الغضب من روحاني.. رغبة بالإصلاح أم سعي لإسقاط النظام؟

يوفر المقال التالي نظرة على الأوضاع الإيرانية الداخلية. إذ تبدو الاحتجاجات الإيرانية مفهومة ضمن سياقات اقتصادية وسياسية لا تتعلق بتفكيك ولاية الفقيه، بقدر ما هي نداءات لإصلاحات سياسية واقتصادية يفرضها الواقع.
منذ اللحظة الأولى لاندلاع موجة الاحتجاجات الأخيرة في إيران في 28 (ديسمبر/ كانون الأول) من العام الفائت، قامت التغطية الإعلامية الغربية بالتركيز بشكل مبالغ فيه على القضايا الاجتماعية والاقتصادية باعتبارها الدوافع الرئيسية وراء انتفاضة الإيرانيين. ولكن في حين أنه لا يمكن إنكار أهمية الظروف الاقتصادية الصعبة كسبب أساسي للتظاهرات، فإن تجاهل العوامل السياسية الكامنة وراءها من شأنه أن يغفل المعركة الأكبر الدائرة حول مستقبل البلاد.
في هذا السياق، قد لا يكون الرئيس الإيراني حسن روحاني الهدف الرئيسي أو السبب المباشر للمظاهرات، إلا أن سجله في منصبه منذ أن تمت إعادة انتخابه في مايو الماضي شكل خيبة أمل كبيرة لحوالي 24 مليون إيراني، كانوا قد صوتوا لصالح توليه الرئاسة لولاية ثانية. فبدلا من أن يسعى لأن يخط طريقا خاصا به، وقع روحاني بشكل متكرر في فخ اللعب بقواعد المرشد الأعلى غير المنتخب آية الله علي خامنئي، مما زاد من عمق الهوة الخطيرة الموجودة أصلا بين الإيرانيين العاديين والنخبة الدينية الشيعية الحاكمة التي تدعي تمثيلهم. ولكن لا شيء سوى القيام بإصلاحات جوهرية يمكنه أن ينقذ الجمهورية الإسلامية على المدى الطويل.

لقد تم تصوير روحاني في بعض وسائل الإعلام الغربية على أنه إصلاحي، إلا أن روحاني نفسه لم يطلق على نفسه قط صفة مصلح سياسي، كما أن الرأي العام الإيراني لم يعتبره يوما إصلاحيا. وبالفعل، يمكن اعتبار أن فوزه بالرئاسة لم يكن نتيجة لشعبيته المباشرة بقدر ما كان مرتبطا بعدم شعبية خصمه المحافظ ابراهيم رئيسي. غير أنه خلال حملته الانتخابية، قام روحاني بإعطاء الناخبين وعدا بالغ الأهمية لهم، إذ تعهّد بإفساح المجال لقدر أكبر من الحريات السياسية إذا ما تمت إعادة انتخابه. وأعلن أنه في ولايته الثانية العتيدة، سوف تمثّل حكومته "100 في المائة من الايرانيين"، حيث قال إنه سيسعى إلى فتح الطريق امام المشاركة السياسية لقطاعات الشباب والنساء والأقليات العرقية والدينية. كما تعهد مرة أخرى بالسعي لإطلاق سراح زعماء المعارضة الذين وضعوا تحت الإقامة الجبرية منذ عام 2011، وهو تعهد كان قد قام به لأول مرة قبل انتخابه الأول في عام 2013. إن المبالغة في اصدار الوعود خلال سنة انتخابية ليست بظاهرة خاصة بإيران فقط، ولكن في حالة روحاني، فإن الهوة الساحقة بين الشعارات البرّاقة والواقع تكاد تعمي الأبصار.
بدأت خيبة الأمل مع أول مؤتمر صحفي عقده روحاني بعد إعادة انتخابه. اختار الرئيس الإيراني أن يكون حذرا وغير ملهم دون أن يكون هناك ما يبرّر ذلك، فلم يذكر السجناء السياسيين في البلاد، الذين كان الوعد بالإفراج عنهم حجر الزاوية في حملته الانتخابية. شكلت تلك الانطلاقة نذرا سيئا أبرزت تردده في البناء على التفويض الذي اكتسبه من الانتخابات خوفا من أن ينظر إليه على أنه يشكل تحديا للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي.
قام روحاني بعدها بتشكيل حكومة من دون أي من الإصلاحيين. والأسوأ من ذلك أنه كان قد طلب موافقة خامنئي على كافة التعيينات الوزارية قبل تسمية الوزراء. ولم يقم روحاني بتعيين أي امرأة في حكومته على الرغم من المناشدات من أطراف عدّة، وعلى الرغم من أنه كان أيضا قد أعرب عن تعاطفه مع الناشطات والناخبات الإيرانيات المهمّشات خلال حملته الانتخابية.

كما أنه تجاهل في تعييناته الأقلية السنية في إيران، التي تشكل حوالي عشرة في المائة من السكان، والتي كان ناخبوها قد أعطوه دعما قياسيا في صناديق الاقتراع. (في كردستان وبلوتشستان، أكبر المحافظات ذات الأغلبية السنية، أيّده سبعة من كل عشرة ناخبين). اختار روحاني بدلا من ذلك استرضاء رجال الدين الشيعة المتشددين الذين دعموا منافسه رئيسي، وأبقى السنّة خارج حكومته . حتى أن حكومة روحاني لم تعين حاكما سنيا واحدا لأي من محافظات البلاد البالغ عددها 31 محافظة.
ثم عندما قام مجلس صيانة الدستور – وهو مجلس يتألف من اثني عشر عضوا غير منتخبين يتبعون فعليا لخامنئي، ويعطون الموافقة النهائية على جميع التشريعات البرلمانية ويؤهلون أو يرفضون المرشحين الذين يسعون إلى منصب حكومي – قام بإلغاء تشريع برلماني فمنع غير المسلمين من الترشح في الانتخابات البلدية، ظل روحاني صامتا ولم يصدر أي موقف على الرغم من أن هذه الخطوة كانت بمثابة إعلان أفراد المكونات الزرادشتية، واليهودية، والمسيحية العريقة في إيران مواطنين من الدرجة الثانية في العملية السياسية.
سلطت هذه الخطوة الضوء على الفجوة الديموغرافية الكبيرة بين حكام إيران وأولئك الذين يحكمونهم. فرئيس مجلس صيانة الدستور احمد جنّتي، وهو أحد منظري النظام، يبلغ من العمر 90 عاما، في حين أن 90 في المة من المتظاهرين الذين تم اعتقالهم في الأيام الأخيرة كانوا تحت سن الـ 25 عاما.
لقد خذل روحاني منذ إعادة انتخابه العديد من المكوّنات الديموغرافية والشرائح الاجتماعية الإيرانية التي صوتت لصالحه، وسعى بدلا من ذلك إلى خلق أرضية للتعايش الدائم مع المتشددين والمحافظين. فالرئيس الإيراني يطمح إلى خلافة خامنئي كقائد أعلى، وبالنتيجة، فإنه يعتبر فريق المحافظين في الجمهورية الإسلامية فريقا محوريا لتعزيز مسيرته الصاعدة على سلّم السلطة. في هذا السياق، تبدو الوعود التي أصدرها قبل بضعة أشهر خلال حملته كأنها ذكريات من ماض بعيد.

الملفت أيضا أن روحاني لم يعترض عمل الحرس الثوري، قوة النخبة العسكرية والسياسية التي تقود العمليات العسكرية الإيرانية الخارجية في المنطقة في أماكن مثل العراق وسوريا، فيما تقوم بقمع الاحتجاجات في الداخل. في ديسمبر 2017، أعلن روحاني عن زيادة في ميزانية الحرس الثوري وقاوم الضغوط الدولية للحد من أنشطته المثيرة للجدل إن لم نقل المثيرة للقلق.
لم يكن روحاني قد أفصح خلال حملته الانتخابية في مايو عن أي نيّة لمنح المزيد من الأموال لبرنامج الصواريخ الباليستية الذى يتحكّم به الحرس الثوري أو لفيلق القدس – الذراع الخارجية للحرس الثوري. الجدير بذكره أنّه خلال الاحتجاجات قام العديد من المتظاهرين بترديد شعارات مثل "لا غزة، لا لبنان، حياتي في إيران"، مما عكس الاستياء العام المتزايد ضد الحرس الثوري. وفي الأشهر الأخيرة، تعرّضت إيران لعدد من الزلازل المميتة، لكن استجابة الدولة الضعيفة ساهمت في وضع الأولويات الخارجية للجمهورية الإسلامية تحت المجهر فزاد الغضب الشعبي إزاءها.
حتى عندما قام الحرس الثوري بتحدّي الرئيس روحاني بشكل علني، على سبيل المثال عندما قام جهاز المخابرات التابع للحرس بإلقاء القبض على عدد من المواطنين الذين يحملون جنسيات ثانية، مما أنذر بتخويف المستثمرين الأجانب الذين يسعى روحاني بشدّة لجذبهم ويحتاج اليهم لخلق فرص عمل، اختار الرئيس المنتخب الاستمرار في التعاون مع العناصر الأكثر تشدّدا في النظام.
خلال المناظرات الرئاسية التي جرت في مايو والتي بثت مباشرة على شاشات التلفزة، أبهج روحاني الكثير من الايرانيين عندما قام بالهجوم على المتشددين، بمن فيهم عناصر الحرس الثوري، وأدان ممارستهم وأساليبهم التي تشوّه صورة إيران في العالم كما قال. غير أنه لم يفعل شيئا يذكر منذ ذلك الحين لمواجهة العناصر نفسها. لم يفشل روحاني بسبب ذلك في تحقيق توازن أكبر في توزيع السلطة بين الأجهزة المنتخبة وغير المنتخبة في الجمهورية الإسلامية فحسب، ولكنه أبرز أيضا علامات استفهام حول ما إذا كان هذا النظام قابلا للإصلاح أصلا عن طريق صندوق الاقتراع.

في عام 2009، العام الذي شهد آخر موجة احتجاجات شعبية واسعة النطاق في إيران قبل الأحداث الأخيرة، تمثّل المطلب الشعبي الرئيسي في إعادة اجراء الانتخابات الرئاسية بعد أن اعتبر الكثيرون أنه كان قد تم تزوير نتائجها بشكل فاضح. لكن خلال الموجة الحالية، أظهر المتظاهرون غضبا أكبر بكثير من ذلك، مطالبين باستبدال النظام السياسي برمّته. فهتافات مثل "الموت لخامنئي" و"ليرحل رجال الدين" التي أطلقها المتظاهرون تعكس مطالب تغييرية يمكن اعتبارها الأقوى والأكثر جوهرية منذ ولادة الجمهورية الإسلامية في عام 1979.
لقد أقنع تزمت النموذج السياسي على ما يبدو جيل الشباب من الإيرانيين بأنه لا يمكن إصلاح هذا النظام كما هو. ولكن بطبيعة الحال، لا يمكن إلقاء اللوم على روحاني وحده. فخامنئي ومعاونوه، مثل قادة الحرس الثوري، هم وراء القسط الأكبر من الإجراءات التي اتّخذت لخنق عملية الإصلاح السياسي في إيران منذ احتجاجات عام 2009.
مع ذلك مازال باستطاعة روحاني النظر إلى الاحتجاجات الأخيرة على أنها فرصة مواتية لأن يشقّ طريقا خاصا به. منذ (مايو/ أيار) الماضي، تقرّب روحاني من المتشددين من أجل إعطاء نفسه فرصة ليصبح المرشد الأعلى التالي. لكن مع الصدمة المتأتية من حجم الغضب الشعبي والمرجح أن يتردد صداه في صفوف النظام إلى حين، ينبغي على روحاني التفكير في قلب الطاولة على خصومه. في هذا الإطار، لدى الرئيس الايراني خيار واحد فقط بالنسبة للرسالة التي يجب أن يبلّغها لهم: إن الطريقة الوحيدة الممكنة للحفاظ على الجمهورية الإسلامية تتمثّل في إطلاق عملية إصلاح سياسي عميقة وهادفة. قد يكون الوقت متأخرا جدا للقيام بذلك، ولكن هذا أقلّ ما يدين به روحاني لما يقرب من 24 مليون شخص قاموا بإعادة انتخابه.
=======================================================