شعار قسم ميدان

حاصروهم بالتسريبات.. الاستخبارات التركية وفن إدارة أزمة خاشقجي

ميدان - خاشقجي وفيدان وأدوغان
استمع للتقرير 

  

خلال الأيام الماضية، وفي قلب القنصلية السعودية، رصدت وكالة الأناضول التركية دخول مجموعة كبيرة من المنظفات الكيميائية رفقة عمالٍ في "حملة نظافة" كما سميت للمبنى متوسط الحجم، كان الأمر في نظر السعوديين عاديًا ووضعوه في إطار عناية روتينية بالقنصلية، أما في نظر الكثيرين فكان بمثابة دليل آخر على محاولة النظام السعودي إخفاء أي إشارات قد تصل بالعالم لمعرفة ما حدث للصحافي السعودي الشهير "جمال خاشقجي" بعد اختفائه بالداخل، خاصة وأن تلك "الحملة" أتت قبيل التفتيش الأول للسلطات التركية لمبنى القنصلية وتزامنت مع إعادة دهان شاملة أيضًا، لكن الدليل كعادة الأدلة في الآونة الأخيرة كان ظرفيًا أكثر منه جنائيًا بحال. بيد أن تفاصيل كل ما جرى في ظهيرة الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، لسوء حظ المملكة، مسجلة لدى جهات الاستخبارات والتحقيق التركية منذ لحظة وقوعها كما أظهرت الأنباء على مدار الأيام الماضية، وهي التسريبات التي أكد أردوغان كثيرا من مضامينها في خطابه الأخير.

   

بالرجوع قليلًا، فقد اعتادت الإدارة التركية في السنوات الأخيرة أن تُضفي على سياساتها بُعدا أخلاقيا، في التعاطي مع الدماء، كما حدث في دعمها لثورات الربيع العربي حتى وقت قريب. لكن ومنذ ظهيرة الثاني من أكتوبر، ورُغم الصلات المتينة التي جمعت ضحية الجريمة بشخصيات مقرّبة من الرئيس التركي، وفداحة ارتكاب الجريمة داخل "حرم دبلوماسي"، قرر الأتراك اتخاذ مسلك جديد في التعاطي مع الملف بعيدًا عن الزج بالقيادة السياسية إلى الواجهة للإدلاء بالمواقف الأخلاقية، واقتصار ظهورهم على تأكيد استمرارية التحقيقات والمسار الجنائي.

   

في تلك الأيام، ومنذ البداية تماما، أمسكت الاستخبارات التركية كما بينت النيويورك تايمز(1) بزمام الملف، والتي تعلم كممثلة لتركيا ودونًا عن العالم تفاصيل الجريمة كاملة، في حين اقتصر دور الساسة على تصريحات هادئة تجاه المملكة وصلت لتشكيل فريق تحقيق مشترك معها لمعرفة مصير ضحية يعرف الطرفان مصيرها وإن ظل مكانها مجهولًا، تصريحات سياسية بقيت في الظل وصولا لإنضاج التحقيقات.

  

undefined     

وللمفارقة، حينما أمسكت أجهزة الأمن التركية، التي تمثل الاستخبارات أحد أركانها بعجلة التحقيق، نجحت أنقرة خلال أيام معدودة في تشكيل ضغط دولي بارع ومتزايد لصالح قضية "خاشقجي" باعتبارها قضية جنائية، ظهر المدعي العام فيها بصورة رئيسية في مسار التحقيق، حيث سعى الأتراك كما ظهر في إدارتهم للأزمة لعدم حصر القضية في بعدها الدبلوماسي، وهو ضغط مثالي لأطراف عدة من أصدقاء وأنداد السعودية على السواء لانتزاع أكبر قدر من المكاسب السياسية والاقتصادية منها، وعملية تراكمية سريعة هُندست بدقة شديدة وبتراتبية ماهرة كما يبدو تستحق النظر.
 

لعبة التسريبات

تمحورت الضغوط التركية حول مجموعة تسريبات متدرجة، تصدرت المصادر الأمنية لإدارتها عبر ما ورد في وسائل الإعلام، بخصوص تفاصيل الجريمة والتي قررت الأجهزة الأمنية الإفراج عنها بشكل تدريجي وبطيء للصحافة العالمية، وهي تسريبات أبقت القضية في عناوين الأخبار الرئيسية بشكل مستمر، في وقت بدأت فيه لعبة المفاوضات بينها وبين الرياض، وكذلك بين المملكة والولايات المتحدة، إذ باتت واشنطن بالضرورة جزءًا من المشهد بالنظر لكون الضحية مقيمًا لديها، علاوة على مساهمته كصحافي في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية المعروفة، وكذلك علاقاته الجيدة بشخصيات أميركية عديدة، وهو ما جعل التسريبات بشكل ما نوعًا من إلقاء الأتراك بالكرة للملعب الدولي بصورة عامة، وللأميركيين بشكل خاص.

 

اقتصرت(2) الأنباء خلال اليوم الأول، 2 أكتوبر، على اختفاء خاشقجي وعدم خروجه من القنصلية، دون أي حديث عن تحقيق معه أو قتل له، بل مجرد حبسه داخل القنصلية وقلق خطيبته وأصدقائه لإغلاق القنصلية في الساعة الخامسة بعد نهاية يوم العمل دون ظهوره مرة أخرى. وخلال اليوم التالي، 3 أكتوبر، وبعد أن بدا واضحًا أن الرجل لم يظهر، اتسع نطاق التغطيات الإخبارية ليبدأ بالحديث(3) عن اعتقاله داخل السفارة، وتصريح(4) بعض المقربين منه بأنه كان يخشى اختطافه وترحيله للسعودية إن دخل القنصلية، في حين اقتصر رد الفعل السعودي على التصريحات الرسمية بأنه دخل وخرج ولم يعد بحوزتهم.

     

    

في الرابع من أكتوبر، كتبت(5) كارِن عطية، وهي محررة مقالات خاشقجي بالواشنطن بوست، متحدثة عن اتصال الصحيفة بمسؤولين أتراك وسعوديين لإطلاق سراحه وفق الاعتقاد السائد حتى اللحظة بحبسه في القنصلية. وخلال نفس اليوم كتب(6) إليوت أبرامز، عضو مجلس العلاقات الخارجية الأميركي والمستشار السابق للرئيس جورج بوش الابن، يطلب إطلاق سراح خاشقجي وأن "تحفظ السعودية ماء وجهها بتوجيه اللوم لمسؤولين قاموا بالتحقيق معه في القنصلية دون علم المملكة".

 

حتى الخامس من أكتوبر كان خاشقجي صحافيًا "مفقودًا –محتجزًا" داخل القنصلية أو تم ترحيله بطريقة ما على الأرجح إلى الرياض، وقد نشرت الواشنطن بوست خلال ذلك اليوم عامودًا صحافيًا خاليًا باسمه، ليحل محل ما كان يفترض أن يكون مقاله المنشور في الصحيفة لو أن حياته اتخذت مسارها الطبيعي وعاد لبيته ليكتب كالمعتاد. إذن ثلاثة أيام انتهت بتغريدات وتصريحات(7) من أعضاء بارزين جمهوريين وديمقراطيين على السواء داخل الكونجرس للضغط من أجل «الإفراج عن خاشقجي»، وهي ثلاثة أيام كان الأتراك فيها، وفق روايات شتى، على علم بكل تفاصيل الجريمة بطرقهم الخاصة، لكنها ثلاثة أيام بدأت تجتمع فيها أيضًا خطوط التحقيقات الرسمية، وتتراكم فيها المعلومات المحصّلة بطريقة مقبولة دوليًا، لتبدأ لعبة تسريبات بطيئة اختلطت فيها الأولى بالثانية، والرسمي بغير الرسمي.

 

في السادس من أكتوبر، بدأت تسريبات من مسؤولين أتراك لم يعلنوا عن هوياتهم عن وقوع جريمة قتل على يد فريق سعودي أُرسِل خصيصًا لذلك، وهي تسريبات سرعان ما انتشرت على نطاق واسع في الصحف، على سبيل المثال، في الواشنطن بوست والتي نقلت(8) الخبر على لسان من أسمته بـ «أحد العالمين بما يدور في فريق التحقيق»، ونشرت(9) رويترز في ذلك اليوم أيضًا على لسان "مصدر تركي" بأن الراجح هو مقتل الرجل دون الإفصاح عن كيفية وقوع الجريمة بالضبط، علاوة على الإشارة لأول مرة إلى 15 شخصًا سعوديًا متهمين بالضلوع في تدبير الجريمة.

  

  

على مدار السابع والثامن والتاسع من أكتوبر، تسرّبت(10) هويات "الفريق السعودي" المتهم وخط(11) سيره المسجل بوضوح على كاميرات نظام المراقبة العام بإسطنبول، علاوة على معلومة دخوله وخروجه في نفس اليوم من مطار أتاتورك على متن طائرتين خاصتين، إضافة لذلك أتت تصريحات من أطراف عدّة ترجح «وقوع جريمة بشعة»، منها تغريدة(12) للباحث التركي في واشنطن سليم سازاك بأن «مسؤولًا تركيًا رفيعًا» أبلغه بأن «أخبار خاشقجي ليست جيدة أبدًا بل بشعة»، وتصريح لـ طوران كِسلاقجي، رئيس جمعية الإعلام العربي التركية، بأنه قُتِل وتم تقطيع جثته نشرته(13) صحيفة نيويورك تايمز.

 

خلال الأيام الثلاثة التالية انتشرت(14) أنباء في شتى الصحف -من ضمنها النيويورك تايمز- عن امتلاك(15) تركيا تسجيلا(16) صوتيًا ومرئيًا لما جرى لـ "خاشقجي" بالضبط، في حين تضاربت السيناريوهات لمحتوى تلك التسجيلات بين ترجيحات بمقتله عمدًا ثم تقطيع جثته، وتكهنات بقتله بالخطأ أثناء التحقيق معه أو محاولة ترحيله. وبحلول يوم 15 أكتوبر تأكدت بشكل شبه كامل شكوك مقتل خاشقجي، إذ تحدث ترامب عن «قتلة» قاموا بالجريمة، في حين صدرت تسريبات غير رسمية لوسائل الإعلام تفيد بأن فريق البحث الجنائي التركي الذي سُمِح له بتفتيش القنصلية لأول مرة وجد ما يدل على ارتكاب الجريمة بالفعل، بل وأنهم بصدد(17) توسيع نطاق التفتيش إلى بيت القنصل القريب، والذي عاد بدوره إلى الرياض بالأمس قبل أن يصبح قيد أي مساءلة قانونية تركية أو دولية.

   

على الأرجح أيضًا أن أحد التسريبات(18) الأخيرة التي عرضتها شبكة سي أن أن الإخبارية بخصوص نية السعودية الاعتراف بقتلها خاشقجي عن طريق الخطأ، والذي ذاع في وسائل الإعلام العربية والغربية على السواء في ذات اليوم، هو تسريب من الجهة التركية التي تقوم الآن بالتحقيق المشترك مع نظيرتها السعودية، والذي يشمل بالتأكيد عملية تفاوض بين الطرفين لعلها أهم من أي تحقيق مشترك على الأرض، نظرًا لمعرفة الطرفين بتفاصيل الجريمة، وهو تسريب انطلقت منه الرواية السعودية بحديثها عن قتل خاشقجي خنقا بالخطأ، لتوجه السلطات السعودية أصابع الاتهام نحو ال 15 عشر فردا و3 متهمين، مخلية مسؤولية ابن سلمان من أوامر القتل.

رواية لم تلبث كثيرا حتى ظهر أردوغان مؤكدا أن السلطات التركية تمتلك من المعلومات ما يؤكد التخطيط المسبق لمقتل خاشقجي واستحالة أن يكون القتل محض شجار دون تدبير مسبق، مع تأكيد أردوغان أنه لا يمكن توجيه أصابع الاتهام للجهات الأمنية والاستخبارية فقط دون أن يكون هناك أوامر سياسية عليا، مطالبا الملك سلمان بإجراء تحقيق شفاف تجاه ما جرى. تصريحات تعيد توجيه القضية تجاه اتهامات تتجاوز الرواية الرسمية السعودية، مما يجعلنا بطبيعة الحال مترقبين لما ستؤول إليه التحقيقات، وما سترشح عنه التفاهمات السعودية التركية الأميركية تجاه الإعلان عن النتائج الكاملة.

     

  

بذلك استطاعت إدارة الاستخبارات لملف خاشقجي عبر التدرج في تسريب المعلومات بعد اكتساب قضية الاختفاء زخم عالمي، أن تنقل قضية اختفاء الصحفي السعودي من ملعب الثنائية السعودية التركية باعتبارها قضية دبلوماسية، لتأجيج قضية رأي عام دولي تعددت أقطاب الفاعلين والمعنيين والمهتمين بها، وهو ما يعني فتح الباب الكبير لأنقرة بخروجها من المأزق الدبلوماسي واستلام مفاتيح اللعبة، وفي ذات الوقت تأزيم المملكة السعودية بوضعها أمام مرمى العالم.

  

لا يزال التاريخ الطويل للجمهورية يلقي بظلاله إذن على الدولة التركية، حيث استفادت المخابرات التركية دومًا من الاستمرارية المؤسسية على مدار تسعين عامًا والتي لم تضطرب على إثر التغيرات والانعطافات السياسية الحادة، إذ تمتعت باستقلال نسبي عن السياسة التي تغيرت نتيجة الانقلابات العسكرية.

 

لتكشف مواقف شتى على مدار السنوات الماضية عن إلمام استخباراتي لأنقرة بتفاصيل الدولة العميقة في الداخل وأصول إدارة الملفات الحساسة بالخارج، أهمها الدور المحوري للاستخبارات في إحباط المحاولة الانقلابية في يوليو/تموز 2016. وبعد عامين، تأتي حادثة مقتل خاشقجي لتسلط الضوء مجددًا على تلك الحقيقة، وعلى اتجاه سيتزايد، لترسيخ نفوذ الأجهزة الأمنية والاستخبارات التركية كأحد اللاعبين المهرة القلائل عالميًا، متناغمين هذه المرة تحديدا مع قيادة الهرم السياسي في تركيا بزعامة أردوغان، نفوذ يبدو أنه سيتزايد إن كانت أنقرة حريصة على تسجيل أهداف بارعة مماثلة في المباريات العالمية المتتالية التي تنخرط فيها بلا توقف.

المصدر : الجزيرة