شعار قسم ميدان

روسيا عدوا.. كيف عكست إستراتيجية البنتاغون تراجع القوة الأميركية؟

midan - ترمب وبوتين
مقدمة الترجمة
روسيا والصين، هؤلاء هم أعداء الولايات المتحدة كما بينت إستراتيجية الأمن القومي الأميركي، وبخلاف المتوقع، أسعدت هذه الإستراتيجية الروس بمشهد يبدو مليئا بالغرابة، فهل عكست هذه الإستراتيجية تراجع القوة الأميركية عن هيمنتها على النظام العالمي، وما الذي دفع الكرملين للارتياح لها؟

نص الترجمة
تضع إستراتيجية الدفاع القومي الأميركية الجديدة، التي كشف عنها وزير الدفاع جيمس ماتيس، رسميا، البنتاغون في مواجهة مع روسيا والصين، لكن أغرب ما في الأمر أن الكثيرين في موسكو مرتاحون لذلك، لأنه يذكرهم بالحرب الباردة، عندما كانت الأمور واضحة وكان الجميع يعرف كيف يتصرف، لكن في الواقع لا يمكن العودة بعقارب الساعة إلى الوراء، لأنه إذا كان من الممكن استعادة الوضع العسكري السابق، فمن المستحيل ضمان التحكم فيه بالشكل المنظم الذي كان عليه سابقا.

    

وتعكس الإستراتيجية التي قدمها البنتاغون دقة النظرة الجديدة التي يجسدها الرئيس دونالد ترامب. لقد انتهت فترة ما بعد الحرب الباردة، عندما كانت أميركا تمثل بشكل غير متوقع القوة المهيمنة الوحيدة في العالم. وضمن ما جاء في نص استراتيجية الدفاع الجديدة أن "على مدى عقود فرضت الولايات المتحدة تفوقا غير متنازع عليه، وهيمنت في كل مجال من مجالات العمليات، وكان بإمكانِنا عموما نشر قواتنا كلما أردنا ذلك، وجمعها عندما نرغب في ذلك، أما اليوم، فكل مجال هو محل نزاع – جوا وبرا وبحرا وفي الفضاء والفضاء السيبراني".

    

وتأتي التحديات التي تواجِهها الولايات المتحدة اليوم في المقام الأول من المنافسة التي تشكلها القوى الكبرى، بدلا من مجرد قوى أو دول منبوذة -مثل الإرهابيين الذين تستهدفهم استراتيجية الدفاع السابقة- أو العمليات الكونية مثل المناخ والديموغرافيا. ويُواصل نص استراتيجية الدفاع "إن المنافسة الإستراتيجية بين الدول وليس الإرهاب هي التي تشكل الآن الشاغل الرئيسي بالنسبة للأمن القومي الأميركي، ولا يملك الجيش الأميركي ضمانا مسبقا للانتصار في ساحة المعركة"، وهذا يعني العودة إلى النمط الكلاسيكي للعلاقات الدولية والأهداف التقليدية للسياسة الواقعية.

     

undefined

  

ماذا يعني كل هذا بالنسبة لروسيا، التي وصفت رسميا إلى جانب الصين، منافسا أميركا الاستراتيجيين؟ أولا، مرحبا بكم في النادي. إن خطاب النظام العالمي الليبرالي -القائم على لعبة تحقيق المكاسب لجميع الأطراف، التي تكافئ الترابط بدلا من المنافسة وأولوية لاقتصاد على الأمن- لم يؤخذ قط على محمل الجد في موسكو. وتبرز فكرة "توازن القوى"، التي تعبر عن المفهوم الحقيقي للسياسة الواقعية، عدة مرات في إستراتيجية الدفاع الأميركية الجديدة. في روسيا، كانت هذه الفكرة دائما جزءا من التفكير والخطاب السياسي في البلاد، في حين، بدأ الغرب في مرحلة ما، ينظر إليها على أنها مفارقة تاريخية، والآن عادت روسيا والولايات المتحدة تستخدم من جديد نفس اللغة المفاهيمية.

     

ثانيا، كون تصنيف روسيا بوضوح على أنها منافس لأميركا سيحظى بالقبول من قبل العديدين في موسكو، ويستقبل بالارتياح والثقة، لأنهم لم ينظروا إلى أنفسهم يوما خلاف ذلك (باستثناء فترة قصيرة جدا في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات)، واعتبرت موسكو كل التصريحات التي تناقض هذا الوصف، نوعا من النفاق، والآن أصبح الخطاب متسقا مع الواقع.

   

وثالثا، يبدو أن إستراتيجية الدفاع الجديدة التي ترى أن التعاون ممكن فقط "من موقع قوة واستنادا إلى مصالحنا الوطنية" مناسبة تماما لروسيا لأنها تعزز المقاربة التي تنتهجها موسكو. وسيسمح التركيز من قبل إستراتيجية الولايات المتحدة على التقدم التكنولوجي، للجنرالات الروس بطلب المزيد من التمويل لأغراض مماثلة. وهنا، يبدو ترامب متسقا مع نفسه، لقد تحدث عن الحاجة إلى بناء القوة العسكرية قبل 30 عاما، وكذلك قبل ثلاث سنوات.

    

ربما كان ترمب يأمل في التوصل إلى اتفاق تكتيكي مع موسكو، ولكن هذا لم يحدث أبدا لعدة أسباب، أوضحها يعود للتطاحن السياسي الداخلي في الولايات المتحدة
ربما كان ترمب يأمل في التوصل إلى اتفاق تكتيكي مع موسكو، ولكن هذا لم يحدث أبدا لعدة أسباب، أوضحها يعود للتطاحن السياسي الداخلي في الولايات المتحدة
       

تسببت تصريحات الثناء السابقة لترامب على الرئيس فلاديمير بوتين والهجمات المستمرة التي اتهمت ترامب بالتواطؤ مع روسيا، إلى حد ما في تعزيز وهم فسره البعض بأنه تطلع ترامب إلى تحسين العلاقات بين البلدين، غير أن نتائج السنة الأولى في منصبه بالبيت الأبيض تكاد تكون كارثية بالنسبة للعلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، وليس مهما حقا معرفة إن كان الذي حدث، كان عمدا أو عن غير قصد.

          

ربما كان ترامب يأمل في التوصل إلى اتفاق تكتيكي مع موسكو، خاصة في الشرق الأوسط، ولكن هذا لم يحدث أبدا، وهناك عدة أسباب تفسر هذا الإخفاق، لكن أوضح هذه الأسباب يعود للتطاحن السياسي الداخلي في الولايات المتحدة حول اتهامات التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية. وفي مواجهة تشنج الوضع الداخلي، تخلى ترامب بسهولة عن نواياه، لسبب بسيط وهو أن روسيا في الواقع ليست مهمة جدا بالنسبة له، وهدفه الرئيسي هو تغيير العلاقات الاقتصادية مع بقية العالم، والصين  في المقام الأول، ثم "النمور" الآسيوية وأوروبا، بينما تلعب روسيا دورا ضئيلا في مجال الاقتصاد العالمي، ولن يبذل ترامب أي جهد جاد على المسار الروسي، خاصة وأنه كان يتوقع مكاسب سريعة وسهلة مقابل ما اتخذه من خطوات في اتجاه الكرملين، لكنه سرعان ما تخلى عنها عندما ظهرت التكاليف السياسية أعلى بكثير مما كان متوقعا.

        

من حيث الشكل، عادت العلاقات الروسية الأميركية إلى نموذج الحرب الباردة: المنافسة العسكرية، سباق التسلح وعملية ردع محتملين، لكن في الواقع، الوضع مختلف تماما. كيف ذلك؟

أولا، الصدام بين موسكو وواشنطن ليس مركزيا بالنسبة للنظام الدولي، الذي أصبح متعدد المراكز ويتميز بقدر من الفوضى والتنوع. ولا يمكن للنظرة المفاهيمية المشتركة (ميزان القوى، المصالح الوطنية، وما إلى ذلك) إحياء آليات ضمان الاستقرار العالمي الذي أعطى ثماره قبل 40 عاما. ولن تكون وَصَفات عصر الحرب الباردة فعالة، فهناك الكثير من الجهات الفاعلة الأخرى التي لا تسمع لا إلى روسيا ولا إلى أميركا.

     

ثانيا، جميع الحدود قابلة للاختراق في عالم العولمة، ولا أحد يعرف كيف يُنظم التأثير الخارجي على الدول. وقد اعتادت روسيا على اتهام الولايات المتحدة بالتدخل في شؤونها الداخلية، من خلال دعم الاحتجاجات المناهضة للحكومة علنا، وتمويل المنظمات غير الربحية المعارضة ووسائل الإعلام، وانتقاد القرارات المحلية، بما فيها القرارات القانونية. والآن، بالمثل،  تتهم الولايات المتحدة روسيا بالتدخل الانتخابي الضخم والتغطية الإعلامية العدائية. ولا يمكن أن يتفق البلدان على عدم التدخل المتبادل، لأن كلا منهما يفهم ذلك بشكل مختلف، وما يطلق عليه أحدها اسم القوة الناعمة ينظر إليه الطرف الآخر باعتباره محاولة لتقويض بلده، والعكس بالعكس.

      

undefined

   

ويعتقد الكثيرون في موسكو أن أميركا  برئاسة ترامب تعيد ضبط موقعها في العالم. لقد حان الوقت لتنتقل الولايات المتحدة من موقعها السابق، أي من القيادة العالمية والتنظيم العالمي، إلى سياسة خارجية تهدف إلى ضمان مصالح وطنية أكثر واقعية. وشاءت الأقدار أن ترامب هو من يوجه هذا التحول، الذي كان سيقوم به أي رئيس آخر، وإن كان ذلك بطريقة أكثر سلاسة على الأرجح.

    

ويتمثل أحد العناصر الرئيسية لهذا التحول في التركيز على القوة كوسيلة، ليس لضمان قيادة الولايات المتحدة العالمية، ولكن لضمان التفوق العالمي والقدرة على النهوض بالمصالح الأميركية بكل الطرق الممكنة. والقوة تعني، أولا وقبل کل شيء، القوة العسکریة التقلیدیة، مثلما تنص عليه بوضوح کل من استراتیجیة الأمن القومي الأميرکیة الجدیدة (التي صدرت في ديسمبر) والاستراتيجية الدفاعية الجدیدة.

   

وسيتطلب ذلك بشكل متزايد وجود خصوم محددين بوضوح، ممّا يجعل روسيا هدفا مثاليا، على الصعيدين، النفسي، إذ إن المشاعر الكامنة التي تعود إلى عهد الحرب الباردة قوية جدا، والعملي، نظرا للقوة العسكرية المتنامية لروسيا التي تجعلها تمثل تهديدا ذا مصداقية، وبالتالي، فإن المنافسة مع روسيا محددة سلفا. يبدو واضحا أن أميركا ليست مستعدة للتعامل مع حقيقة جديدة، وإقرارها بأن الغرب لم يعد الآن اللاعب الوحيد الذي يحاول التأثير على التغيير في بلدان أخرى.

    

ستسعى موسكو إلى إعادة تسليح نفسها وتقليل المخاطر، والرد بشكل غير متماثل ومحاولة الاستفادة من واقع جديد.
ستسعى موسكو إلى إعادة تسليح نفسها وتقليل المخاطر، والرد بشكل غير متماثل ومحاولة الاستفادة من واقع جديد.
   

تشكل صورة روسيا كخطر عالمي نوعا من المبالغة الوهمية في الرؤية الجديدة للعالم، في صورة فضاء يعج بالتهديدات بدلا من النظر إليه كمكان للفرص السانحة. ونجد هذه النظرة متضمنة فعلا مرة أخرى في إستراتيجية الدفاع الجديدة وفي الإستراتيجية الأمنية الجديدة. ومن المثير للاهتمام أن روسيا تشاطر هذا الرأي -الذي يرى أن التهديدات موجودة في كل مكان- وسبب ذلك ببساطة أن الأمر ليس جديدا بالنسبة لروسيا.

   

ماذا ستفعل موسكو؟ ستسعى إلى إعادة تسليح نفسها وتقليل المخاطر، والرد بشكل غير متماثل ومحاولة الاستفادة من واقع جديد، ينظر فيه العالم إلى أميركا باعتبارها المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار. وقد قيل عدة مرات، وورد في كتابات متعددة أن بوتين هو أستاذ محنك صاحب خبرة كبيرة في مصارعة الجودو، الفن الذي يستخدم قوة الخصم ضده. ويبدو أن إستراتيجية الدفاع الوطني التي تركز على القوة في أميركا تأتي في الوقت المناسب تماما بالنسبة لروسيا.

_____________________

   

المقال مترجم عن "ذا واشنطن بوست"

المصدر : واشنطن بوست