شعار قسم ميدان

خطر حقيقي وقريب للغاية.. كيف اخترق فيروس كورونا حصون الجيوش العالمية؟

اضغط للاستماع

"ربما يؤدي وباء الإنفلونزا القادم إلى مستويات هائلة من الوفيات والعجز ويؤثر بشدة على الاقتصاد العالمي ويضغط على الموارد الدولية".

تقييم التهديدات العالمية السنوي الصادر عن مجتمع الاستخبارات الأميركي – يناير/كانون الثاني 2019، قبل عام كامل من ظهور فيروس كورونا

بين عشية وضحاها، وفي الأسبوع الأخير من شهر فبراير/شباط للعام الماضي 2020؛ عمَّ الصخب أرجاء معسكر "كامب كارول"، أحد معسكرات الجيش الأميركي الهادئة نسبيا في كوريا الجنوبية، بعدما أخبر القائد العسكري الكولونيل "إدوارد بالانكو" جنوده وضباطه بلهجة عسكرية حاسمة أنه "تم اختراق المحيط الآمن" للمعسكر، وفي غضون دقائق معدودة أصبحت الأمور أكثر وضوحا بالنسبة للجميع، حيث لم يكن الاختراق المقصود سوى تسجيلِ المعسكر لأول حالة إصابة بفيروس كورونا المستجد "كوفيد-19" داخله، وهي أول حالة أيضا بين صفوف الجيش الأميركي.

 

كانت تعليمات الكولونيل لجنوده لاحقا أشبه بتطبيق عملي لما يحدث حال تعرُّض القاعدة لهجوم (1) حقيقي، فأُغلِقت جميع المباني والمكاتب التي استخدمها الجندي المُصاب، وانتشرت فِرَق التطهير لتُباشر عملها بدقة وسرعة في جميع أرجاء المعسكر، وأُحصي جميع مَن اختلطوا بالجندي المصاب وعُزِلوا على الفور. ولاحقا عُيِّنت فِرَق فحص على أبواب الثكنات لاكتشاف أعراض الحمى لدى الجنود وحتى الموظفين المدنيين الذين طُلِب من العديد منهم البقاء في منازلهم، في الوقت الذي أُغلِقت فيه الصالات الرياضية وصالة البولينغ وملعب الغولف المُلحَق بالمعسكر، فضلا عن إيقاف جميع الفعاليات الاجتماعية والترفيهية.

 

في ذلك التوقيت كان "كورونا" قد بدأ يخرج للتو من حدود الصين، وكانت كوريا الجنوبية تُسجِّل عددا متزايدا من الإصابات (يُقدَّر بالمئات)، أما بالنسبة للمدنيين في الولايات المتحدة فلم يكن الفيروس آنذاك يُمثِّل أكثر من خطر بعيد يتابعون أخباره باهتمام قليل عبر وسائل الإعلام، لكن بالنسبة للجيش الأميركي كان الأمر أكبر من ذلك بكثير، وكان الخطر حقيقيا وقريبا للغاية.

في تلك اللحظة كان لدى الولايات المتحدة أكثر من 75 ألف جندي يتمركزون في دول تشهد مستويات متباينة من تفشي المرض، بما يشمل كوريا الجنوبية واليابان وإيطاليا والبحرين، وكانت العديد من القواعد العسكرية الأميركية تقع بجوار المدن التي ينتشر فيها الفيروس، مع قدر كبير من الاشتباك مع المجتمعات المحلية عن طريق الموظفين المدنيين الذين تُعيِّنهم هذه القواعد، وسلاسل الإمداد التي توفِّر الطعام والأدوية وغيرها من الاحتياجات، بما يعني أن أي تفشٍّ واسع للمرض في محيط هذه القواعد يساوي وقتا قصيرا قبل أن تنتشر الإصابات في صفوف وحدات الجيش العاملة في الخارج، ومنها إلى سائر الوحدات عبر الأنشطة والتدريبات واللقاءات العسكرية.

 

كان سيناريو تفشي وباء بين صفوف الجيش الأميركي أحد المخاطر التي طالما أرَّقت صُنَّاع القرار هناك، حيث حذَّر(2) تقرير استخباراتي يعود تاريخه إلى عام 2000 من "الخطر الذي تُشكِّله الأوبئة على صحة المواطنين الأميركيين في الداخل والخارج، وتأثيرها على القوات العسكرية الأميركية المنتشرة خارج الحدود، وعلى الاستقرار السياسي للبلدان التي تمتلك فيها الولايات المتحدة مصالح كبيرة". فيما نصَّ تقرير لاحق على أن العلاقة بين "تفشي الأوبئة وعدم الاستقرار السياسي هي علاقة غير مباشرة ولكنها حقيقية للغاية"، مُحذِّرا من أن "القوات العسكرية الأميركية العاملة في المهام الإنسانية وعمليات حفظ السلام في البلدان النامية هي الأكثر عُرضة للخطر".

 

بخلاف ذلك وبشكل أكثر حداثة سُلِّط الضوء(3) على مخاطر تفشي الأوبئة على الأمن القومي الأميركي في الصفحة الثامنة من إستراتيجية الأمن القومي لإدارة الرئيس السابق "دونالد ترامب" الصادرة نهاية عام 2017، فيما أكَّد تقييم التهديدات العالمية الصادر عن مجتمع الاستخبارات الأميركي في يناير/كانونَ الثاني 2019، أي قبل عام كامل من بدء تفشي فيروس كورونا، أن الولايات المتحدة والعالم يظلَّان عُرضة لوباء الإنفلونزا القادم الذي "ربما يؤدي إلى مستويات هائلة من الوفيات والعجز ويؤثر بشدة على الاقتصاد العالمي ويضغط على الموارد الدولية"، حتى إن جريج تريفرتون، المدير السابق لمجلس الاستخبارات الوطنية الأميركي، أكَّد أنه خلال تمرين استخباراتي عُقِد قبل عقد من الزمان لتقييم مستوى التهديدات المختلفة للجيش الأميركي، فإن التهديد الوحيد الذي صُنِّف في مرتبة التهديد الوجودي هو انتشار الأوبئة، مُتقدِّما بذلك على الإرهاب ومخاطر الصراع مع أي قوة أجنبية.

ونتيجة لذلك، كان الجيش الأميركي بعكس إدارة ترامب حسَّاسا جدا في ردود أفعاله وتعامله منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها وباء كورونا في الانتشار، وفي 25 فبراير/شباط من العام الماضي أبلغ "ماثيو دونوفان"، رئيس الأركان المؤقت للجيش الأميركي، قادة الجيش أن استمرار تفشي كورونا يُمثِّل تهديدا للقوات الأميركية حول العالم، وبالتزامن مع ذلك بدأ البنتاغون في تنفيذ خطة(4) طوَّرها في عام 2005 لمكافحة أي تفشٍّ محتمل، وشمل ذلك تعليق وإعادة جدولة وتقليص المشاركة في معظم المناورات العسكرية للجيش، وعلى رأسها تمارين "Defender 2020" التي كان من المُقرَّر أن تشهد أكبر انتشار عسكري للقوات الأميركية في أوروبا منذ الحرب الباردة، فيما أُغلِقت مكاتب التوظيف المرتبطة بوزارة الدفاع، وأُغلِقت المدارس العسكرية التي حوَّلت طلابها للدراسة عبر الإنترنت، فيما أُغلِقت المسارح وصالات الرياضة وحتى الكنائس الصغيرة في معسكرات الجيش، ووُجِّهت سفن البحرية لمهامَّ طارئة مُمارسةً أنشطتها بالقرب من موانئ البلدان المُصابة لتبقى في البحر لمدة 14 يوما بدون رسو، فيما بدأ البنتاغون في تنفيذ عملية تقليص وإعادة انتشار واسعة للقوات المتمركزة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

 

في الوقت نفسه بدأ الجيش الأميركي كذلك الاستعدادات للمشاركة في عمليات إجلاء المرضى وفرض الحجر الصحي والمساعدة في توفير الإمدادات الطبية في الداخل، وهو ما تسبَّب في إثارة الكثير من المخاوف حول التأثير المُحتمَل للأزمة على قدرات الجيش، حيث يخشى مراقبون أن طول أمد تفشي الوباء والفرص المتزايدة لانتشاره بين صفوف الجنود، مع انهماك الكثير من الوحدات العسكرية حول العالم في أعمال الحماية المدنية، والتأثيرات الاقتصادية للوباء على الموازنات العسكرية، وآثار سياسات الحجر الصحي المُوسَّعة على سلاسل التوريد العسكرية، كلها عوامل ستُلقي بظلال طويلة الأمد على القدرات العسكرية للجيوش في معظم دول العالم، وربما تتسبَّب على المدى الطويل في تغييرات طويلة على خرائط الانتشار العسكري والتوازنات العسكرية القائمة بين مختلف القوى الدولية والإقليمية.

 

عنوان ميدان

لطالما كانت الحروب والأوبئة شركاء(5) منذ الأزل، فعلى مدار التاريخ ظهرت العديد من الأوبئة التي رُبِط انتشارها بالحروب والصراعات في جميع أنحاء العالم خاصة في المناطق الفقيرة، وتصطف هذه الأوبئة في قائمة طويلة تشمل التيفوس ومرض شاغاس وحمى الضنك وداء الليشمانيا وفيروس زيكا وحتى وباء الإيبولا، لكن المثال الأبرز على هذه الظاهرة هو الإنفلونزا الإسبانية، فرغم مرور أكثر من عقد على تفشي المرض، فإن الوباء الذي حصد أرواح أكثر من 50 مليون شخص حول العالم لا يزال يُقدِّم لنا درسا صريحا حول التفاعل المُتبادل بين الأوبئة وبين الصراعات وتحرُّكات الوحدات العسكرية حول العالم.

فعلى الرغم من القناعة السائدة اليوم على نطاق واسع، بسبب التسمية، حول كون المرض نشأ في إسبانيا، فإن وباء الإنفلونزا الشهير الذي اجتاح العالم خلال عامَيْ 1918-1919 بدأ(6) في ولاية كانساس الأميركية مطلع عام 1918، حين أبلغ الطبيب لورينج مينر عن أول حالة من نوعها من الإنفلونزا القاتلة في مقاطعة هاسكل جنوب غرب كانساس، ومن المُرجَّح بعد ذلك أن الشباب الذين غادروا مقاطعة هاسكل للخدمة العسكرية في معسكر فونستون في شرق كانساس حملوا الفيروس معهم إلى ثكنات الجيش، فبحلول أوائل شهر مارس/آذار من العام المذكور أُبلغ عن مئات الحالات والعديد من الوفيات في المعسكر الضخم الذي يسع 50 ألف جندي، الذي غادره آلاف الجنود لاحقا إلى معسكرات في جميع أنحاء الولايات المتحدة ومنها إلى أوروبا، حيث يُرجَّح أن الفيروس وصل إلى فرنسا مطلع إبريل/نيسان، وشقَّ طريقه عبر الجنود إلى ألمانيا والنمسا ومنهما إلى الدول السلافية في أوروبا الشرقية.

 

في غضون أسابيع قليلة كانت سفن النقل العسكرية قد حملت المرض(7) إلى جميع أنحاء العالم، ومع انتشار الوباء في مناطق جديدة فقد تحوَّر وزادت شراسته، وتطوَّرت نسخته الأولى التي كان يُطلَق عليها في البداية "إنفلونزا الأيام الثلاثة" في معسكر فونستون، مع معدل وفاة لا يتجاوز 2% فقط، إلى نسخة أكثر ضراوة مع معدل وفيات وصل إلى 10% في الهند وأماكن أخرى، لدرجة الاعتقاد أن الوفيات الضخمة بسبب الإنفلونزا في صفوف الجيوش تسبَّبت في إنهاء الحرب العالمية الأولى مبكرا.

 

خلال الحرب العالمية الثانية واجهت الولاياتُ المتحدةُ وجيوشُ الحلفاءِ على وجه التحديد سيناريو مشابها(8) إلى حدٍّ كبير، وكان تفشي التيفوس، أو ما يُعرف باسم "الحمى النمشية"، واسع النطاق ومُدمِّرا بشكل ملحوظ، خاصة خلال سنوات حملة الحلفاء العسكرية في شمال أفريقيا، حيث سُجِّلت أكثر من مئة ألف حالة إصابة بالمرض في بلدان الحملة، خاصة في مصر التي سجَّلت بين عامَيْ 1941-1943 أكثر من 72 ألف حالة، إلى درجة أن الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت أنشأ لجنة خاصة نهاية عام 1942 للسيطرة على تفشي المرض.

 

وخلال حملة "جوادالكانال" التي خاضتها القوات الأميركية ضد جيش اليابان الإمبراطوري؛ عطَّلت الأمراض الاستوائية نحو ثلثَيْ قوة الفرقة البحرية الأولى، وقد ساهم ذلك في قرار سحب الفرقة وأدَّى إلى توقُّف الحملة في نهاية المطاف. ولم يقتصر تأثير تلك الأمراض على ذلك فحسب، وإنما ترك حجم التفشي الفرقة غير فعالة لأشهر طويلة بعد الحملة. ولاحقا، أثناء معارك سانسابور حول جزيرة غينيا الجديدة الهولندية، أصاب التيفوس 135 جنديا فجأة، وسرعان ما أخرج فوج المشاة الأول من القتال بالكامل مُتسبِّبا في مشكلات إستراتيجية هائلة.

مشاة البحرية الأمريكية خلال حملة جوادالكانال (نوفمبر 1942). (مواقع التواصل)
مشاة البحرية الأمريكية خلال حملة جوادالكانال (نوفمبر 1942). (مواقع التواصل)

وبالمثل تسبَّب(9) الالتهاب الكبدي في مشكلات كبيرة لقوات الحلفاء أثناء الحرب. فعلى سبيل المثال، خسرت بعض أفواج الجيش البريطاني في مسرح العمليات حول البحر المتوسط الكثير من فعاليتها بسبب المرض، ولم تكن الأمور أفضل حالا بكثير بالنسبة إلى الجيش الأميركي، حيث أصاب الالتهاب الكبدي قُرابة 200 ألف شخص في مسارح الصراعات حول الشرق الأوسط، وتسبَّب في حاجة 16.7% من إجمالي عدد الجنود إلى أشكال مختلفة من العلاج الطبي، لدرجة أن الجيش اضطر لتشكيل لجنة خاصة للتعامل مع الأمر، ورغم أن المرض كان معروفا جدا قبل سنوات الحرب، فإن النماذج التخطيطية السابقة لم تأخذ في الاعتبار احتمالات تفشي المرض بخطورة.

 

في هذا السياق، يمكن القول إن هناك ثلاث طرق رئيسة يمكن أن تتفاعل بها الأمراض والأوبئة مع حركة الجيوش والصراعات العالمية والإقليمية: ففي الحالة الأولى غالبا ما يتحوَّل الجيش نفسه إلى ناقل رئيس يتسبَّب في تفشي المرض وانتقاله من مكان إلى آخر أثناء العمليات القتالية الواسعة، كما حدث مع الإنفلونزا الإسبانية، وفي الحالة الثانية من الممكن أن تتسبَّب(10) الصراعات نفسها في نشوء الأمراض أو تفاقمها بسبب تدمير البنية التحتية والصحية، ودفع المدنيين إلى الملاجئ المُكتظَّة مما يُسهِّل انتشار المرض كما حدث خلال موجة تفشي التيفوس في نابولي بإيطاليا منتصف الأربعينيات. وأخيرا، تُوفِّر الأدوار الحديثة للجيوش النظامية في زمن السِّلْم النسبي طريقة ثالثة للتفاعل بين الأوبئة والجيوش العسكرية، مع ميل العديد من الدول للاستفادة من الأعداد الضخمة لقواتها المسلحة وقدراتها التقنية والتنظيمية عبر وضعها في الخطوط الأمامية لمواجهة الأوبئة لتخفيف الضغط على المدنيين المُنهكين، وهو ما يمكن أن يكون له آثار بعيدة المدى على موازين الحروب والصراعات، ويرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى الطريقة التي يمكن أن يُؤثِّر بها انتشار الأوبئة على المدى الطويل على الجاهزية العسكرية للقوات وقدرتها على الانتشار وخوض الصراعات العسكرية في المستقبل، فضلا عن التأثير طويل المدى لتفشي الأمراض على كفاءة سلاسل التوريد العسكرية التي أصبحت ركنا لا غنى عنه لعمل الجيوش الحديثة.

 

عنوان ميدان

تُعَدُّ هذه الطريقة الثالثة للتفاعل بين الجيوش والأوبئة هي المصدر الرئيس للقلق بشأن التأثيرات المُحتمَلة لفيروس كورونا المستجد على قدرات الجيوش وموازين القوى العسكرية حول العالم، ففي الوقت الذي تُلقي فيه العديد من الجيوش العالمية أسلحتها وتستعد للعب دور رئيس على الخطوط الأمامية لمواجهة المرض، أو أنها قد بدأت بالفعل؛ في ذلك الوقت فإن الآثار طويلة الأمد لانتشار الوباء على الاستعداد العسكري للجيوش والجاهزية العسكرية للقوات ربما تكون مُدمِّرة.

فمع ارتفاع معدلات الإصابات والوفيات بسبب كورونا في الأسابيع الأولى من بدء انتشار المرض أوائل العام الماضي؛ نشرت الدول الأوربية الموبوءة مثل إيطاليا وإسبانيا الآلاف من الجنود في المدن بهدف عزل المناطق المصابة والقيام بدوريات في الشوارع لفرض عمليات الإغلاق والحجر الصحي ونقل جثث الموتى في الشاحنات العسكرية، في حين أن دولا مثل المجر ولبنان وماليزيا وبيرو والأردن وتونس استخدمت(11) الجيوش لفرض حالات حظر التجوال الصحي وإجبار المواطنين على المكوث داخل منازلهم.

لم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، حيث تولَّت الجيوش في العديد من الدول مهامَّ غير تقليدية في دعم القطاعات الحيوية، فبَنَتْ جيوش الصين والولايات المتحدة وفرنسا مستشفيات ميدانية لاستيعاب الحالات الحرجة، في حين تولَّت القوات المسلحة في العديد من الدول مسؤولية تأمين سلاسل الإمداد للأغذية والمنتجات الطبية.

 

ولكن في حين أن العديد من الحكومات ومنظمات المجتمع المدني في الدول الديمقراطية شعرت، وما زالت، بقدر كبير من عدم الارتياح إزاء عمليات الإغلاق التي يفرضها جنود مُدجَّجون بالسلاح؛ فإن القوات المسلحة لأي دولة تتمتع غالبا ببراعة لا تُضاهى في تنفيذ عمليات لوجستية معقدة خلال أوقات قليلة، ولديها الكثير من القوى العاملة المُدرَّبة والمنضبطة والمركبات الثقيلة والخبرة الكبيرة في نقل الأشياء من مكان إلى آخر. فعلى سبيل المثال، نجد أن قيادة النقل في وزارة الدفاع الأميركية لديها القدرة على القيام بـ 1900 مهمة جوية و10 آلاف مهمة نقل بري خلال أسبوع واحد، وهو ما جعل الاستعانة بالجيوش وقتها خيارا لا غنى عنه للكثير من الدول، ودلَّ على ذلك ما أعلنته بريطانيا في مارس/آذار للعام الماضي عن قوة قوامها 20 ألف شخص لدعم جهود احتواء المرض، وتوفير الرعاية للفئات الأكثر ضعفا، فيما دُرِّب عسكريون آخرون على قيادة ناقلات الأكسجين، وفي الولايات المتحدة نفسها نُشِرت قوات الحرس الوطني في ولايات كاليفورنيا ونيويورك وواشنطن لأداء واجبات مماثلة في الفترة نفسها.

وغالبا ما تكون الجيوش في وضع جيد يسمح لها بمساعدة أنظمة الرعاية الصحية المدنية المرهقة، ويرجع ذلك لسبب رئيس هو أن الجيوش تحتفظ بمخزون كبير من الأدوات الطبية الحيوية التي تتجدَّد باستمرار لاستخدامها في أوقات الطوارئ الكبرى. فمثلا مع تفاقم الأزمة الصحية في الولايات المتحدة، وعد البنتاغون بتسليم خمسة ملايين قناع تنفسي وأكثر من 2000 جهاز تهوية لإدارات الولايات الفيدرالية، بخلاف وعود بتعبئة خطوط إنتاج الجيش لتلبية حاجات القطاع الصحي كما حدث في إسرائيل، حيث أنتجت الوحدات التقنية التابعة لجيش الاحتلال وجهاز الاستخبارات العسكرية "أمان" أقنعة ذكية، كما عملت تلك الوحدات على دعم وتطوير أجهزة التنفس الصناعي، فيما سخَّر مختبر العلوم الدفاعية البريطانية جهوده لتطوير واختبار لقاحات مختلفة ورسم خرائط المواجهة مع المرض، وبالمثل عمل الجيش الأميركي على 24 مشروعا مختلفا لاختبار لقاحات للمرض مع العديد من الشركات الخاصة وفق ما أكَّدته(12) مجلة إيكونوميست.

 

وبالإضافة إلى ذلك فإن الأطباء العسكريين مؤهلون جيدا للتعامل مع كمٍّ كبير من الفوضى وسط نقص البنية التحتية والموارد، وربما يكون ذلك هو ما دفع الصين إلى تسليم السيطرة(13) على الإمدادات الطبية في مقاطعة "هوبي" المنكوبة كاملة لجيش التحرير الشعبي الذي نجح أيضا في بناء أربعة مستشفيات ميدانية مُجهَّزة في زمن قياسي، وهي تجربة رغبت العديد من الجيوش الغربية في محاكاتها، حيث عمل الجيش الفرنسي في مقاطعة مولوز في الشرق على بناء مستشفى ميداني للحالات الحرجة، وبالمثل على نطاق أوسع عمل(14) الجيش الأميركي على بناء مستشفى ميداني كبير في مركز مؤتمرات جافيتس في نيويورك يتسع لقُرابة 3000 سرير.

 

وفي حين أنه من المفهوم أن تسعى الدول للاستفادة من القدرات اللوجستية والتنظيمية والتقنية وحتى القدرات الطبية لقواتها المسلحة في الأوقات الصعبة، فإن الحقيقة التي يُدركها الجميع أن القوات المسلحة مُصمَّمة قبل كل شيء لأداء المهمات العسكرية والقتال، ومع توغُّل هذه القوات في الأعمال المدنية مثل ضبط الشوارع وفرض حظر التجوال على المدنيين وشحن وتوصيل الطعام والمواد الطبية؛ فإن ذلك سيُؤثِّر بلا شك على استعدادها العسكري بطرق مباشرة وغير مباشرة.

على المستوى الأكثر مباشرة، ورغم أن الأفراد العسكريين نظريا يتمتعون باللِّياقة البدنية والصحية التي تجعلهم يمتلكون فرصا أفضل للتغلُّب على الآثار الصحية للفيروس مقارنة بنظرائهم من المدنيين؛ فإنه لا يمكن لأحد الجدال بأن عمل العسكريين على الخطوط الأمامية لمواجهة المرض يزيد من فرص تفشي الوباء في صفوفهم، خاصة مع وجود تقارير سابقة أشارت إلى تضرُّر قوات الحرس الثوري في إيران مثلا في مارس/آذار للعام الماضي تضرُّرا بالغا بفعل كورونا، وهو ما اضطر الحرس(15) وقتها لإعلان وفاة وإصابة العديد من أعضائه فيما سمَّاه "الجهاد الصحي ضد المرض". ولا يُعَدُّ تكرار مثل هذا السيناريو مع الجيش الأميركي أو أيٍّ من الجيوش الأوروبية مُستبعَدا، وهو ما عضَّده اتجاه الجيش الأميركي في الفترة نفسها لإخفاء رُتب ومواقع الضباط المصابين بالوباء بعد ارتفاع عدد المصابين من العسكريين بدعوى منع تقويض الكفاءة التشغيلية لمهمات الجيش، قبل أن يصبح الأمر غير قابل للإخفاء خاصة مع انتشار الفيروس السريع، لتصل حالات الإصابة داخل الجيش الأميركي بأفرعه كافة الآن إلى أكثر من ربع مليون حالة كوفيد مستجد.

 

وحتى مع تجاهل الآثار الصحية المباشرة للوباء، فمن المُرجَّح أن استمرار تفشي كورونا سيكون له عواقب طويلة الأمد على القدرات العسكرية للجيوش النظامية. فهناك التباعد الاجتماعي الذي يفرضه الحجر الصحي، الذي يتناقض مع أبسط مبادئ التدريبات والتحرُّكات العسكرية وهو حاجة الضباط والجنود إلى العمل معا في أماكن ضيقة وتحت ضغوط جسدية شاقة وبدون مسافات شخصية كبيرة، وكذلك حاجتهم إلى السفر لإجراء المناورات العسكرية مع أقرانهم من الجيوش الحليفة في مختلف أنحاء العالم، وهو ما يُعَدُّ مستحيلا حتى الآن نظرا لإلغاء معظم التدريبات والمناورات العسكرية الكبرى وتأجيلها لوقت غير محدَّد.

 

نتيجة لذلك، يمكن أن نتوقَّع تأثيرات بعيدة المدى على كفاءة الجيوش العسكرية مع استمرار القيود المفروضة على التدريبات والمناورات القتالية في جميع أنحاء العالم، كما فعلت بريطانيا التي أوقفت سابقا جميع التدريبات الأساسية للمجندين الجدد، وكذلك النرويج التي ألغت مناورات عسكرية مشتركة مع واشنطن ودول أوروبية بعد فترة وجيزة من فرض الحجر الصحي على 23 جنديا أميركيا بسبب اختلاطهم بزميل نرويجي، أما الولايات المتحدة فقد وجدت نفسها مضطرة خلال فترة قصيرة إلى إلغاء مناورات مشتركة مع كلٍّ من كوريا الجنوبية وإسرائيل وتونس والمغرب، مع تقليص نطاق المشاركة في العديد من التدريبات الحيوية الأخرى وعلى رأسها مناورات "Defender 2020" التي كان من المُنتظَر أن تستضيفها ألمانيا وبولندا ودول البلطيق.

ومع توقُّف التدريبات والمناورات العسكرية لفترة طويلة، من المُقرَّر أن تفقد الجيوش لِياقتها القتالية وتناغمها وكفاءة التشغيل البيني بين وحداتها تدريجيا خلال فترة ليست كبيرة، فمع معدل للدوران العسكري للمجندين والقيادات الوسيطة يُقدَّر بـ 25% سنويا في معظم الجيوش الاحترافية حول العالم -بما في ذلك الجيش الأميركي- حيث يعمل أعضاء الخدمة بعقود مدتها أربع سنوات ليحل محلهم المجندون الجدد؛ فإن الأمر لن يستغرق أكثر من أشهر قليلة قادمة قبل أن يُمثِّل انحسار المهارات أزمة حقيقة لجيوش الدول الكبرى.

 

وهناك أيضا مشكلة تقليص الانتشار العسكري الذي تفرضه زيادة المخاوف من تفشي الأوبئة، وقد كان هذا النوع من التداعيات ملموسا بوضوح لدى البنتاغون في العديد من المسارح العالمية، وخاصة في العراق، حيث تُشير بيانات عسكرية إلى أن 2500 جندي أميركي غادروا العراق خلال الأسابيع الأولى من انتشار فيروس كوفيد المستجد، في الوقت الذي يُعيد فيه الجيش الأميركي انتشاره مُتمركزا في ثلاث قواعد فقط من أصل ثماني قواعد تأوي قواته على الأراضي العراقية.

 

وبالمثل أعلنت فرنسا وقتها عن سحب جميع عسكرييها الموجودين في العراق البالغ عددهم مئتي شخص عمل معظمهم في مهام تدريب القوات العراقية وفي رئاسة أركان التحالف الدولي في بغداد، في الوقت الذي قرَّرت فيه بريطانيا تقليص عدد جنودها في البلاد (400 فرد) بمقدار النصف، وهي خطوات تعني -حال وُضِعت جنبا إلى جنب مع إلغاء المناورات العسكرية العابرة للحدود- أن الوباء سيُلقي بظلاله أيضا على التحالفات العسكرية الراسخة، حيث ستفقد الجيوش المتحالفة قدرتها على العمل جنبا إلى جنب بشكل ملحوظ.

جنود فرنسيون يرتدون أقنعة واقية، ينصبون الخيام في مستشفى ميداني بالقرب من مستشفى مولوز حيث تواجه فرنسا تطورًا حادًا لفيروس كورونا (رويترز)
جنود فرنسيون يرتدون أقنعة واقية، ينصبون الخيام في مستشفى ميداني بالقرب من مستشفى مولوز حيث تواجه فرنسا تطورًا حادًا لفيروس كورونا (رويترز)

على المدى الطويل، سيظل التأثير الاقتصادي للأوبئة على صناعة الدفاع والميزانيات العسكرية حاضرا لفترة طويلة بعد تفشي "كورونا"، فمع اتجاه معظم الاقتصادات العالمية إلى الانكماش بسبب تدابير مواجهة تفشي المرض المستمرة للآن؛ من المُرجَّح أن يتأثر الإنفاق الدفاعي للعديد من البلدان نتيجة لذلك، دافعا بعض القوى لتقليص وجودها في بعض الصراعات خارج حدودها، بما يعني أننا قد نشهد تسارعا في خطط الانسحاب الأميركي من أفغانستان كما شهدنا انحسارا نسبيا للوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا، خاصة مع بدء ظهور آثار الاضطراب في سلاسل التوريد العسكرية بفعل تفشي الفيروس، خاصة في قطاع الطيران العسكري الذي سيواجه مشكلات كبيرة بسبب ارتباطه مع صناعة الطيران المدني التي شهدت انهيارا غير مسبوق ما زال يُلقي بظلاله عليها حتى اللحظة، وحتى قطاع البحرية الذي سيحظى بنصيبه من الركود أيضا مع توقُّف أنشطة أحواض السفن الكبرى في دول مثل أوروبا وكندا.

 

ورغم أن هذه الآثار غير التقليدية لتفشي فيروس كورونا من المُرجَّح أن تُصيب معظم الجيوش والقوى العسكرية حول العالم، فإن ذلك لا يعني أنها ستُصيبها جميعا بالقدر نفسه أو في وقت متساوٍ، أو أنها جميعا ستتعافى منها بالسرعة نفسها، وفي حين أن كورونا ضرب جميع أنحاء العالم بالتسلسل، فمن المُرجَّح أن الدول التي شهدت تفشيا مبكرا للمرض ونجحت في التعافي منه بسرعة ستكون أول المستفيدين من هذا الوضع العسكري الجديد، وفي مُقدِّمة هذه الدول تأتي الصين التي من المُرجَّح أن تسعى لتعزيز حضورها في مواجهة الولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي مستغلةً الانشغال الأميركي في مواجهة كورونا.

 

في السياق ذاته، يمنح التعافي المبكر للصين من الوباء الفرصة لاستثمار دبلوماسيتها العسكرية لتعزيز نفوذها داخل صفوف القوات المسلحة في جميع أنحاء العالم من خلال تقديم المساعدات التقنية والتدريبات وربما الأسلحة في غياب الحضور الأميركي، وهي ميزة ربما تكون متاحة أيضا لروسيا التي شهدت تفشيا محدودا للوباء حتى الآن مقارنة بدول أخرى، وهو ما سمح لها بإرسال طائرات نقل عسكرية مُحمَّلة بالمواد المطهرة إضافة إلى ثمانية ألوية طبية وفريق كامل مع علماء الفيروسات والأوبئة للمساعدة في احتواء المرض في المناطق الأكثر تضرُّرا من إيطاليا في العام الماضي، في سعي واضح من موسكو وقتها لاستغلال تفشي الوباء لتعزيز نفوذها في أوروبا في ظل الغياب الأميركي.

وأخيرا، فمن المؤكد أن الجهات الفاعلة غير الحكومية ستكون أبرز المستفيدين من التراجع المتوقَّع للجيوش النظامية، فبسبب طبيعتها غير المتكافئة فإن هذه المنظمات لن تواجه النوع نفسه من الأعباء والمسؤوليات والتحديات اللوجستية التي تواجهها الجيوش، وبالنظر إلى الطبيعة غير المركزية لعملها والأخطار المتواصلة التي يتعرَّض لها منتسبوها، فستكون مخاطر الإصابة بالأمراض في ذيل قائمة التهديدات التي تُحيط بهذه الجماعات التي ربما يتحوَّل كورونا بالنسبة إلى بعضها إلى فرصة لا تُقدَّر بثمن، سواء لتخفيف الضغوط العسكرية التي تتعرَّض لها من الجيوش المحاربة أو حتى لاكتساب مِساحات جديدة على الأرض.

 

في المقابل، من المُرجَّح أن يكون الجيش الأميركي -وبنسبةٍ أقلَّ جيوشُ الدول الكبرى في غرب أوروبا- أكبر المتضررين من عملية التموضع العسكري التي يفرضها تفشي كورونا، فمع كون واشنطن هي القوة الأكبر عالميا والأكثر حضورا في مسارح الصراعات الممتدة على مساحة تبلغ آلاف الأميال في البر والبحر، فمن المنطقي أن نتوقَّع أن يواجه الجيش الأميركي صعوبات في الحفاظ على الكفاءة التشغيلية في جميع هذه المسارح، بما قد يضطره للانسحاب من بعضها وتقليص الحضور في البعض الآخر، مانحا الفرصة ربما للقوى الإقليمية لتعزيز حضورها في صراعات الشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادئ، بما يُمهِّد الطريق -ربما- لإعادة رسم خارطة التوازنات والقوى العسكرية في عالم ما بعد كورونا.

——————————————————————————————–

المصادر

  1. For American Military, Coronavirus Is an Enemy to Be Fought
  2. US military scrambles to cope with global ‘threat’ posed by coronavirus
  3. The US Military Coronavirus Response
  4. PANDEMICS AND THE FUTURE OF MILITARY TRAINING
  5.  How War and Crisis Help Spread Diseases Like Zika
  6. (The Influenza Pandemic and The War
  7. The U.S. Military and the Influenza Pandemic of 1918–1919
  8. How World War II spurred vaccine innovation
  9. WAR IN THE TIME OF CORONAVIRUS: TO PREPARE FOR GREAT-POWER CONFLICT, PLAN FOR EPIDEMICS
  10. Deadly comrades: war and infectious diseases
  11. Corona as Security Threat: Mideast States Call Out Army
  12. Armies are mobilising against the coronavirus
  13. How China’s military took a frontline role in the coronavirus crisis
  14. Army helps make temporary hospital at New York’s Javits Center one of the largest in the country
  15. Iran Faces Many Consequences of the Coronaviru
المصدر : الجزيرة