"من القصر إلى السجن".. لماذا سيضر تسليم البشير للمحكمة الدولية الثورة السودانية؟

منذ اندلاع الحراك الذي أصبح لاحقا يُعرف باسم "انتفاضة السودان" في ديسمبر/كانون الأول من عام ٢٠١٨، كاد عمر البشير، الرجل الذي حكم البلاد بقبضة حديدية منذ قرابة ٣٠ عاما، أن يتوارى كُليًّا عن الأنظار. في ١١ أبريل/نيسان، أي بعد أربعة أشهر من الاحتجاجات الآخذة في الاتّساع، أزيح البشير بانقلاب أبيض. في البداية، لم يفصح النظام عن مكان وجوده، رغم أن بعض التقارير أفادت أنه كان قيد الاحتجاز في القصر الرئاسي في الخرطوم. انتشرت شائعات تفيد بأن البشير كان قد عقد صفقة مع وزير الدفاع السابق أحمد عوض بن عوف، قائد الانقلاب، للتنحي مقابل عدم تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية. ولكن أيًّا كانت الضمانات التي حصل عليها البشير فإنها لم تدم طويلا، إذ إنه تحت ضغط المتظاهرين، قام الجيش بتنحية ابن عوف بدوره، بعد يوم واحد فقط في السلطة، واستبدال الفريق عبد الفتاح عبد الرحمن برهان به.
بحسب التقارير، قام النظام الجديد بنقل البشير إلى كوبر، وهو سجن في الخرطوم يتمتّع بالحراسة المشدّدة، حيث كان يتم اعتقال وتعذيب الآلاف من السجناء السياسيين خلال فترة حكم البشير الاستبدادية الطويلة. لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت فترة سجنه هناك ستطول لتُماثل فترات السجن التي كان يعطيها البشير لخصومه السياسيين، إذ إن مصير البشير، مثل مصير البلاد، لا يزال لغزا غامضا.
لكن حالة عدم اليقين المحيطة بوضع البشير منذ الإطاحة به كانت، بطريقة ما، متوقعة. فالبشير يُعدّ من أكثر الطغاة غموضا مقارنة بأولئك الذين سقطوا خلال موجة الاحتجاج الطويلة الثالثة في أفريقيا، والتي بدأت في نهاية العقد الأول من القرن الحالي، وبلغت ذروتها في عام ٢٠١١، قبل أن تكتسب زخما وقوة متجددين خلال العامين الماضيين. وعلى العكس من عبد العزيز بوتفليقة، الرئيس السابق للجزائر الذي أُطيح به قبل أسابيع فقط من الإطاحة بالبشير والذي سيرتبط اسمه باسم البشير إلى الأبد في المخيال الشعبي، لم يلهم الطاغية السوداني السابق الكثير من الولاء داخل السودان. كما أن المجتمع الدولي لم ينظر إليه على أنه قائد مهم، على الرغم من تمسكه بالسلطة لفترة طويلة.

قد تكون صورة البشير المبهمة إلى حدّ كبير مصمّمة عمدا لتكون كذلك. مثلا، يتحدث البشير الإنجليزية بطلاقة، لكنه لم يجرِ مقابلة مع الصحافة الناطقة بالإنجليزية قطّ. وقد يكون غموضه إستراتيجية متعمّدة ساعدت البشير على ضمان سلطته في بلد لطالما طغت عليه الانقسامات. في هذا السياق، مكّنه غموضه الأيديولوجي واستعداده لإقامة شراكات انتهازية من البقاء في السلطة من خلال استغلال أزمة فراغ القيادة والهوية القومية في السودان. أما اليوم، يثير هذا الإرث تساؤلات كثيرة حول كيفية التعامل الأمثل مع هذا الشخص المكروه من الجميع، وسط حالة اللا يقين والفرحة برحيله. بمعنى آخر، ما سوف يحدث للبشير سيحمل عواقب كبيرة جدا على مستقبل السودان نفسه.
تتوافق السير الذاتية الرسمية و"النعوات" السياسية للبشير على عدد من الحقائق الأساسية حول شخصه، منها أنه وُلد لعائلة بدوية متواضعة في منطقة نهرية شمال البلاد قبل دخوله الجيش ثم صعوده عبر صفوفه حتى تمت ترقيته إلى رتبة قائد، ولكن بخلاف ذلك، لا يُعرف سوى القليل عن حياته الشخصية، وما يعرف عنه فعلا من الصعب توفيقه مع شخصيته الرسمية. مثلا، لا يُعرف عنه بذخه على عكس الدكتاتوريين الآخرين في أفريقيا، على الرغم من أنه ترأس نظاما معروفا بفساده، وجمع ثروة شخصية يُشاع أنها بالمليارات. على الرغم من سمعته المستحقة التي اكتسبها في مجال جرائم الحرب والإبادة الجماعية الوحشية، فإنه يعد رجل عائلة مخلصا (ليس لديه أطفال ولكنه ساعد في تربية أطفال زوجته الثانية). وعلى الرغم من أنه حكم السودان لمدة ثلاثة عقود، فإن القليل من السودانيين يبكون رحيله، حتى أولئك الذين استفادوا من سخائه، مثل الجيش والنخبة الاقتصادية الضيقة في البلاد.
لم يكن البشير أول حاكم عسكري سوداني يتم إسقاطه بانتفاضة شعبية، إذ لقي حاكم السودان السابق، جعفر النميري، المصير نفسه في عام ١٩٨٥. خلال حكمه الذي دام ١٤ عاما، تذبذب النميري بين الاشتراكية والوحدة العربية قبل أن يستقر على الإسلاموية كأفضل أيديولوجية لضمان قبضته على السلطة. احتضن جماعة الإخوان المسلمين وفرض الشريعة الإسلامية، وهي قرارات أدت إلى اضطرابات واسعة النطاق وأشعلت الحرب في الجنوب، والتي شقت البلاد في نهاية المطاف إلى نصفين في عام ٢٠١١.

مثل النميري، وصل البشير إلى الساحة السياسية مباشرة من الجيش. بعد فترة فاصلة مدتها أربع سنوات من الحكم المدني، استولى البشير على السلطة في عام ١٩٨٩، وقام بالتحالف مع الزعيم السياسي الإسلامي الشعبوي حسن الترابي. على مدى العقد الذي تلا تلك الأحداث، كان المراقبون الداخليون والخارجيون على حد سواء يرون الترابي الماكر، الذي يحمل درجة الدكتوراه من جامعة السوربون، على أنه الحاكم الفعلي الذي يتحكّم بدميته البشير. تحت إشراف الترابي، عمل النظام على محو التنوع الديني والعرقي في السودان من خلال برامج التعريب والأسلمة، التي لم تحظ بالتأييد الشعبي، من القاعدة إلى القمة. لكن صداقة الترابي مع بعض الإسلاميين، بمن فيهم أسامة بن لادن، أثارت الشقاق داخل السودان وحوّلته إلى دولة منبوذة دوليا. بدأ البشير بعدها، على أمل تحسين وضع بلاده، بالتفاوض سرا مع المسؤولين في الولايات المتحدة، الذين حذروه من مغبّة الاستمرار في دعم الإسلاميين المتطرفين. قرّر البشير، الرجل المتمسّك دوما بالسلطة، فك التحالف مع الترابي وقام باعتقاله في عام ٢٠٠٠.
في هذه الفترة، ظهر إلى الضوء اسم علي عثمان طه، وزير الخارجية السابق الذي أصبح أوّل نائب رئيس في تاريخ السودان. وقف طه، الذي كان القائد المدني للحركة الإسلامية، إلى جانب البشير بعد انفصاله عن الترابي. اعتبر المراقبون لشؤون السودان عن كثب طه على أنه "القوة الحقيقية في الخرطوم"، إذ كان مسؤولا عن الإشراف على حملة مكافحة التمرد الوحشية في دارفور التي أدت إلى مقتل أكثر من ٢٠٠ ألف مدني. وقام طه بالتفاوض شخصيا على اتفاق السلام الشامل الذي أنهى الحرب الأهلية في السودان مع الزعيم الجنوبي، جون قرنق، في عام ٢٠٠٥ وفي مؤتمر السلام في الخرطوم، كان طه، لا البشير، من وقّع الاتفاق نيابة عن الشمال.
على الرغم من دور طه، فقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكّرات اعتقال ضد البشير فقط دون غيره، في عامي ٢٠٠٩ و٢٠١٠ بتهمة "الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب". كان دور طه محوريًّا في حملة دارفور، لكن لم يتم توجيه مثل هذه التهم إليه. انتشرت شائعات بين الجهات الإقليمية في حينه تقول بأن طه كان يتحرك لإزاحة البشير والحلول محلّه كرئيس، وفقا لتقارير نشرتها ويكيليكس. لكن البشير نجح مرة أخرى في إزاحة منافسه، فقام تخفيض رتبته خلال تعديل وزاري عام ٢٠١٣. مع انفصال جنوب السودان، وزوال التهديد السياسي والعسكري الذي شكّله التمرد الجنوبي، تعزز موقف البشير. طوال عقد من الزمن بعدها، لم يواجه أي تحدٍّ كبير آخر لسلطته حتى ظهور حركة الاحتجاج التي أطاحت به في أبريل/نيسان.

في خضم المواجهة الغاضبة اليوم بين الحكام العسكريين الذين يقاومون أي تنازل عن السلطة وبين المحتجين الذين ما زالوا يدفعون باتجاه انتقال فوري بقيادة مدنية، فإن سؤال ما الذي يجب فعله بالبشير قد يبدو وكأنه سؤال ثانوي. لكن تجاهل هذه القضية قد يؤدي إلى عواقب طويلة الأجل. لقد فشل السودان مرتين من قبل في ترجمة ثورة شعبية إلى ديمقراطية مستقرّة. كانت المشكلة الأساسية دائما هي عدم قدرة البلد على صياغة هوية وطنية شاملة، والتي أدّى غيابها إلى قيام النخب السياسية باستغلال الانقسامات العرقية والدينية لضمان حكمها. حتى حركة الاحتجاج، التي تتمتع بقاعدة عريضة ومتنوعة، تكافح اليوم في بلورة رؤية وطنية تتجاوز مطلب استبدال حكومة يقودها مدنيون بالجيش.
إن الكيفية التي سيتعامل بها النظام الجديد مع البشير يمكن لها إمّا أن تعزّز وإما أن تقوّض هدف توليد شعور وطني جامع. دعا العديد من المراقبين الدوليين النظام الجديد إلى تسليم الحاكم السابق إلى المحكمة الجنائية الدولية لتتم محاكمته، لكن مثل هذه الملاحقات القضائية تظل غير فعالة بشكل كبير، ورؤية البشير يعوق في العلن الجهود المبذولة لفضح جرائم نظامه لن تساعد السودان على تجاوز جراحه. كما أن لائحة الاتهام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية تقتصر على الجرائم في دارفور التي حدثت منذ أكثر من عقد ولا تتناول أيًّا من ممارسات النظام في أماكن مثل جبال النوبة، حيث قصف النظام القرويين من الجو، وفي جنوب كردفان، حيث أشرف النظام على عمليات وحشية لمكافحة التمرد على مدى سنوات، أو حتى في مدينة الخرطوم المترامية الأطراف نفسها، حيث قُتل المئات خلال موجات الاحتجاجات في عامي ٢٠١٢ و٢٠١٣.
كما قد يشخصن المدّعون في المحكمة الجنائية الدولية الأزمات المتداخلة في السودان من خلال وضع كافة اللوم على مشكلات السودان على ظهر فرد واحد. ويقول مراقبون مخضرمون مثل ألكس دي وال ومحمود ممداني أن المحكمة الجنائية الدولية قد تفشل حتى في إدانة البشير بأي جرائم بسبب النوعية الرديئة لكل من لائحة الاتهام، والتي تحتوي على أخطاء، ومضمونها. إذن، عوضا عن المحكمة الجنائية الدولية، يمكن للسودان أن يحاكم البشير محلّيا من أجل تجاوز المخاوف بشأن التحيز الموجود ضد الأفريقيين لدى المحكمة الجنائية الدولية، لكن يبقى من غير المرجح أن يُرضي أيٌّ من هذين الخيارين المحتجين الذين يطالبون بمحاسبة النظام بأكمله والمستفيدين منه وليس البشير وحده.

عندما أطيح بالنميري تم نفيه إلى مصر. يمكن طرد البشير بالمثل إلى دولة أخرى إلى جانب كبار المسؤولين. قد يكون البشير والمقرّبون منه في النظام كانوا يرغبون في مثل هذه النتيجة خلال الأيام الأولى من الانتقال. كانت أوغندا أول دولة فكّرت في استضافة البشير، لكنها دولة وقّعت اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائية الدولية. قد يلقى البشير ترحيبا في المملكة العربية السعودية أو دولة خليجية أخرى ليست ملزمة بتسليمه إلى المحكمة. قد يكون من مصلحة الحكام العسكريين الحاليين، الذين يصرون على الاحتفاظ بنفوذهم حتى إذا أتت حكومة مدنية، إبعاد البشير من البلاد، لكن من غير المرجح أن يقبل المحتجون أي حلّ لا تتم فيه محاسبة البشير وغيره عمّا اقترفوه في السودان.
إذا ما بقي البشير في السودان دون محاكمة، فقد يُمنح هو وشخصيات أخرى مرتبطة بالنظام بعض الحصانة كجزء من عملية "حقيقة ومصالحة" على الطريقة الجنوب أفريقية. هذا النهج قد يكون الأكثر صعوبة لكنه أيضا قد يحمل معه مزايا كبيرة. إذ يمكن أن تؤدي عملية الحقيقة والمصالحة إلى فتح نقاش وطني تم منعه منذ فترة طويلة حول الضرر الذي ألحقه نظام البشير بفئات معينة وبالمجتمع السوداني ككل على مدار العقود الثلاثة الماضية. من خلال مثل هذه العملية، قد يصبح السودانيون أخيرا قادرين على التعبير عن هوية وطنية تتجاوز أيدولوجية التفوق الديني والعرقي اللتين كانتا منذ فترة طويلة مصدرا للعديد من المشكلات التي عانى منها السودان. فعلى الرغم من أن السودانيين غالبا ما يثنون على التنوع الموجود في البلاد، فإن معظمهم يدرك أيضا أن المجتمعات المختلفة التي تعيش في هذه الدولة الشاسعة لا تعرف الكثير عن بعضها البعض. مثل هذا النقاش الوطني سوف يسمح للضحايا بتبادل قصصهم ويمكن أن يعمق التفاهم بين سكان السودان المختلفين. كما أنه سيعزز التعاطف المتبادل ويساعد السودانيين في صياغة الهوية الوطنية الشاملة والديمقراطية التي استعصت عليهم لفترة طويلة.
بالنسبة لعمليات الحقيقة والمصالحة، فإن لها ما لها وعليها ما عليها في البلدان التي جرّبتها. هذا فيما قد يُغضب أي نقاش حول العفو، أو تخفيف العقوبة على المرتكبين من النظام، الضحايا والمحتجين الذين يسعون إلى نوع من العدالة الانتقامية. لكن على الدول التي تسعى إلى تجاوز جراحها أن تواجه تاريخها المؤلم. إن فشل السودان في التصالح مع ماضيه، وفشله في بناء مشروع وطني شامل بعد الانتفاضتين السابقتين، هو ما سمح للجيش بالاستيلاء على السلطة بالمقام الأول. وهنا، قد تكون عملية حقيقة ومصالحة حقيقة هي أفضل السبل لمنع التاريخ من تكرار نفسه مرة أخرى.
—————————————————————-
ترجمة: كريم طرابلسي
هذا المقال مأخوذ عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.