فيكتور أوربان.. رئيس وزراء أوروبي بنفس صليبي

midan - انفوجراف
مقدمة الترجمة

تعرّض اليمين المتطرف لضربات قاصمة أقصته عن الوصول إلى سدة الحكم في بلدان مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وغيرها من البلدان، لكنه لم يكن حائلًا أمام حكم الخطاب العنصري لبلدان ما بعد الشيوعية، والتي خرجت لتوها من أنقاض الاتحاد السوفياتي، وأبرزها المجر.    

 

وقد كان من هؤلاء ممن تذيع أخباره مرة بعد أُخرى في سياساته وقراراته تجاه المهاجرين، والمسلمين خاصةً، ڤيكتور أوربان الذي مثّل حجر الزاوية في البناء المجري السياسي المعاصر، والذي يشبه ترمب في ثرائه، بالإضافة لتطبيقه قضية السياج الذي بناه بين بلده وبين صربيا وكرواتيا. يتناوله الصحفي النمساوي -المجريّ الولادة- ومؤلف كتاب "أوربان.. الهنغاري القوي" (Orbán: Hungary’s Strongman) بول ليندفاي، ويسبر أغوارحياته وأطوارها، ويبحث في هذا التحول وأثره على مستقبل الاتحاد الأوروبي حتى صار الرجل الأكثر خطورة في الاتحاد الأوروبي.

  

نص المقال

في أحد أيام الصيف في عام 1989، رأيت شابا ذا لحية طويلة، طويل الشعر يقترب من ميكروفون ليخاطب 250 ألف شخص في العاصمة المجرية بودابست. احتشد ذلك الجمع في الساحة العامة المعروفة باسم ميدان الأبطال من أجل الاحتفال بمراسم إعادة دفن قادة الثورة المجرية، التي نشبت في عام 1956 المناهضة للشيوعية، والتي سحقها الجيش السوفياتي. حضرت ذلك الحدث لتغطيته في بث مباشر للتلفزيون. كان المتحدث المجهول يبلغ من العمر 26 عامًا ويمثل مجموعة صغيرة من الشباب تدعى "فيديسز" (أي حزب الشباب). وقد أثار خطابه -الذي استمر ستا وثلاثين دقيقة- الحشود في الساحة والمشاهدين في المنزل، داعيًا إلى إجراء انتخابات حرة وسحب القوات السوفياتية. وأصبح تقريبًا بين عشية وضحاها مشهورًا في المجر وفي الخارج.

   

فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري - 1998 (غيتي)
فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري – 1998 (غيتي)

   

كان ذلك الشاب هو فيكتور أوربان. الذي أصبح الآن رئيسًا للوزراء -وهو المنصب الذي يشغله منذ عام 2010، وكذلك من عام 1998 إلى عام 2002-، وقد خاض الانتخابات التشريعية مرة أخرى في الثامن من أبريل/ نيسان الماضي. وكما هو متوقع فقد فاز بغالبية الثلثين في البرلمان، ما يعنى أن رئيس الوزراء سيكون مطلق اليد في الحكم لأربعة أعوام إضافية.

 

شهدت المجر في ظل حكمه اليميني، وقيادته الشعبوية، عودة العديد من أشباح الماضي، بما في ذلك القومية العرقية والفساد المتأصل بعمق. فقد شرع أوربان في التركيز الكاسح للسلطة، وألغى الضمانات الدستورية، ونجح في إعادة تشكيل الدولة وفقًا لرؤيته، ومثل تهديدًا محتملًا لمستقبل الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من كونه من أصحاب الملايين، فهو يُقدم نفسه على أنه حامل راية الهوية المسيحية المجرية والعقل المدبر لما يصفه بمصطلح "الديمقراطية غير الليبرالية".

 

إنه تحول ملحوظ في أطوار حياة رجل كان ذات يوم بطلًا مدافعًا عن الديمقراطية، وملحدًا يساريًا يتمتع بشخصيةٍ قوية، وشابًا فقيرًا لدرجة أنه يقول إنه كان في الخامسة عشرة من عمره عندما فتح الصنبور للاستمتاع بالماء الدافئ للمرة الأولى. كيف تغير، وساهم في تغيير بلده، بشكلٍ كبير؟، ولماذا يُوصف زعيم دولة صغيرة غير ساحلية تقع على نهر الدانوب -على حد تعبير رئيس مؤسسة الاستقرار الأوروبي جيرالد كناوس- بأنه "أخطر رجل في الاتحاد الأوروبي"؟.

 

عمل أوربان بعد تخرجه من الجامعة في عام 1987 بدوام جزئي في مؤسسة المجتمع المفتوح التي يمولها رجل الأعمال جورج سورس. وبعد عامين انتقل مع زوجته وابنته الصغيرة إلى مدينة أوكسفورد، عازمًا على الانتهاء من مشروع بحثي لمدة تسعة أشهر -بتمويل من مؤسسة سورس كذلك- حول فكرة المجتمع المدني في الفلسفة السياسية الأوروبية. ولكن بعد أربعة أشهر فقط، عادت العائلة إلى بودابست، واتخذ أوربان قراره المصيري باحتراف العمل السياسي.

 

أقدم بكل جد على العمل في حملة الانتخابات البرلمانية الحرة الأولى في المجر عام 1990، ووُضع على رأس قائمة المرشحين لحزب فيديسز "حزب الشباب". وعلى الرغم من أن الحزب لم يحصل إلا على 22 مقعدًا فقط، مما جعله ثاني أصغر مجموعة في البرلمان، فقد تميز نوابه البرلمانيون بأن جميعهم من الشباب ذوي اللحى والشعر الطويل الذين يرتدون الجينز والقمصان المفتوحة، مما ساعد على زيادة إعجاب الجمهور بهم. وقد دعوا إلى سياساتٍ اقتصادية وتعليمية واجتماعية ليبرالية وسارعوا إلى إدانة النزعات القومية والمعادية للسامية في أحزاب الائتلاف الحكومية.

   

اتسم خطاب أوربان منذ أن انغمس في السياسة اليمينية، بالجهر علنًا عن الإيمان بالأمة، والوطن، والقيم المسيحية
اتسم خطاب أوربان منذ أن انغمس في السياسة اليمينية، بالجهر علنًا عن الإيمان بالأمة، والوطن، والقيم المسيحية
  

وسرعان ما فرض أوربان -الذي امتلأ بالطموح وتميز بشخصيته الجذابة ومهارته التكتيكية قبل أن يبلغ 30 عاما- سيطرته الكاملة على حزب فيدسز. وبعد أداء الحزب المخيّب للآمال في انتخابات عام 1994 التي شهدت انتصار الاشتراكيين (الحزب الشيوعي القديم)، تغيّرت توجهات الحزب إلى اليمين. فقد بدا أن خيار الانضمام إلى السياسة القومية الشعبوية سيقدم الفرصة الواقعية الوحيدة للنجاح في المستقبل ضد اليسار. وفاز حزب فيدسز في الانتخابات البرلمانية عام 1998 بمقاعد أكثر من أي حزب آخر، وصار أوربان، الذي أصبح الآن حليق اللحية ويرتدي ملابس رسمية، أصغر رئيس وزراء منتخب في تاريخ المجر.

 

أصبح حزب فيدسز تدريجيًا القوة السياسية الرئيسية في المجر عبر استغلال "القضية الوطنية" الشديدة الحساسية التي تتعلق بالصدمة الناجمة عن معاهدة تريانون في عام 1920، وهي معاهدة وقعتها المجر مع الحلفاء الغربيين بعد الحرب العالمية الأولى وفقدت بسببها المجر ثلثي أراضيها التاريخية ووجد أكثر من ثلاثة ملايين مجري أنفسهم يعيشون في دول أجنبية. وزاد الإذلال الوطني ومصير المجريين الذين يعيشون الآن في الدول المجاورة من شعور أجيال بالمرارة. وقد اتسم خطاب أوربان منذ أن انغمس في السياسة اليمينية بالجهر علنًا بالإيمان بالأمة والوطن والقيم المسيحية.

 

عانى حزب فيدسز تحت حكم أوربان من هزائم انتخابية متتالية مفاجئة في عامي 2002 و2006. لكنه استمر، وحقق انتصارين في عامي 2010 و2014، حين فاز بأغلبية الثلثين في البرلمان. وفي مواجهة معارضة منقسمة تفتقد إلى المصداقية، شرع أوربان في شغل جميع مناصب السلطة في الدولة بمؤيدين موثوق بهم.

 

ولكن بحلول أوائل عام 2015، فقدت حكومة أوربان أغلبيتها العظمى، واستغل رئيس الوزراء مسألة الهجرة لإحداث انقسام من شأنه تهيئة السبل له لاستعادة الدعم. وأثبتت أزمة المهاجرين واللاجئين، التي بلغت ذروتها في ذلك العام، أنها هبة من السماء لنجاح هذا المشروع. تلقت المجر 174 ألف طلب لجوء في عام 2015 وحده (ما يعادل 1770 طالب لجوء لكل مئة ألف من السكان المقيمين في الدولة)، وهو ما يُمثل أعلى معدل في أي بلد أوروبي. وبالإعراب عن معارضته القوية لتدفق المهاجرين، قام أوربان ببناء سياج بطول 110 أميال على طول الحدود مع صربيا لمنع دخول هؤلاء المهاجرين، وسياج آخر على طول الحدود مع كرواتيا. وقد تمكن من إشاعة موقفه المتعلق بالمهاجرين، في البداية في المجر، وبعد ذلك في جميع أنحاء دول ما بعد الشيوعية في وسط وشرق أوروبا، من خلال استغلال عنصرين شائعين في الانطباع الذاتي للمجريين، وكلهما ناجمين عن معاهدة تريانون، وهما: أسطورة الضحية، والرغبة في البقاء على قيد الحياة.

   

مجموعة من اللاجئين أمام السياج الحدودي بين المجر وصربيا (غيتي)
مجموعة من اللاجئين أمام السياج الحدودي بين المجر وصربيا (غيتي)

  

ارتفعت في الفترة بين شهري يونيو/حزيران وسبتمبر/أيلول من عام 2015، شعبية حزب فيدسز، وشعبية أوربان في استطلاعات الرأي بشكلٍ قوي. وحقق شهرةً دوليةً باعتباره من الرواد ونموذج للقوميين يُحتذى به. وحتى منتقدي معاملة الحكومة القاسية لطالبي اللجوء اعترفوا بأن أوربان رأى مُبكرًا قبل معظم أقرانه في الاتحاد الأوروبي أنه ينبغي السيطرة على الحدود قبل الموافقة على خطة إعادة توطين المهاجرين. وصرحت المجلة الألمانية دير شبيغل ذات الميول اليسارية، أنه "المُنتصر السياسي من أزمة اللاجئين". ويُمكن القول بأن فشل القادة الأوروبيين في التعامل بشكل ملائم مع أزمة اللاجئين، (وكذلك أزمة منطقة اليورو) هو ما مكّن أوربان من النجاح، وبصورة أعم، يُعزى ذلك أيضًا إلى صعود الأحزاب القومية والشعبوية في جميع أنحاء أوروبا.

 

لم تدع استطلاعات الرأي مجالًا للشك في أن أوربان نجح في الحصول على الدعم عن طريق تحويل قضية الهجرة إلى قضية تسليح. ففي استطلاع للرأي في شهر سبتمبر/ أيلول عام 2015، أيد ثلثا المشاركين في الاستطلاع في المجر بناء السياج على طول الحدود مع صربيا. وأكد استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث في 10 دول أوروبية عام 2016 أن المجريين هم الأكثر احتمالًا للاعتقاد بأن اللاجئين سيزيدون من فرص الإرهاب في بلادهم، فقد قال 76% من المجريين الذين سُئلوا إنهم يصدقون ذلك، مقارنة بمتوسط ​​59% من المشاركين من الدول العشر التي شملها الاستطلاع. بل زاد الاعتقاد بأن اللاجئين يمثلون عبئًا، لأنهم يأخذون الوظائف المتاحة في بلدهم ويستفيدون من المزايا والإعانات الاجتماعية، وقد أعلن 82% من المجريين الذين شملهم الاستطلاع إيمانهم بذلك الاعتقاد، مقابل ​​50% في المتوسط من الدول الأخرى.

 

رفض بعض المراقبين الفكرة الغريبة القائلة بأن أوربان -الزعيم القومي المتشدد لدولة غير ساحلية يقل عدد سكانها عن عشرة ملايين نسمة- يمكنه إعادة تشكيل السياسة الأوروبية، ويتحدى بشكلٍ جاد موقف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل المهيمن على القارة.

وعلى الرغم من أن أوربان قد تجنب مهاجمة ميركل بشكل علني، فإن خطاباته ومقابلاته المليئة بالسخرية، احتوت في كثير من الأحيان على إشارات تحمل الحقد والضغينة تجاهها. وقد وردت إحدى الأمثلة العديدة على ذلك في مجلّة "فيلت فوخه" السويسرية الأسبوعية، في عام 2015 حين قال أوربان "بعبارة صريحة، ما يهيمن على الحياة العامة الأوروبية هو الليبرالية كذا وكذا عن القضايا اللطيفة، ولكنها تحتل المرتبة الثانية"، وأضاف "تعتبر ألمانيا بمثابة المفتاح. فإذا قال الألمان غدًا "لقد فاض بنا الكيل، لقد قضي الأمر"، فعلى الفور سينحسر فيضان المهاجرين. القضية بسيطة للغاية، يُمكن حلها بجملة واحدة فقط من أنجيلا ميركل".

   

مظاهرات شعبية في العاصمة المجرية بودابست ضد سياسة فيكتور أوربان (رويترز)
مظاهرات شعبية في العاصمة المجرية بودابست ضد سياسة فيكتور أوربان (رويترز)

   

ومع ذلك، لا ينبغي التقليل من أهمية تأثير أوربان على الحشود الساحقة في وسط وشرق أوروبا. ويعود ذلك في المقام الأول إلى تأثيره في ظهور دول الاتحاد الأوروبي الأربعة (التشيك، والمجر، وبولندا، وسلوفاكيا) كمجموعة قومية واحدة، مما أدى إلى عرقلة التكامل الأوروبي، وبالتالي دعم الإستراتيجية التوسعية الروسية. في هذه الأثناء، في أوروبا الغربية، لدى أوربان العديد من المعجبين في ألمانيا والنمسا وفرنسا وهولندا.

 

سيكون من الخطأ مقارنة النظام المجري بروسيا في ظل حكم فلاديمير بوتين مثلًا. إذ لا يُعتقل السياسيون المعارضون، ولا تخضع المظاهرات المناهضة للحكومة لوحشية الشرطة. لكن على مدى السنوات الثماني الماضية، ابتكر أوربان نموذجًا جديدًا لما يصفه بعض الباحثين المجريين بأنه "نصف ديمقراطية في حالة تدهور"، أو "حكم استبدادي ناعم"، يدمج الرأسمالية القائمة على المحسوبية مع الخطاب اليميني. وقد رفض رفضًا قاطعًا الاتهامات التي وجهت إليه بشأن مزاعم غير مصحوبة بدليل حول مصادر ثراء حلفائه، لكن المتحدثين باسم المعارضة في البرلمان يتذمرون مرارًا وتكرارًا من أنه لم يصبح أقوى رجل في المجر فحسب، بل أيضًا أغنى رجل فيها.

  

وفيما يتعلق بتقرير مؤشر مدركات الفساد الذي أعدته منظمة الشفافية الدولية وصدر في شهر فبراير/شباط الماضي، تم تصنيف المجر باعتبارها ثاني أكثر دولة في الاتحاد الأوروبي فسادًا بعد بلغاريا. وذلك نتيجة لإعادة توزيع الدوائر الانتخابية لصالح حزب معين في النظام الانتخابي، وإخضاع الصحافة الحرة، وتحجيم القضاء، كما حققت المجر أيضًا تميزًا مشبوهًا عندما وصفتها منظمة فريدوم هاوس بأنها "الدولة الأقل ديمقراطية" بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددهم 28 دولة.

 

بعد ما يقرب من ثلاثة عقود من رؤيتي له لأول مرة وهو يحشد الجمهور في بودابست، لا يزال أوربان مناضلًا يقوى على المواجهة. أما الآن، فلا تستطيع المعارضة الضعيفة والمنقسمة ولا تحذيرات الاتحاد الأوروبي ومنظمات حقوق الإنسان، من أن تهدد من إحكام قبضته على السلطة.

—————————————————

  

مترجم عن ذا اتلانتيك


إعلان