فنانو السيسي.. كيف تحول الفن بمصر لأداة بيد السلطة؟

لم تكن هذه العلاقة هي الوحيدة بين عبد الناصر وأم كلثوم، بل تعدى الأمر إلى علاقات أخرى، كان أشهرها علاقته بالمطرب عبد الحليم حافظ بالإضافة إلى صلات أخرى ربطته بالفنانين(1)، وعلى النهج نفسه سار السيسي لتقوية علاقته بالفنانين، إذ تجسدت بوادر هذا التقارب وهو لا يزال وزيرا للدفاع، عندما دعا السيسي مجموعة من الفنانين، منهم المطرب "محمد فؤاد"، لحضور الاحتفال بعيد تحرير سيناء بجامعة المستقبل في أبريل/نيسان عام 2013، وقد وجه السيسي وقتها التحية إلى الفنانين أثناء الاحتفال.(2) ، وفي العام نفسه في مايو/أيار، دعا السيسي مجموعة من الفنانين كان على رأسهم "عادل إمام" و"حسين فهمي" لحضور تفتيش الحرب الذي أجراه بالفرقة التاسعة مدرعات.(3)
بعد الانقلاب العسكري في مصر وعزل مرسي ظلت العلاقة مستمرة، ففي ذكرى احتفالات السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 2013، دعا السيسي بعض الفنانين وعلى رأسهم الفنان "أحمد السقا" و"سامح حسين" لحضور احتفالات أكتوبر،(4) بالإضافة إلى أنه في مايو/أيار عام 2014 دعا السيسي لعقد اجتماع مع الفنانين، وذلك أثناء ترشحه للرئاسة، إذ كان من أبرزهم الفنانة الراحلة فاتن حمامة، وإلهام شاهين، وعزت العلايلي، ودار الحوار بينهم حول مستقبل الفن والإبداع في مصر.(2)
وفي مسار العلاقة المتصل، وطد السيسي علاقته بالفنانين عقب توليه زمام السلطة، ففي ذكرى احتفاله بعيد الشرطة في يناير/كانون الثاني عام 2015 وجه السيسي دعوة للفنانة "يسرا" والفنان "أحمد السقا" لحضور الاحتفال. وفيها قال السيسي جملته الشهيرة: "يا أستاذ أحمد أنت وأستاذة يسرا والله هتتحاسبوا على ده"، في إشارة إلى أن للفن دورا كبيرا في توعية الشعب(2)، ولا يزال تقرب السيسي من الفنانين مستمرا، ففي مطلع نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017 زار السيسي هو وزوجته الفنانة الراحلة شادية قبل وفاتها، أضف إلى ذلك حضور زوجته لجنازة شادية أيضا، فما القصة الكاملة لهذه العلاقة بين السيسي والفنانين؟
كانت البداية لاستخدام السيسي الفنانين من أجل دعم شرعيته في الخارج بعد توليه الحكم بفترة بسيطة، فمع أول زيارة رسمية له للولايات المتحدة الأميركية في 23 سبتمبر/أيلول عام 2014 لحضور اجتماعات الدورة 69 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وإلقاء كلمة مصر أمام قمة المناخ، ضم الوفد المصاحب للسيسي في هذه الزيارة الخارجية بعضا من السياسيين والإعلاميين ورجال الأعمال والصحفيين والفنانين، للهتاف له أمام مقر الأمم المتحدة، وكان على رأس الحضور في هذا الوفد الفنانة يسرا، والفنان محمود قابيل، والإعلامي عمرو أديب، وكمال أبوعيطة وزير القوى العاملة الأسبق وغيرهم،(6) وقد أثار هذا الحضور العديد من الانتقادات، إذ رأى البعض أن السيسي يبحث عن إثبات شرعيته، وتأكيد أن 30 يونيو/حزيران ثورة وليس انقلابا.(6)
(وفد الفنانين الذي ذهب مع السيسي إلى الولايات المتحدة سبتمبر/أيلول 2014)
لم تكن هذه الزيارة هي الوحيدة التي ضمّت وفدا من الفنانين مع السيسي، لكن شهدت زيارة أخرى، ففي يونيو/حزيران عام 2015،(7) جاءت زيارة السيسي لألمانيا في ظل أجواء سيئة نتيجة لانتهاكات حقوق الإنسان التي كانت تشهدها مصر خلال هذه الفترة، ولا تزال مستمرة حتى الآن، من حالات إعدام واعتقالات للمعارضين وسجن عدد كبير من الصحفيين، كانت هذه الأجواء كفيلة بأن تجعل السيسي يحاول أن يتجه إلى استخدام الفنانين كأداة لدعمه والذهاب معه إلى ألمانيا،(8) إذ شمل الوفد المصاحب للسيسي 19 فنانا، منهم يسرا، وإلهام شاهين، وممدوح عبد العليم، وأحمد بدير، وسامح الصريطي، ولبلبة، والمطربة المعتزلة ياسمين الخيام، وغيرهم، بالإضافة إلى وفد آخر مكون من سياسيين وإعلاميين، وقد أُثير الجدل حول تحمل الرئاسة تكاليف سفر الوفد المرافق للسيسي في ألمانيا، لكن سامح الصريطي وكيل نقابة المهن التمثيلية في ذلك الوقت صرح بأن سفر الفنانين كان على نفقاتهم الخاصة ولم يكن على نفقة الدولة.
(ذهاب الفنانين مع السيسي لألمانيا 2015)
على الجانب الآخر أعلنت الفنانة يسرا، التي كانت ضمن المشاركين في الوفد لدعم السيسي، أن سفر الفنانين كان بمبادرة من غرفة صناعة الإعلام المرئي والمسموع بجانب عدد من القنوات الفضائية، وهذا ما أكّد عليه أيضا رجل الأعمال "محمد الأمين" رئيس غرفة صناعة الإعلام بأن تكاليف وفد الفنانين الذين ذهبوا مع السيسي كانت بدعم من غرفة صناعة الإعلام.(5) وقد علّق البعض على اصطحاب السيسي للوفود معه في جولاته الخارجية بأنه دليل على ضعف موقف السيسي، لذلك يلجأ إلى مثل هذه الوفود الفنية أو الإعلامية من أجل دعمه وإظهار مدى شعبيته الكبيرة.(6)
قضايا التهرب السابقة من أداء الخدمة العسكرية للفنانين في عهد السيسي لم تُثر الجدل ولم يتداولها الإعلام بشكل كبير، بل اتجه الإعلام إلى تجميل الجيش وإظهار مدى الرفاهية التي يعيش فيها المجند، على عكس المتداول عن الجيش بأن الحياة صعبة وسيئة في حالة عدم وجود واسطة للمجند هناك؛ لذلك يلجأ الكثير من المصريين إلى التهرب منه وعدم دخوله، ويرجح أن النظام الحالي في مصر لجأ إلى تغيير هذه الفكرة عن الجيش واستخدام الفنانين كأداة لتجميله، وظهر ذلك واضحا عندما التحق الفنان "محمد رمضان" لأداء الخدمة العسكرية.
إذ لجأ الإعلام إلى تسليط الضوء عليه منذ تقديم أوراق التحاقه لأداء الخدمة العسكرية في الجيش المصري في يناير/كانون الثاني 2017، والتحاقه بمركز تدريب التجنيد التابع لقوات الصاعقة بمنطقة "أنشاص" ببلبيس بمحافظة الشرقية لمدة عامين،(10) الجدير بالذكر أن مدة الالتحاق لأول مرة بالجيش للمجند تستمر لمدة 45 يوما وغير مسموح له بإجازة، لكن وفقا لرصد بعض المواقع الإعلامية فإن محمد رمضان التحق بالجيش يوم 9 يناير/كانون الثاني عام2017،(11) وكانت أول إجازة له يوم 15 فبراير/شباط عام2017، إذن مدة التدريب التي ظل فيها محمد رمضان في الجيش كانت 36 يوما فقط وليس 45 يوما!(12)
"الرئيس السيسي بذل جهودا دؤوبة وحقق إنجازات غير مسبوقة لتحقيق آمال الشعب، خاصة فى التصدي للإرهاب وإعادة الاستقرار رغم الظروف والأزمات الداخلية والإقليمية والدولية الصعبة التي أحاطت بمصر"
جزء من البيان التأسيسي لحملة "علشان تبنيها"، التي ظهرت لأول مرة في سبتمبر/أيلول 2017 بفكرة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" وسرعان ما تحولت إلى حملة شعبية، الهدف منها جمع توقيعات لدعم السيسي للترشح للانتخابات للمرة الثانية في نهاية مارس/آذار 2018، ضمت الحملة مجموعة من الشخصيات مثل "أحمد الخطيب" أستاذ العلوم السياسية، الذي كان يعمل باحثا في مركز الخليج للدراسات الإستراتيجية، وهو مركز إماراتي يصدر عن مؤسسة دار الخليج، ليصبح مصدر شك حول الدعم الإماراتي لهذه الحملة التي سبق وأن دعمت حركة تمرد. من المؤسسين للحملة أيضا رجل الأعمال "محمد الجارحي"، والدكتور "حازم توفيق" بجانب النواب كريم سالم، وأحمد بدوي، ومحمد شعبان.(16)
أضف إلى ذلك دعم الكثير من الشخصيات العامة للحملة، على سبيل المثال رجل الأعمال "أحمد أبو هشيمة" القريب من السيسي، والذي قام بتبني الحملة منذ البدء، عبر صحيفة "اليوم السابع" التي يمتلكها، ومن الشخصيات الداعمة أيضا للحملة اللواء "كمال عامر" رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب، الذي كان يتولى منصب مدير الاستخبارات الحربية سابقا. (18)
شهدت حملة "علشان تبنيها" دعما ملحوظا من مجموعة كبيرة من الفنانين، إذ رصدت العديد من وسائل الإعلام صورا لبعض الفنانين أثناء توقيعهم على استمارة "علشان تبنيها" لدعم السيسي لفترة رئاسية ثانية،(19) لعل من أبرز هؤلاء الفنانين حسن يوسف، سوسن بدر، تامر عبد المنعم، شعبان عبد الرحيم، وفاء عامر، أشرف ذكي، حسين فهمي، أميرة فتحي، هاني سلامة، غادة عبد الرازق، الجدير بالذكر أن هذه الحملة لم تكن الوحيدة التي شارك فيها النجوم لدعم السيسي لفترة رئاسية ثانية،(20) بل كانت هناك حملة "كلنا معاك"، والتي شهدت دعما من مجموعة من الفنانين أيضا مثل "أحمد فلوكس"، وعبد الله مشرف"، بالإضافة إلى حملات أخرى ظهر فيها الفنانون لدعمهم للسيسي لفترة رئاسية جديدة مثل حملة "وطن"، وحملة "أنت الأمل"، يشار إلى أن السيسي نجح في تولي رئاسة مصر لفترة رئاسية ثانية.
يعلق الناقد الفني "طارق الشناوي" على استخدام الفنانين كأداة سياسية فيقول: "إن الأنظمة الحاكمة في الدول غير المتقدمة تستخدم دائما الفن وتستغل شعبية الفنانين في الوصول إلى المواطنين، ففي عهد الرئيس الراحل عبد الناصر، كان الفن يلعب دورا مؤثرا في قراراته كافة، وكان على تواصل مستمر بكبار الفنانين"، ويكمل الشناوي بأن عبد الناصر "رفض اعتزال أم كلثوم بعد قيام حركة الضباط الأحرار 1952″ على الرغم من وجود العديد من الشخصيات التي نادت باعتزالها لأنها من العهد البائد وغنّت لفاروق، ويضيف بأن عبد الناصر رفض قرار الاعتزال، وكانت النتيجة هي توطيد العلاقة بينه وبين أم كلثوم، وغنّت له الأخيرة عددا من الأغاني التي تحمل اسمه".(17)
في صباح يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1997 استيقظت مصر على "مذبحة الأقصر" الشهيرة، في منطقة الدير البحري بمدينة الشمس، وأسفرت هذه الحادثة عن مصرع 58 سائحا، إذ تُعدّ الحادثة من أكبر الحوادث التي هزّت السياحة في مصر، ونتج عنها إعلان عدد من الدول الامتناع عن السفر إلى مصر، وعلى إثرها تمت إقالة وزير الداخلية "حسن الألفي" جراء هذه الحادثة، وعُيّن بدلا منه "حبيب العادلي"،(21) يرجح البعض أن نظام المخلوع مبارك في ذلك الوقت سعى للتغطية على هذه الحادثة، فلجأ إلى استخدام الفنانين كأداة لإلهاء الشعب، إذ قام بتلفيق قضية مخلة بالشرف للفنانتين "وفاء عامر" و"حنان ترك"، وألقى القبض عليهما واستمرّا في الحبس لمدة 12يوما، ثم أخلى سبيلهما بعد ذلك لثبوت براءتهما من القضية وحُفظت القضية، الجدير بالذكر أنه بعد قيام ثورة يناير/كانون الثاني عام 2011 وسقوط نظام المخلوع مبارك، صرحت الفنانة حنان ترك بعدم اتخاذها أي إجراء رسمي تجاه القضية، التي لُفّقت لها للتغطية على مذبحة الأقصر الشهيرة في التسعينيات.(22)
على نهج مبارك نفسه يقال إن السيسي يفعل الشيء نفسه في التغطية على الكوارث، ففي منتصف نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017 صرح وزير الري المصري "محمد عبد العاطي" فشل المفاوضات مع إثيوبيا والسودان بشأن سد النهضة، أثار التصريح جدلا على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، لكن ما هي إلا ساعات قليلة حتى انقلب الجدل إلى موضوع آخر، يقال إنه بهدف التغطية على موضوع فشل مصر في مفاوضات سد النهضة، إذ تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي فيديو للمطربة "شيرين عبد الوهاب" أثناء إحيائها لحفلة في مدينة الشارقة بالإمارات، طلبت منها إحدى الحاضرات أغنية "مشربتش من نيلها" ليكون رد المطربة: "هيجيلك بلهارسيا.. اشربي مياه إيفيان أحسن".(23)
الجدير بالذكر أن هذا الفيديو كان من حفلة أقامتها شيرين في يناير/كانون الثاني عام 2017 ولم يُثر الجدل وقتها، ليأتي نشره بعد ذلك في هذا التوقيت ليصبح حديث أغلب رواد مواقع التواصل الاجتماعي، ويكون تقريبا البديل عن فشل مفاوضات سد النهضة، وعلى الرغم من اعتذار شيرين عبد الوهاب على ما قالته في الفيديو، لكن هذا لم يغفر لها وظلت الحملة مستمرة ضدها، حتى انتهت بقرار نقابة المهن الموسيقية إيقاف شيرين عن الغناء وإحالتها إلى التحقيق ثم الحكم عليها بعد ذلك بالسجن 6 أشهر وكفالة 5 آلاف جنيه، ولا يزال فشل مصر في مفاوضات سد النهضة مستمرا، ولم تنجح حتى الآن.(24)
لم تكن علاقة عبدالناصر والسيسي هي العلاقة الوحيدة بالفنانين للتقرب منهم، بل كانت هناك علاقات أخرى مثل علاقة الرئيس محمد نجيب بالفنانين، وعلاقة السادات صاحب فكرة "عيد الفن"، والرئيس المخلوع حسني مبارك وعلاقته بالفنانين على الرغم من إلغائه لعيد الفن لكن ظلت العلاقة وطيدة بينهما، أما في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي الذي لم يجمعه بالفنانين غير لقاء وحيد نظرا لفترة حكمه القصيرة، لكن ظلت العلاقة متوترة بينه وبين الفنانين، ليأتي بعد ذلك الرئيس المؤقت عدلي منصور، الذي يتولى الحكم لفترة قصيرة أيضا لتكون علاقته بالفنانين هي عودة الاحتفال بعيد الفن مرة أخرى بعد 33 عاما من إلغائه.(1) ومن بعدها، جاء السيسي!