المثال، في عام 2007 وقع رجل الأعمال الإسرائيلي يوسي شيمر عقدًا تقوم بموجبه شركته بإنشاء مزرعة للجمال ومحلب في دبي. ويقع المقر الرئيس لشركة "شيمر" في مستعمرة أفيفيم، بينما تم توقيع العقد الإماراتي من خلال وكيل إنجليزي للشركة الإسرائيلية. وكما يليق بإمارة البريق، ظل صوت المال والتجارة مهيمنًا على الشراكة مع إسرائيل هنا، ربما باستثناء عقد تم توقيعه مع شركة إسرائيلية للحلول الأمنية لتأمين منزل أحد الأمراء. على الجانب الآخر، في العاصمة أبوظبي، كان صخب التجارة أكثر خفوتًا بينما كان صليل السيوف أكثر صخبًا.
لم تنجح جميع الطائرات التي تقلع وتهبط بشكل يومي من مطار بن غوريون في إثارة شهية الصحفيين مثلما نجحت تلك الطائرة التي ترفع علمًا سويسريًا(16)، والتي تطير في رحلة أسبوعية واحدة تقريبًا. تحمل الطائرة إيرباص أي319 المسجلة برقم الذيل (D- APTA) شعار شركة "برايفت أير"، وهي شركة طيران يقع مقرها في جنيف. تغادر الطائرة لوجهة واحدة هي الأردن، على الرغم من أن مطار الملكة علياء في المملكة الهاشمية لم يسجل وصولها رسميًا في أي مناسبة. وفي حين تظهر رادارات الطيران عبر الإنترنت أن الرحلة التي تغادر تل أبيب، وتتوقف لفترة وجيزة في عمّان، سرعان ما تغادر إلى أبوظبي، فإن مطار أبوظبي هو الآخر لم يسجل وصولها أبدًا في أي وقت.
تبلغ سعة الطائرة المذكورة 56 مقعدًا، وهي مجهزة بثمانية مقاعد لدرجة الأعمال، كما تشير الشركة السويسرية برايفت إير، والتي رفضت بشدة جميع طلبات الإفصاح عن هوية عميلها. بيد أن شخصًا واحدًا يمكن لنشاطه أن يفسر تلك الدائرة المغلقة التي تربط بين الوجهات الثلاثة المتفرقة، سويسرا والإمارات وإسرائيل. رجل أعمال خمسيني غامض، يصفه البعض بأنه نسخة مطورة تجار الأسلحة القدامى، ولكن برابطة عنق وشهادة مرموقة في إدارة الأعمال. رجل يعرفه الجميع باسم ماتي كوتشافي.
ولد كوتشافي في حيفا ودرس التاريخ والفلسفة في جامعتها، وينقل عنه أنه كان يرغب في أن يصبح صحافيًا في وقت مبكر من حياته. ويرجح أن كوتشافي قضى خدمته العسكرية في الوحدة 8200 ذائعة الصيت في جيش الاحتلال، قبل أن ينتقل في التسعينات إلى نيويورك، حيث عمل مع المطورين العقاريين الأثرياء أمثال ستيفن روس ومارتن أدلمان، حيث حصل على مكتب كبير في مركز تايم وارنر، وهناك صنع الرجل ثروته الأولى عبر الاستثمار في عالم العقارات.
شكل عام 2007 محطة فارقة في حياة كوتشافي، وفيه رؤية العالم له. في ذلك العام اختار رجل الأعمال الإسرائيلي أن يلقي بثقله بشكل رسمي في صناعة المراقبة الإلكترونية، بعد أن أعلن عن تأسيس شركته الأهم تحت اسم آسيا غلوبال تكنولوجي أو "أي جي تي" (AGT)، في زيورخ بسويسرا. وفي حين تعمل الشركة اليوم في خمس قارات حول العالم، مع إجمالي عقود تبلغ قيمتها ثمانية مليارات دولار، فإن أحد أكبر عقودها على الإطلاق، وربما أول عقودها على الأرجح، كان عقدًا بقيمة تعدت الـ800 مليون دولار مع دولة الإمارات العربية المتحدة، من أجل توفير نظام للمراقبة للبنى التحتية الأساسية وحقول النفط.
في ذلك التوقيت كان السلوك الأمني لدولة الإمارات العربية المتحدة مثار استغراب كبير، فقبل توقيع العقد الكبير بعام واحد، لم يستطع أحد أن يفهم سر إصرار دولة الإمارات على استثمار مبلغ 20 مليون دولار في عقد واحد للحصول على صور من القمر الصناعي الإسرائيلي إيمدج سات، الذي أطلقته شركة "إيروس بي" في ذلك التوقيت عبر محطة برية أنشئت خصيصًا في أبو ظبي(17)، وهو عقد جدد مرة أخرى في عام 2009. في ذلك التوقيت كان إيمدج سات يمثل طفرة في عالم الأقمار الصناعية التجسسية، بقدرة فائقة على التمييز بين أي جسمين لا يفصل بينهما مسافة أكثر من 70 سم على الأرض، ونطاق تغطية يسمح بالحصول على لقطات من أي بقعة في العالم وبدقة غير مسبوقة. وكانت إسرائيل قد أطلقت القمر الصناعي بهدف التجسس على الأنشطة النووية الإيرانية، لذا كان الاعتقاد السائد آنذاك أن الإمارات ربما ترغب في الحصول على صور للأنشطة التي تمارسها إيران على الجزر المتنازع عليها(18).
ولكن نشاط كوتشافي الذي تم الإفصاح عنه في وقت لاحق، جنبًا إلى جنب مع الموافقة السلسة لإسرائيل على منح أبوظبي امتياز استخدام صور القمر الصناعي، على الرغم من رفضها طلبات مماثلة من دول أخرى، كانا كفيلين بتقديم تفسير أكثر تماسكًا لصفقة القمر الصناعي المثيرة للجدل. فبين عامي 2007 و2015، قامت أي جي تي بتأسيس أحد أنظمة المراقبة الأكثر تكاملًا في العالم، وهو نظام يحوي آلاف الكاميرات وأجهزة الاستشعار الممتدة على طول 620 ميلًا على كامل الحدود الإماراتية، بينما تصب المعلومات التي يقوم بجمعها في قاعدة بيانات تسمى ويسدوم، يشرف عليها كوتشافي، وتدار من خلال إحدى أكبر شركاته في قلب إسرائيل، وهي شركة تدعى "لوجيك إندستريز"، والتي يرأس مجلس إدارتها المخضرم عاموس ملكا(19)، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية "أمان". ولا يستبعد أنه مع نفوذ كوتشافي وشركاته الواسع في إسرائيل، والجهد الاستطلاعي الذي تطلبه تأسيس نظام بهذا الحجم والدقة، فإن كوتشافي ربما يكون قد توسط لتسهيل حصول أبوظبي على خدمات القمر الصناعي الإسرائيلي، من أجل توفير المعلومات والخرائط الجغرافية اللازمة قبل عام من الإعلان الرسمي لعقده الضخم مع أبوظبي.
يعرف نظام المراقبة الشامل الذي أسسه كوتشافي في الإمارات باسم "عين الصقر"(20)، ويعتقد أنه تم تفعيله بشكل كامل منتصف العام الماضي. يمكن تعريف "فالكون آي" بأنه بنية تحتية استخباراتية شديدة الإحكام، ولا يبدو أن هدفها يقتصر على تأمين المنشآت الحيوية؛ بقدر ما يمتد إلى فرض الرقابة الصارمة والمخيفة أيضًا على جميع أشكال الاتصالات في البلاد. لم ينس كوتشافي على ما يبدو أحلامه بأن يكون صحفيًا قبل أن يصبح إمبراطورًا للعقارات ثم بارونًا لأدوات المراقبة، ولم تفارق ذهنه في أي لحظة ثورات الربيع العربي التي أخذت العالم بأكمله على حين غرة قبل بضعة سنوات، وهو ما دفعه لاحقًا في عام 2013 لتأسيس شركة صغيرة تحت اسم "فوكاتيف" يحيي بها أحلامه القديمة بطريقة تناسب وظيفته الحالية، وفوكاتيف ببساطة هي نظام مقلق غير مسبوق يجمع بين سمات كل من غرف الأخبار ومجتمعات الاستخبارات.
يرى كوفاتي أن صحافة اليوم صارت عاجزة عن تغطية الاتجاهات الجماهيرية، بفعل قصور وسائلها التقليدية التي تعتمد على استطلاع رأي أفراد معدودين، ويرجع ذلك إلى أن بعض التوجهات لا يمكن كشفها سوى عبر استطلاع رأي ملايين الأفراد(21)، بطرق مختلفة وعبر فترات طويلة، وهو ما يمكن فعله اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي ولكن عبر استحضار أدوات عالم الاستخبارات.
عن طريق فوكاتيف، يمكن اليوم تحليل ملايين المنشورات التي تحوي فكرة أو كلمة معينة تبث عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقياس مدى تأثيرها وتقديم تحليل طيفي لهذا التأثير، بل وإعادة هندسة الرأي العام في هذه المواقع عبر إنتاج محتوى حول ذات الموضوعات وترويجه بطريقة معاكسة. ولكن الأكثر جدارة بالانتباه أنه مع علاقة كوتشافي وفوكاتيف بأنشطة الاستخبارات الإسرائيلية، فإن السماح باستخدام هذه التطبيقات يوفر "منجم ذهب استخباراتي مجاني" للكيان العبري(22)، في مقابل الخدمات التي تقدمها هذه الشركة لعملائها، وفي مقدمتها تتبع الناشطين الأكثر تأثيرًا، ووضعهم تحت طائلة سلطات القمع.
يبدو إذن أن ما يجمع بين كوتشافي ونظام الإمارات يتجاوز بكثير علاقة عمل متطورة، وصولًا إلى مخاوف أيديولوجية مشتركة فرضتها وظيفة وطموحات كل منهما. ربما يفسر ذلك الارتياح الإماراتي للعمل مع الشركات الإسرائيلية، وعلى وجه الخصوص في عملية تشكيل البنية التحتية لدولة المراقبة والقمع، والتي يبدو أنها تتم بإشراف إسرائيلي شبه كامل.
وعلى الرغم من الحجم المتزايد لهذه الشراكة، فإن طريق الإمارات للحصول على التقنيات الإسرائيلية لا يبدو دائما مفروشًا بالورود، ففي عام 2012 حاولت الإمارات تأمين الحصول على طائرات بدون طيار من شركة "إيرونوتيك ديفينس سيستمز"، التي كان يرأسها رجل الأعمال الإسرائيلي آفي ليومي، لكن الصفقة توقفت بسبب معارضة وزارة الدفاع الإسرائيلية، بعد تسديد الإمارات لمبلغ 70 مليون دولار من ثمن الصفقة. وفي العام التالي مباشرة قامة شركة "رافائيل" الإسرائيلية بتزويد الجيش الإماراتي بمدرعات من طراز "سامسون" بقيمة تعدت 35 مليون دولار، ومن أجل تفادي حدوث مضايقات من قبل وزارة الدفاع، فإن الصفقة تمت عبر وسيط قادم هو الآخر من عالم الماس(23)، وهو رجل الأعمال الجنوب أفريقي ديفيد هيرشويتز. ويعرف هيرشويتز كمساهم في شركة "ريفا"، وهي شركة جنوب أفريقية تقوم بتصنيع وسائل نقل عسكرية تحمل نفس الاسم، وقد سبق أن قامت بتزويد الإمارات بها.
لا تنتهي القائمة عند هذا الحد، ولكنها تمتد لتشمل العديد من رجال الأعمال والشركات الإسرائيلية، التي تقوم بممارسة أنشطتها التجارية في الإمارات بهويات خفية، وخاصة فيما يتعلق بالخدمات الأمنية. أحد هؤلاء هو ديفيد مايدان(24)، المستشار السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لشؤون أسرى الحرب والجنود المفقودين حتى نهاية عام 2014، والذي يرأس اليوم مجلس إدارة شركة "ديفيد مايدان" للمشروعات، وقد عمل مايدان كوكيل للموساد لمدة 30 عامًا، ويقدم خدمات شركته اليوم للإمارات في مجال الأمن الداخلي. وبشكل عام تقدر دورية "إنتليجنس أون لاين" الفرنسية حجم التجارة الأمنية بين أبوظبي وإسرائيل بقرابة ثلاثة مليارات دولار سنويا.
تستأثر إسرائيل فيما يبدو بنصيب الأسد من حجم أموال التجارة بينها وبين الإمارات، بما يعني أن معظم التدفقات المالية المرتبطة بهذه العلاقة تتجه من أبوظبي إلى تل أبيب وليس العكس. أمرٌ يبدو بديهيًا في ظل التفوق التكنولوجي والإداري للكيان المحتل، والذي يسيل له لعاب حكام الإمارة الخليجية الصغيرة. ولكن الأمور لا تسير على هذا الاتجاه بشكل دائم، فهناك أيضًا قائمة من الشركات الإماراتية الموردة منتجات حيوية إلى الدولة العبرية، وعلى رأسها شركة تعرف باسم "إمارات المستقبل"، وهي شركة جديرة بالكثير من الانتباه، خاصة إذا علمنا أن 40% من أسهم هذه الشركة مملوكة لرجل الأعمال الشهير، ونائب رئيس الوزراء الإماراتي، منصور بن زايد آل نهيان، شقيق محمد بن زايد.
لا يظهر اسم منصور على الموقع الرسمي للشركة. ولكن التحقيقات التي تم إجراؤها بواسطة موقع "ميدل إيست آي" أكدت ظهور رجل الأعمال الإماراتي في عدة مناسبات مرتبطة بالشركة(25). تخبرنا النبذة التعريفية للشركة على موقعها الرسمي بالقليل من المعلومات حولها: تأسست عام 2012 عبر شراكة بين مجموعة "حجازي وغوشة" الأردنية، وبين شريك إماراتي يعرف باسم "إكساب" لإطلاق مشروع تجاري مشترك. وقد تأسست شركة "حجازي وغوشة" بدورها عام 1985، بواسطة رجلي أعمال هما عصام حجازي وعبد الرزاق غوشة، يشغلان اليوم منصبي رئيس مجلس إدارة ونائب رئيس مجلس إدارة الشركة على الترتيب. وتعرف الشركة نفسها كإحدى الشركات الرائدة في تصدير المواد الغذائية والحيوانات، وتقوم بتصدير الماشية من خلال شركة شحن مملوكة لها في أستراليا يرأسها أحمد غوشة، وهو أحد أعضاء عائلة غوشة الشريكة في المجموعة الرئيسية.
يتمتع أسطول غوشة للشحن بقدرة نقل ضخمة تبلغ 20 ألف رأس للشحنة الواحدة، وهو يدرج إسرائيل ضمن أكثر من 20 وجهة تستقبل رؤوس الماشية من الشركة، يتم تسليمها عبر ميناء إيلات ثم تنقل لمركز الحجر الصحي. وفي حين لا يعرف على وجه التحديد حجم الشحنات الموردة سنويًا لإسرائيل عبر المجموعة، فإن تحقيقات "ميدل إيست آي" أشارت نقلًا عن صحيفة "ذا ماركر" الإسرائيلية إلى أن "حجازي وغوشة" كانت المورد الأوحد للأبقار لإسرائيل حتى عام 2012، قبل أن يتم فتح الأسواق بشكل جزئي أمام القطعان القادمة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بما يشير لحجم أعمال يقدر بعشرات الملايين من الدولارات.
بمجرد أن تغادر الأبقار مركز الحجر الصحي فإنه يتم تسليمها إلى الشركة العميلة للشركة الأردنية وتدعى "صالح دباح وأبناؤه". ويرأس هذه الشركة أحمد دباح وهو سياسي فلسطيني إسرائيلي له صلات مقربة مع عائلة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون. كان دباح عضوًا في حزب الليكود حتى عام 2005، حين غادره بصحبة شارون لتأسيس حزب كاديما. وفي عام 2012 أصبح دباح أول ممثل إسرائيلي فلسطيني في البرلمان العبري عن الحزب الجديد نسبيًا. ويرتبط دباح أيضًا بعلاقة وثيقة مع عمري شارون، نجل أرييل شارون، الذي انتخب لرئاسة جمعية مربي الماشية في إسرائيل عام 2014، بعد خمس سنوات قضاها في السجن على خلفية قضية فساد وغسيل أموال تتعلق بالحملة الانتخابية لوالده عام 1999.
يعد منصور بن زايد نموذجًا مثاليًا للعلاقات بين بلاده وبين أبوظبي: مسؤول إماراتي لا يمانع بالدخول في صفقات تجارية شخصية مع الكيان العبري، لكنه حريص على إخفاء هذا النشاط من خلال متوالية طويلة وعابرة للقارات من الوكلاء، حفاظًا على مبدأ السرية الحاكم للعلاقات من وجهة نظر الجانب الإماراتي على الأقل. بيد أنه بمرور الوقت يصبح من الصعب الحفاظ على علاقة متنامية بهذا الحجم قيد السرية إلى الأبد.
يشير سلوك الإمارات خلال العامين الأخيرين أنهم لم يعودوا يشعرون بالكثير من الاستياء حول التسريبات المتواترة لعلاقاتهم مع إسرائيل، وهي التسريبات التي كثيرًا ما يكون مصدرها هم المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم، بما يشير ربما إلى تواطؤ ضمني بين الطرفين لتهيئة الأجواء إلى علاقات كاملة ومعلنة، ترفع بموجبها أعلام الدولتين جنبًا إلى جنب في أبوظبي وتل أبيب، تمامًا كما تم رفعها فوق أراضي اليونان وفي أجوائها تحت مرأى ومسمع من الجميع قبل أربعة أشهر، وتحديدًا في شهر (مارس/آذار) الماضي خلال فاعليات "إنيوخوس 2017".
لم تكن المناورة الجوية التي استضافها سلاح الجو اليوناني لمدة عشرة أيام، بمشاركة كل من الولايات المتحدة وإيطاليا والإمارات وإسرائيل، والتي تضمنت تدريبًا على خوض المعارك الجوية، وضرب الأهداف الأرضية، وتجنب الصواريخ، هي التدريبات الحربية الأولى من نوعها الجامعة بين مقاتلين من أبوظبي وتل أبيب. قبل عام من التدريبات اليونانية المشتركة، كان العلمان يرفرفان بجوار بعضهما في أجواء نيفادا الأميركية، في مناورات العلم الأحمر الجوية الأميركية.
من السهل إخفاء الأعلام في مناورات حربية متخصصة إذا توافرت إرادة حقيقية لذلك، سهولة تخفت مقارنة مع إخفاء مكتب تمثيلي غير معلن أداره وزير الشؤون الخارجية الإماراتي أنور قرقاش لسنوات. وفي الوقت الذي أغلقت فيه قطر المكتب التمثيلي الإسرائيلي فيها في أعقاب حرب غزة عام 2008، كانت الصحافة الإسرائيلية تحتفي بالمكتب الإسرائيلي في أبوظبي(26)، الذي ظل مفتوحًا بموجب عقد الإمارة مع القمر الصناعي الإسرائيلي، وهو المكتب الذي لم يعرف العرب بشأنه آنذاك سوى من تلك الإشارات المتفرقة حوله في الصحف العبرية.
مع نهاية عام 2015، كان التمثيل الإسرائيلي في الإمارات يتخذ أولى خطواته المؤسسية. في ذلك التوقيت أعلنت تل أبيب قيامها بافتتاح محل بعثة دبلوماسية لها في العاصمة الإماراتية(27)، تحت إطار الوكالة الدولية للطاقة المتجددة إيرينا، التابعة للأمم المتحدة، وتم اختيار الدبلوماسي رامي هاتان لترأس البعثة الإسرائيلية في أبوظبي. قبل عدة أعوام، دعمت إسرائيل جهود الإمارات لاستضافة المقر الدائم للمنظمة على حساب ألمانيا، وتوافد المسؤولون الإسرائيليون مثل دوري غولد، المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، ووزير البنية التحتية الإسرائيلي أوزي لانداو إلى أبوظبي للمشاركة في فاعليات المنظمة. ورغم تأكيد السلطات الإماراتية أن الممثلية الصهيونية لا تتعلق بأي نشاط يتجاوز وكالة الطاقة المتجددة، إلا أن الجميع بمن فيهم المسؤولون الإسرائيليون كانوا يعلمون أن الحقيقة تتجاوز ذلك بمسافة واسعة.
قبل ذلك بعامين فاجأت أبوظبي العالم بسماحها للرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بإلقاء كلمة الافتتاح في مؤتمر الأمن الخليجي، مؤتمر استضافه آنذاك من مكتبه في القدس عبر الفيديو كونفرانس، وفي خلفيته يظهر العلم الإسرائيلي قبل أن تضج القاعة بالتصفيق في نهاية الكلمة. في تلك اللحظة أدرك الجميع أن كل شيء يتغير، وأن أبوظبي لم تعد تهتم كثيرًا بذلك القناع الذي سترت به علاقاتها مع إسرائيل على مدار أكثر من عقد من الزمان.
كان الربيع العربي لحظة فارقة كشفت القناع عن حقيقة السياسات التي تتبناها إمارة الخليج الصغيرة. لم تكن واقعة الفلسطيني رياض شكوكاني، الذي تم ترحيله من أبوظبي بعد أن خيرته الإمارات بين التجسس على حركة حماس أو الترحيل، جملة اعتراضية في سياسة الإمارات تجاه الفلسطينيين خلال مرحلة ما بعد الربيع العربي. رحلت أبوظبي عشرات الفلسطينيين بدعوى وجود علاقات لهم مع حركة حماس، ولم يكن الكشف عن تورط بعض الطواقم الطبية والإنسانية التي دخلت القطاع ضمن بعثة الهلال الأحمر الإماراتي في عمليات تجسس لصالح إسرائيل حدثًا عابرًا(28). اعترف أحد أعضاء البعثة بانتمائه إلى أحد الأجهزة الأمنية الإماراتية، وأقر بمحاولته التعرف على مواقع إطلاق الصواريخ الفلسطينية.
لا يمكن الحديث عن نفوذ الأجهزة الأمنية الإماراتية دون الحديث عن محمد دحلان، الذي يعرفه كثيرون على أنه عراب العلاقات الإماراتية الإسرائيلية، بحكم علاقته الوثيقة مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. خلال العام الماضي، كان دحلان وتلميذه فادي السلامين موضعًا لجدل واسع، بعد أن قام الأخير بشراء عقار قرب المسجد الأقصى ثم تنازل عنه لصالح شركة الثريا الإماراتية، شركة يعتقد أنها مملوكة للأول. تم توجيه اتهامات لدحلان والسلامين بتسهيل حصول المستوطنين على عقارات القدس باستخدام أموال إماراتية. ورغم أن العقار المقصود لم يتم نقله إلى أي من المؤسسات الاستيطانية، إلا أن الحركة الإسلامية في الخط الأخضر كانت قد أكدت امتلاكها وثائق تثبت تدفق أموال عبر الإمارات لشراء عشرات العقارات التي انتهى بها الحال إلى حيازة المستوطنين في القدس(29)، وهو ما لم نتأكد منه في ميدان بشكل كامل.
مع اندفاع الإمارات نحو علاقات أكثر علانية مع إسرائيل، يبدو موقف الإمارة الخليجية تجاه القضية الفلسطينية مثيرًا للريبة في أفضل الأحوال، وهو موقف يرجح أن يستمر في الانحدار، بنفس القدر المعاكس لتطور علاقات أبوظبي وتل أبيب نحو مرحلة التطبيع المعلن.
في عام 2006، كان عبد الله بن زايد يشعر بالثقة وهو يلح على مساعدة الرئيس الأميركي فرانسيس تاونسيند لتوقيع اتفاقية التجارة الحرة مع أبوظبي(30)، معتقدًا بأن شعبه لا يعلم أن توقيع الاتفاقية يعني فتح التجارة مع إسرائيل. بعد ستة أعوام، كان لدى ابن زايد الصغير ما يكفي من الجرأة للإقدام على لقاء نتنياهو في نيويورك، بصحبة سفيره يوسف العتيبة، ولكن مع القليل من الاحتياطات التي شملت التسلل عبر مرآب السيارات واستقلال مصعد الخدمة لفندق نتنياهو حينها.
لكن، يبدو أن اللحظة التي طال انتظارها، والتي سيلتقط فيها الإسرائيليون والإماراتيون صورهم معًا بأريحية أمام وسائل الإعلام، قد أتت. ربما الآن يشعر وزير الخارجية الإماراتي بقدر من الارتياح، بعد أن يوقن أنه لم يعد عليه أن يلجأ لكل الأساليب المريبة والصعود من مصعد العمال من أجل لقاء بيبي.