الصين على ضفاف النيل.. لماذا يغازل السيسي سلاح بكين؟

ظلت "تيانانمن" الساحة المفضلة للرؤساء الصينيين لإظهار القوة والهيبة واستضافة حلفائهم الأجانب في الميدان الكبير، استضافة لم يكن من الشائع أن تُرى فيها أوجه القادة المصريين على كل حال، ربما لأن القاهرة لم ترغب يوما في استفزاز حلفائها في بلاد العم سام بمثل هذه الإشارات، وربما لكون العلاقات المحدودة بين القاهرة وبكين لم تكن تستدعي أن يتم تحميلها بمثل تلك الإشارات الدبلوماسية المتكلفة.
في ضوء ذلك، كان حضور الرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي" في ميدان "تيانانمن" في سبتمبر/أيلول عام 2015 لمشاهدة احتفالات الصين العسكرية في الذكرى السبعين للانتصار على اليابان إبان الحرب العالمية الثانية حدثا مهما لا يخلو من دلالة رمزية واضحة، خاصة أن "السيسي" كان هو الزعيم الشرق أوسطي الأوحد وقتها في قائمة الحضور المكونة(1) من بضع عشرات من القادة الأجانب، وهي قائمة خلت تماما من أي حضور للقوى الغربية باستثناء وجود باهت للسفير الأميركي في بكين.
بيد أن الدلالات الرمزية(2) في ذلك اليوم لم تكن متمثلة في حضور السيسي وحده، حيث صاحب ظهور الرئيس المصري -ذي الخلفية العسكرية- مشاركة لوحدة مكونة من 81 ضابطا وجنديا مصريا في العرض العسكري المصاحب للاحتفالات، وكانت مصر كذلك هي الدولة العربية والشرق أوسطية بل والأفريقية الوحيدة التي شاركت بقواتها في هذا العرض التاريخي، ومن الجدير بالانتباه أيضا أن تلك الزيارة كانت الزيارة الثانية للرئيس المصري إلى بكين خلال أقل من عام، ودشنت لما أًصبح لاحقا نهجا سنويا للرئيس المصري الذي يحافظ على زيارة سنوية للصين دون انقطاع على مدار 5 سنوات متتالية قضاها السيسي في السلطة إلى اليوم، تخللتها زيارة للرئيس الصيني "تشي جين بينغ" إلى القاهرة مطلع عام 2016.
وقعت آخر زيارات السيسي الدورية إلى بكين مطلع (سبتمبر/أيلول) المنصرم لعامنا الحالي على هامش مشاركته في القمة الجماعية لمنتدى الصين – أفريقيا "فوكاك". وبخلاف لقائه مع الرئيس "تشي"، التقى(3) السيسي مع رؤساء العديد من الشركات الصينية، حيث تم توقيع مذكرات تفاهم لسبعة مشاريع كبرى بقيمة 18.3 مليار دولار، شملت مشاريع للبنية التحتية في العاصمة الإدارية، إضافة إلى إنشاء معمل تكرير ومجمع للبتروكيماويات في منطقة قناة السويس.
تهيمن الروابط الاقتصادية على علاقة الجنرال المصري الناشئة مع الصين إذن، وهو أمر بدهي بالنظر إلى شبق نظام السيسي للأموال الأجنبية سواء من الحكومات أو من المستثمرين الخاصين لمواجهة تعثرها الاقتصادي، وعلى الجانب الصيني، فإن مصر، وقناة السويس على وجه التحديد، تبقى نقطة محورية في مشروع طريق الحرير البحري الصيني، وهو ممر اقتصادي يربط الصين بسواحل أفريقيا وأوروبا. ورغم ذلك فإن العلاقات بين البلدين لا تخلو من اللمحات السياسية والجيوسياسية أيضا، في ظل رغبة الصين في اكتساب موطئ قدم في معاقل النفوذ الأميركي التقليدية في الشرق الأوسط، وفي المقابل حرص السيسي على تنويع محفظته المالية من الحلفاء لابتزاز المزيد من الدعم الغربي، وإيجاد مساحات جديدة للمناورة، وهي حيلة قديمة تعود إلى زمان الرئيس المصري "جمال عبد الناصر"، ويبدو أن السيسي يعيد اليوم إحياءها من جديد.
منذ اللحظة الأولى لتأسيس الجمهورية الحديثة في كلا الدولتين، كان من الواضح أن هناك قدرا كبيرا من الأسس النظرية(4) المشتركة بين القاهرة وبكين، حيث حملت الثورة الصينية لعام 1949 هدفين رئيسيين هما: القومية الهادفة إلى تحقيق الاستقلال عن النفوذ الأجنبي، وتأسيس سلطة مركزية قومية تحمي الدولة الجديدة، وهي أهداف تطابقت تقريبا مع توجهات دولة ضباط يوليو الجديدة التي قامت في القاهرة بعد ثلاثة أعوام فقط (1952)، وسرعان ما وجدت الدولتان نفسيهما تلتفان حول هدف جديد وهو رفض الانحياز إلى أي من الطرفين إبان الحرب الباردة، وهو توجه تبلور في مؤتمر "باندونغ" الشهير في إندونيسيا عام 1955، والذي أرسى الأسس المبكرة لتكتل عدم الانحياز ومعه تم زرع البذور الأولى للصداقة بين القاهرة وبكين.
في باندونغ، التقى "عبد الناصر" لأول مرة مع رئيس وزراء جمهورية الصين الشعبية "تشو إن لاي"، حيث نشأت بينهما صداقة قوية مهدت لتكون مصر أول دولة أفريقية وعربية تقيم علاقات دبلوماسية رسمية مع جمهورية الصين الشعبية، وذلك قبل قرابة عقدين من اعتراف العالم بالدولة الصينية وانضمام بكين بشكل رسمي إلى الأمم المتحدة في السبعينيات.

نتيجة ذلك، كانت بكين حريصة على إبداء مساندتها لسياسات جمال عبد الناصر في الكثير من اللحظات الحرجة، حيث دعمت(5) بكين بشكل علني موقف مصر إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، و في ضوء ذلك كان من الطبيعي أن يتحول ناصر إلى الصين بعد أن رفضت واشنطن بيع الأسلحة إلى القاهرة، ليلعب "شو إن لاي" دورا رئيسا في صفقة الأسلحة التشيكية الشهيرة وقتها لمصر، ولاحقا أعرب ناصر عن دعم متحمس للصين بعد أن قامت بتفجير أول سلاح نووي عام 1964، لتصبح بذلك أول دولة في تكتل عدم الانحياز تنضم إلى النادي النووي، ما دفع ناصر لبدء اتصالات مع بكين لتدشين برنامج نووي مصري، غير أن علاقات القاهرة مع بكين شهدت فتورا في الأعوام اللاحقة بسبب دعم ناصر المعلن لموسكو في النزاعات الصينية السوفيتية، وانتقاده السياسات الصينية في التبت، ولاحقا بعدما تبين محدودية قدرة الصين على التأثير في الشرق الأوسط بعد هزيمة العرب في حرب عام 1967 ضد إسرائيل.
خلال الأعوام التالية، انغلقت الصين على نفسها تكابد صراعات ثورتها الثقافية، ولم يشهد النصف الثاني من الستينيات أي تفاعلات عالية المستوى مصرية مع الصين، رغم أن بكين أبقت على سفيرها في القاهرة في الوقت الذي قامت فيه بسحب جميع سفرائها من المنطقة العربية، ومع اندلاع حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، سارعت الصين لإعلان تأييدها التام للجهود المصرية لاستعادة أراضيها المحتلة، ولكن الحرب -وكما تبين لاحقا- دشنت مرحلة جديدة في تاريخ مصر، تحولت فيها القاهرة تدريجيا إلى محمية أميركية مع اعتماد حصري على السلاح الأميركي، في حين انحصرت العلاقات المصرية الصينية في مربع محدود من التعاون في مجالات الاقتصاد والطاقة.
في عهد مبارك، نما(6) الطموح الصيني لتطوير العلاقات مع القاهرة مجددا بما يتجاوز التعاون الاقتصادي والطاقوي، ليمس مجددا مساحات هامشية من التعاون في الشؤون العسكرية، مساحات أخذت صورة اتصالات رفيعة المستوى بين المؤسسات العسكرية في كلا الدولتين مع ارتفاع ملحوظ في حجم المبيعات العسكرية التكتيكية. ونتيجة لذلك، أصبحت القاهرة بين عامي 1989 و2008 أكبر سوق لمبيعات الأسلحة الصينية في القارة الأفريقية، حيث اشترت مصر أسلحة من الصين خلال هذه الفترة بأكثر مما اشترته السودان وزمبابوي مجتمعتين، وهما أكبر مستهلكي الأسلحة الصينية في أفريقيا في ذلك التوقيت، وكانت(7) طائرات "إف-7″، أو "شينجدو جي -7" وفق تسميتها الصينية، إضافة إلى طائرات التدريب "كي – 8" هي أهم الأسلحة التي حصلت عليها مصر حينها، لدرجة أن القاهرة تحولت إلى أحد أكبر المشغلين لطائرة التدريب الصينية.

شجع هذا التنامي الملحوظ في العلاقات القيادات في كلا البلدين للمضي قدما نحو مساحات أكثر إستراتيجية، حيث تمت مناقشة إمكانية حصول القاهرة على أجهزة صينية كان من المقرر أن تعمل ضمن نظام أميركي للإنذار والتشويش، كما فتحت مصر خطوط اتصال مع كل من موسكو وبكين لإنشاء مفاعل نووي في الإسكندرية عام 2002، ولكنّ الصفقتين تم إيقافهما فيما يبدو بعد اعتراض واشنطن، التي عبّرت عن استيائها من العلاقات المصرية والصينية في أكثر من مناسبة، خاصة بعد سماح القاهرة لوفد صيني بزيارة قاعدة مصرية تحتوي على طائرات إف-16 الأميركية، دون علم واشنطن، وفق ما ورد في رسالة(8) لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون عام 2009.
لم تصمد العلاقات العسكرية الخجولة بين مصر والصين أمام الضغوط الأميركية على ما يبدو، لكن القاهرة أبقت على خطوطها السياسية مفتوحة مع بكين مع تزايد شعور الأولى بالاستياء تجاه واشنطن التي كثفت من انتقاداتها لغياب الديمقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان في مصر، في وقت كانت بكين فيه أكثر اهتماما بحساسية نظام مبارك تجاه هذه القضايا. وفي الوقت نفسه، كان استياء الجمهور المصري من روابط حكومته القوية مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وعدم قدرة القاهرة على التأثير في واشنطن حول غزو العراق واحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، كان استياء يتنامى بشكل ملحوظ، لذا رأت القاهرة في العلاقة مع الصين، صاحبة الموقف الواضح المؤيد للعرب في الصراع مع إسرائيل آنذاك، طريقة سهلة لتحسين موقفها الشعبي وتعزيز دورها الإقليمي وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة، وإن لم يكن تقليلا بشكل حقيقي، لكنه آتى أُكله شعبيا على أقل تقدير.
مع الأعوام الأخيرة من عهد مبارك، بدا من الواضح أن الرئيس العجوز، وفي سبيل الحفاظ على عرشه المهتز، قرر حسم أمره وتحويل بلاده إلى وكيل أميركي خالص، ونتيجة لذلك، مثّلت الثورة المصرية التي أطاحت بحكم مبارك عام 2011 فرصة لبكين لكسب النفوذ في مصر والعالم العربي على حساب الولايات المتحدة والغرب، باعتبار الربيع العربي -في أحد وجوهه على الأقل- كان شكلا من أشكال التمرد على السلطة الأميركية في العالم العربي، وهو ما أكّدته(9) التفاوتات الضخمة بين نظرة الرأي العام المصري لكلٍّ من الولايات المتحدة والصين، ففي الوقت الذي كان فيه 80% من المصريين يحملون نظرة غير مرحبة بالسياسة الأميركية في المنطقة، كان هناك تأييد من المصريين للصين بنسبة 65%، وفقا لاستطلاع نشره مركز بيو للأبحاث في يونيو/حزيران عام 2012، رغم أن تلك الثقة اهتزت لاحقا مع دعم بكين الدبلوماسي والعسكري لسياسات نظام "الأسد" الدموية في دمشق.

على كل حال، لم يخيب "محمد مرسي"، الرئيس الإسلامي المنتخب وقتها في القاهرة آمال الصين، حيث اختار القيام بأول رحلة رسمية له خارج الشرق الأوسط إلى بكين قبل أن يفكر في زيارة واشنطن أو أي عاصمة غربية أخرى، وكانت تلك إيماءة رمزية(10) دالة على دور الصين المنتظر في سياسة "مرسي" الخارجية، وكان توجها متوقعا لرئيس لم يكن يُتوقع أن يحظى بالقبول اللازم في الدوائر الغربية، مع رغبته وقتها في تدشين شبكة تحالفات جديدة يمكن أن تقلل من نفوذ واشنطن على العاصمة المصرية.
لم يصمد حكم الرئيس الإخواني أكثر من عام واحد، حيث أطيح به في انقلاب عسكري قاده الجنرال "السيسي" نفسه، وكانت المفارقة أن تعزيز العلاقات مع الصين كان أحد التوجهات القليلة التي أبقى عليها السيسي من سياسات "مرسي" لسببين رئيسين: فمن الناحية الإستراتيجية، كان نظام السيسي محبطا بشدة من التجاهل الأميركي وقتها من قِبل الرئيس "باراك أوباما" الذي رفض دعوة السيسي إلى البيت الأبيض، وقام بتعليق مساعدات بلاده العسكرية للقاهرة أعقاب التدخل الدموي للنظام المصري ضد معارضيه، وكانت القاهرة ترغب في إرسال رسالة لشريكها الأميركي السابق حول بدائلها الإستراتيجية وإحباطاتها مما تراه محاولات أميركية للتدخل فيما اعتبره النظام شأنا داخليا، وهو ما دفع القاهرة عام 2015 لتقديم طلب للانضمام إلى منظمة "شنغهاي" للتعاون، في إيماءة بدت موجهة إلى الولايات المتحدة بشكل رئيس.
أما من الناحية الاقتصادية، فإن مصر المتعثرة كانت تسعى بنشاط للاستثمار الصيني وتعتبره بديلا عن الشروط الصارمة المصاحبة لرأس المال الغربي، حيث أمّل السيسي(11) في استخدام الأموال الصينية كرافعة لتحقيق النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل لملايين العاطلين الذين يشكلون تهديدا -حاليا ومستقبليا- لاستقرار نظامه العسكري، وفي المقابل كانت الصين مستعدة لفتح أحضانها للسيسي بفضل سياستها الراسخة بعدم التدخل في شؤون الأنظمة السياسية الحليفة واعتماد سياسات الاعتراف بالوضع الراهن، وعلاوة على ذلك كانت الصين تُظهر اهتماما متزايدا بالانخراط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو ما جعلها تتطلع لروابط أعمق مع مصر كجزء من جدول أعمالها لتوسيع نفوذها السياسي وعلاقاتها الإستراتيجية على مستوى العالم.
فنظرا لتأثيرها الإقليمي التاريخي وموقعها الجغرافي المميز، توفر مصر لبكين بوابة للموارد الطبيعية للقارة الأفريقية، إضافة إلى سوق ضخم للبضائع الصينية، ووجهة قريبة لتصنيع منتجاتها الموجهة لأسواق أفريقيا، فضلا عن كون الاستثمارات الصينية في البنية التحتية المصرية توفر نقطة انطلاق قوية للصادرات الصينية إلى أوروبا، حيث تُعد بكين ثاني أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي. وفي ضوء ذلك، لم يكن من المستغرب أن يتضاعف حجم التجارة بين مصر والصين ليصل إلى 11.6 مليار دولار في عام 2014، بزيادة الضعف تقريبا مقارنة بعام 2009، وأن تتجاوز الصين الولايات المتحدة لتصبح الشريك التجاري الأول للقاهرة، فضلا عن صعود ترتيب الصين للمرتبة الرابعة بين المصادر الأكثر أهمية للاستثمار الأجنبي في مصر، من خلال أكثر من 1200 شركة صينية تعمل في قطاعات الصناعة والبناء والخدمات في السوق المصرية.
وبخلاف الشركات الغربية الكبرى المستقلة عن الإدارات الحكومية بشكل كبير، تبقى العلاقات السياسية القوية مفتاحا لا غنى عنه للاستثمارات الصينية، نظرا لكون معظم الشركات الصينية الكبرى مملوكة للدولة أو مرتبطة بها بشكل كبير، وهو ما يفسر التناسب الطردي للاستثمارات الصينية مع تصاعد لهيب الحميمية السياسية بين القاهرة وبكين، استثمارات بالمليارات يتركز الكثير منها في قطاعات استثمارية حيوية للنظام المصري، وعلى رأسها محور قناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة.
لا يُعد الاهتمام الصيني بقناة السويس مفاجئا على كل حال، حيث تُعد القناة(12) عنصرا أساسيا لمبادرة "الحزام والطريق" الإستراتيجية الصينية، ونقطة عبور رئيسة بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، وهذا يجعل مصر أحد الشركاء القلائل الذين لا غنى عنهم للمبادرة الصينية، ويفسر ذلك أيضا حرص الصين على الوجود الاقتصادي في منطقة قناة السويس، حرص بدا واضحا في زيارة الرئيس "تشي" للقاهرة مطلع عام 2016، وهي الزيارة التي شهدت توقيع عدة صفقات هدفت إلى زيادة الوجود الصيني في منطقة قناة السويس بمصر، فرفعت بكين حجم استثمارها من 32 شركة تستثمر أكثر من 400 مليون دولار، إلى 100 شركة بإجمالي استثمارات يتجاوز 2.5 مليار دولار في المرحلة التالية من المشروع، كما حرصت الصين على مغازلة السيسي بتأكيد وجودها في مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، حيث وافقت البنوك الصينية على إقراض النسبة الأكبر من مبلغ ثلاثة مليارات دولار مطلوبة لبناء منطقة الأعمال المركزية في العاصمة.
وخارج العاصمة الجديدة، خصصت الصين مليارات الدولارات لمشاريع حكومية مصرية مختلفة، بما في ذلك صناعة النسيج وبناء نظام سكك حديدية، فعلى سبيل المثال، ترتبط(13) وزارة النقل المصرية باتفاق تم توقيعه في أبريل/نيسان عام 2014 مع شركة صينية مملوكة للدولة لتطوير خط سكة حديد كهربائي -بطول 80 كم- بين مدينتي السلام في القاهرة الكبرى ومدينة بلبيس في محافظة الشرقية، ويرتبط هذا الخط أيضا بخط المترو الثالث الجاري تطويره في القاهرة، والمقرر أن يتم تمويله من الصين أيضا عبر قروض طويلة الأجل بقيمة تتجاوز 800 مليون دولار. وفي ديسمبر/كانون الأول للعام نفسه 2014، وقّعت الحكومة المصرية اتفاقية مبدئية مع الشركة الهندسية "تشاينا هاربور" لإنشاء خط قطار فائق السرعة يغطي مسافة 900 كم بين مدينتي الإسكندرية على ساحل مصر الشمالي وأسوان على مقربة من الحدود مع السودان بتكلفة 10 مليارات دولار، على أن تساهم مصر بنسبة 20% من العمالة التي يتطلبها المشروع، فيما ستتكفل الصين بتوفير باقي القوى العاملة اللازمة للعمل.
بخلاف ذلك، يأتي قطاع الطاقة كأبرز مجالات التعاون بين مصر والشركات الصينية، ففي عام 2015 أنشأت وزارة البترول المصرية إلى جانب شركة "ستار أويل آند جاز" الصينية شركة لتصنيع معدات الحفر، ولاحقا في العام نفسه وقّعت المؤسسة الوطنية الصينية النووية وهيئة الطاقة النووية المصرية مذكرة تفاهم للتعاون في مجال الطاقة النووية، لتضع الصين رسميا على خارطة الشركاء النوويين للقاهرة. وبمد الخط على استقامته، يمكننا أن نتوقع بسهولة حجم المشاركة الصينية في قطاعات الطاقة الشمسية والكهروضوئية في مصر عبر شركة "ينجلي سولار"، وهي واحدة من أكبر الشركات المصنعة للألواح الشمسية في العالم، وترتبط بمذكرة تفاهم مع وزارة الكهرباء والطاقة المصرية لتطوير محطات للطاقة الشمسية تهدف إلى إنتاج 50 جيجاوات من الطاقة خلال السنوات القادمة.
كان من الواضح أن الدوافع السياسية الممزوجة بالمنافع الاقتصادية هي المحرك الرئيس للعلاقات بين مصر والصين، لكن القاهرة كانت حريصة(14) على أن تُثبت فائدتها للصين بطرق أخرى، حيث كان نظام السيسي سباقا في الاستجابة لدعوة حكومة الرئيس "تشي" لإعادة جميع الطلاب من أبناء أقلية "الإيغور" العرقية المسلمة من القاهرة إلى مقاطعة "شنغيانغ" في أقصى غربي الصين، حيث سارع نظام السيسي لإلقاء القبض على مئات من الإيغور الذين يدرسون في جامعة الأزهر من أجل ترحيلهم، ليستقر بهم الحال في معسكرات الاعتقال الكبيرة في الصين بمجرد وصولهم إلى البلاد.
وفرت الحوافز الاقتصادية في العلاقات المصرية الصينية لكلا البلدين دوافع للمضي بالعلاقات نحو مستويات جديدة، وقد وفر الحظر المؤقت الذي فرضته واشنطن على توريد الأسلحة إلى مصر خلال عام 2014 ذريعة لسفن القاهرة العسكرية لاستطلاع الأمواج الصينية، حين زار وفد عسكري مصري بقيادة مساعد وزير الدفاع لشؤون التسليح اللواء "فؤاد عبد الحليم" العاصمة الصينية لاستكشاف الأسلحة الصينية، خاصة الأنظمة الصاروخية وأنظمة الدفاع الجوي والطائرات بدون طيار، وخلال الأشهر التالية بدا أن رحلة الصيد المصرية على الشواطئ الصينية قد آتت أُكلها بشكل كبير، فسرعان ما رصدت الأقمار الصناعية طائرات بدون طيار صينية ترابط(15) في المطارات العسكرية المصرية، من مطار "البردويل" على حدود سيناء في الشرق إلى مطار "عثمان" في الغرب، حيث استخدمت هذه الطائرات من قِبل الجيش المصري في حملته العسكرية ذات السمعة الدولية الحقوقية المضطربة في سيناء، وكذا في أنشطة مكافحة التهريب ومنع تدفق الأسلحة والمقاتلين عبر حدود مصر الغربية مع ليبيا.
هناك العديد من الحوافز والمزايا التي توفرها الأسلحة الصينية مقارنة بالأسلحة الأميركية والغربية، رغم الفوارق التقنية الواضحة التي تصب في صالح الأخيرة بكل تأكيد، فمن ناحية تُثبت التجارب أن الصين هو أحد البلدان القليلة القادرة على تحدي الغرب في اتفاقاته العسكرية، وهو بلد يرفض الامتثال للقيود الغربية حول توريد الأسلحة المحظورة مثل الطائرات بدون طيار وحتى الصواريخ البالستية، وعلى سبيل المثال فإن الصين لا تمتثل إلى اليوم لنظام مراقبة تكنولوجيا القذائف الذي وقّعته الدول الكبرى -وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا- والهادف إلى حظر توريد القذائف الصاروخية، التي يزيد مداها على 300 كم وتزيد حمولتها على 500 كجم، خشية أن يتم استخدامها في حمل أسلحة نووية، وهو ما دفع(16) دولة مثل المملكة العربية السعودية إلى اللجوء إلى الصين في الثمانينيات للحصول على عشرات الصواريخ من نوع "دي إف -3" طراز "إيست ويند"، بعد أن رُفضت مطالبات الرياض للحصول على الصواريخ الغربية، ما أثار استياء كبيرا في واشنطن آنذاك.

من جهة أخرى، فإن بكين تُظهر قدرا أكبر من المرونة لخصوصية البلدان التي تقوم بشراء منتجاتها العسكرية، فمن ناحية فإنها تفرض القيود اللازمة على سرية الصفقات، ومن ناحية أخرى فإن هذه الصفقات تأتي بالحد الأدنى من القيود المفروضة على استخدام هذه الأسلحة، وكثيرا ما تكون مصحوبة بميزة نقل التكنولوجيا وهو ما لا يتوفر في الصفقات الغربية، وبالنسبة للقاهرة فإن تلك تُمثل ميزة كبرى، وتوفر هوامش للمناورة إما بابتزاز الغرب للحصول على المزيد من الأسلحة، وإما توفير منافذ خلفية للحصول على الأسلحة المحظورة وعلى رأسها منظومات الصواريخ والطائرات بدون طيار.
غير أن جاذبية العلاقات مع الصين بالنسبة إلى القاهرة لا تكمن فقط في الفوائد الاقتصادية أو حتى العسكرية، بقدر ما ترجع إلى رغبة كامنة(17) لدى النظام المصري في تطوير سياسة خارجية أقل اعتمادا على واشنطن وشركائها الغربيين. وتكمن جذور هذه الرغبة بشكل كبير في تداعيات ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وما بعدها، وهي رغبة كانت مدفوعة في جزء منها بحالة السخط الشعبي على تحول القاهرة لوكيل ومنفّذ واضح وصريح للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط، وفقدانها لجزء كبير من استقلال قرارها السياسي.
وقد أضاف انقلاب عام 2013 العسكري وتداعياته المزيد من الثقل إلى رصيد الإحباط في العلاقات بين مصر وأميركا، خاصة مع تذبذب الموقف السياسي الأميركي تجاه النظام العسكري الجديد في مصر، وما خالطه من انتقادات للأداء السياسي والحقوقي للقاهرة لم يخل من ممارسة ضغوط صريحة، سواء عبر قطع المعونات العسكرية أو تعليقها في أكثر من مناسبة بالأخص في عهد أوباما وحتى في عهد ترمب نفسه، الذي لم تكن المغازلات العلنية بينه وبين نظام السيسي مانعا له من استخدام سلاح تعليق المعونة كشكل من أشكال الاحتجاج على العلاقات بين بيونغ يانغ والقاهرة، بعد قيام المخابرات الأميركية بتعقب(18) سفينة كورية شمالية محملة بذخائر صاروخية تبيّن لاحقا أنها كانت موجهة إلى الجيش المصري.
يوما بعد يوم، كان النفور التاريخي لنظام السيسي من سياسة المحاور والتحالفات الثابتة يتزايد بشكل ملحوظ، نفور ظل يتغذى على نمو نظريات المؤامرة المعادية للولايات المتحدة التي رعاها نظام ما بعد الانقلاب كأحد أسس شرعيته، وهو نفور تعود جذوره لزمن "عبد الناصر" الذي رفض الضغوط البريطانية للانضمام إلى حلف بغداد وآثر عدم الانحياز إلى إحدى الكتلتين إبان الحرب الباردة، وكان هو الدافع لقيام العلاقات بين مصر والصين في المقام الأول كما ذكرنا، ويبدو أنه يقوم بإحيائها من جديد اليوم في ظروف مختلفة.
غير أن مصر اليوم تختلف عن مصر "ناصر" بشكل كبير، وهو اختلاف لا يكفي ولع السيسي بكاريزما سلفه التاريخي للتغاضي عنه، فمصر اليوم، وعلى النقيض من عهد ناصر، تعتمد بشكل حصري تقريبا على المعونات العسكرية الأميركية في تسليح جيشها، معونات منحت واشنطن نفوذا واسع النطاق على الجيش المصري وعلى الإطار الأوسع للحياة السياسية في مصر، وهو نفوذ يمنح الولايات المتحدة "فيتو" شبه دائم إن جاز القول على العلاقات المصرية الصينية حال تحركت إلى مساحات أعمق تغضب واشنطن، إلا أنه فيتو لن يمنع نظام السيسي من مواصلة السير على حبال الدبلوماسية والموازنة بين مصالح حلفائه المتنافسين لتحقيق أقصى مكاسب ممكنة، في حدس سياسي يبدو أن مصر ورثته عن عهد عبد الناصر، ويسعى السيسي إلى إعادة إنتاجه اليوم للبقاء في مقعده لأطول ما يمكن.