شعار قسم ميدان

الأرباح أم سلامة البشرية.. لماذا عجزت الحكومات بكامل عتادها عن تطوير لقاح كورونا؟

ما إن اتسعت رقعة تفشي فيروس "كوفيد- 19" أو ما يُعرف بفيروس كورونا المُستجد خلال شهر مارس/آذار المنصرم حتى دقّ ناقوس الخطر أبواب الدول الصناعية الغربية، فأخذ الجميع يتحدث عن لقاح موعود للتصدي للفيروس، وظهر بعض زعماء العالم أمام شعوبهم بمظهر الفارس المُخلّص الذي سيهزم غول كورونا باللقاح الموعود، وتداولت وكالات الأنباء مقاطع وصورا لمتطوعين وهم يتلقون لقاحات تجريبية ضد الفيروس، ولكن سرعان ما تخافت الحديث عن اللقاح، لتبرز وجهات نظر أكثر عقلانية تقول إن اللقاح الموعود لن يكون جاهزا قبل عام على أقل تقدير.

الكل بدأ يتساءل؛ هل يُعقل أن تقف دول كبرى تجوب أساطيلها بحار العالم عاجزة أمام مشروع لتطوير لقاح لهذا الفيروس؟ ويا تُرى ما العوائق أمام تطوير اللقاح؟ هل هي عوائق علمية مرتبطة بالتركيب البيولوجي للفيروس؟ أم أن العوائق هي في إمكانيات الدول الكبرى وقدراتها التكنولوجية والصناعية؟ وهل قرار التطوير والتصنيع وتوفير اللقاح بيد الحكومات، أم بيد الشركات، أم بيد المنظمات الصحية الدولية؟

ليس من السهل الإجابة عن هذه التساؤلات دون فهم عميق لآلية تطوير اللقاحات وما يلزمها من سياسات حكومية وموارد بشرية ومالية وقدرات تصنيعية، إضافة إلى التعاون بين كل الأطراف الحكومية والشركات والمنظمات الدولية والجامعات، فموضوع تطوير اللقاحات وتوفيرها بشكل إنساني منصف لمن يحتاج إليها من البشر عملية تتسم بالكثير من التعقيد، وكثيرا ما تكون المصالح القومية والاعتبارات التجارية هي القوى الدافعة الحقيقية لدى الأطراف الفاعلة في هذه العملية. وفيما يلي سنعرض بشكل مُبسط المراحل التي تمُرّ بها عملية تطوير اللقاحات، وبعدها سنُناقش التساؤلات المطروحة وموقف الجهات المختلفة.

تُعتبر أول وأهم خطوة في عملية تطوير لقاح لمرض ما هي دراسة وفهم المرض بشكل دقيق لتقييم الجدوى من وراء تطوير لقاح له، وأهم العوامل التي تُدرس من أجل تحديد الجدوى من تطوير اللقاح هي خطورة المرض، وحجم الانتشار الجغرافي، وعدم وجود علاج للمرض، والتوقع المستقبلي فيما يتعلق باستمرار ظهور المرض لضمان استمرار الطلب على اللقاح، وحجم السوق المحتمل لهذا اللقاح ومستوى الإنفاق على الصحة في هذا السوق المحتمل. أما فيما يخص عملية التطوير نفسها فتُقسَّم إلى أربع مراحل أساسية على النحو التالي:

1- مرحلة البحث والاكتشاف: في هذه المرحلة يتم تحليل بيولوجي دقيق للميكروب المُسبِّب للمرض ومكوناته الجينية، لتحديد أيٍّ من هذه المكونات سيُستخدم في اللقاح بهدف تحفيز جهاز المناعة وبناء حصانة لدى البشر ضد الميكروب (تُسمى مكونات الميكروب المستخدمة في تركيب اللقاح بالأنتيجينات). ويتم في هذه المرحلة تحضير اللقاح المُقترح من الأنتيجينات المختارة إضافة إلى مركبات مُحفّزة لجهاز المناعة، وعادة ما تنتهي هذه المرحلة بالتحقق من فعالية اللقاح على حيوانات المختبر قبل الانتقال إلى المرحلة التالية، وعادة ما تتم هذه المرحلة في المختبرات البحثية الأكاديمية أو الحكومية أو الخاصة التابعة لشركات تطوير اللقاحات.

 2- مرحلة التجارب السريرية على البشر: هذه المرحلة تستلزم موافقات من العديد من الجهات الصحية، ويجب إجراؤها ضمن منهجية رقابية صارمة، والهدف الأول من هذه التجارب على البشر هو التحقق من عدم وجود أي تأثيرات سُمّية للقاح، والهدف الثاني هو التحقق من درجة فاعلية اللقاح. وفي هذه المرحلة يبرز دور الشركات والجهات الرقابية الحكومية.

3- مرحلة تطوير عملية الإنتاج: في هذه المرحلة ينتقل العمل إلى الشركات المُصنِّعة لدراسة وتطوير بروتوكولات الإنتاج النهائية، وتحديد معايير الجودة، والحصول على التراخيص اللازمة للإنتاج.

4- مرحلة الإنتاج والتوزيع: وفي هذه المرحلة تتم عملية بيع اللقاح للجهات الحكومية والمنظمات الصحية العالمية للبدء بحملات التطعيم.

     undefined

وبالنظر إلى العملية المشار إليها في الرسم البياني (مراحل تطوير اللقاحات) يجدر ملاحظة بعض النقاط المهمة، الملاحظة الأولى: أنه على الرغم من أهمية مرحلة البحث والكشف لتطوير لقاح مقترح فإنها لا تُشكِّل سوى 10% من حجم الإنجاز، والملاحظة الثانية: أنه قد يدخل مضمار السباق في المرحلة الأولى عدد كبير من اللقاحات التجريبية المُرشَّحة، بيد أن الكثير منها يسقط في إحدى المراحل قبل وصولها خط النهاية، والملاحظة الثالثة: أن العملية تحتاج إلى موازنات ضخمة قد تفوق المليار دولار، وقد تستغرق في الظروف الطبيعية 10 سنوات أو أكثر [1]. وبعد هذا العرض المُلخَّص عن مراحل عملية التطوير ابتداء من نشوء المرض وصولا إلى إنتاج وتوزيع اللقاح، سنعود لمناقشة وتحليل التساؤلات حول معوقات تطوير اللقاحات بشكل عام، مع تسليط الضوء على اللقاح المنتظر لمواجهة "كوفيد-19".

حسب ما هو متوفر من أدلة علمية أولية فالجواب لا، أي إن هنالك فرصة جيدة لتطوير لقاح فعال ضد هذا الفيروس. أول وأهم هذه الأدلة هو حصول تعافٍ ذاتي لدى مجموعة من الذين أُصيبوا بالمرض، مما يدل على قدرة جهاز المناعة على تطوير حصانة ذاتية تقاوم المرض، وتُكوِّن ذاكرة مناعية تحول دون رجوع المرض مرة أخرى للجسم، ولكن يلزمنا المزيد من البحث لمعرفة مدى ديمومة هذه الحصانة. هنالك دليل ثانٍ يُشير إلى تشكُّل حصانة مناعية بعد الإصابة الأولى بالفيروس، ففي تجربة أولية أُجريت على مجموعة من القرود، ظهرت لدى القرود التي تعرضت لفيروس "كوفيد-19" أعراض مشابهة لتلك التي تظهر على البشر، وقد لُوحِظ أن القرود أصبحت مقاومة للفيروس بعد تعافيها من الإصابة الأولى [2].

هذه الأدلة المُبشِّرة تنسجم مع قاعدة ذهبية في علم الأمراض المُعْدية ومناعتها، والتي تؤكّد أن حصول التعافي الذاتي يُشير إلى إمكانية تطوير لقاح فعال للمرض، وهذا ما مَكّن من تطوير الكثير من اللقاحات التي تُستخدم حتى يومنا هذا بنجاح كبير. في المقابل، فهناك مجموعة من الميكروبات تستعصي على جهاز المناعة وذلك لتحوّرها الجيني، وتغير شكل أنتيجيناتها بشكل مستمر مثل فيروس نقص المناعة المكتسبة المسبب لمرض الأيدز، مما يجعل عملية تطوير لقاح مضاد له تحديا علميا كبيرا.

خلال العقود الخمسة الماضية تعرّضت صناعة اللقاحات لتغيرات كبيرة أثَّرت في حجم الاهتمام والاستثمار في هذا القطاع، كما أثّرت في توزيع الأدوار وطريقة اتخاذ القرارات، كما تضاعفت متطلبات الحصول على التراخيص، فبعد أن كانت الحكومات في الدول الغربية هي اللاعب الرئيس في تطوير وصناعة اللقاحات، فقد تقلّص دور هذه الحكومات خصوصا بعد أن طُوِّرت اللقاحات الأساسية للسيطرة على الأمراض التي شكّلت التهديد الصحي الأكبر على الأطفال في الدول الغربية، مثل الكزا والخناق والسعال الديكي وشلل الأطفال والحصبة والنكاف والحصبة الألمانية. وقد شهدت فترة الثمانينيات نكسة لقطاع صناعة اللقاحات بعد أن خرجت العديد من الشركات من السوق بسبب ما يُعرف بـ "إخفاق السوق"، حيث لم تعد هنالك حوافز مالية وضمانات ربحية، وتضاعفت أزمة الشركات بعد أن أُلزِمت بتحمُّل المسؤولية والتعويض في حال حدوث أي أعراض جانبية نتيجة تلقي اللقاحات [3].

أما فيما يتعلّق بالدول ذات الاقتصادات الناشئة آنذاك، فقد عمد بعضها مثل الصين والبرازيل والهند والمكسيك وإندونيسيا إلى الحصول على التراكيب الخاصة بلقاحات الطفولة الأساسية وتصنيعها محليا، ولم تشهد تلك الدول إلا القليل من محاولات تطوير لقاحات جديدة. وقد برز دور منظمة الصحية العالمية في سبعينيات القرن الماضي كمُنسّق لمبادرات دولية لتوزيع اللقاحات على الدول الفقيرة، والتي عادة ما تصلها اللقاحات بعد عقود من إنتاجها في الدول الغربية. واليوم تغيرت قواعد اللعبة، وبرز تباين كبير في دوافع الأطراف المختلفة للدخول في عملية تطوير لقاحات جديدة. وحتى ندرك الواقع الحالي سنستعرض دوافع الأطراف الأساسية مع التركيز على الحكومات والشركات كأهم الأطراف في تمويل وإدارة عملية التطوير.

مع أن دور الحكومات في الدول الصناعية الكبرى يعتبر دورا محوريا في مراقبة الأمراض المُعْدية ورصد الموازنات اللازمة لمحاربتها، فإن تلك الحكومات لا تملك حاليا البنى التحتية لصناعة اللقاحات، ومثال ذلك ما أكّده الدكتور "أنتوني فوشي" مدير المعهد الوطني الأميركي للحساسية والأمراض المعدية، حين قال إن الحكومة الأميركية قد تستطيع من خلال معاهدها البحثية الوصول إلى لقاح تجريبي أوّلي لفيروس "كوفيد-19" خلال بضعة أشهر، ولكنها قطعا ستحتاج إلى شركات الأدوية التي تمتلك البنى التحتية لعملية التطوير والتصنيع، والتي من المُتوقَّع أن تستغرق أكثر عام تحت ضغوط عالية واختزال للمراحل، وقد جاء ذلك خلال ردّه على تساؤلات السيناتور "ميت رومني" عن قدرات الحكومة الأميركية خلال جلسة الاستماع التي عقدها الكونغرس في الثالث من مارس/آذار الماضي [4]. من الواضح أن الحكومة الأميركية تسعى بكل إمكانياتها، وتُقدِّم تسهيلات لبعض الشركات للوصول إلى اللقاح في أقصر مدة، ولكن السؤال المهم هل سَتُغيّر حكومة الولايات المتحدة وحكومات الدول الغربية إستراتيجياتها المستقبلية الخاصة بمواجهة الأوبئة وتعزيز دورها ومسؤولياتها؟

العمل على إيجاد لقاح لفيروس "كوفيد-19" قد يُخفِّف الضغط الداخلي على الحكومات الغربية، ولكن هذا لا يعني أن هذه الدول قد أدّت دورها الإنساني وتحمّلت مسؤولياتها كجزء من العائلة البشرية، فالمشكلة الجوهرية في دور الحكومات الغربية يكمن في الأنانية المفرطة والتفكير على أساس رأسمالي بحت في التعامل مع الأوبئة البشرية، فالحكومات الغربية تتعامل مع الأوبئة في الدول الفقيرة وكأنها مشكلات على كوكب آخر، ولكنها سرعان ما تتحرك إذا ما بدأت هذه الأوبئة بتهديد أمنها القومي في الداخل أو مصالحها الاقتصادية.

فعلى سبيل المثال، فيروس الإيبولا قد فتك بأكثر من دولة أفريقية طوال القرن الماضي، ولكن كانت هجماته على شكل تفشيات محدودة، إلا أنه لم يحظَ باهتمام كبير في تلك الحقبة، ولكن ما إن برزت مشكلة الهجمات البيولوجية عبر الرسائل المحمّلة بالجمرة الخبيثة "الأنثراكس"، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، حتى سارعت الحكومة الأميركية عام 2004 إلى إطلاق مشروع الدرع الحيوي (BioShield) الذي أقرّت بموجبه موازنة لتطوير لقاحات ضد مجموعة من الميكروبات، منها فيروس الإيبولا، والغريب أن العمل بدأ على تطوير اللقاح واستمر لعدة سنوات، ثم تراجع الدعم والاهتمام، وخُزِّنت اللقاحات التجريبية في ثلاجات المعاهد البحثية، ولكن ما إن ظهر التفشي الأكثر خطورة للفيروس في عام 2014، والذي بدأ في غينيا وانتشر بعدها إلى عدة دول أفريقية، مخلفا وراءه 26,800 إصابة، توفي منها 11,325 شخصا، بدأت مخاوف فعلية من خروج التفشي من دائرة السيطرة وإمكانية انتقاله إلى خارج الجغرافيا الأفريقية، حتى بدأت الجهود الدولية تنصبّ لتطوير اللقاح واستخراج اللقاحات المجمّدة من ثلاجات المعاهد البحثية.

   

وفي سابقة لم يشهدها قطاع اللقاحات أُنجِز لقاح الإيبولا المسمى (rVSV-ZEBOV) -والذي اعتُمِد من قِبل منظمة الصحة العالمية العام الماضي- في زمن قياسي بلغ خمس سنوات، ولقد كان على رأس هذه الجهود منظمة "تحالف اللقاحات" المعروفة بـ "GAVI"، وهي منظمة تأسّست عام 2000 خلال منتدى الاقتصاد العالمي في دافوس، وجمعت شركاء وداعمين من عدة منظمات دولية، منها مؤسسة بيل ومليندا جيتس ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونسيف والبنك الدولي وبعض الحكومات الغربية [5].

لقد تعرّضت الحكومات الغربية، وعلى رأسها حكومة الولايات المتحدة الأميركية، لانتقادات لاذعة فيما يخص الإنفاق المتواضع جدا الخاص بمحاربة الأوبئة العالمية، ففي تقرير أعدّه فريق عمل للدفاع المستدام وأصدره مركز السياسة الدولية (The Center for International Policy) في واشنطن في يونيو/حزيران 2019، أكّد الفريق، ومعظم أعضائه خبراء وعسكريون سابقون شغلوا مناصب حساسة في الحكومة الأميركية، أكّدوا أن التهديدات الأكثر إلحاحا لأمن الولايات المتحدة هي ليست عسكرية بالدرجة الأولى، ولكن هناك تهديدات أخرى مقلقة أكثر وتشمل تغيرات المناخ، وانعدام المساواة الاقتصادية، والأوبئة العالمية، والتي أكّد التقرير أن تلك الأوبئة العالمية لا تعرف حدودا جغرافية، وتُشكِّل مخاطر مجتمعية واقتصادية على جميع الدول، مما يُعزِّز انعدام الأمن والصراعات [6].

ويجب ألّا ننسى دور الحكومات في الدول النامية، أو حتى الدول الفقيرة، فحكومات هذه الدول ليست معفية من المسؤولية، سواء فيما يتعلّق ببناء منظومات لمراقبة ورصد الأمراض المعدية والمستجدة، أو فيما يتعلّق بتحضير الكوادر والبنى التحتية لمواجهة تلك الأمراض، فلا يُعقل أن يتصدّر الإنفاق على التسليح موازنات هذه الدول، بينما تلجأ حكوماتها إلى منظمات الصحة الدولية والبنك الدولي لتوفير اللقاحات لمجتمعاتها.

حسب ما أوردت إحدى دوريات نيتشر المختصة باستكشاف الأدوية، فحتى تاريخ الثامن من إبريل/نيسان الماضي، هنالك 78 مشروعا نشطا لإنتاج لقاح ضد فيروس "كوفيد-"19 [7]، معظم تلك اللقاحات المرشّحة لا تزال في مرحلة البحث والاكتشاف، وأربعة منها فقط انتقلت إلى مرحلة التجارب السريرية الأولية على البشر للتحقق من عدم وجود مضاعفات سُمّية، وتشمل لقاحين لشركتين من الولايات المتحدة الأميركية هما شركة "Moderna" وشركة "Inovio"، ولقاحين من الصين واحد من شركة "CanSino" وآخر من معهد "Shenzhen Geno-Immune Medical Institute"، وهو معهد تابع لحكومة مقاطعة شينزن، وفي حالة نادرة الحدوث، وتحت ضغط السباق مع الزمن، وفي ظل عدم وجود حيوان مخبري نموذجي، فقد تم القفز على خطوة التجارب على الحيوانات، أو إجرائها بشكل موازٍ للتجارب السريرية في بعض هذه المشاريع.

واللافت للانتباه في قائمة المشاريع الـ 78 هو غياب أسماء الشركات الكبرى المعروفة بقدراتها الكبيرة في تطوير وإنتاج اللقاحات مثل "GlaxoSmithKline" و"Merck & Co" و"Sanofi" و"Pfizer"، باستثناء شركة "Johnson & Johnson" المعروفة والتي وقّعت عقد شراكة بأكثر من مليار دولار مع وزارة الصحة الأميركية لتطوير وتوفير لقاح ضد فيروس "كوفيد-19″، فمعظم الشركات التي دخلت السباق هي شركات تطوير لقاحات ناشئة. والسؤال المطروح لماذا تُحجِم الشركات الكبرى عن الدخول في السباق لتطوير اللقاح؟

معظم الشركات الكبرى قد اتّخذت موقف المراقب بحذر، والمنتظر حتى ينجلي غبار المعركة وتنكشف الفرص الاستثمارية الدَّسِمة
معظم الشركات الكبرى قد اتّخذت موقف المراقب بحذر، والمنتظر حتى ينجلي غبار المعركة وتنكشف الفرص الاستثمارية الدَّسِمة

جانب من الإجابة عن هذا السؤال هو ما جاء على لسان أحد أهم علماء تطوير اللقاحات في الفترة الحالية وهو الدكتور رينو رابولي، رئيس قسم البحث والتطوير في شركة "GlaxoSmithKline"، خلال ندوة عالمية عُقِدت الأسبوع الماضي عبر مؤتمرات الفيديو، حيث قال إن شركات تطوير اللقاحات تخشى من وضع استثمارات كبيرة جدا لتطوير لقاحات لمواجهة الأوبئة المستجدة، والتي عادة ما تظهر على شكل تفشيات ثم غالبا ما تختفي أو يُسيطَر عليها بطرق أخرى غير التطعيم، مثل فيروس "سارس" أو فيروس "ميرس" أو فيروس "زيكا"، ويضيف الدكتور رابولي أن تجارب شركته السابقة في هذا النوع من الأمراض مخيبة للآمال، فما إن يصبح التفشي تحت مجهر وسائل الإعلام حتى يتزايد اهتمام الرأي العام، ليبدأ بعدها الضغط على الحكومات، والتي تبدأ بإطلاق مشاريع لتمويل تطوير اللقاح، ويبدأ الجميع بالاندفاع لتحصيل المكاسب التي تَعِدُ بها الحكومات، وما إن ينحسر الوباء ويُسيطَر عليه بطريقة ما حتى تخفت الأصوات وتبدأ الجهات الحكومية بالتخلي عن دعم ومتابعة مشاريع اللقاحات، وهذا ما حصل فعلا في بعض الأوبئة المستجدة [8].

إن عملية تطوير اللقاحات فيها مخاطر استثمارية كبيرة، وقد يسقط المشروع في "وادي الموت" حسب ما هو مُبيّن في مراحل تطوير اللقاحات، أو قد ترفض الجهات الصحية اعتماد اللقاح، زيادة على عدم وجود ضمانات ربحية مجدية، لهذا كله فإننا نلاحظ أن معظم الشركات الكبرى قد اتّخذت موقف المراقب بحذر، والمنتظر حتى ينجلي غبار المعركة وتنكشف الفرص الاستثمارية الدَّسِمة، وقد يتغير هذا الموقف في حال تَغيّر مسار الأزمة، ونشوء سوق مُغرٍ للقاح، كأن يأخذ الفيروس نمطا موسميا -مثل الإنفلونزا- في المجتمعات الغربية، أو لربما تدخل بعض الشركات الكبرى السباق في مرحلة متأخرة لتبنّي أحد اللقاحات المرشّحة الواعدة بعد أن تكون قد عبرت "وادي الموت".

undefined

في حقل الصناعات الطبية تُقيَّم المشاريع وفق معيارين؛ معيار القيمة الصحية والاجتماعية، ومعيار القيمة الاقتصادية، بالنسبة للشركات، تعتبر القيمة الاقتصادية العامل الأهم في اتخاذ القرار، فعند مقارنة سوق اللقاحات بسوق الأدوية، يعتبر سوق اللقاحات -حسب المفهوم الرأسمالي- من الأسواق غير المجدية استثماريا كما هو مبيّن في الرسم البياني (صناعة اللقاحات مقابل العلاجات الدوائية)، ومن المفارقات أن الربح الذي يُدرّه دواء باهظ التكلفة للحفاظ على مريض يُعاني من مرض عضال على شفا الموت أكبر بأضعاف كثيرة جدا من الربح الذي قد يُدرّه لقاح منخفض التكلفة لطفل على عتبة الحياة!

مما لا شك فيه أن لقاحا أو أكثر من مرشّحي لقاحات فيروس "كوفيد-19" سيرى النور خلال عام إلى عامين، وربما نشهد انفراجا قريبا قبل ذلك في مواجهة الأزمة بعد أن ظهرت مجموعة من التجارب المخبرية على عقاقير واعدة في علاج المرضى، ولعل أهمها الأجسام المضادة أحادية النسيلة، أو العقاقير المثبطة للإنزيمات الخاصة بتكاثر الفيروس. وعلى الرغم من الآثار الكارثية التي ستُخلّفها أزمة فيروس كورونا الحالية على الصعيد الإنساني والاقتصادي، فإن فيها جوانب إيجابية لعلنا نستقي منها الدروس والعِبَر، ولعل أهمها ما كشفته الأزمة من أن مشكلات البشرية الصحية والأوبئة الفتاكة على وجه الخصوص هي مسؤولية عالمية ولا يجوز التعامل معها على أنها مشكلات إقليمية، كما كشفت الأزمة عن وجود مشكلات حقيقية في آلية تطوير وصناعة اللقاحات التي تعتَبر واحدا من أهم الأعمدة الصحية، وأبرز هذه المشكلات هي ضعف الاهتمام الحكومي، والدوافع الرأسمالية البحتة لدى شركات الصناعات الدوائية، وآليات إدارة التطوير والتصنيع التي تحتاج إلى أفكار خلّاقة لزيادة كفاءة العملية مع المحافظة على معايير السلامة.

وختاما، فإن هذه الأزمة تؤكد لنا أن العالم في أَمَسّ الحاجة إلى نظم رشيدة، تُخطط فيها الموازنات على معايير إنسانية أهمها الأرواح التي سَتُنقذ مقابل الأموال التي سَتُنفق، ففي العام 2020 ما زلنا نستخدم تقنيات لصناعة اللقاحات صُمِّمت في منتصف القرن الماضي، ويعاني الكادر الصحي في الدول الفقيرة في نقل هذه اللقاحات وتخزينها ضمن ظروف تبريد مناسبة وإيصالها لمن يحتاج إليها، بينما تستطيع حاملة طائرات توجيه صاروخ وإيصاله إلى بناية محددة تبعد آلاف الكيلومترات، وتستطيع القواعد العسكرية توزيع الموت والرعب من خلال الطائرات بدون طيار يُتَحكَّم بها عبر القارات.

نحن بحاجة إلى منظومة صحية عالمية أكثر إنسانية تتسم بالعدالة، تسعى لتوفير الرعاية لكل مَن يحتاج إليها وتعمل على محاربة الأمراض أينما كانت، فأعداؤنا اللا مرئيون من الكائنات الميكروسكوبية أثبتوا أنهم أكثر عدالة منا، لأنهم لا يعرفون حدودا بين الأعراق أصفرها وأبيضها وأسودها، أو بين الدول جنوبها وشمالها، ولا بين الناس غنيها وفقيرها. لقد أثبتت هذه المخلوقات اللا مرئية أننا أكثر المخلوقات ظلما لأنفسنا حين اعتقدنا أن الأمراض المُعْدية التي تقتل الفقراء في زوايا العالم المظلمة لن تصل إلينا، ولن تصل إلى الدول الغنية التي تملك أكبر الترسانات من السلاح، فمتى سنصحو لندرك أن اللقاح سيحمينا أكثر من السلاح؟!

______________________________________

المصادر:

1. Rappuoli, R., S. Black, and D.E. Bloom, Vaccines and global health: In search of a sustainable model for vaccine development and delivery. Sci Transl Med, 2019. 11(497).

2. al., L.B.e., Reinfection could not occur in SARS-CoV-2 infected rhesus macaques. 2020.

3. van Noort, R.B., The Children’s Vaccine Initiative and vaccine supply: the role of the public sector. Vaccine, 1992. 10(13): p. 909-10.

4. Corona virus Hearing session. An Emerging Disease Threat: How the U.S. Is Responding to COVID-19, the Novel Coronavirus. March 3, 2020.

5. Frist, B., Today’s Life-Saving Ebola Vaccine Was Spurred By The 2001 Anthrax And 2004 Ricin Attacks. www.forbes.com.

6. Hartung, W., To Save Lives, Shift Pentagon Spending to Public Health, Mar 5, 2020. The full SDTF report.

7. Thanh Le, T., et al., The COVID-19 vaccine development landscape. Nat Rev Drug Discov, 2020.

8. Rino Rappuoli on COVID-19 Vaccines. https://iuis.org/webinars/.