"أحلام الفتى الطائش".. لماذا أوقف الملك سلمان اكتتاب أرامكو؟
قبل سبعين عاما من اليوم، وتحديدا في عام 1938، وقف "جيمس تيري دوس" نائب رئيس شركة كاليفورنيا للنفط مشدوها أمام شلالات النفط التي تدفقت أمامه للتو من البئر رقم 7 في مدينة الدمام على عمق كيلومتر ونصف تقريبا تحت الأرض الصحراوية في المملكة العربية السعودية(1)، كان ذلك المشهد إيذانا بدخول مملكة الصحاري رسميا عصر النفط، وخلال الأعوام التالية كان الذهب الأسود يعيد تشكيل المملكة كما لم تفعل أي قوة من قبل، صانعا ارتباطا فريدا بين السعوديين والمعجزة التي جاءتهم من باطن الأرض. لذلك، فإن شركة النفط العربية الأميركية "أرامكو" التي تأسست بعد ذلك بأعوام كانت أقرب لحلم وطني من كونها مجرد شركة، وحين نجحت المملكة في السيطرة على كامل أسهم الشركة مطلع الثمانينيات، كان ذلك أشبه بلحظة استقلال حقيقي للسعودية التي لم تعرف الاستعمار بشكله التقليدي على مدار تاريخها الحديث.
ولكن في 4 يناير/كانون الثاني عام 2016 استفاق السعوديون على محاولة غير مسبوقة لإعادة تشكيل حلمهم التاريخي ودرة تاج اقتصاد البلاد الوطني، حينما أعلن ولي ولي العهد السعودي آنذاك وولي العهد الحالي "محمد بن سلمان" لأول مرة، في مقابلة استغرقت خمس ساعات مع صحيفة "ذي إيكونوميست"، عن إمكانية طرح حصة أسهم لشركة "أرامكو" للاكتتاب العام(2)، وفي غضون بضع ساعات من نشر المقابلة أصدرت الشركة بيانا رسميا من قلب مقرها في الظهران شرق السعودية أكّدت فيه أنها تدرس إدراج الشركة في البورصات العالمية وبيع بعض أسهمها(3).
كان يُراد لعوائد الطرح، الذي كان مقررا له أن يتم في النصف الثاني من العام الحالي 2018، أن يصبح الوقود لما يمكن تسميته بثورة "تاتشرية" -نسبة إلى مارجريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطاني السابقة- في المملكة يقودها الأمير الشاب، وعلى مدار العامين التاليين انخرط المسؤولون السعوديون في جهود مكثفة مع البورصات الدولية والبنوك العالمية والسياسيين البارزين للإعداد والترويج للاكتتاب المنتظر، قبل أن تخفت وتيرة هذه الإجراءات بشكل مفاجئ في الأشهر الأخيرة التي كان من المفترض أن تشهد وضع اللمسات النهائية على الطرح.
فجأة، تم تعليق كل شيء، حيث أعلنت "أرامكو" عن تعليق خطتها للاكتتاب العام إلى أجل غير مسمى، وبدا أن أمرا يدور في كواليس غرف إدارة الشركة الحقيقية في القصور الملكية في الرياض، أمرا ربما تجاوز صلاحيات ولي العهد الشاب ذائع النفوذ حين شرع والده الملك سلمان نفسه في لقاءات بأفراد من الأسرة الحاكمة، ومصرفيين ومديرين كبار في قطاع النفط من بينهم رئيس تنفيذي سابق لشركة "أرامكو"، وفقا لوكالة رويترز(4)، لقاءات تمخضت في نهاية المطاف عن رسالة رسمية قصيرة ممهورة بتوقيع الملك وخاتمه، موجهة إلى الديوان الملكي بأمر واضح: إلغاء خطة طرح أسهم "أرامكو" محليا وعالميا، ليعيد الملك الأمور وابنه إلى نقطة الصفر من جديد.
راهن الملك وابنه على قدر كبير من رأس مالهما السياسي مقابل قدرتهما على تحويل اقتصاد البلاد من خلال فتح الباب لإحداث أكثر التغيرات دراماتيكية في سياسة المملكة الاقتصادية منذ بدء تأميم "أرامكو" في السبعينيات، إلى أن تم تجميد الطرح، لتتأكد حقيقة أن طرح "أرامكو" لم يكن مجرد طرح شركة للاكتتاب العام، وإنما تخطى حدود ما هو متوقع أو ما يمكن السيطرة عليه، وليفتح باب إلغائه أبواب الكثير من التكهنات بعلاقة الملك الحالية بولي عهده، لكن الأهم هو تسليط الضوء على خطوط حمراء سعودية أثيرة لم تكن لتظهر لولا ما حدث، خطوط يبدو أنه لا أحد قادر على تجاوزها حاليا، حتى الملك وابنه نفسيهما.
تُعد "أرامكو" شركة لا مثيل لها في العالم، إذ تفوق أرباحها -كما يشيع- أرباح أي شركة أخرى على كوكب الأرض بما في ذلك عملاق التكنولوجيا "أبل" وعملاق النفط الآخر "إكسون موبيل"، علاوة على أن مليارات الدولارات التي تضخها كل شهر؛ تدعم العقد الاجتماعي للمملكة منذ عقود في صورة منح سخية من الدولة مقابل الولاء السياسي الذي يحافظ على الاستقرار، ويمول ذلك السيل الدولاري الذي لا ينقطع أسلوب حياة مئات الأمراء السعاودة، لذا تُعد "أرامكو" درة التاج الملكي السعودي.
على بُعد أقل من ميل من الموقع الذي وجد فيه الجيولوجيون الأميركيون النفط الخام لأول مرة عام 1938، حيث يقع مجمع شركة "أرامكو" مترامي الأطراف في الظهران، وفي حين يعمل الرجال والنساء جنبا إلى جنب بطريقة يندر أن تُرى في أماكن أخرى من المملكة، يراقب العمال في مركز تحكم بدون نوافذ في عمق المجمع شاشات عملاقة تتعقب كل جزيء من النفط الخام ينتقل من حقول النفط، ومن خلال خطوط الأنابيب والمصافي، إلى ناقلات متجهة إلى نقاط منتشرة في جميع أنحاء العالم، حيث يشرف هذا القبو الخافت ذو الإضاءة المنخفضة على إنتاج واحد من كل ثمانية براميل نفط تباع من إجمالي الإنتاج العالمي(5). لذا، وباعتبارها أكبر منتج للبترول على الأرض، فإن "أرامكو" هي أحد مفاتيح النمو الاقتصادي العالمي الرئيسة. فمنذ أن تم حفر أول بئر ناجح قبل 80 عاما تقريبا، أنتجت الشركة 145 مليار برميل نفطي تم ضخها في الأسواق العالمية، وتدّعي الشركة أن لديها ما لا يقل عن 260 مليار برميل من الاحتياطيات المؤكدة، وهي كمية قادرة على تلقيم السوق العالمي بالنفط بمفردها لمدة سبع سنوات كاملة.
لذا، لم يكن مستغربا أن تُتداول مزحة لعقود طويلة بين الدبلوماسيين، للدلالة على ما تمثّله "أرامكو" للمملكة، بأن السعودية هي الشركة العائلية الوحيدة التي لها مقعد في الأمم المتحدة، مقعد فكرت الولايات المتحدة في الاستيلاء عليه أثناء حظر تصدير النفط العربي في السبعينيات خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول ضد الاحتلال الإسرائيلي، وفقا لوثائق المخابرات البريطانية السرية التي أشارت إلى أن واشنطن كانت تنظر في إمكانية السيطرة على حقول النفط التي تملكها الشركة بالقوة(6).
ظلّت المملكة تراكم الفوائض المالية الضخمة لـ "أرامكو" حتى استطاعت بناء جدار حماية قوامه أكثر من 500 مليار دولار متمثلا في "صندوق الثروة السيادي السعودي" الذي يهرول له الاقتصاد السعودي عند الأزمات، فحينما تعرضت الموارد المالية في الرياض للدمار بسبب انهيار أسعار النفط منذ منتصف عام 2014، حيث انخفضت الأسعار من 115 دولارا للبرميل إلى 27 دولارا في يناير/كانون الثاني عام 2015، كانت فوائض "أرامكو" هي الملاذ الأول الذي اتكأ عليه اقتصاد المملكة في تمويل عجز الموازنة الذي بلغ 98 مليار دولار للعام المذكور(7)، وما زالت صادرات النفط هي المصدر الأكبر لإيرادات السعودية، إذ تُمثّل نحو 90% من إجمالي الإيرادات.
إذن، كان مقررا لطرح "أرامكو" أن يكون أكبر طرح عام أولي في العالم، وكان طرح 5% من الشركة للاكتتاب العام، وفقا لتقييم مستهدف من قِبل "ابن سلمان"، يعني أن قيمته ستصل إلى 2 تريليون دولار، أي ضِعف تقييم السوق الحالي لأضخم شركة على الأرض في الوقت الحالي "أبل"، وربما تصل قيمة "أرامكو" حسب تقديره إلى 2.5 تريليون دولار، ومنه استهدف أن تجمع المملكة أكثر من 100 مليار دولار لتكوين صندوق ثروة سيادي جديد، وإنشاء أكبر شركة مدرجة في العالم، وتحويل مئات الملايين من الدولارات كرسوم إلى بنوك النخبة في وول ستريت. ولكن بعد مرور نحو عامين تبدو الأمور مختلفة تماما بعد أن جمّد الملك سلمان الأمر برمته بلا رجعة على ما يبدو.
رغم مباركة سلمان لفكرة ابنه غير المسبوقة في البداية، فإن علامات واضحة بدأت في الظهور منذ الشهور الأولى من عامنا الحالي 2018 أشارت إلى عكس هذا الاتجاه، ففي أبريل/نيسان الماضي وصلت الأخبار إلى أذرع "وول ستريت" القائمين على إعداد وتجهيز وجبة طرح "أرامكو" بتوقف دفع الرسوم المستحقة لهم نظير تجهيز الصفقة، كما أشارت مصادر إلى رويترز. ويبدو وقتها أن الشكوك بدأت تنتشر في أوساط المسؤولين السعوديين حول احتمالية عدم إكمال الطرح، فقرروا إيقاف دفع الرسوم لحين بت الملك سلمان في الأمر.
وفي يونيو/حزيران الماضي أيضا كانت هناك تحركات تجري داخل "أرامكو" تركّزت على حراس الطرح، حينما أتت الأوامر إلى "عبد الله بن إبراهيم السعدان"، الشاب الثلاثيني الذي كان يشغل منصب كبير المسؤولين الماليين وأحد المسؤولين التنفيذيين الكبار في الأعمال التحضيرية اليومية للاكتتاب، بنقله ليصبح رئيس الهيئة الملكية للجبيل وينبع، علاوة على نقل "معتصم المعشوق" وهو مسؤول تنفيذي رئيس آخر في مشروع الاكتتاب.
بدأت الشكوك تتحول إلى واقع حينما تمت دعوة العديد من البنوك -من بينها "جي بي مورجان" و"مورجان ستانلي"- لتقديم رؤية لمشروع آخر، لم يكن حول طرح "أرامكو"، وإنما تقديم مقترحات لاستحواذ "أرامكو" على حصة في شركة البتروكيماويات السعودية العملاقة "سابك" من صندوق الثروة السيادي التابع للمملكة. لم يكن يعني هذا الأمر سوى شيء واحد: لقد تعثر طرح أسهم "أرامكو" بالفعل، رأس حربة رؤية ابن سلمان الاقتصادية الشهيرة إعلاميا، وبدأ البحث عن بدائل لتمويل خطط الإصلاح الاقتصادي ورؤية 2030.
لم تكن تلك المشاهد لتفاجئ خبراء صناعة النفط بما في ذلك البنوك والشركات المالية القائمة على إعداد الطرح، فبالنسبة لشركة بحجم "أرامكو" تبدو دوما وكأنها صندوق أسود باعتبارها واحدة من أكبر الأسرار في أوساط التجارة العالمية، حيث تقتصر أسرارها على دائرة صغيرة من المديرين التنفيذيين والمسؤولين الحكوميين والأمراء؛ بالنسبة لكيان كذلك يصعب عليه تلبية معايير الشفافية الصارمة لدى البورصات العالمية لا سيما بورصة نيويورك التي يفضلها بعض المسؤولين السعوديين بما في ذلك ابن سلمان نفسه(8)، تفضيل يبدو أنه اتسق دوما مع ما يريده الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" أيضا، من حث المسؤولين السعوديين في الخفاء والعلن على طرح "أرامكو" في بورصة نيويورك، موضحا ذلك بشكل مباشر حين قال في خطاب ألقاه أثناء زيارته لليابان في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إنه يريد من العائلة المالكة أن تفكر بقوة في بورصة نيويورك أو ناسداك، وأنه تحدث مع الملك بشأن هذا الطلب(9)، وبالطبع لم يفته التدوين على موقعه المفضل للتواصل الاجتماعي "تويتر" مغردا: "سوف نقدر كثيرا للمملكة السعودية قيامها بالاكتتاب العام لـ "أرامكو" في بورصة نيويورك. إنه أمر مهم للولايات المتحدة"(10).
على أي حال، لطالما مثّلت السرية المحيطة بـ "أرامكو" تحديا مهما لمسألة الاكتتاب كما ذكرنا، فالشركة في المعتاد لا تفصح عن أي نوع من البيانات المالية، ولم تقم في الآونة الأخيرة إلا بإحضار مدققين مستقلين للتحقق من احتياطاتها التي تُعد نسبها أسرارا موضوعة تحت حراسة مشددة، ولا تُظهر المملكة سوى جزء بسيط من المعلومات حول تلك الاحتياطيات التي تُقدّرها الرياض بـ 260 مليار برميل، أي نحو 15% من احتياطيات النفط المؤكدة في العالم.
فضلا عن ذلك فإن الكثير من عمليات "أرامكو" يمكن أن يطلق عليها أنها "غير شفافة"، ففي شهر مايو/أيار للعام الماضي 2017 قال ابن سلمان للتلفاز السعودي الرسمي إن القرارات المتعلقة بإنتاج النفط والغاز والاستثمار "ستبقى في أيدي الحكومة السعودية بعد الاكتتاب العام، وستظل قرارات "أرامكو" خاضعة لسياسات "أوبك""، ما يعني أنها ستظل حتى مع الاكتتاب تحت سيطرة قبضة العائلة المالكة.
يؤثر ذلك النقص في الشفافية وسحابة الغموض تلك على قيمة "أرامكو"، فلا يمكن للمساهمين الكبار أن يُعرّضوا نظريا الشركة للخطر بترك القرارات المصيرية في أيدي الحكومة السعودية أو منظمة أوبك التي تأخذ في الاعتبار الجغرافيا السياسية وتوازن الأسعار العالمية وتسيطر المصالح السياسية للدول الأعضاء على قراراتها، لا سيما وأن المملكة هي العضو القيادي في المنظمة، وهو ما سينتج صراعات محتملة بين ما يصلح للحكومة في الرياض وبين ما يزيد من عوائد المستثمرين لأقصى حد، ويمكن اتخاذ عملاقي النفط "بتروبراس" البرازيلية و"روسنفت" الروسية -اللذين يعملان كذراعين سياسيين لحكومتيهما- كمثال ناصع، حيث انخفضت أسعار أسهمها لانخراطهما السياسي والفساد المتفشي فيهما(11).
تتواءم تلك الرؤية إذن مع ما صرحت به مصادر خاصة لرويترز من أن الشخصيات التي حاورها الملك قد أبلغته بأن الطرح لن يكون في صالح المملكة(12)، بل إنه قد يؤثر عليها سلبا، حيث إن الهاجس الرئيس لدى هذه الشخصيات، والذي دفع الملك إلى وقف الاكتتاب، كان هو أن الطرح سيدفع "أرامكو" للإفصاح الكامل عن كافة تفاصيلها المالية.
على الجانب الآخر، لطالما كانت القاعدة المألوفة رقم واحد في الاكتتابات الأولية هي ألا يتم الإفصاح عن القيمة المستهدفة من اكتتاب أسهم كيان ما إلا بعد البيع الفعلي لها، لا سيما حال كانت قيمة هذا الكيان تقيم بالتريليون كما روج لـ "أرامكو"(13)، أما في الحالة السعودية، ومنذ أوائل عام 2016 وحتى الأشهر القليلة الماضية، أجاد "ابن سلمان" ومن خلفه المسؤولون السعوديون كسر تلك القاعدة بامتياز، إذ أعلنوا في كل موضع عن قيمة للطرح تتراوح بين 2 و2.5 تريليون دولار. وعلى إثر ذلك ظهرت مشكلة رئيسة في التقييم هي الفجوة الواسعة بين هدف "تريليوني" دولاري طموح لـ "ابن سلمان" والذي قال إنه "غير قابل للتفاوض"، وبين ما يعتبره معظم المحللين والمستثمرين القيمة الأكثر واقعية للشركة، وهو رقم يتراوح لديهم بين 1 و1.5 تريليون دولار، وربما كانت تلك الفجوة بين ما تعتقده الأسواق من قيمة مستحقة لـ "أرامكو" وما تريده العائلة المالكة هو ما دفع "خالد الفالح"، وزير الطاقة السعودي، للقول في مايو/أيار الماضي إن "الشركة مستعدة للاكتتاب العام لكنّ المستثمرين لم يكونوا مستعدين"، وإنهم ينتظرون استعداد السوق للاكتتاب(14).
في أبريل/نيسان الماضي، نجحت "بلومبيرج نيوز" لأول مرة في اختراق بعض من سرية الشركة والكشف عن أول حسابات لـ "أرامكو" منذ تأميمها قبل 40 عاما، وشملت الوثائق المسربة النظام الضريبي للشركة، وأعطت الأرقام التي اطلعت عليها الوكالة للمستثمرين مجموعة من البيانات الأكثر شمولا حتى الآن لتقييم القيمة المحتملة لاكتتاب الشركة. أظهرت الحسابات أن "أرامكو" كانت الشركة الأكثر ربحية في العالم في العام الماضي، حيث حققت 33.8 مليار دولار من الدخل الصافي خلال الأشهر الستة الأولى لـ 2017 قبل الضرائب، ويتم توجيه الكثير من الأموال التي تولّدها الشركة للحكومة السعودية في صورة ضرائب وصلت إلى 50% علاوة على "إتاوات" عديدة. كما كشف الجزء المفتوح من الصندوق الأسود أن الشركة خالية تماما من الديون وتتمتع بتكاليف إنتاج صغيرة.
لكن، وفي خضم تلك البيانات الإيجابية، كانت هناك بضع حقائق ربما جعلت المستثمرين يأخذون خطوة للخلف وهي متعلقة بأكثر ما يطمحون إليه: الأرباح، حيث أشارت الأرقام إلى اعتماد السعودية على الشركة لتمويل الإنفاق الاجتماعي والعسكري علاوة على الإنفاق على أنماط حياة مئات الأمراء، وعلى قانون الضرائب الذي يقضي بارتفاع الضريبة مع ارتفاع أسعار النفط، وارتفاع نفقاتها الرأسمالية، لذا، وضعت تلك الحقائق عبئا ثقيلا على تدفقات الشركة النقدية، ومن ثم فمن المحتمل أن يحد ذلك من نطاق مدفوعات الأرباح بعد بيع الأسهم.
يعطينا التحليل الرقمي لتقييم "أرامكو"، الذي قام به "ليام دينينج" في وكالة "بلومبيرج" تفسيرا منطقيا لتلك الهوة بين التقييم الذي يريده الأمراء السعوديون وما تريده الأسواق. فبحسب "دينينج"، رئيس التحرير السابق لوول ستريت جورنال، وكاتب عمود ليكس الشهير في صحيفة فاينانشال تايمز، واستنادا إلى الافتراضات التي قام بها، والعمليات الحسابية المبنية على بيانات من موقع الشركة ومن الوثائق السرية التي حصلت عليها بلومبيرج نيوز، ومن تقرير حديث لشركة "سانفورد بيرنشتاين آند كو" الاستشارية العالمية، فإن الحصول على تريليوني دولار "يبدو أمرا صعبا للغاية"(15).
يشير دينينج نحو مسألة دقيقة في غاية الأهمية توضح كيفية نظر المستثمرين لمسألة الطروحات الأولية، إذ يعني الاكتتاب أو الخصخصة أن هناك "شيئا يتم مراجعته باستمرار" (16)، فإذا كانت قيمة التريليوني دولار التي يريدها السعوديون مبنية بالأساس على حجم الاحتياطيات الضخمة لـ "أرامكو"، فإن تلك الاحتياطيات هي من تقوّض هذا التقييم، لأن الاكتتاب العام في حقيقته هو بمنزلة تحوط ضد ضعف الطلب طويل الأجل على النفط. وبناء عليه فمن غير المنطقي بناء تقييم الشركة على إنتاجها لمدة 60 سنة قادمة وسط دخول النفط حقبة جديدة من المنافسة الأكبر بين المنتجين وأنواع الوقود الأخرى، ويتفق ما سبق مع التخوف الرئيس الآخر الذي دفع "سلمان" لوقف الاكتتاب، وفقا للمصادر التي تحدثت لرويترز، وهو تخوّف نقله له أفراد من العائلة المالكة ومصرفيون ومديرون كبار في قطاع النفط من وجود شكوك فيما أعلنه الابن من أن الطرح سيقدر "أرامكو" بمبلغ 2 تريليون دولار.
تأخذنا نقطة "دينينج" للإشارة إلى التغيرات الدراماتيكية المستقبلية المحتملة في سوق النفط العالمي، وهو أمر لطالما شكّل إرباكا للمسؤولين السعوديين أنفسهم، أو ما يمكن وصفه بمتلازمة تسليط ضوء مصابيح سيارة أمامية على أرنب وسط الطريق. فهناك قلق لدى مديري صناديق التحوط من أن قيمة حقول النفط يمكن أن تتضاءل مع قيام الحكومات بتكثيف جهودها للحد من استهلاك الوقود الأحفوري لمكافحة تغير المناخ، فكما تشير بلومبيرج فإن انتشار السيارات الكهربائية، على سبيل المثال، سيقلل من نمو الطلب على النفط على مدى العقدين المقبلين، علاوة على الضغوط التي تتعرض لها شركات النفط للتقليل من الانبعاثات الكربونية. وفي مايو/أيار الماضي حذّرت 60 مجموعة استثمارية عالمية -من بينها "ستاندرد لايف أبردين"، و"فيديليتي" للاستثمارات، و"ليجال آند جنرال"- شركات النفط في خطاب مفتوح من مخاطر الاحتباس الحراري "بصفتهم مستثمرين على المدى الطويل، يمثّلون أصولا تزيد قيمتها على 10.4 تريليون دولار"، ودعتهم لأن يكونوا أكثر شفافية حول كيفية تخطيطهم لتغيير عملياتهم كجزء من التحول العالمي إلى اقتصاد منخفض الكربون، في سابقة وضعت علامة في طريق التحول متوسط السرعة الذي يشهده العالم حاليا لاقتصاد غير نفطي(17).
ويبدو أن هذا الأمر يشغل بال مسؤولي "أرامكو" أيضا، ففي مقابلته التلفزيونية مع شبكة سي إن بي سي(18) قال الرئيس التنفيذي لشركة "أرامكو" "أمين الناصر" إن شركته تقوم بكل ما في وسعها "للحد من بصمتها الكربونية"، وإنه ليس قلقا للغاية من السيارات الكهربائية لأنه أمام العالم "عقود قبل أن تشكل السيارات الكهربائية نسبة كبيرة من أسطول السيارات العالمي الحالي"، وهو تصريح يأتي على خلفية أن 70% من كل برميل خام لـ "أرامكو" يستخدم في البنزين والديزل ووقود المحركات.
لكن في ظل إعلان عمالقة صناعة السيارات في العالم مثل جنرال موتورز وفولفو ومرسيدس عن خطط للتخلص التدريجي من السيارات التي تعمل بالبنزين، ومع دخول صناعة السكك الحديدية منذ أيام قليلة مرحلة جديدة حين أعلن عملاق صناعة السكك الحديدية الفرنسية "ألستوم" عن بدء تسيير أول قطار ركاب في العالم يسير بالطاقة الهيدروجينية بديلا عن الديزل في شمال ألمانيا(19)، ومع نمو سوق الطاقة البديلة بسرعة كبيرة؛ ربما لا تبدو حسابات "الناصر" المستقبلية بتلك الدقة، وربما أتى الوقت أسرع من ذلك بكثير. لذا، يبدو أن المسؤولين السعوديين محاصرون بين مطرقة تخوف المستثمرين من تراجع الطلب المستقبلي على النفط، وبالتالي التأثير على تقييم "أرامكو" بأقل من قيمتها المستهدفة، وبين سندان مخاطر الانتظار وعدم التحوط ضد ضعف الطلب في الأجل الطويل. إلا أنه من المحتمل أن تدفع مخاطر الانتظار الرياض في النهاية -وبعد كل ذلك- لإتمام الاكتتاب قريبا، مع محاولة تجنّب تخوفات المستثمرين باختيار أقرب توقيت مناسب، وهو توقيت ربما سيتزامن مع وصول أسعار النفط إلى سعر يتراوح بين 80 إلى أكثر من 100 دولار.
إلا أن الانتظار السعودي لأسعار نفط عالية يحمل للقصر الملكي مشكلة أخرى كبيرة آتية رأسا من حليفها وحاميها الرئيس "واشنطن"، حيث تضعف أسعار نفط مرتفعة موقف "ترامب" الشعبي في الداخل الأميركي لا سيما مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر/تشرين الثاني القادم، حيث يمكن للديمقراطيين استخدام سلاح ارتفاع أسعار النفط ضد المرشحين الجمهوريين كتعبير عن سياسات الرئيس الخارجية "المتهورة"(20)، وهو أمر يدركه ترامب جيدا لذا يضغط على الرياض و"أوبك" بلا توقف من أجل خفض أسعار النفط، حتى إنه في يونيو/حزيران الماضي اتهم "أوبك" بالتلاعب بأسعار النفط وطالبها بخفض الأسعار على الفور(21).
في تلك الأثناء، وضعت واشنطن والرياض على ما يبدو اللمسات الأخيرة على التفاهم الذي حدث بينهما، ويمكن للمدقق معرفة تفاصيله من الحضور الدائم لكل من وزير الخارجية الأميركي "مايك بومبيو" ومستشار الأمن القومي "جون بولتون" في اجتماعات متواصلة مع المسؤولين السعوديين، لا سيما بعد زيارة "ابن سلمان" للبيت الأبيض في مارس/آذار الماضي، وهما من أكثر المتشددين ضد الاتفاق النووي مع إيران. إذ تبدو الصفقة كالتالي: تواجه الولايات المتحدة تأثير إيران، المنافس الإقليمي الأكبر للسعودية، بعقوبات صارمة مقابل أن تقوم السعودية بحماية سائقي السيارات الأميركيين من زيادة أسعار النفط بأي شكل(22).
كان ابن سلمان يأمل من طرح "أرامكو" جمع نحو 100 مليار دولار تُمكّنه من تمويل رؤية 2030 مشروعه الأثير وإرثه الذي لا يكف عن الحديث عنه، لكنّ قرار والده عصف على ما يبدو بطموحاته الكبيرة مؤجلا إياها على أقل تقدير لفترة زمنية ممتدة، لذا فقد لجأت الحكومة السعودية للبحث عن بديل آخر لتمويل خطط الإصلاح الاقتصادي كان من بينها الاستحواذ على حصة من "سابك" العملاقة للكيماويات، والتي حققت أرباحا صافية عام 2017 قدرها 5 مليارات دولار. إلا أن تلك الخطوة لم تكن كافية لتمويل المطلوب، لذا لجأت الحكومة السعودية منذ أيام قليلة للاقتراض في خطوة نادرة، واقترض صندوق الثروة السيادي السعودي مبلغا قدره 11 مليار دولار من البنوك الدولية(23).
في ضوء ما سبق، يبدو أن الإقدام على خطوة الاكتتاب لا مفر منها على الأرجح، ولكن الوقت هو الأمر الحاكم لذلك الاكتتاب المرتقب، وتشير قراءة ما سبق إلى أنها خطوة قد تكون نهاية عام 2019، لكن الأمر على أي حال لا يتعلق بالتوقيت بشكل محدد بقدر تعلقه بما وراء الاكتتاب، فهل تفتح الرياض صندوق "باندورا" بطرح "أرامكو" للاكتتاب العام، لتُكشف الشركة تماما أمام العالم بلا عودة، أم أن قرار الملك سيبقى حيز التنفيذ إلى غير رجعة؟