بعد سقوط درعا.. ما سيناريوهات تقسيم النفوذ في سوريا؟

midan -227-2-main
مقدمة

بعد حملة عسكرية واسعة النطاق شنَّتها قوات النظام السوري، ابتداء من 19 يونيو/حزيران 2018، بغطاء جوي روسي كثيف على بلدات ومدن محافظة درعا في جنوب سوريا، شملت أكثر من 600 غارة روسية إضافة إلى إلقاء قرابة 400 برميل متفجر خلَّفت عشرات القتلى والجرحى في صفوف المدنيين، وبعد اتضاح أن لا ضغوط أميركية أو أوروبية أو تركية أو عربية لوقف الحملة أو لجمها، استسلمت قوات المعارضة السورية المسلحة ووافقت في مفاوضات مع موسكو، في 6 يوليو/تموز 2018، على عودة النظام إلى معظم أرجاء المحافظة الجنوبية التي كان يُفترض أن تكون، وِفق التفاهمات الروسية-الأميركية، منطقة خفض تصعيد. وضم الاتفاق مع الروس بنودًا حول تسليم الأسلحة الثقيلة والمتوسطة إلى الشرطة العسكرية الروسية، والقبول بتمركز جيش النظام السوري في مواقع استراتيجية في المحافظة على طول الطريق الدولي بين عمَّان ودمشق، وسيطرته على معبر نصيب الحدودي مع الأردن بإشراف روسي. كما ضم الاتفاق بنودًا حول عودة مؤسسات النظام المدنية إلى مدن وقرى محافظة درعا، وعدم التعرض لمقاتلي المعارضة وللاجئين والسكان المحليين، وتأمين خروج حوالي الألف من هؤلاء، ممن يعارضون الاتفاق، إلى محافظة إدلب.

    

   

بذلك، انضمت درعا إلى الغوطتين، الشرقية والغربية، وإلى حي الوعر الحمصي ومناطق القلمون وداريا ومضايا ووادي بردى وجنوب دمشق، وقبلها أحياء حلب الشرقية، وتوسعت رقعة سيطرة النظام وباتت تشمل طوليًّا غرب الخريطة بأكملها، من حدود الأردن حتى حدود تركيا. ولم تبق للمعارضة في هذه المنطقة سوى جيوب صغيرة معزولة. كما بقي لِـ"جيش خالد بن الوليد" المبايع لِـ"تنظيم الدولة الإسلامية" مناطق سيطرة في محافظة القنيطرة وفي حوض اليرموك على مقربة من الجولان المحتل ومن الحدود الأردنية، قد تشهد قريبًا معارك عنيفة مع النظام الساعي إلى اجتياحها.

      

سياسة التوازنات الروسية

يشير ما حصل جنوبَ سوريا، بعد ثلاث سنوات من الجمود العسكري(1)، إلى تغيرات مهمة في الخريطة السورية وأشكال تعاطي الأطراف الإقليمية والدولية معها. فمع عودة النظام إلى هذه المنطقة، تكون روسيا قد نجحت في لعب دور الموازِن بين قوى إقليمية عديدة، وفي انتزاع موافقة أميركية رسمية -ولو مشروطة- على تثبيت النظام، وفي إنزال هزيمة جديدة قاسية بالمعارضة المسلحة في معقل أساسي لها، وفي منطقة شهدت انطلاقة الثورة السورية في طورها السلمي في مارس/آذار 2011.

      

هكذا، حصلت موسكو على قبول الأردن بتمركز قوات الأسد على حدوده، وحصلت أيضًا على قبول إسرائيلي بتمدد جيش النظام السوري حتى حدود الجولان المحتل، شرط العودة إلى قواعد فض الاشتباك المطبقة منذ العام 1974، وعدم السماح لإيران ولـ"حزب الله" بالانتشار جنوبًا. وقد ترجمت تصريحات علنية لمسؤولين إسرائيليين بينهم رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، هذا القبول الإسرائيلي؛ إذ قال الأخير من موسكو في 11 يوليو/تموز 2018: إنه "لا مشكلة في سيطرة الأسد على بلاده"، وإن "إسرائيل لم تواجه مشاكل مع دمشق طيلة أربعين عامًا"، مطالبًا في المقابل بخروج إيران و"حزب الله" من سوريا(2).

     

فوق ذلك، فرضت موسكو أمرًا واقعًا على الأرض لم تبدُ الولايات المتحدة معنية بتداعياته، رغم قربه من حدود العراق حيث أبرز أولوياتها الإقليمية. واكتفت واشنطن بترداد الموقف الإسرائيلي المُطالب بالحد من نفوذ إيران في سوريا، وذكر مستشار الأمن القومي، جون بولتون، أن "بقاء الأسد في السلطة ليس قضية استراتيجية للإدارة الأميركية"(3)، وأن ما يعني الأخيرة هو إخراج إيران من سوريا. ويُرجَّح أن يكون الرئيس، دونالد ترامب، قد أكد على الأمر نفسه في قمته مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في هلسنكي يوم الاثنين 16 يوليو/تموز 2018.

       

جون بولتون، مستشار الأمن القومي
جون بولتون، مستشار الأمن القومي

     

ويمكن اعتبار هذه المشروطية الإسرائيلية-الأميركية مريحةً للروس؛ إذ تمكِّنهم من الضغط بالواسطة على حليفهم الإيراني، وتذكيره بامتلاك موسكو الكلمة الفصل سوريًّا. وهذا لا يعني افتراقًا روسيًّا إيرانيًّا بعد، لاستمرار حاجة كل طرف للآخر في ملفات كثيرة تتخطى سوريا، لكنه مؤشر على قرب الافتراق في الحالة السورية؛ إذ قريبًا لن تعود موسكو معنية بالميليشيات الشيعية التي جندتها إيران من لبنان والعراق وأفغانستان بعد أن استتب الأمر للنظام على الأرض وانسحبت مختلف فصائل المعارضة العسكرية نحو شمال البلاد حيث تركيا هي الطرف الأكثر تأثيرًا. وقريبًا أيضًا، ستسعى موسكو للتصرف بوصفها لاعبًا دوليًّا أعلى شأنًا من جميع اللاعبين الإقليميين لبدء التفاوض مع الأميركيين حول ما تريده كحل نهائي في سوريا ينبغي على مختلف الأطراف -بما فيهم إيران- القبول به.

      

في المقابل، تلتزم طهران الصمت تجاه المواقف الروسية وتراقب عن كثب تطورات الأمور، تاركة لحزب الله اللبناني التأكيد على أن "لا خروج من الأراضي السورية إلا بطلب مباشر من الرئيس الأسد". وإيران تدرك أن موقفها السوري محاصَر رغم إمساكها بمناطق حيوية على حدود لبنان وعلى مقربة من دمشق، ورغم أن لجهود حلفائها العسكرية الفضل الأكبر في تعديل موازين القوى على الأرض والانتصار في أكثر من معركة بغطاء جوي روسي. ولا شك أن الضربات العسكرية الإسرائيلية المتسارعة التي استهدفت قواعدها ومراكز قيادتها في سوريا في الأشهر الماضية، لاسيما الضربة التي وقعت في 10 مايو/أيار 2018 ودمرت قسمًا كبيرًا من منشآتها، من دون تدخل روسي لحمايتها، أظهرت نتائج هذا الحصار للإيرانيين وزادت من قلقهم. ثم جاء انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي معهم والعودة إلى سياسة العقوبات والحصار الاقتصادي ليضاعفا ارتباكهم ويزيدا من الضغط عليهم.

     

على أن هذا لا يعني أن الإيرانيين سيستكينون أمام التهديدات الأميركية والإسرائيلية ويلبون جميع الطلبات الروسية، ولا أن الروس سيعملون على إخراجهم السريع. فطهران اعتادت الضغوط واعتماد عنصر الوقت وسياسة النَّفَس الطويل لمواجهتها. وروسيا تريد أثمانًا من واشنطن لإخراج إيران -إن استطاعت- لم تحصل عليها بعد، وهي بالتالي تعمل على إضعاف طهران في سوريا دون التصادم معها في انتظار تبلور الحل "النهائي" الذي تريد.

      

الخريطة السورية المفتتة

كرَّس النظام، بتقدمه في الجنوب في الأسابيع الفائتة، سيطرته الطولية على غرب سوريا، من حدود الأردن مرورًا بحدود لبنان وصولًا إلى حدود تركيا المحاذية لمحافظة اللاذقية. وتدعم هذه السيطرة القوات الروسية في الجنوب وفي الساحل، وإيران وميليشياتها الإقليمية و"حزب الله" حول الحدود اللبنانية. فيما يجهد الروس والإيرانيون ليكون لكل منهم اليد الطولى في دعم قوات النظام في دير الزور وفي المناطق المحيطة بها لتماسِّها مع حدود العراق ولتحكمها بتقاطع خطوط البادية في الوسط ومحافظة الرقة.

    

    

أما في الشمال، في محافظة إدلب وفي ريف حلب الشمالي وبينهما عفرين، فتنتشر قوى المعارضة المسلحة بدعم ومؤازرة من الجيش التركي. وتملك "جبهة النصرة" حيزًا جغرافيًّا مهمًّا في جنوب إدلب وغربها (على تماس مع محافظة اللاذقية)، وهو حيز تحاول تركيا قضمه تدريجيًّا وإحداث انقسامات في "الجبهة" المسيطرة عليه تفاديًا لسيناريو الهجوم الروسي الشامل ضده. وتحاول تركيا أيضًا التوسع باتجاه منبج حيث أثمرت مفاوضاتها مع الأميركيين تحجيمًا لدور الميليشيات الكردية فيها تمهيدًا لانسحابها. في حين بقيت تلك الميليشيات بدعم أميركي مسيطرة على مساحات واسعة من محافظات الرقة والحسكة في الشمال والشمال الشرقي ودير الزور شرق الفرات حيث أهم ثروات سوريا الطبيعية.

        

ينتظر هذه الخريطة في الأشهر المقبلة الكثير من المفاوضات والتنافس بين الحلفاء والخصوم على توسيع الرقع أو تدعيم النفوذ. فبين موسكو وتل أبيب تفاوض حول انتشار قوات النظام جنوبًا، وبين موسكو وطهران تنافس حذِر على رقع النفوذ في الوسط والساحل. أما بين أنقرة وواشنطن فثمة بحث في مستقبل المناطق المحاذية للحدود التركية يسير بموازاة التفاوض بين أنقرة وموسكو حول إدلب. وينتظر الجميع اتضاح الموقف الأميركي من البقاء أو الخروج من الشرق ومن قاعدة التنف على مقربة من تقاطع الحدود السورية والعراقية والأردنية، وأثر ذلك على الميليشيات الكردية وتوق الأطراف جميعها للتقدم نحو مناطقها إن رُفع غطاء واشنطن عنها.

     

القضية السورية بعد سبع سنوات

يظهر جليًّا مما ذُكر أن روسيا تجهد بعد ثلاث سنوات على تدخلها العسكري في سوريا وإنقاذها نظام بشار الأسد إلى فرض حل توافق عليه واشنطن، ولو على حساب إيران، شريكتها في التدخل وإنقاذ الأسد. لكن إيران التي أنفقت المليارات وجندت عشرات آلاف المقاتلين لن تستسلم للأمر بسهولة. وسيحاول "الحليفان" تأجيل افتراقهما قدر المستطاع وتحصيل أفضل الشروط من بعضهما ومن خصومهما على حد سواء. في الوقت نفسه، تبدو واشنطن غير مكترثة بالمآل النهائي للأمور فيما يخص نظام الحكم السوري وما نصت عليه المبادرات الأممية في جنيف، ويبدو اكتراثها الوحيد مرتبطًا بالمطالب الأمنية الإسرائيلية وبإخراج إيران من المعادلة السورية. وتحاول تركيا من جهتها الاستفادة من التناقضات جميعها لتوسيع رقعة نفوذها شمالًا وإضعاف القوى الكردية ومحاصرتها.

        

أما فرنسا وبريطانيا ودول الخليج العربي، كما منظمة الأمم المتحدة، فتبدو غائبة تمامًا عن كل ما يجري. ولم يتبق من عمل اللجنة الأممية ومسار جنيف سوى بيانات الإدانة واسم ستيفان دي مستورا وعجزه المتواصل والموازنة الشهرية المرصودة له. بهذا، يصبح النشاط الأساسي الممكن للمشتغلين سياسيًّا وحقوقيًّا في الشأن السوري بعد سبع سنوات من الصراع، وما شهده من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وما تخلله من تدمير وتهجير وتغيير ديمغرافي مذهبي في محيط الحدود اللبنانية، وبعد مصادرة أراضي وأملاك الغائبين (التي "نظَّمها" مؤخرًا القانون رقم 10 الصادر عن الحكومة في دمشق والذي يسمح بتملك "الدولة" أراضي من لا يُثبت ملكيته خلال مهلة شهرين)، هو دعم الهيئات المجتمعية التربوية والصحية والنسائية العاملة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام حيث يعيش ملايين السوريين(4)، ومحاولة مقاضاة المتهمين بارتكاب "جرائم القتل والتعذيب والاغتصاب والتهجير القسري". 

     

ستيفان دي مستورا، المبعوث الأممي (رويترز)
ستيفان دي مستورا، المبعوث الأممي (رويترز)

  

ولعل في القضايا المرفوعة في الولايات المتحدة الأميركية وعددٍ من الدول الأوروبية، وفي إصدار النائب العام الألماني مذكرة توقيف دولية بحق رئيس جهاز المخابرات الجوية وأحد أبرز مسؤولي النظام الأسدي، جميل حسن، ما يشي بقدرة الهيئات الحقوقية على مقاضاة "أركان النظام" في أكثر من عاصمة غربية، وجعل التعامل العلني معهم شديد الصعوبة. ومما قد يُفسَّر على أنه ذو صلة بخشية النظام من مثل هذه الاحتمالات، تزايد عمليات التصفية في دمشق وحلب ودير الزور لضباط من النظام وردت أسماؤهم في ملفات وتقارير دولية مرتبطة بالتعذيب وقتل الصحافيين الأجانب (5).

      

سوريا مقبلة إذن على تطورات كثيرة في الأشهر القادمة بشأن الصراع الإقليمي والدولي على النفوذ في بعض مناطقها، وسعي واشنطن وتل أبيب وموسكو للاتفاق على صيغة تُخرج إيران وحلفاءها عسكريًّا من الجغرافيا السورية. وإيران بدورها تسعى إلى تجميع أوراقها والدفاع ضمن المستطاع عن خط انتشارها السياسي والعسكري الحيوي الممتد من طهران عبر بغداد ودمشق إلى بيروت. وإذا كان توازن القوى العسكري والسياسي بين النظام والمعارضة قد صار بمنأى عن نتائج الصراع الإقليمي والدولي هذا إذ لم يعُد موضوع بحث أساسي فيه، فإن ملاحقة أركان النظام السوري ومنتسبيه دوليًّا ونزع الحصانة عنهم سيبقى متاحًا رغم كل ما ذُكر من احتمالات.

—————————————————

(الرابط الأصلي)


إعلان