انتصار التناقض.. رحلة الصدر من الطائفية للوطنية
في الأيام الأولى من فترة ما بعد صدام، وصف مسؤولون عسكريون أمريكيون الصدر بأوصاف مختلفة؛ بأنه "مزعج" و "سفاح"، لكنه سرعان ما حول نفسه إلى شخصية مؤثرة ومثيرة للجدل. ارتكب مقاتلوه فظائع وحشية في أحداث عنف فترة ما بعد الغزو، حيث حاربوا الجيش الأمريكي في مدينة الصدر والبصرة، وكانوا معروفين بفسادهم. ووصفت قصة على غلاف مجلة نيوزويك (Newsweek) في 2006 الصدر بأنه "أخطر رجل في العراق". وبعد خمسة عشر عاماً من سقوط صدام، يُنظر الى الصدر -الذي يبلغ من العمر الآن 44 عاماً- على أنه الرئيس المرشح للفوز في الانتخابات البرلمانية العراقية يوم السبت. في بلد تمزقه التوترات الطائفية والسياسة الإقليمية، حوّل الصدر نفسه مرة أخرى، حيث اتّخذ لنفسه الآن موقعاً كمواطن عراقي. تحالف مع الشيوعيين والسنة والمستقلين السياسيين، انتقد نفوذ إيران الضخم في العراق وانتقد بشدة الطبيعة الطائفية لسياسة العراق.
وقال روبرت فورد الذي كان نائباً لسفير الولايات المتحدة في العراق منذ عام 2008 حتى عام 2010، وشغل منصب المستشار السياسي للسفارة الأمريكية في بغداد من عام 2004 إلى عام 2006: "إنني مندهش جداً من تغيير الصدر لخطابه السياسي ولنوع سياساته حيث أصبح أقل إسلامية وأكثر وطنية". وأضاف فورد أنه بالنظر إلى تقسيم الأصوات في انتخابات يوم السبت، من المرجح أن يظهر الصدر كلاعب رئيسي في السباق لتجنيد الحلفاء في فترة ما بعد الانتخابات.
وقال فورد وهو الآن زميل أقدم في معهد الشرق الأوسط: "هل يجعل ذلك منه صانع الزعماء وصاحب النفوذ الوحيد؟ أليس ثمة منافس له؟ لا" وأضاف: "هل يجعل ذلك منه شريكاً ائتلافياً محتملاً يمكن أن يوفر مقاعد في مجلس النواب للوصول إلى الثلثين المطلوبين*؟ يمكنني تخيل حدوث ذلك بسهولة".
في نواحٍ عديدة، يمكن النظر إلى الصدر على أنه تجسيد للتوترات التي شكلت العراق منذ عام 2003، ورمزاً يمكن أن يتغير في حال تفوقت القومية على الطائفية كقوة سياسية، أو إذا فرض الاستقلال العراقي نفسه على النفوذ الإيراني والأمريكي، وإذا كان بالإمكان الحكم الرشيد أن يحل محل المحسوبية التي أصبحت البلد معروفة بها.
إن الحليف الطائفي الشيعي السابق لإيران والمعروف بالفساد، يتبنى الآن بقوة القيم المعاكسة في الانتخابات البرلمانية في وقت قد تكون فيه البلاد مهيأة بشكل فريد لهذه القيم؛ إذ خرجت العراق للتو من معركة وحشية ضد تنظيم الدولة، كما تنقسم الأحزاب الشيعية إلى خمس فصائل رئيسية، ولا يوجد ممثل سني واضح. يصل العراق إلى هذا المنعطف مُحملا بالعديد من المشاكل ذاتها التي ابتلي بها قبل أن يستولي تنظيم الدولة على أجزاء كبيرة من البلاد في عام 2014.
أشار فورد إلى ذلك بقوله: "هناك إحباط من الفساد، وإحباط من انخفاض جودة خدمات البنية التحتية مثل الماء والكهرباء. لذلك يريد الناس التغيير". وأضاف: "في الماضي، على الأقل في الجانب الشيعي، كانت المؤسسة الدينية في النجف تدعم الحزب الديني الشيعي، لكن هذا العام خرجوا بتصريح باللغة العربية: ‘لا تصوتوا للقائمة فقط‘**، والتي تشير إلى فسادهم."
وفي ظل هذه الخلفية، فإن الصدر الرجل -الذي نجح في تكوين صورة كدخيل على الرغم من وضعه كخبير سياسي من الطراز الأول- يمكن أن يمتلك المفتاح لذلك. إنه يسيطر على شريحة صغيرة نسبياً لكنها موالية بشكل كبير للناخبين الشيعة، وقد عمل مع السياسيين السنة منذ أكثر من عام. على الرغم من أنه قد يفقد بعض دعمه الشيعي لأحزاب شيعية أكثر راديكالية وشعبية ظهرت في فترة ما بعد تنظيم الدولة، إلا أن طبيعة النظام الانتخابي العراقي الممزق تعني أن الكثير من المناورات السياسية ستحدث بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت يوم السبت؛ هذا هو المكان الذي سنلمس فيه دور الصدر.
ذكر فورد: "ليس من الصعب تخيل أن الأشخاص الذين لديهم قدر معين من الخبرة في التفاوض مع الأحزاب السياسية الأخرى سيصبحون أفضل في مناخ ما بعد الانتخابات. الصدر يعمل على ذلك منذ العام الماضي على الأقل".
لفهم كيف يمكن لرجل يتمتع بقاعدة دعم صلبة ولكن هامشية أن يبقى ذا أهمية سياسية، فإنه من المفيد فحص الوضع السياسي في العراق. ربما يكون المشهد الانتخابي أكثر انقساماً من أي وقت مضى؛ لا يوجد ما يعبر عن التضامن الشيعي، بما في ذلك حزب الدعوة الحاكم حيث يرأس رئيس الوزراء حيدر العبادي وسلفه نوري المالكي قوائم سياسية مختلفة. كما لا يوجد زعيم سني واضح، والأكراد الذين كانوا حتى وقت قريب مؤثرين وأقوياء، تم تحييدهم بعد أن سحقهم الجيش العراقي في أعقاب استفتاء على الاستقلال في العام الماضي. واليقين الوحيد في الانتخابات هو أنه لن يسيطر فصيل واحد على البرلمان المكون من 328 مقعداً.
في هذا السيناريو، يمكن للصدر أن يمتلك نفوذاً كبيراً،وهو ما أخبرني به بن فان هوفلين رئيس تحرير تقرير النفط العراقي (Iraq Oil Report) وهي نشرة ترفع تقارير عن صناعة الطاقة في العراق. وقد صرّح فان هوفلين: "يأتي اعتقادي بأن الصدر يتمتع بميزة نسبية من واقع أن الصدريين [مؤيدي الصبر] كانوا منظمين تاريخياً بشكل جيد للغاية. يأتي مؤيدوه من جهود شعبية، ولا يعتمدون بشكل خاص على أي تغيرات في القوى سياسية. من حيث عدد المقاعد التي يتزعمها [في مجلس النواب]، ومن حيث الولاء الذي يمكن أن يتوقعه من أعضاء البرلمان وكتلته، فإن ذلك يكون قوياً إلى حد ما في الوضع السياسي المتقلب من الناحية الأخرى".
يأتي دعم الصدر السياسي القوي جزئياً من خلفيته العائلية: عمه محمد باقر الصدر -الذي تزوجت ابنته من مقتدى الصدر- كان باحثا شيعياً بارزاً في عصره، وكان والده محمد محمد صادق الصدر يحظى بالتبجيل في جميع أنحاء العالم الشيعي. قتل الرجلان المواليان لآيات الله على يد نظام صدام. ولا يمتلك الصدر الأصغر مكانة من هذا المستوى من النفوذ الديني في العراق. لكن ما ينقصه في السلطة الأخلاقية، يعوض عنه في النفوذ السياسي والولاء. لقد ميز نفسه عن الآخرين بطرق أخرى أيضاً؛ فهو لم ينصّب نفسه فقط كمحارب في مكافحة الفساد، بل أيضاً كمواطن عراقي معارض للتأثير الإيراني والأمريكي. ويرى فورد ربما الأهم من ذلك أنه لا يعتقد أن الصدر مهتم بدور سياسي أو منصب وزاري، علل فورد ذلك موضحاً: "بدلاً من ذلك، هدفه هو أن يكون مؤثراً في السياسة وأن يكون طرفاً فاعلاً. يرى الصدر دوره كمرشد وليس قائماً بالنشاط [السياسي]".
على سبيل المثال، خذ حملة مكافحة الفساد التي قادها الصدر: قبل عامين، اقتحم أنصار الصدر المنطقة الخضراء التي يفترض أنها آمنة في بغداد وسيطروا على البرلمان. لقد طالبوا بتحسين الحكم ووضع حد للفساد وغادروا بعد يوم واحد بناء على أوامر الصدر. خلال ذلك الوقت، طالب الصدر أولاً بحكومة تكنوقراطية (حكومة الكفاءات) تتألف من أعضاء ذوي كفاءة، والذين يعتقد الكثير من العراقيين أنهم غير مكترثين بالفساد وقادرين على جلب الكفاءة -التي تشتد الحاجة إليها- للحكم. ويبقى هذا مطلب الصدر في هذه الانتخابات أيضاً، رغم أن فورد أشار إلى أن: "التكنوقراط الذين يفتقرون للدعم السياسي قد لا يتبوؤون مناصب عليا".
كما أشار فورد إلى أن خطاب الصدر المناهض للفساد مثير للسخرية لأن حزبه سيطر لفترة من الوقت على وزارات الصحة والنقل. وقال: "عُرفوا بفسادهم في وزارة الصحة، ناهيك عن الطائفية، في كثير من الأوقات تم استبعاد السنة من المستشفى وقتلهم".
يبقى هذا الأمر من ضمن ما خلفه الصدر في العراق؛ فعندما وقع العراق في حالة من الفوضى في أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة، لم يقاتل جيش المهدي التابع له القوات الأمريكية فحسب، بل السنة كذلك. وكانت الجماعة مسؤولة عن بعض أسوأ الفظائع التي ارتكبت ضد السكان السنة في العراق، والتي على الرغم من كونها أقلية تمتعت بالهيمنة على عراق صدام على حساب الأغلبية الشيعية. غير أن الصدر حلّ جيش المهدي القوي في عام 2008، وشكل فيما بعد ما أسماه "سرايا السلام" لمحاربة داعش، وحل تلك الجماعة في ديسمبر/كانون الأول الماضي بعد هزيمة الجماعة الإرهابية ووافق على تسليم أسلحتها للحكومة.
قد يكون التحول السياسي غير المحتمل للصدر أكثر ارتباطاً بالبراغماتية منه بأي نوايا طائفية جديدة في العراق. نظراً لأن التحالفات السياسية في العراق مبنية على نظام القوائم، كلما كانت قائمتك أكثر شمولاً، كلما زاد عدد المقاعد التي من المحتمل أن تحصل عليها في البرلمان. في الموصل معقل السنة الذي كان حتى وقت قريب يحكمه تنظيم الدولة، شجع حيدر العبادي – وهو شيعي- العديد من السنة على الترشح في قائمته "ائتلاف النصر". يبدو أن بعض السياسيين العراقيين يدركون أن الاندماج قد يساعد في بناء أكبر ائتلاف محتمل بعد الانتخابات.
أوضح فان هوفلين: "إنها إشارة إلى أن الهوية الطائفية ليست عاملاً كبيراً في هذه الانتخابات كما بدا في الانتخابات السابقة. الآثار المترتبة على ذلك هي أن الارتباط بأعضاء من مختلف الأعراق والطوائف، ليست بالأمر السيء وهذا أمر يبعث على الأمل".
يضيف فان هوفلين، هذا لا يعني أن سياسة الهوية لم تعد مهمة. وبالفعل، فإن إحدى المجموعات الشيعية الرئيسية في الانتخابات المقبلة هي "ائتلاف الفتح" المؤيد لإيران، والذي يضم قوات التعبئة الشعبية التي قاتلت داعش، والذي كان مسؤولاً عن بعض أكثر الفظائع المروعة ضد السنة في المناطق التي استولوا عليها. قد لا تكون مجموعات مثل الفتح مناهضة للسُنّة بحد ذاتها، لكنها تلعب على سياسات الهوية الشيعية.
أوضح فالي نصر -وهو باحث في الشرق الأوسط وعميد كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز- سياسة العراق على هذا النحو: لا يوجد زعيم شيعي يصف نفسه بأنه طائفي. على العكس، يعتبرون أنفسهم كحكام لكل العراق. وأوضح: "لكن في النهاية، ستأتي جميع الأصوات من الشيعة وليس من السنة". وقال إن جميع الفصائل الشيعية بما في ذلك فصائل الصدر: "تتنافس على جزء من التصويت الشيعي، لذا فإن هذا الترحيب بالسنة له قيمة هامشية بالنسبة لهم".
أشار نصر: "إنه شعار حملة لإبلاغ الشيعة بأنني أفضل من الأحزاب الشيعية الأخرى التي تحكم العراق فعلياً، لأنني أستطيع بالفعل المطالبة بدعم من السنة. إنها في الواقع رسالة إلى الشيعة، وليست رسالة إلى السنة".
يؤكد نصر أن الصدر قد ميز نفسه عن الأحزاب الشيعية الأخرى بطريقة أو بأخرى: "لقد كان يحاول أن يقول، حسناً أنا الطرف الشيعي الأبعد عن إيران". يحتل هذا الموقف مكانة بارزة في بلد يسيطر عليه النفوذ الإيراني. لا تزرع طهران السياسيين والفصائل الشيعية -مثل الفتح- فحسب، بل أيضاً الزعماء السنة. إن موقف الصدر هو موقف يمكن أن يثبت جذه للسنة وأولئك العراقيين الذين سئموا من التدخل الخارجي في شؤون بلادهم.
لكن قد يكون هذا تفكيراً حكيماً؛ فقرار الرئيس ترمب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وأحدث المناوشات بين إسرائيل وإيران في سوريا الواقعة على الحدود مع العراق، جميعها تضمن أن العراق سيظل مركزاً هاماً للنشاط والنفوذ الإيراني والقوى الكبرى الأخرى في العراق كالولايات المتحدة. لقد تجنبت إيران علانية انتقاد أو معارضة الصدر على الرغم من خطابه ضد نفوذها في العراق. قد يكون الدافع وراء هذا هو هدف طهران الخاص في رؤية مغادرة الولايات المتحدة للعراق، وهو هدف تتقاسمه مع الصدر.
ذكر فورد: "الإيرانيون هم أكثر مرونة وصبراً ويفكرون على المدى الطويل. إنهم قادرون على العمل من أجل أهداف بعيدة المدى، وليس فقط على المدى القصير"، على أي حال، فإن انسحاب الولايات المتحدة من الصفقة الإيرانية يضمن أن تلعب طهران دوراً ما -ربما يكون مفسداً- في الفترة التي تلي انتخابات السبت.
نوّه نصر: "تبدأ اللعبة الحقيقية بعد الانتخابات. في سيناريو ما بعد صفقة إيران النووية، سيكون من الصعب رؤية [كيف] سيشكل العراق حكومة. علينا أن نفكر في أنه في كل مرة كان العراق يتمتع بحكومة مستقرة، كانت هذه الحكومة تُبنى من خلال تعاون إيراني أمريكي، بما في ذلك استبدال نوري المالكي بالعبادي".
ومع ذلك، ربما كانت هذه هي الفترة الأكثر تفاؤلاً في العراق منذ وقت؛ وهي كذلك بالتأكيد مقارنة بالأيام المظلمة في فترة 2014-2015 عندما استولى تنظيم الدولة الإسلامية على أجزاء كبيرة من البلاد بجهد ضئيل على ما يبدو. لقد نجت البلاد من تهديد وجودي؛ سمحت أسعار النفط المرتفعة لها بالبدء في الخروج من أزمة مالية، والخطاب السياسي أقل طائفية وأقل إثارة للانقسام مما كان عليه في الماضي.
ذكر فان هوفلين: "ثمة أسباب للأمل، ولكن هناك دائماً ‘ لكن‘. ومن الجدير القول إن كافة المشاكل النظامية التي وُجدت قبل تنظيم الدولة لا تزال موجودة"، هذا هو المكان الذي يمكن أن يشير فيه تحول الصدر الظاهر إلى آثار عميقة على سير السياسة العراقية قدماً.
كتب ثاناس كامبينس -وهو زميل أقدم في مؤسسة القرن (the Century Foundation)- مؤخراً: "إن نجاح نهج الصدر وبرنامجه أهم من نجاح مرشحيه. إذا ما رُفض ائتلافه من قبل الناخبين، أو تخلى عن خططه لتحدي فساد الحكم، فحينئذٍ يمكننا توقُّع المزيد من الأعمال المعتادة المثبطة للهمة من بغداد. لكن إذا تابع الصدر الانتخابات بعد ذلك، وشجع على تشكيل حكومة قائمة على النظام الأساسي والمعارضة التشريعية، فعندئذ يمكننا أن نتوقع دخول السياسة العراقية مرحلة جديدة والابتعاد عن النزعة الطائفية وسياسات المحسوبية".
——————————————–
الهوامش:
* المقاعد اللازمة للأغلبية 165 مقعداً من أصل 328 مقعد لتشكيل الأغلبية السياسية في مجلس النواب العراقي.
** التصويت للقائمة فقط سيعطي فرصة كبيرة لصعود أشخاص في القائمة ربما لا يستحقون الفوز، إذ أن محافظة النجف هي المحافظة الأولى فى العراق فى الفساد الإدارى والمالى.
———————————-
ترجمة: آلاء أبو رميلة