إيران وتركيا وروسيا.. من سيربح لعبة الشطرنج في سوريا؟

ثماني سنوات من الحرب وتعارض المصالح، هكذا تبدو الحالة السورية التي تزداد تعقيدًا. يتناول آرون ستاين، أحد كبار الباحثين المقيمين بمركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي، في هذا التقرير الوضع الذي يحيط بمستقبل سوريا والصراع الدائر في الوقت الحالي وما ستؤول إليه الأحداث. كما يسلط الضوء على القوى المتسيدة للموقف على أرض الواقع في سوريا وفرص كل واحدة من هذه القوى.
بعد خمسة أسابيع من القتال، سيطرت القوات العسكرية التركية وحلفائها على الحدود التركية مع عفرين، أحد الجيوب التي يسيطر عليها الأكراد في شمال غرب سوريا. وأحرز هجوم أنقرة البري تقدمًا بطيئًا إلا إنه كان مطردًا، وفي غياب أي تدخل خارجي أو قرار سياسي بوقف الهجوم، فمن المؤكد أنه سيحقق هدفه المتمثل في إنهاء سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية (YPG) على عفرين.

ولا تعتبر عملية غصن الزيتون، وهو الاسم الذي أُطلق على الهجوم التركي، مهمة فقط لأنقرة. بل لها تداعياتها السياسية الأخرى على الجهات الخارجية المشتركة في الحرب الأهلية السورية. ففي واشنطن، تركز المناقشات المتعلقة بالسياسة الأمريكية في سوريا على التساؤلات التي تدور حول الاستراتيجية وما إذا كان باستطاعة الولايات المتحدة أن تترجم مكاسبها العسكرية ضد تنظيم الدولة إلى تسوية سلمية دائمة وفقاً للشروط المؤاتية لمصالح الولايات المتحدة. ومع ذلك، عادة ما تصف هذه المناقشات خصوم واشنطن بالتماسك الإستراتيجي، بينما يُظهر تدخل تركيا عبر الحدود أن الجهات الخارجية الرئيسية في الحرب تتحرك في غياب رؤية إستراتيجية متماسكة ومن المحتمل أنها عاجزة عن إحراز أهدافها الخاصة دون تقديم تنازلات جمة.
وُضِعت سياسة الولايات المتحدة في سوريا، التي ورثها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن سلفه، في الأصل كحملة محدودة لمكافحة الإرهاب بهدف الإطاحة بداعش من المنطقة التي سيطرت عليها في شرق سوريا. وتطلّب ذلك أن تتحالف واشنطن مع قوات سوريا الديمقراطية (SDF)، وهي مظلة تجتمع تحتها الميليشيات التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب الكردية، والفرع السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK)، إحدى الجماعات المتمردة الناشطة في تركيا منذ ما يقرب من أربعة عقود. (وبذلك، أبعدت واشنطن حليفها التركي في حلف الناتو). وتمكن التحالف الذي يضم الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية من إنجاز مهمته: إذْ تكبدت داعش هزيمة من الناحية الإقليمية في سوريا.
ومع تحول الحرب من العمليات الهجومية إلى الاستيلاء على الأراضي التي تقع تحت سيطرتها، فقد استقرت الولايات المتحدة على سياسة تتعلق باستخدام الأراضي التي تسيطر عليها كوسيلة تحاول من خلالها إجبار الحكومة السورية على تقديم تنازلات في محادثات السلام التي دعت إليها الأمم المتحدة في جنيف.
وحاولت واشنطن أن تُقرن حملتها العسكرية بأهداف سياسية قابلة للتحقيق، إلا إنها أشارت بذلك إلى اعتزامها البقاء في شمال شرق سوريا في المستقبل القريب. ويتعارض ذلك مع مواقف كل من إيران وتركيا وروسيا والنظام السوري، التي أُجبرت على الدخول في تحالفات متشابكة وفي بعض الأحيان متناقضة تقوم على المصلحة.
بالنسبة لتركيا، يؤكد تواجد الولايات المتحدة في سوريا أن واشنطن ستستمر في تدريب وتسليح قوات سوريا الديمقراطية، والأهم، هو أن الجهود التي يقودها الأكراد لإنشاء هياكل للحكم الذاتي في سوريا -والذي تعتبره أنقرة تهديدًا لأمنها القومي – لن تخضع للاتفاق الأوسع الذي يركز السيطرة السياسية في دمشق. وللضغط على الولايات المتحدة وإضعاف الأكراد، شنت أنقرة هجومين عسكريين في سوريا – عملية درع الفرات في أغسطس / آب عام 2016 وعملية غصن الزيتون في يناير / كانون الثاني من هذا العام.
وفي كلتا الحالتين، طلبت تركيا من روسيا الإذن في استخدام القوة العسكرية، لئلا تخاطر بتصعيد غير مقصود مع قوة عظمى. ففي أعقاب فترة الصراع التي تلت نوفمبر / تشرين الثاني عام 2015، جراء إسقاط تركيا قاذفة قنابل روسية لخرق مجالها الجوي، تعمقت العلاقة بين الرئيسين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين. وتزامن هذا التقارب مع قرار تركيا باستخدام القوة العسكرية في سوريا، وفي الوقت الحالي، يتواصل الرجلان هاتفيًا بصورة منتظمة للحد من التوترات وتنسيق الجهود في محاولة لإدارة الحرب الأهلية السورية.
كما اختارت روسيا وتركيا العمل مع إيران أيضًا، التي ربما تعتبر أقوى المؤيدين للرئيس السوري بشار الأسد، من خلال مبادرتين مترابطتين. تتمثل الأولى، التي تُعرف بعملية الأستانة، في آلية دبلوماسية ثلاثية للإشراف على سلسلة من عمليات وقف إطلاق النار وما يُطلق عليه مناطق خفض التصعيد؛ وتتمثل الثانية في عملية السلام المُجامِلة التي عُقِدت مؤخرًا في سوتشي، بهدف إطلاق المفاوضات سريعًا لإنهاء الحرب وصياغة الدستور. زخرت عملية سوتشي بالتناقضات وتطلب الأمر في النهاية من روسيا أن تتنازل إلى تركيا فيما يخص عددًا من القضايا، من بينها تقليص نطاق اختصاص المؤتمر. ويساعد الشد والجذب الدبلوماسي بين تركيا وروسيا على تفسير الوضع القائم وإيضاح الديناميات في عفرين.
وبوجه عام، يعتمد الاتفاق الروسي – التركي على التعاون في محافظة إدلب السورية، آخر مناطق خفض التصعيد التي جرى تحديدها في الأستانة. ولمراقبة وقف إطلاق النار المفروض بين نظام الأسد وجماعات المعارضة التي تدعمها تركيا، فمن المتوقع أن ينشر الجيش التركي قواته في 12 موقعًا في إدلب. وبالتالي تجد أنقرة نفسها في خضم تدخل عسكري مباشر في سوريا بشكل أعمق من أي وقت مضى. وعلى الرغم من أن هذا التدخل له أهداف محدودة قصيرة الأجل، فهناك خطر بأن يتحول إلى تدخل مفتوح، غير محدد المدة، خاصة في غياب مفاوضات السلام بين النظام والمعارضة. وتسعى موسكو، بدورها، إلى العمل مع أنقرة لتحقيق تسوية سلمية، إلا أنها في سعيها لذلك، أخلّت بمصالح الحليفتين الأخيرتين، طهران ودمشق.
وتعتزم كل من إيران والحكومة السورية إجبار القوات التركية على الانسحاب من سوريا في نهاية المطاف، إذ يهدد تواجدها المستمر بتقويض أهداف الأسد التي تتمثل في هزيمة قوات المعارضة وضمان السيطرة بشكل كامل على الأراضي السورية. واستهدفت إحدى الميليشيات المتحالفة مع النظام القوات التركية في العيس، وهي نقطة مراقبة تخضع للإدارة التركية في جنوب حلب. وفي عفرين، انتشرت الميليشيات المتحالفة مع النظام (التي يُفترض ارتباطها بإيران) إلى جانب وحدات حماية الشعب الكردية وهاجمت الجنود الأتراك في مناسبتين مختلفتين على الأقل. ويبدو أن روسيا كانت معارضة لتحركات النظام في عفرين، ومن المؤكد تقريبًا أنها اختلفت مع حلفائها حول استهداف القوات التركية المنتشرة في إدلب، وفقًا لشروط اتفاقية خفض التصعيد التي توسطت خلالها في الأستانة.
تعتبر عملية نشر القوات التركية في سوريا جزءًا من الجهود الروسية الرامية إلى تسوية الصراع وفق شروطها الخاصة. في هذه الحالة سيكون بوسع أنقرة كسب بعض النفوذ على موسكو، وإن كانت الأقل قوة بين الاثنتين. وتمثل جهود تركيا المعادية لوحدات حماية الشعب مصدر إزعاج لروسيا، التي تسعى جاهدة إلى الإبقاء على العلاقات الودية مع الأكراد، إلا أن بوتين لا يرغب في المجازفة بخسارة المساندة التركية لجهوده الأوسع التي تهدف إلى إنهاء الحرب. وكميزة إضافية، أفسدت حملة تركيا ضد الأكراد علاقاتها مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، ترى كل من دمشق وطهران أن اضطراب العلاقات الأمريكية التركية أقل أهمية من التهديد الحالي الذي يشكله التواجد العسكري التركي غير محدد المدة. وفي الوقت ذاته، لم تُظهر أنقرة أي دلائل على امتثالها للضغط الخارجي لسحب قواتها.

جراء ذلك الوضع المتشابك، تجد كل من إيران وروسيا وسوريا وتركيا أنفسها وهي تعمل معًا بالتناوب وفقًا لغايات متضاربة. وسيكون من الحكمة أن تعترف كل منها بصعوبة تحقيق أهدافها الكاملة، أو استحالة ذلك أحيانًا. وتنطلق حملة أنقرة العسكرية بدافع من المخاوف المتعلقة بالانفصالية الكردية والعلاقة الواضحة بين التطلعات السياسية التي تجمع بين أكراد سوريا وتركيا. ومع ذلك، لن يجري حل التحدي الأوسع نطاقًا الذي يشكله حزب العمال الكردستاني في ساحة القتال بل من خلال التنازلات السياسية.
ويثير التدخل العسكري في عفرين المشاعر المناهضة للحكومة في جنوب شرق تركيا الكردي، مما يتسبب في استمرار عجلة العنف التي تدعم تمرد حزب العمال الكردستاني. وبالإضافة إلى ذلك، توشك أنقرة على الالتزام بتولي مسؤولية السيطرة على عفرين وإدارتها، وهو ما سيتم على الأرجح عن طريق مجلس حكم يضم جماعات المعارضة التي تدعمها تركيا والتي تربطها علاقات عدائية بالأكراد المحليين. وفي غضون أشهر قليلة، سوف تسيطر تركيا على مساحة كبيرة من محافظة حلب السورية وسوف تتولى مسؤولية إدارة الخدمات ودعم قوات الأمن المحلية، وسيتعين عليها أيضًا أن تأخذ بعين الاعتبار احتمالية مواجهة التمرد المستمر، منخفض المستوى من قبل وحدات حماية الشعب ضد أي قوة تدعمها أنقرة.
أما واشنطن فعليها أن تستمر في العمل على تحقيق التوازن بين أهدافها قصيرة الأجل المتعلقة بمكافحة الإرهاب وجهودها طويلة الأجل الرامية إلى إصلاح العلاقات مع تركيا.
ومن جانبها، تعتمد روسيا في الوقت الحالي على أنقرة لضمان أن الجزء الأكبر من المعارضة المناهضة للأسد يوافق على ترتيبات السلام المستقبلية. ومع ذلك، يتوجب على روسيا أيضًا الحصول على تأييد إيران ونظام الأسد، المناهضان لوجود أنقرة داخل سوريا، كي تنجح في إتمام خططها للسلام. وفي النهاية، يشير تواجد الولايات المتحدة في شمال شرق سوريا بالإضافة إلى تحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية إلى أن الجهود التركية الرامية إلى هزيمة وحدات حماية الشعب الكردية ستظل غير مكتملة في أفضل الاحتمالات.
أخفقت الولايات المتحدة في التفاعل بشكل جاد مع الحقيقة القائمة على أرض الواقع والتفكير في التنازلات التي سيتوجب تقديمها للمساعدة على إنهاء الحرب السورية |
أما بالنسبة لروسيا على وجه الخصوص، فيبقى السؤال الأكبر هو المواءمة بين أهدافها السياسية وحملتها العسكرية المستمرة. فالجيش الروسي يقاتل في سوريا منذ ما يقرب من ثلاثة اعوام ومازالت موسكو عاجزة عن إنهاء الحرب الأهلية بالقوة. وسوف تتطلب جهودها الدبلوماسية السير على خيط رفيع لتحقيق التوازن بين الحلفاء المعادين والشركاء.
ويقلل الانقسام الداخلي بين هذه الأطراف الأربعة حجم الضغط على الولايات المتحدة. ومع ذلك، يجب على واشنطن أيضًا أن تستمر في الموازنة بين أهدافها قصيرة الأجل المتعلقة بمكافحة الإرهاب وجهودها طويلة الأجل الرامية إلى إصلاح العلاقات مع تركيا الحليفة. وعلاوة على هذا، ما زال يتعين على الولايات المتحدة أن تتقبل احتمالية أن نظام الأسد سوف يسيطر على مساحات شاسعة من الدولة رغم مكاسب الولايات المتحدة في الشمال الشرقي.
ويتعامل كل طرف من الأطراف الخارجية الفاعلة في الحرب السورية كما لو كانت لعبة ذات مجموع صفري، معلقًا مسألة التماسك الاستراتيجي على عاتق الخصوم (وهو ما قد يغيب عن أي من هذه الأطراف)، ومستغلًا السوريين في القتال والموت من أجل المصالح الوطنية التي تتعارض مع أي دَفْعة جادة ترمي إلى تهدئة الصراع. وكشف التدخل التركي في عفرين عن انشقاقات داخل التحالف الضعيف الذي يضم دولًا معادية للتواجد الأمريكي في الشمال الشرقي. كما أخفقت الولايات المتحدة أيضًا في التفاعل بشكل جاد مع الحقيقة القائمة على أرض الواقع والتفكير في التنازلات التي سيتوجب تقديمها للمساعدة على إنهاء هذه الحرب. وفي غياب بعض التغييرات الجادة، فمن المحتمل أن تستمر الحرب في سوريا – وأن تتسبب في مقتل المزيد من الناس.
——————————————————————————————–
مترجم عن (فورين أفيرز)