الوجود الصيني في الجزائر.. هل تدخل بكين أفريقيا من بوابة الكبار؟
رغم انتهاء إنشائه في (إبريل/نيسان) للعام الماضي 2019، فإن "الجامع الأعظم" المُقام على أرض العاصمة الجزائرية "مدينة الجزائر"، والمعروف بكونه ثالث أكبر مسجد في العالم بعد الحرمين الشريفين بالسعودية، قد تأجَّل افتتاحه حتى (نوفمبر/تشرين الثاني) 2020 كما أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بنفسه خلال زيارته للمسجد في 20 من (أغسطس/آب الماضي)، وللوهلة الأولى، يبدو المسجد الذي بدأ بناؤه قبل ثماني سنوات، في (مايو/أيار) عام 2012، على مساحة 200 ألف متر مربع بسعة أكثر من 120 ألف مُصلٍّ، يبدو إنجازا معماريا جزائريا خالصا، لكن الثابت أن المسجد قد بُنِي من قِبَل شركة هندسة البناء الحكومية الصينية بتكلفة بلغت مليار دولار.
يُعَدُّ المسجد، وغيره علامات كبرى على اهتمام الصين المتزايد بالجزائر التي قد تُعتبر أحد أهم المواطن الصينية مستقبلا في أفريقيا، حيث تواصل بكين تنويع محفظتها من خلال إضافة استثمارات ضخمة بالمنطقة، وتتبع سياسة إعطاء المساعدات التنموية ببذخ وتوسيع مبيعاتها العسكرية هناك وبالمنطقة المغاربية عموما، لكن ذلك لم يكن وليد اللحظة، بل تُعَدُّ الجزائر، أكبر منتج نفطي في شمال أفريقيا وأحد أكبر منتجي النفط بالقارة، شريكا إستراتيجيا بالغ الأهمية للصين منذ حقبة تاريخية تتجاوز النصف قرن، شراكة جعلت انضمام الجزائر لبعض اتفاقات الصين الخاصة بمبادرة الحزام والطريق العملاقة (BRI) أمرا يسيرا، المبادرة التي تُعَدُّ أحد أضخم المشروعات العالمية حاليا التي تشمل إنشاء بنية تحتية رئيسة تربط بين 71 دولة بخطوط سكك حديدية عالية السرعة، وخطوط أنابيب غاز ونفط، وطرق برية سريعة، وشراكة قد تسمح للصين بمدّ مواطن نفوذها في إحدى أهم دول الشمال الأفريقي على الإطلاق.
أدركت بكين مبكرا أهمية أفريقيا في السياسة العالمية، لذا حرصت بدرجة كبيرة على استباق العالم بالاعتراف بجبهة التحرير الوطني في الجزائر وبالحكومة المؤقتة التي أعلنتها الجبهة عام 1958 قبل أي دولة غير عربية أخرى، وقد باركت الصين مطالب الثورة الجزائرية وزوّدت الجبهة بالسلاح من أجل نيل الاستقلال عام 1962، وقدّمت بعثات طبية وقروضا للحكومة الجديدة، وعنيت بتسويق نفسها كونها طرفا دوليا "غير استغلالي" مستفيدة من احتقان شديد بين معظم الشعوب الأفريقية من الاستعمار الغربي الذي يُنهكها ويستولي على مواردها بشكل واسع النطاق.
في البداية، نبعت بعض الدوافع الصينية من اعتبارات سياسية قائمة على مساعدة دول العالم النامي، ومن بينها الجزائر، مقابل الحصول على دعم دولي متراكم لسياسة "صين واحدة" التي تعتبر تايوان جزءا من الصين، وكذا مقابل دعم الصينيين للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن، لكن تلك الدوافع لم تكن في مجملها سياسية، وقادها النفط بوصفه عاملا أساسيا كون الجزائر أحد أكبر منتجي النفط والغاز في العالم، وسرعان ما تزايد دور الصين في صناعة النفط الجزائرية بشكل مطّرد، وبحلول عام 2002 حدث أول اختراق صيني حيوي حين سهّلت الجزائر دخول شركات بكين لسوقها، فتعاونت شركة "سينوبك" الصينية مع شركة "سوناتراك" الجزائرية المملوكة للدولة في أول مشروع لتطوير حقل نفط "زارزيتين" جنوب شرق البلاد بتكلفة زادت على نصف مليار دولار، وبلغ نصيب "سينوبك" 75% من إجمالي الاستثمار.
مع حلول عام 2014 ارتقى مستوى العلاقة بين البلدين إلى شراكة إستراتيجية شاملة، شراكة دفعت الشركات الصينية تجاه قطاع الإسكان ثم مشاريع البنية التحتية الأكبر (تحظى الجزائر بـ 6% من إجمالي الاستثمار الأجنبي الصيني في أفريقيا)، كتوسيع السكك الحديدية والطرق السريعة، وأنشأت الصين ميناء شرشال الجزائري بوصفه أحد أهم الموانئ البحرية هناك، وامتد الأمر لإنشاء المطار الجديد في الجزائر العاصمة، والملعب الأولمبي في وهران، وأنشأ الصينيون أيضا أكبر سجن في البلاد، ومع وجود بيئة عمل سلسة وغير معقّدة مضت الشركات الصينية نحو توسعة أنشطتها في قطاعات التعدين وإنتاج الأسمنت وتصنيع المعدات.
كانت الجزائر، كونها ثالث أكبر اقتصاد أفريقي بعدد سكان بلغ 44 مليونا مطلع العام الحالي، سوقا كبيرة ومغرية للصينيين الذين أداروا أعمالهم التجارية في جميع أنحاء البلاد حتى أصبحت أحد أكبر مجتمعات الصينيين المغتربين في القارة، واحتفظت بذلك الزخم رغم توجُّه الحكومة الجزائرية نحو الحدِّ من تدفُّق العُمّال الصينيين، ولدى الجزائر حاليا واحدة من أكبر الجاليات الصينية في أفريقيا والشرق الأوسط (نحو 70 ألف صيني طبقا لتعداد العام الماضي)، وهي جالية تُوفِّر التمويل والعمالة الرخيصة لتطوير البنية التحتية بمستوى لا تستطيع حتى الولايات المتحدة وأوروبا منافسته.
لكن واحدة من أهم العلاقات القديمة بين الجانبين تَمثَّلت في التعاون العسكري الذي بدأ بين عامي 1958-1962، حين اختارت بكين الانخراط في أفريقيا فجعلت الجزائر جسرا لمساندة حركات التحرر الوطني هناك. فعلى مر السنين، وبينما كانت دول شمال أفريقيا وجهة أساسية للأسلحة الصينية بنصيب 49% من صادرات العملاق الآسيوي للقارة ككل، كانت الجزائر المشتري الأول بين تلك الدول، وقد بدأ ذلك التعاون أيضا بتدريب ضباط عسكريين جزائريين في الصين، وإنشاء ملحق دفاعي في السفارة الجزائرية ببكين عام 1971.
ومع تطور الصناعات الدفاعية الصينية في الأعوام الأخيرة، واصلت الجزائر في السنوات الماضية وحتى الآن تعاونها العسكري مع بكين التي باعت للمنظومة الدفاعية الجزائرية أسلحة متنوعة، وتُعتَبر الجزائر الآن ثالث أكبر مشترٍ للأسلحة الصينية في العالم، فكانت أول دولة أفريقية تستورد أنظمة الصواريخ الصينية المضادة للسفن من نوعَيْ "C-802/CSS-N-8″، وكذا راجمات متعددة الصواريخ من نوع "إس-أر 5" التي لديها القدرة على إطلاق صواريخ موجَّهة، ومدافع هاوتزر ذاتية الدفع "LZ45" عيار 155 ملم (سُلِّمت عام 2014) وتُستخدم في التدريبات التكتيكية، وفي آخر تعاون عسكري زوَّدت بكين الجزائر بأنظمة صواريخ متطورة من الجيل الثالث "HJ-12" المضادة للدبابات بوصفها أول دولة أفريقية تحصل عليها.
وسط 27 فدانا هي مساحة المقبرة الأميركية الوحيدة في شمال أفريقيا الواقعة في مدينة قرطاج التونسية؛ وقف وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر يوم 30 سبتمبر/أيلول الماضي محاطا بشواهد قبور قتلى بلاده الذين سقطوا في الحرب العالمية الثانية، ومتحدثا عن أهمية الشراكة الدائمة بين بلاده والجزائر كونها مفتاحا لمواجهة تحديات شمال أفريقيا، وعن أن الجيش الأميركي حريص على الاستمرار في الاهتمام بشدة بمنطقة المغرب العربي رغم التقارير التي تتحدث عن سعي البنتاغون لتقليص وجوده في القارة كلها، وقد ركَّز إسبر -الذي سبقه لزيارة الجزائر وفد عسكري روسي- على إرسال رسائل خاصة شديدة المباشرة في خطابه إلى كلٍّ من الصين وروسيا، قائلا إن "الصين وروسيا تواصلان تخويف وإكراه جيرانهما مع توسيع نفوذهما الاستبدادي في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك هذه القارة"، حد تعبيره.
ينبع الخطاب الأميركي من حقيقة إدراك أن نظام الهيمنة الغربي ومتطلباته يدفع الجزائر ودول الشمال الأفريقي نحو تأسيس شراكات اقتصادية وسياسية وعسكرية مع قوى أخرى أقل في متطلباتها كالصين وروسيا، خاصة أن الصين مثلا توسَّعت في ثقلها الاقتصادي والعسكري في الجزائر وغيرها دون أن تتدخل في الشؤون الداخلية لتلك البلاد بالقدر الغربي نفسه، ورغم أن الجزائر الآن تبدو وكأنها في فترة الانفتاح على خيارات تنويع شركائها، فإن إحدى أهم العقبات التي تواجهها بكين في الجزائر هي صراعها الكبير مع باريس التي لا تزال تسعى لتأمين موطئ قدم راسخ لها هناك، وتستنكر باستمرار التحرُّكات الصينية التي سحبت منها بساط امتيازات المستعمر القديم أولا، ثم امتيازات الشريك الإستراتيجي ثانيا، فقد كانت فرنسا قبل عام 2013 هي المستثمر والشريك الاقتصادي رقم واحد للنظام الجزائري لسنوات عديدة بحجم تجاري قُدِّر بـ 8 مليارات يورو سنويا، وعُدَّت فرنسا سابقا المستثمر الأول (بدون قطاع المحروقات) بوجود 450 مؤسسة لها في الجزائر تُوفِّر 40 ألف وظيفة مباشرة و100 ألف وظيفة غير مباشرة للجزائريين في مختلف القطاعات كالصيدلة والنقل وصناعة السيارات وغيرها.
نتيجة لما سبق، كان الغضب الفرنسي واضحا في مواقف عديدة، منها إبداء مجلس الشيوخ الفرنسي في تقريره لشهر مارس/آذار عام 2018 انزعاجه من التقارب الصيني الجزائري على الصعيدين الاقتصادي والفضائي، واعترضت باريس لدى التكتل الأوروبي بعدها بشهر واحد على منح الجزائر امتيازات للصين غير مُبرَّرة على حساب "عدم احترام الجزائر للاتفاقات التجارية مع اتحاد القارة العجوز" حد تعبير مفوضة التجارة الأوروبية "سيسيليا مالمستروم"، فقد قرَّرت الجزائر قبلها بعامين حظر استيراد أكثر من 800 منتج أوروبي وفرض نظام "رخص الاستيراد" عام 2016، وهي عبارة عن رخص إدارية اعتمدتها لكبح فاتورة الواردات الضخمة التي تعدَّت 64 مليار دولار عام 2014، وهدف النظام بالفعل إلى تقليل الواردات الأوروبية لصالح الواردات الصينية الأقل جودة لكنها أقل سعرا أيضا.
علاوة على ما سبق، وعلى مرأى الفرنسيين والدول الغربية، تُواصِل الصين التغلغل أكثر وأكثر في مجالات متعددة في الجزائر بمباركة القادة السياسيين للبلاد الذين اعتُبروا حتى سنوات قليلة مضت حلفاء قصر الإليزيه المفضلين في الشمال الأفريقي، وكما قال مؤخرا وزير الاتصال والناطق باسم رئاسة الجمهورية الجزائرية محمد أوسعيد بلعيد فإن "الجزائر لا يهمها مَن ينزعج من هذه العلاقة (مع الصين)، وسياسة الجزائر الخارجية وإستراتيجيتها واضحتان في هذا المجال"، حد تعبيره، ولم تكن معارضة الجزائر لباريس مُتعلِّقة بالعلاقات الاقتصادية فقط، لكن النظام السياسي الجزائري دعم مواقف ترفضها باريس والاتحاد الأوروبي تماشيا مع بعض خطوط السياسة الصينية الخارجية، كمعارضته التدخُّل العسكري الفرنسي في ليبيا، أو عمليات التحالف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن، وساند النظام السوري في توافق تام مع بكين التي تدعو لحل سلمي وحوار خلاف الدول الغربية وفرنسا.
في إبريل/نيسان الماضي، عنونت السفارة الصينية في الجزائر خبر إعلان وصول 20 طنا من المساعدات الطبية الصينية لمواجهة فيروس كورونا بـ "الصين والجزائر خاوة خاوة" على حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو شعار مستقى من الشعار الشهير الذي ردّده الجزائريون في الحراك الشعبي الذي اندلع في فبراير/شباط 2019 عندما رفضوا ترشُّح الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة مع تأكيدهم تلاحم الشعب مع الجيش، فصدحت أصواتهم بالقول "جيش، شعب، خاوة خاوة".
ورغم أن تلك المساعدات لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة بطبيعة الحال، حيث تتوالى خلال جائحة كورونا المساعدات الصينية على الجزائر، من الوفود الطبية والمعدات والتجهيزات من كمامات وقفازات وأجهزة تنفس اصطناعي ومعدات تشخيص الوباء وغيرها، رغم ذلك فإن الجهود الصينية في الفترة الأخيرة تتكاثف حتى في تكرار تأكيد عمق العلاقات الثنائية بين البلدين، وهو ربما ما يفتح المجال للحديث عن عهد جديد بينهما، ويعطي دفعة قوية لمشروعات مشتركة في إطار مبادرة الحزام والطريق العملاقة (BRI).
كان خير تعبير عن ذلك ما كتبه السفير الصيني بالجزائر "لي ليان خه" في مقاله الطويل في 30 سبتمبر/أيلول الماضي والمنشور بالعربية في بعض المواقع الجزائرية عن أن العام الحالي "لا يمكن وصفه في ظل المسار التاريخي الذي تعرفه العلاقات الودية الاستثنائية بين الصين والجزائر سوى أنه عام للألوان الرائعة"، حد تعبيره. وفي المقابل، فإن الجزائر معنية أيضا بالتحوُّل نحو شرقٍ أقل في هيمنته بمراحل كبيرة من الغرب، وتنخرط الجزائر الآن في تعاون متكامل مع بكين بقناعات راسخة بأن العلاقات مع جهات أخرى كالاتحاد الأوروبي كانت مُضرَّة بالمصالح التجارية لها، بينما يستفيد الجانب الأوروبي بشكل أكبر بكثير.
يُعلِّق الباحث والأستاذ في جامعة ورقلة جنوب الجزائر "مبروك كاهي" لـ "ميدان" بأن الجزائر التي تملك الساحل الأكبر في غرب المتوسط، وتوجد فيها منطقة اقتصادية وفق القانون البحري الدولي الجديد هي الأكبر في غرب المتوسط، حيث ميناء الحمدانية الذي يبعد 60 كلم غرب الجزائر العاصمة وسيكون الأكبر في حوض المتوسط الغربي؛ هي ما تحتاج إليه الصين ضمن إستراتيجية طريق الحرير، كما أن الجزائر بوابة حقيقية باتجاه منطقة غرب أفريقيا، حيث لها حدود جنوبية شاسعة، وستكون منصة حقيقية تنطلق منها الصين لغزو الأسواق الأفريقية.
في 11 من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، لم يرحل وفد الحزب الشيوعي الصيني -الذي زار الجزائر بعد أيام من زيارة وزير الدفاع الأميركي- قبل أن يضمن رسميا وضع قدم بلاده على الخطوة الأولى لضمِّ الجزائريين لطريق الحرير الجديدة المعروفة بـ "مبادرة الحزام والطريق"، وتَمثَّل ذلك بتوقيع اتفاقية تعاون اقتصادي وتقني بينهم وبين الوكالة الصينية للتعاون الدولي من أجل التنمية، وهي اتفاقية مهَّدت لها تصريحات جزائرية رسمية متتالية.
استقبلت اليوم رئيس هيئة التعاون الدولي الصينية. وتبادلنا الحديث في كيفية تطوير التبادلات الثقافية، واقتراح عدد من المشاريع الثقافية التي أبدى رئيس الهيئة استعداد بلده التكفل بإنجازها في إطار التعاون تعزيزا للعلاقات، وفي خضم الذكرى 60 لإرساء العلاقات التاريخية بين الجزائر والصين. pic.twitter.com/dTme3gnlVT
— azzedine mihoubi (@azzedinemihoub3) January 9, 2019
ورغم تلك الاتفاقية، يمكننا اعتبار اتفاقية بناء ميناء حاويات المياه العميقة في الحمدانية (بولاية تيبازة) التي موَّلتها مجموعة من البنوك الصينية عام 2016 بـ 6 مليارات دولار هي البداية الحقيقية لانضمام الجزائر للمشروع الصيني العالمي، إذ تُمكِّن الاتفاقية بكين من أن تضع يدها في المستقبل القريب على ما سيُعتَبر أكبر ميناء جزائري، وبما أن مشاريع البنى التحتية والموانئ ومسارات الشحن هي عنصر أساسي في مبادرة الحزام والطريق، فإن خطة التعاون الصينية الجزائرية الخمسية الجديدة "2019-2023" تُقدِّم بالفعل فرصا ومزايا عديدة للصين.
تُتيح مشاريع كتلك للصين أولا أن تمد جذورها في بوابة الشمال الأفريقي الغنية وتُعزِّز وجودها على حوض البحر الأبيض المتوسط، لكن الأهم أنها تسمح لها بمد نفوذها على حدود أوروبا الجنوبية، ويبدو أن خطوات بكين القادمة ستُركِّز على شق الطرقات البحرية، على غرار ميناء شرشال التجاري، وكذلك زيادة الاستثمار في الموارد الطبيعية كالمعادن، وتحديدا اليورانيوم، حيث توجد اتفاقية تعاون صيني جزائري بشأن التنقيب عنها واستغلالها، لكن مقابل المكسب الصيني فإنه ينبغي للجزائريين بالأحرى تحديد إستراتيجية طويلة الأجل، ربما تمتد لعقدين، لتكون قادرة على الاستفادة من فرص مبادرة "الحزام والطريق" الصينية بشكل يُوازي الاستفادة الصينية منها قدر المتاح.
هناك أسباب قد تُعرقل ذلك، منها ما يتعلَّق بممارسات بعض الشركات الصينية العاملة في الجزائر، حيث ينتشر في بيئاتها بعض أوجه الفساد من رشوة واختلاس وأيضا رداءة عمل، ومن جهة أخرى قد تُشكِّل السياسات الجزائرية الداخلية عائقا آخر أمام تطور العلاقات الثنائية. فرغم تمكُّن الجزائر حتى من مقاومة موجات انتفاضات الربيع العربي التي وصلت إليها العام الماضي، ولجوئها للإنفاق الهائل على الأجور من عائدات النفط لتهدئة تلك الموجات، فإنها في نهاية المطاف وبعد استنزاف عائدات صندوق الثروة السيادي لن تستطيع الإفلات من المعاناة الاقتصادية، خاصة مع استمرار انخفاض أسعار النفط الذي ساهم في إعاقة النشاط الاقتصادي ودفع النظام لسياسات تقشُّف كتجميد التوظيف في القطاع العام، ووقف بعض مشاريع البنى التحتية، مما يزيد من مخاطر الاضطرابات وغيرها من الاحتجاجات، خاصة أن النخبة السياسية والعسكرية والاقتصادية في الجزائر غير مستعدة على الأرجح للتخلّي عن سيطرتها على الاقتصاد السياسي للبلاد، الأمر الذي سيعوق الطموحات الصينية عن تحقيق أهدافها الكاملة هناك.
بيد أن اندلاع الاحتجاجات الجزائرية في 2019 بسبب الأزمات الاقتصادية يُرجِّح أن بكين ستحافظ على دعمها للحكومة الجزائرية، مقابل ضمان عدم انقلاب الحكومة الحالية، وأي حكومة جديدة قادمة، على معظم المشاريع والأنشطة الصينية في البلاد، ومع أهمية تفادي العقبات المحتملة الواردة سابقا، يتضح لنا أن بكين ستجتهد في السنوات القادمة أكثر لترسيخ روابطها السياسية والاقتصادية مع دول منطقة شمال أفريقيا الإستراتيجية، وفي مقدمة تلك الدول الجزائر، ومن المُرجَّح أن يستمر مسار العلاقات الصينية الجزائرية في اتباع مسار مختلف وأكثر تطوُّرا عن علاقات الصين مع البلدان الأخرى في أفريقيا، وهو ما سيُثير حفيظة الأوروبيين والأميركيين بشكل متزايد وربما سيجعل من المغرب العربي ساحة مواجهة جديدة بين بروكسل وواشنطن وبكين، ساحة ثرية لن تتركها الصين تنفلت بأي حال على الأرجح.