ترمب ليس مختلا عقليا!

بعد مضي عام من توليه منصبه، أكّد ترمب لنا الكثير مما كنّا نعرفه عن مدى أهمية القيادة: فقد تمسّك بحزم بالمواقف التي جلبها معه إلى منصبه، وبيّن أهمية المعرفة الموضوعية (أو عدمها) عند اتخاذ القرارات، وأظهر لنا لماذا لا يمكن للمستشارين أن يحلّوا لوحدهم محل القادة المخضرمين. ثم أنّه بشكل لم يكن متوقعا، فشل في تعيين معاونين يمكنهم أن يساعدونه في الحصول على ما يريد من سياسات وإجراءات. وفي حين أن العالم سوف يتعيّن عليه التعايش لثلاث سنوات أخرى على الأقل مع دونالد ترمب، فليست هناك أسباب تدعونا لأن نتوّقع تغييرا كبيرا في سلوكه في المستقبل.

تبرز ثلاث أفكار أساسية من هذه الدراسات: أولا، إن معتقدات القادة ثابتة بعض الشيء بمعنى أنها تتشكّل قبل استلام القادة لمناصبهم ولا تتغير كثيرا مع مرور الوقت. وكما كتب وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر في مذكراته، "إن القناعات التي يشكّلها القادة قبل أن يصلوا إلى المناصب العليا هي رأس المال الفكري الذي سوف ينفقونه في مناصبهم". وعلى الرغم من أن هذا الثبات يعتبر أحيانا من العيوب، فإن المعتقدات الثابتة، كما يقول عالم السياسة روبرت جيرفيس، تقدّم توجيهات ضرورية تساعد صانعي القرار على مواجهة عالم معقد. ولا ينبغي لنا أن نتمنى لقادتنا أن يغيّروا معتقداتهم بسرعة لأن المعتقدات الثابتة هي ميزة لا علّة.
الفكرة الثانية هي أن المعرفة الموضوعية لها أهميّة فائقة -من المهم أن يكون القادة على علم بأحوال العالم- ولا توجد هناك طرق مختصرة للحصول على تلك المعرفة في المنصب نفسه. وتبيّن البحوث حول تلك الخبرات أنّها "محدّدة النطاق"، بمعنى أنه لا يمكن نقلها من موضوع أو مسألة معيّنة إلى أخرى (…) فلا عجب، إذن، أن الخبرة والمهارة في عالم الأعمال والتجارة قد لا تترجم بشكل تلقائي إلى فطنة في السياسة الخارجية.
ثالثا، على الرغم من أن دور المستشارين والبيروقراطيين المعيّنين حيوي وحاسم، فإنه لا يشكّل بتاتا بديلا عن زعيم يتمتع بخبرة مباشرة في مجال السياسة الخارجية. وكثيرا ما يحاجج الرؤساء عديمو الخبرة بأنه قد يمكن للمستشارين أن يسدّوا الثغرات في معرفتهم الخاصة أو توجيههم في المنصب. لكن كما أظهرت أبحاثي في الآونة الأخيرة، فإنه من المهم جدّا أن يكون الرئيس على نفس مستوى الإلمام بالسياسة الخارجية مقارنة بمستشاريه. فالقادة ذوو الخبرة يشرفون بشكل أفضل على عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية لأنهم سوف يطرحون الأسئلة الصعبة، ويلاحظون الخطط الضعيفة، وسوف يميّزون المقترحات غير الواقعية. كما أن سمعتهم كأناس ضليعين في السياسة الخارجية يمكن أن تساعدهم بشكل غير مباشر، لأن المرؤوسين سوف يعرفون أن رئيسهم قد يدقّق في عملهم. الرؤساء ذوو الخبرة هم أيضا أكثر قدرة على الاعتماد على مصادر متنوعة للنصح والمشورة.
ففي حالة بوش الابن، أدّت خبرته الضعيفة الى تمكين مستشارين مثل نائب الرئيس ديك تشينى من التصرّف دون رقابة، مما أدى إلى ضعف التخطيط لحرب العراق وما بعدها. كان والد بوش، الرئيس السابق جورج بوش الأب، قد اعتمد على العديد من المستشارين هؤلاء أنفسهم، بمن فيهم تشيني (الذي كان آنذاك وزير الدفاع)، لتخطيط حرب الخليج الناجحة في عام 1991. لكن الفرق المهم هنا هو أن بوش الوالد، وهو كان قد احتل منصب نائب الرئيس السابق، ومنصب سفير في الأمم المتحدة، وخدم كمدير وكالة الاستخبارات المركزية، كانت لديه خبرة عميقة في السياسة الخارجية مما أجبر فريقه على مراجعة خطط الحرب بشكل دقيق حتى قبل أن تصل إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض.

فأولا، على الرغم من أن ترمب غالبا ما يتهم بأنه ليس لديه أي مواقف ثابتة، فإن لديه العديد من وجهات النظر الصلبة التي كنا قد رأيناها منذ ما قبل الانتخابات. فقبل عام واحد من تنصيبه، قال الصحفي توماس رايت في بوليتيكو إن المرشح ترمب آنذاك كانت لديه ثلاثة معتقدات واضحة: كان ضد التجارة الحرّة، ضد التحالفات الخارجية، وكان متعاطفا مع الطغاة في الخارج.
ظل ترمب وفيا لهذه المعتقدات طيلة السنة الأولى التي أمضاها في البيت الأبيض. فبعد فترة وجيزة من استلامه لمنصبه، سحب الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وأوضح عدم ارتياحه تجاه اتفاقات التجارة الحرّة مثل اتفاقية التجارة لأميركا الشمالية (النافتا). وبعد أن هاجم حلف الناتو خلال حملته الانتخابية، أثار ترمب شكوكا حول التزام الولايات المتحدة بالمادة 5 – التي تنص على الدفاع الجماعي في حالة الحرب ضد أحد أعضاء الحلف – عندما رفض تأييده لها في خطاب له في بروكسل (عاد وأكد لاحقا التزام الولايات المتحدة بالمادة 5 بعد عودته الى واشنطن). وكان إعجابه بالزعماء الاستبداديين واضحا، وهو ما انعكس في مديحه لقادة الصين وروسيا والمملكة العربية السعودية. فبالفعل، ثبت أن هذه المواقف هي صلبة جدا في الواقع.
ثانيا، لقد تأثّر ترمب بسبب قلة خبرته ونقص معرفته. فأفعاله، بما فيها الكشف عن معلومات سرّية عن طريق الخطأ إلى السفير الروسي، والتباهي المبالغ فيه بالصفقات الرمزية التي عقدها مع الصين الصاعدة بشكل متزايد، في حين تتحرّك الدول الأخرى في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ لعقد صفقات متعددة الأطراف دون الولايات المتحدة، كلها تكشف عن تهوّر الرجل وسذاجته في تفضيله الصفقات الثنائية، ولا تظهره بتاتا على أنه مفاوض مخضرم وماهر كما يدّعي.

ثالثا، لم يتمكن فريق ترمب من التعويض عن افتقاره للمعرفة، حتى في المجالات التي يملك هذا الفريق خبرة جيّدة فيها. فعلى الرغم من أن وزير الدفاع جيمس ماتيس يدير البنتاغون على نحو فعال، فإن مجموعة مستشاري ترمب لم يستطيعوا لجمه ولا توجيه مواقفه نحو صياغة سياسات متماسكة. على سبيل المثال، كما ذكرت سوزان غلاسر في بوليتيكو، فخلال رحلته إلى أوروبا هذا الصيف، أزال ترمب إشارة كانت موجودة في خطابه إلى المادة 5 من ميثاق الناتو في اللحظة الأخيرة، دون استشارة فريقه الذي أخذ على حين غرّة. كما أن تهديدات الرئيس المستمرة على تويتر ضد كوريا الشمالية تقوض فكرة وجود سياسة متماسكة تتبعها هذه الإدارة.
بدلا من ذلك، مع بعض الاستثناءات البارزة، ملأ ترمب مناصب إدارته كلّها بأشخاص عديمي الخبرة. يكافح معظم الرؤساء في بداية ولاياتهم، وخاصة عندما يكون حزبهم قد بقي خارج السلطة لفترة طويلة، كما يواجه الرؤساء الجدد في كثير من الأحيان التحدّي المتمثل في تعيين أشخاص ضليعين ولكن ذوي خبرة مباشرة قليلة أو من هم قضوا عدّة سنوات خارج الحكومة. لكن أن يقوم رئيس عديم الخبرة عمدا باختيار مستشارين عديمي الخبرة، مثلما فعل ترمب، فهذا ما لم يسمع به من قبل.

لقد رفضت إدارة ترمب أو فشلت في إجراء تعيينات إلى درجة لم يسبق لها مثيل، حتى أنها تركت ما يعتبره معظم المراقبين من أهم مناصب السياسة الخارجية، مثل السفراء في أوروبا والشرق الأوسط، تركتها شاغرة. ترمب نفسه لم يترك شكوكا في أن ما يجري في هذا السياق ، فضلا عن تقليص حجم وزارة الخارجية، هو خطوة متعمدة، فكان أن قال ردا على سؤال حول الوظائف الشاغرة في وزارة الخارجية: "أنا الوحيد الذي يهم".
جزء مما يجعل سلوك ترمب في هذا المجال مفاجئا هو أنه على الرغم من أن رفضه للخبراء موقف يلقى بعض الصدى لدى جزء من الرأي العام، فإنه يجعل تطبيق السياسات التي يريدها ترمب نفسه أصعب. فحتى الرئيس الذي يريد أن ينسحب من العالم لا تزال لديه أولويات يريد تنفيذها. وفي ما يمكن للمسؤولين من السلك الديبلوماسي أن يملؤوا المناصب على أساس مؤقت، يحتاج الرئيس الى تعيينات سياسية يثبّتها الكونغرس إذا أراد محاولة ترجمة شعاراته إلى أفعال.
عادة، يمثّل العام الأول من الولاية الرئاسية الفترة التي يقوم فيها الرؤساء بما أسمّيه أنا "الاستثمارات في السياسات"، والتي تشمل قرارات التوظيف والميزانيات والاستراتيجيات وخلق المؤسسات وتغييرها. وقد تباين الرؤساء من حيث مهاراتهم في تفعيل هذه الاستثمارات، ولكن مع ذلك فإن معظمهم، حتى مجيء ترمب الى سدّة الرئاسة، كانوا قد حاولوا على الأقل إنجاز ذلك.

وهناك أيضا آثار محتملة على المدى الطويل لم نبدأ بعد بتقديرها. فكما كتب جيم غولدجير وكتبتُ في هذه المجلّة بعد وقت قصير من تنصيب ترمب، فإن الكثير من عناصر السياسة الخارجية الجيدة هي غير مرئية. فالدبلوماسية، والتجارة، والتحالفات – أي الأشياء التي يكرهها ترمب – لها فوائد قد يكون من الصعب أن نراها حتى نفتقدها ومثل بوليصة التأمين، لن نشعر بغيابها حتى نصبح بحاجة إليها. إن إضعاف ترمب لأدوات السياسة الخارجية هذه يجعل الولايات المتحدة غير مستعدة للأزمات التي لا يمكن الّا أن تطرأ لتتحدّى الرؤساء.
لقد أكد سجل ترمب حتى الآن الكثير مما كنا نعرفه عن كيفية تأثير الرؤساء في السياسة الخارجية، ولكن هذا أمر مخيف، نظرا لما نعرفه عن ترمب. في النقاش حول ما إذا كانت السنة الأولى لترمب أفضل أو أسوأ من المتوقع، يظل الخوف الحقيقي هو أن الآتي أعظم.
_______________________________________________________
مترجم عن: فورين أفيرز