شعار قسم ميدان

حين يكون السياسي عالِما.. ماذا يعني أن تعيش في دولة رئيستها أنجيلا ميركل؟

ميدان - حين يكون السياسي عالِما.. ماذا يعني أن تعيش في دولة رئيستها أنغيلا ميركل؟
اضغط للاستماع 

    

نواجه اليوم انتشارا عالميا لمرض يمتلك القدرة على إحداث ما أسمته المؤرّخة الألمانيّة إيفا شلوثويوبر "جائحة عقلية"، فمع الانتشار الواسع للمعلومات المغلوطة واضمحلال الحدود بين الحقيقة والخيال، ينبغي لقادة العالم، الآن أكثر من أي وقت مضى، إنارة مصابيح الفِكر، واعتناق العلم واعتماد التساؤلات المنطقية المُسنَدة بالأدلّة، وبالتأكيد فإنَّ بعضهم قد فعل ذلك، لكنّ زعيما واحدا فقط مضى إلى ما هو أبعد من ذلك. 

  

إنها أنجيلا ميركل التي يأتمنها الألمان اليوم على قيادة سفينة بلادهم وسط أمواج المجهول الهائجة، دون خوف من أن تورّطهم في جائحة عقلية أو أن تستسلم لها، إنها السياسية التي تجعل دورها كقائد للقوات المسلحة في المرتبة الثانية وكقائد للفِرَق العلمية في المرتبة الأولى. فعلى مدار أسابيع حتى الآن، كانت زعيمة ألمانيا تعمل على توظيف عقلانيّتها المعهودة، وعاطفيتها غير المعهودة، في توجيه البلاد خلال ما يعتبر حتى اللحظة معركة ناجحة نسبيا ضد وباء "كوفيد-19". 

  

لقد أثبتت الجائحة أنها أهمّ تحدٍّ تواجهه السياسية التي لطالما وُصِف أسلوب قيادتها بأنه تحليلي وحذِر ومتجرد من العاطفة، ولكن في خضمّ بحثها عن الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي خلال هذه الأزمة، يبدو أن ميركل تتمتع بعدد من الامتيازات التي مهّدت طريقها للنجاح: نظام مهيب منسَّق من الخبراء في الميادين العلمية والطبية موزّعين على سائر ربوع ألمانيا، وثقة شعبها الصعبة، وقناعة لا مناص منها بأنَّه لا بديل عن القيادة العقلانية الراجحة. ومع تسلُّحها بثلاثين عاما من الخبرة السياسية، وفي مواجهة تحدٍّ صعب يحتاج إلى التفكير المتأني المنطقي، نجحت ميركل في التفوق على نفسها، ملتزمة المصداقيّة والتواضع اللذين يتسم بهما العلماء في أثناء عملهم، حيث يبدو أنَّ هذه الصفات أثبتت أنها تُجدي نفعا على الصعيدين السياسي والعلمي كليهما.

  

أنجيلا ميركل (غيتي)
أنجيلا ميركل (غيتي)

      

من مختبرات العلم إلى أروقة السياسة

نشأت ميركل، التي وُلِدت في ألمانيا الغربية عام 1954، في بلدة في شرق ألمانيا إلى الشمال من برلين، وكان والدها قِسّا لوثريّا مستهدفا بالمراقبة من قِبل جهاز استخبارات ألمانيا الشرقية، "الشتازي". وكطالبة متفوقة، تعلّمت ميركل في وقت مبكّر "ألا تُسلِّط الأضواء على نفسها" مخافة أن تُعرِّض نفسها أو عائلتها لمساءلات غير ضرورية، كما يقول ستيفان كورنيليوس، الكاتب الرسمي لسيرتها الذاتية ومحرّر النسخة الأجنبية من صحيفة "زود دويتشه تسايتونج"، وحينما سقط جدار برلين عام 1989، كانت ميركل، التي حصدت آنذاك شهادة الدكتوراه في الكيمياء الكميّة، تعمل في مجال البحث العلمي. 

  

بعد ذلك بمدة قصيرة، تركت ميركل وظيفتها للانضمام إلى جماعة سياسية تألّفت من شخصيّات محليّة في حيّها السكني، وهكذا أطلقت مسيرتها السياسية على نيران هادئة، ولكنها سرعان ما ترقَّت في سلّم السياسة الألمانيّة، وبفضل ذكائها الحادّ وسلسلة من المناورات التكتيكيّة المواتية، صعدت ميركل عام 2005 إلى منصب المستشارية، أو رئاسة الحكومة الألمانية الاتحادية، وقد كان هذا المسار دراماتيكيا وجديدا كل الجدّة، خاصة بالنسبة لامرأة، وبالنسبة إلى مواطنة من ألمانيا الشرقية، وقبل ذلك بالنسبة إلى عالِمة متمرّسة بلا أي خلفيّة في القانون أو الخدمة المدنيّة. 

  

ولكن لماذا تخلّت ميركل عما بدا أنها مسيرة علمية واعدة لأجل مسيرة سياسية غير مضمونة؟ في تقرير نشرته صحيفة نيويوركر، يصف جورج بيكر قرار ميركل بأنه "لغز محوري لحياة يلفّها الغموض". لكن كورنيليوس، كاتب سيرتها الذاتية، يعزو هذا التغيير المحوريّ إلى إدراكها بأنها ستكون كعالِمة آتية من ألمانيا الشرقية المعدمة شحيحة الموارد "متأخرة" عن ركب نظرائها في ألمانيا الغربية. 

      

    

لم تُفصح ميركل علانية عن سبب تخلّيها عن العلم، لكنه ربّما لم يفارقها أبدا بالفعل، إذ لا يزال التفكير العلمي، بما يشتمل عليه من فحص متأنٍ لكل معلومة جديدة، والطلب الواعي لمشورة العلماء، لا يزال ميزة أصيلة في عمليّة صنع القرار اليومية لميركل وشخصيتها السياسية. إنّها تعي بدون شكّ أنّ تعاملها المحسوب الذي يتّسم بالتواضع مع الشأن الألماني هو السبب -جزئيا على الأقل- في أنها، ورغم مرور 15 عاما على احتلالها لمنصبها، لا تزال تحصل على الدعم في بلد لطالما ترافق إجلاله التاريخيّ للإنجازات العلمية والعقول النيّرة مثل كانط وأينشتاين وغيرهم مع الخوف الحذر من صعود القادة الكاريزميين أصحاب الأفكار الجذرية من أمثال هتلر. 

  

قبل الجائحة، كان نجم ميركل على وشك الأفول، وباتت تُعرف، بحسب كورنيليوس، على أنّها المستشارة التي "تتفادى الأمور، بدلا من كونها المستشارة التي تتحكّم فيها". صحيح أنها حالت دون انهيار أوروبا خلال الأزمة المالية، وأنها قادت القارّة في اشتباكها مع أزمة الهجرة التي أعقبت ذلك، لكنّها مؤخرا بدأت تتعرّض للتهميش السياسي في ظل الصعود الداخلي للشعبوية، واليمين المتطرف، واليسار المتطرف، وصعود القادة الاستبداديين حول العالم.

   

في مواجهة كورونا

في هذه الأجواء، ضرب فيروس كورونا الجديد شواطئ ألمانيا، حيث كُشِف عن أولى الحالات في البلاد يوم 28 يناير/كانون الثاني، لكنَّ التهديد لم يُغيّر الحياة اليومية حقا حتّى منتصف مارس/آذار، وفي حين أن القيود على الحركة والتجمعات فُرِضت في برلين بشكل تدريجي فإنها سرعان ما بدأت في الإخلال بنمط الحياة العادية، وعلى الرغم من أن قلّة فقط من الألمان أزعجهم إلغاء التجمعات المكتظّة مثل مؤتمرات ومهرجانات المصنّعين، فبحلول الوقت الذي أُغلقت فيه المراكز الإبداعية في المدينة، مثل المسارح ودور الأوبرا وصالات الأوركسترا، في يوم 10 مارس/آذار، بدا أن ثمة عنصرا جوهريا مفقودا في المدينة. 

   

بعد ذلك بعدة أيام، تحوَّل المشهد الليلي المضيء الشهير في برلين إلى ظلام دامس، بعدما تفرَّق المُشاة، وقام أصحاب المطاعم الخائفين بإغلاق أبواب محالّهم ووضع الحواجز الزجاجيّة. كان نسيج الحياة الثقافية والاجتماعية في العاصمة الألمانية يتمزّق، وسرعان ما عادت إلى ذاكرة سكّان المدينة التي كان مقسّمة فيما مضى فكرة إمكانية فقدان الحرية مجددا. أدركت ميركل، مواطنة ألمانيا الشرقية السابقة التي تعتبر الحرية قيمة عليا، على نحو شخصيّ، ما يعنيه الإغلاق للمواطنين الألمان، وفي 18 مارس/آذار، بعد أن أوصدت البلاد أبواب المدارس والاقتصاد وأوقفت حركة الحياة، ألقت المستشارة خطابا متلفزا نادرا عزّزت فيه قيادتها. 

    

  

جالسة قبالة الكاميرا خلف مكتبها، وبجانبها علما الاتّحاد الأوروبي وألمانيا، بدأت ميركل بإشارة عاطفية قائلة إنّ "فكرتنا عن الحياة الطبيعية، عن الحياة العامّة، والحشد الاجتماعي، وكل هذه الأمور تخضع لاختبار غير مسبوق"، ولم تفوّت ميركل الفرصة لتأكيد أهمية الديمقراطية وأهمية اتخاذ قرارات سياسية شفافة، مُصِرّة على أن أي معلومة تشاركها عن الجائحة تستند إلى بحث عميق، لاحقا، وفي بيان رائع من الزعيمة الألمانية، "بيان لا بدّ من أنها فكّرت فيه مليّا"، كما يقول كورنيليوس لمجلة "ذي أتلانتيك"، أشارت ميركل إلى اللحظة الحالية بوصفها "أحلك لحظة مرّت بها ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية"، حيث لم تواجه ألمانيا منذ ذلك الحين تحديا "يتطلب من الألمان التحرّك بروح تضامنية على هذا القدر من الأهمية". 

  

لم يكن أبرز ما ورد في هذا الخطاب هو النصائح الطبية المكثّفة التي وجّهتها المستشارة الألمانية، وإنما لجوؤها المباشر غير المعهود إلى فكرة التضامن الاجتماعي وتقديم نفسها كفرد عادي وزعيم في الوقت ذاته مؤكدة "أننا سنجتاز هذا الاختبار إذا اعتبر كل مواطن هذا الأمر بمنزلة مهمة تقع على عاتقه الشخصي". 

  

كانت تطميناتها العقلانيّة وجاذبيّتها العاطفية عنصرين حاسمين في فترة من الذعر المتصاعد، ومع أن الأجواء لم تَعُد سوداوية هذه الأيام -يبدو أن ألمانيا تعاملت مع انتشار الوباء بصورة أفضل من العديد من البلدان- فإن البلاد تستمر إلى حدٍّ كبير في اتّباع التوجيهات المفصّلة الصادرة عن المستشارة، وصحيح أن عدد الأشخاص المصابين بفيروس كورونا الجديد قد ارتفع -ولا يزال يرتفع- كما يحدث في بقية أنحاء العالم، لكن على عكس إيطاليا، حيث فقد أكثر من 28000 إيطالي أرواحهم جرّاء مرض "كوفيد-19″، أو الولايات المتحدة، حيث تخطّت خسائر الأرواح ضِعف ذلك الرقم بكثير، يزيد عدد الوفيات في ألمانيا بالكاد على 6000 آلاف حالة، وهو يرتفع ببطء مقارنة بالدول المجاورة، ولكي تتضح الصورة بشكل أفضل، فقد توفي من سكّان ولاية نيويورك وحدها ما يقرب من ثلاثة أضعاف إجمالي الوفيات في ألمانيا قاطبة. 

    

بالنظر إلى مدة تربّعها على العرش الألماني، فلا بد من أن تُعزى جميع هذه النجاحات -ولو بشكل جزئي على الأقلّ- إلى قيادة ميركل وطريقتها في التوفيق بين المصالح المتضادّة
بالنظر إلى مدة تربّعها على العرش الألماني، فلا بد من أن تُعزى جميع هذه النجاحات -ولو بشكل جزئي على الأقلّ- إلى قيادة ميركل وطريقتها في التوفيق بين المصالح المتضادّة
   

مع أنّ البيانات المقارنة على مستوى البلدان قد تفتقد لشيء من المصداقية، ومع أن الأرقام يمكن أن تأخذ منعطفا حادا في ألمانيا كما هو الحال في أي بلد آخر، يستشهد الخبراء بعدد من العوامل التي ربما تكون السبب وراء أعداد الوفيات المنخفضة نسبيا في البلاد، إذ كانت معدّلات أعمار المصابين بالفيروس أدنى مما هي عليه في أي مكان آخر، مما حدَّ من المخاطر، كما أن أعداد الأشخاص المفحوصين كان أعلى من معظم البلدان، وكثيرا ما كان يتم تعقّب الحالات المصابة، إلى جانب أنَّ نظام الرعاية الصحية كان فعالا بما يكفي لمضاعفة وحدات العناية المركّزة بحيث تُلبّي الطلب المُحتمل. 

    

بالنظر إلى مدة تربّعها على العرش الألماني، فلا بد من أن تُعزى جميع هذه النجاحات -ولو بشكل جزئي على الأقلّ- إلى قيادة ميركل وطريقتها في التوفيق بين المصالح المتضادّة وقدرتها على الاعتراف بما لا تعرف، وقراراتها التفويضيّة، وجميعها مزايا كانت ملائمة بشكل خاص للبنية السياسية في ألمانيا الاتحادية خلال فترة ما بعد الحرب. 

   

لقد اعتمدت ميركل على خبراء من منظمات البحث العلمي التي تنال تمويلا سخيا من الدولة، بما فيها وكالات الرعاية الصحية العامة مثل معهد روبرت كوتش، إلى جانب الشبكة مترامية الأطراف من الجامعات الحكومية، وكان معهد برلين الصحي، وهو مؤسسة لبحوث الطب الحيوي، قد قام مؤخرا كغيره من المؤسسات بتحويل جهوده إلى دراسة فيروس كورونا الجديد، ويخبرنا رئيسه، أكسل رادلاخ برايس، بأن المؤسسات البحثية الألمانية تعمل يدا بيد في الوقت الحالي بهدف "تأسيس أنظمة بحثية في أرجاء البلاد"، حيث تلعب الحكومة الفيدرالية، وعلى رأسها ميركل، دورا جامعا عبر توحيد كل الأقسام الطبية في الجامعات الألمانية ضمن مجموعة عمل موحّدة

    

خبير الفيروسات ورئيس علم الفيروسات في مستشفى شاريتيه في برلين
خبير الفيروسات ورئيس علم الفيروسات في مستشفى شاريتيه في برلين "كريستيان دروستن" (رويترز)

   

عندما توجّهنا إليه، تطرق برايس إلى أهمية التواصل الشفاف مع أعلى مستويات القيادة خلال فترة انتشار الوباء. لقد اعتمدت ميركل بقوّة، وعلانيّة، على خبرة عدد من الخبراء، بمَن فيهم خبير الفيروسات المشتهر مؤخرا ورئيس علم الفيروسات في مستشفى شاريتيه في برلين كريستيان دروستن، فمن منظور الشعب، كما يقول برايس، فإن المستشارة وعالِم الفيروسات "جديران بالثقة حقا"، فالناس يعلمون "بأن ما يحصلون عليه من ميركل ودروستن حقائق فعليّة مفحوصة جيدا"، وبأن كليهما يُقرّان "بالمعلومات التي لا يعرفانِها"، و"لأنهما صادقانِ فيما يخصّ المعلومات، تعتبر المعلومات التي يقدمانها ذات مصداقيّة". ويلعب هذا الصدق، خاصة في الأوقات التي تتفشى فيها المعلومات المغلوطة، يلعب دورا كبيرا في حثّ المواطنين الألمان على مواصلة اتباع القواعد ويساعد في الحفاظ "على الهدوء في ألمانيا" حتى اللحظة. 

   

لا يزال الفيروس أبعد ما يكون عن الهزيمة، ولا أحد يعرف التحديات التي تنتظر ألمانيا، أو بقية دول العالم، مستقبلا لكن بالنظر إلى نهج ميركل الحالي، بصرامتها الشديدة في ترتيب المعلومات، وصدقها في الإفصاح عما لا تزال تجهله، ووقارها، فإنّ المستشارة الألمانية سوف تُخلِّد اسمها في الذاكرة لا كأعظم عالِمة في ألمانيا، ولكن بوصفها القائد الأعلى للقوات العلمية، وبوصفها الزعيمة السياسية التي التزمت واحتفت وأضفت طابعها الشخصي على التفكير المنطقي المستند إلى الدليل في وقت كانت فيها بلادها في أمس الحاجة إلى فعل ذلك.

————————————————————–

هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة