سقوط درعا.. هل يستمر الثوار السوريون في محاربة الأسد؟
في السادس من يوليو/ تموز، وبعد مرور أكثر من أسبوعين من القتال العنيف، وقفت القوات الموالية للرئيس السوري بشار الأسد منتصرةً على بوابة معبر نصيب. تسيطر البوابة، الواقعة على الحدود الأردنية السورية على أطراف محافظة درعا بجنوب غرب البلاد، على الطريق السريع المؤدي من عمان إلى دمشق، وقد كان الاستيلاء عليها من قبل قوات المعارضة المناهضة للنظام في أبريل/ نيسان 2015 ضربة قوية للأسد.
الآن، وبعد أن استردتها قوات النظام، صارت درعا -معقل المعارضة حيث بدأت الانتفاضة التي أشعلت الثورة في البلاد- غنيمة سهلة أمام دمشق. بعد ما يزيد عن الأسبوع من سقوط نصيب، وافقت مدينة درعا على الاستسلام للأسد. لكن بالنسبة للمعارضة في جنوب غرب سوريا، لم يكن من المفترض أن تنتهي الأمور على هذا النحو.
في يومٍ ما، امتلكت قوات المعارضة في درعا آمالًا كبيرة في هزيمة الأسد. في منتصف عام 2015، في أعقاب التقدم الكبير للمقاومة في جميع أنحاء سوريا، كانت المعارضة المسلحة في درعا مقتنعة أن بإمكانها طرد النظام من جانبها من البلاد. في يونيو/ حزيران من ذلك العام، شنت قوات بقيادة الجبهة الجنوبية للجيش السوري الحر هجومًا، أُطلق عليه اسم عاصفة الجنوب، لطرد النظام من عاصمة المقاطعة، التي تُسمى أيضًا درعا. وعلى الرغم من الاهتمام البالغ الذي حظيت به من قبل المراقبين السوريين، لم تحظ عاصفة الجنوب باهتمام كبير من وسائل الإعلام الدولية وبالكاد حصلت على دعم من مؤيدي المعارضة الأجانب الرئيسيين، الأردن والولايات المتحدة. وعلى الرغم من التقدم الأولي، فشلت المقاومة في الاستيلاء على المدينة، وفي غضون شهر واحد، توقف الهجوم تدريجيًا- وكان الأمر بمثابة هزيمة فعلية للمعارضة.
بعد فشل عاصفة الجنوب، وصلت المعركة في جنوب غرب سوريا -بما في ذلك محافظات درعا والقنيطرة والمناطق التي تسيطر عليها المعارضة في السويداء- إلى طريق مسدود. وليس في مقدور الأسد أو المعارضة تحقيق مكاسب كبيرة، مع أن التدخل العسكري الروسي في سبتمبر/ أيلول 2015 لصالح النظام جعل من انتصار المقاومة بالوسائل العسكرية أمرًا شبه مستحيل. وعلى الرغم من أنهم لم يعرفوا ذلك وقتها، كانت عاصفة الجنوب هي آخر وأفضل أمل للمقاومة في درعا.
في يوليو/ تموز 2017، وافقت الأردن وروسيا والولايات المتحدة على إنشاء "منطقة وقف التصعيد" تشمل درعا والقنيطرة والسويداء، لإيقاف القتال بين القوات الحكومية وقوات المعارضة وتجنب وقوع كارثة إنسانية. حقق الاتفاق نوعًا من التوازن في جنوب غرب سوريا أبقى النظام خارج المناطق التي تحكمها المعارضة، بينما طمأن الأسد أنه لن يضطر إلى القلق بشأن هجوم تشنه المعارضة من من المنطقة. لقد ظلت منطقة التهدئة قائمة معظم السنة، إذ ركزت قوات النظام وحلفاؤها الإيرانيون والميليشيات التابعة لهم، وكذلك الروس اهتمامهم على هزيمة ما وصفه أحد الدبلوماسيين الأوروبيين في عمان لنا بأنه منطقة الأهداف السهلة في سوريا". وفي الفترة ما بين أواخر صيف عام 2017 وربيع 2018، استولى الأسد على مساحات واسعة من الصحارى ذات الكثافة السكانية المنخفضة في شرق سوريا من تنظيم الدولة، ودمر البؤر العنيدة التي تسيطر عليها المعارضة داخل غرب سوريا، ولا سيما شمال حمص وفي منطقة الغوطة شرق دمشق.
لكن طوال هذه الفترة استمر الأسد في مراقبة درعا، منتظرًا الفرصة لإعادة فرض سيطرته على المناطق الحدودية الجنوبية الغربية، وإعادة التجارة مع العالم العربي الأوسع عبر البر من خلال الأردن، وتجريد الأردنيين من قدرتهم على دعم أعدائه. في البداية، حاول الأسد استرداد جنوب غرب سوريا من خلال محادثات المصالحة التي تقودها روسيا. وكانت هذه المحادثات، التي توقفت في أوائل يونيو/ حزيران ليلة هجوم النظام، لتمنح المعارضة سلطة محلية في مناطقها وحصة من عائدات معبر نصيب الحدودي، مقابل موافقة المعارضة على تسليم معظم أسلحتهم والاعتراف بسلطة دمشق. عندما رفضت المعارضة هذه الشروط، قرر الأسد الفوز بجنوب غرب سوريا بالقوة. ومع موافقة الروس على تقديم الدعم الجوي في هذا الهجوم، كانت المعركة من جميع النواحي، محسومة قبل أن تبدأ.
في 17 يونيو/ حزيران، شن النظام هجومًا، بدعمٍ من القوات الجوية الروسية والميليشيات الأجنبية المدعومة من إيران، لكسر حالة الجمود في الجنوب الغربي. أدى ذلك القتال إلى تشريد أكثر من 325 ألف مدني من منازلهم، فر أكثر من 70% منهم إلى مناطق قريبة من مرتفعات الجولان التي تسيطر عليها إسرائيل، وفقًا لتقارير الأمم المتحدة. وقد أحصت منظمة إيتانا ETANA، وهي منظمة بحثية بقيادة سورية مقرها في عمان، 352 مدنيًا قُتلوا وأكثر من 630 أُصيبوا بجروح نتيجةً للهجوم، وقدرت الأمم المتحدة تعرض أكثر من 720 ألف من سكان جنوب غرب سوريا بشكل مباشر لخطر التشريد بسبب الحرب.
في يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز 2015، كانت المعارضة تعمل دون مباركة الأردن والولايات المتحدة، اللتين فضلتا أن تنسحب المعارضة وتعقد اتفاقَا مع الأسد. وكان المنطق وراء ذلك بسيطًا: لم تكن جبهة الجنوب قادرة على محاربة النظام بفعالية لأنها كان ظلًا لنفسها السابقة، وكان كلًا من مؤيدي الجبهة الجنوبية من الأجانب ونظام الأسد يعرفون ذلك. الجبة الجنوبية التي كانت تضم أكثر من 50 مجموعة تأسيسية وما يزيد على 40 ألف مقاتل في بداية هجوم عاصفة الجنوب، صارت بحلول يونيو/ حزيران 2018، تشمل 15 مجموعة تأسيسية وما يقرب من 15 ألف مقاتل فقط جاهزين للقتال، طبقًا لمقابلات مع أحد كبار قادة الجبهة الجنوبية أجراها قُبيل بدء الهجوم الذي شنه النظام. كانت المعارضة ولا تزال تنهار بسبب النزاعات القيادية، ونقص الدعم العسكري من الداعمين الأجانب، وتضاؤل القدرة على دفع أجور مقاتليها، وحالة الفتور السائدة بين ضباط الصف والجنود بسبب سنواتٍ من الجمود المستمر.
وعلى الرغم من الصعاب التي تواجههم، أراد العديد من قادة المعارضة المسلحة تكبيد الحكومة ثمنًا مقابل كل شبر تنتزعه في درعا. واصل النظام وروسيا محادثات المصالحة طوال الحملة، محاولين إقناع المعارضة بعدم وجود طريق لها سوى الاستسلام. كانت كل من روسيا، التي تتفاوض نيابة عن الأسد، والأردن، التي تتفاوض نيابة عن المعارضة، تحاول إعادة إحياء المحادثات بعد كل احتقان. ولكن حتى مع استمرار خسارة المعارضة للأراضي، بقى قادتها متمسكين بمطلبهم بأن تمنحهم دمشق استقلالًا ذاتيًا مقابل السلام. كانوا يلعبون لعبة بوكر دبلوماسية شديدة الخطورة بأوراق ضعيفة، وكانوا يعلمون ذلك.
يعتقد بعض قادة المعارضة السورية أن تاريخ درعا يفسر لماذا ترفض هذه المنطقة بعناد أن تعقد اتفاقًا. قال مستشار أعلى في الهيئة العليا للمفاوضات، التي تُمثِّل المعارضة في محادثات السلام التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف "لقد ناضلت درعا لمدة 20 عامًا ضد الفرنسيين، وهُزمت"، وهو يشير هنا إلى فترة الانتداب الفرنسي، التي امتدت من 1923 وحتى 1946، وهي الفترة التي كانت أثناءها المنطقة الجنوبية الغربية من سوريا، بما فيها درعا، مركزًا للثورة والمقاومة ضد السلطات الفرنسية، وتابع مفسرًا "أهل درعا هم من الناس الذين يحاربون دفاعًا عن أراضيهم، حتى مع علمهم بأنَّهم في طريق الهزيمة".
ورغم المفاوضات الجارية في درعا من أجل عقد المصالحة، رفضت شخصيات معارضة بارزة في جنوب غرب سوريا فكرة أنَّ مَن حمل السلاح ضد الأسد سيكون قادرًا على العيش وبناء حياة حالما يُفرض حكم الأسد مرة أخرى. فقد قال صابر سفر، وهو عقيد منشق عن الجيش السوري، ويشغل حاليًا منصب الممثل السياسي لفرقة حمزة، أحد أكبر الفصائل الثورية في درعا "لقد خدمت في جيش النظام لمدة 30 سنة، وأعرف كم هو مخادع وماكر. لا توجد ضمانات عند التعامل مع النظام والروس. لم يُبعد الروس المليشيات الإيرانية، ولا توجد ضمانات بأنَّ النظام لن يلاحق الناس ويقتلهم. بل إنَّ المخابرات العسكرية تسأل منذ الآن عن أسماء المنضمين إلى الجيش السوري الحر".
بيد أن رفض المصالحة مع نظام الأسد ظهر بشكل أكثر حدة بين قادة المعارضة من غير العسكريين، فقد اتخذوا في الثالث من يوليو/ تموز خطوة غير اعتيادية، مصدرين بيانًا يرفضون فيه مطالب النظام، ويدعون إلى النفير العام بين سكان درعا. وتُعد درعا استثنائية ضمن المناطق التي يسيطر عليها الثوار في سوريا، ويعود ذلك إلى تكوين المجلس الذي يحكمها، والمكون من لجان مدنية وعسكرية مختلطة، إذ يتخذ أعضاء المعارضة العسكريون والمدنيون قرارات مشتركة.
لكن قرار إصدار البيان اتخذه الأعضاء المدنيون وحدهم، على الرغم من أنَّه لم يحُلْ دون انسحاب المعارضة من منطقة تلو أخرى في جميع أنحاء درعا. وقال قيادي بارز في جيش الثورة، أحد أكبر التحالفات العسكرية المعارضة في ريف درعا الشرقي، وهو الفصيل الذي يسيطر على معبر نصيب الحدودي "لم نشهد منذ بدأنا القتال ضد النظام معركةً مثل هذه".
وعلى الرغم من الإخفاقات العسكرية والضغط الذي تسببه الأزمة الإنسانية، حاول كثيرٌ من قادة المعارضة في درعا أن يحافظوا على جرأتهم وإقدامهم، مستعينين بصمود سكان المدينة الذين عاشوا خارج سيطرة الأسد لما يزيد عن 5 سنوات. وقد استمدت المعارضة القوة من طريقة التفكير البعيدة كل البعد عن العواطف، بل طريقة التفكير القاتمة، التي سببتها مشاهدة الكيفية التي عمل بها النظام على مدار الحرب، بما في ذلك كيفية تعامله مع المناطق التي كانت تُسيطر عليها المعارضة سابقًا عندما استسلمت للنظام.
قال قائد في المعارضة المسلحة في درعا، والذي لا يزال فصيله نشطًا في مقاومة تقدم النظام إنَّه "من المستحيل لأي أحدٍ أطلق رصاصة واحدة ضد النظام أن يبقى حيًّا. وإذا لم يُقتل، فسوف يحاكم بتهمة الإرهاب ويُقتل بعد ذلك. نحن ندافع الآن عن بيوتنا وأطفالنا ونسائنا. لن نسمح لأحدٍ بعد أن سقط نصف مليون شهيد بأن يعيش في بيوتنا وأراضينا. فإما أن نموت بشرف أو أن نحيا بكرامة".
كان لهذا الاعتقاد، القائل بأنَّهم في حكم الأموات تحت حكم الأسد في جميع الأحوال، وهو الاعتقاد الشائع بين قادة المعارضة، نتائج جلبت الدمار على درعا. ففي النهاية، لم يؤدِ هذا الاعتقاد سوى إلى تأجيل قصير لظهور النتيجة المحتومة لجميع المعارك: فقد انتصر الأسد، وسوف يعود النظام إلى درعا محملًا بالثأر. هل كان يستحق الأمر -من وجهة نظر قادة المعارضة- الصمود في وجه نظام الأسد وحليفه الروسي، في الوقت الذي تواجه فيه المعارضة أزمة إنسانية كبيرة أجبرتها في النهاية على الانسحاب؟
كان جل ما يأملون تحقيقَه هو الحفاظ على كرامتهم عن طريق المقاومة بشرف ضد نظام الأسد. وبالنسبة لسِفر، ما سوف تتذكره الأجيال القادمة في سوريا هو لحظات الصمود في درعا. فقد قال "لقد علقنا آمالنا على الأمريكيين، لكن البديل المتاح أمامنا الآن هو الصمود، نحن نرفض العيش في ذل ومهانة. لقد ثُرنا من أجل كرامتنا".
_______________________________________________
الرابط الأصلي
ترجمة (فريق الترجمة)