أشباح الفيرماخت.. هل تعود النازية إلى ألمانيا مجددا؟
اضغط للاستماع
مقدمة التقرير:
صباح اليوم الأربعاء، أصدر الادعاء الألماني أوامر اعتقال بحق 25 فردا يشتبه في انتمائهم إلى تنظيم "حركة مواطني الرايخ"، بتهمة تخطيطهم "لانقلاب" للاستيلاء على السلطة، بينهم عسكريون وقيادية في حزب البديل الألماني ونائبة سابقة، فيما قال المدعون الفدراليون إن أفراد الحركة المعروفة باسم "رايخسبرغر" يشتبه في "قيامهم باستعدادات ملموسة لاقتحام البرلمان الألماني بعنف مع مجموعة صغيرة مسلحة". ويسلط هذا التحرك لـ"مواطني الرايخ" الضوء على جماعات النازية الجديدة التي لا تعترف بالدولة الألمانية الحديثة ولا بقوانينها، ويمتنعون عن دفع الضرائب والمخصصات الاجتماعية، ويصرون على أن "الإمبراطورية الألمانية الهتلرية" لا تزال قائمة.
نص التقرير:
في زمن يتحسس فيه الجميع، خاصة الأوروبيين، من عمليات "الذئاب المنفردة" العنيفة، لا سيّما في نقاط الالتقاء العامة مثل المطارات ومحطات القطار والمسارح والملاهي الليلية وغيرها، قررت الشرطة أن تفعل ما هو أكثر وأذكى من التحفًّظ على المسدّس، لقد زوده أمن مطار فيينا بمجس صغير يُرسل إشارات للتعرُّف على صاحبه، ليترك الأمن المسدس مكانه كما هو كطُعم لصاحبه الافتراضي حين يقرر العودة إليه، إن فعل ذلك.
لم تمضِ سوى بضعة أسابيع حتى التهم فرانكو الطُعم، ليتم احتجازه مؤقتًا والتحقيق معه، قائلًا بأنه وجد السلاح صُدفة في حديقة قاعة للضباط بالعاصمة النمساوية، ليقرر الاحتفاظ به قبل أن يُدرك صعوبة المرور به من المطار، ومن ثم تركه في دورة المياه. مرة أخرى، ارتابت الشُرطة النمساوية كثيرًا في تلك الرواية، المُلفقة كما اكتشفت فيما بعد، وقررت اقتفاء آثار فرانكو بشكل أوسع وأدق.
بدأت رحلة التحقيق، كما نشرتها مجلة شبيغل الألمانية(1)، بالحصول على بصمات فرانكو، وإرسالها لشُرطة الجرائم الفيدرالية في ألمانيا، موطنه الأصلي، وسرعان ما انفرط عقد كامل من الأسرار المعقدة الكامنة خلف الضابط الألماني المثير للريبة. لقد تطابقت بصمات فرانكو مع شخص آخر في ولاية بافاريا الجنوبية، لم يكن سوى أحد اللاجئين السوريين: ديفيد بنيامين.
لم يعرف ديفيد العربية أبدًا، ولم يتحدث سوى فرنسية ضعيفة، لكنه قدّم أوراقه للحصول على لجوء في ألمانيا باعتباره مواطن سوري مسيحي من دمشق يعمل بتجارة الفاكهة، وحصل بالفعل على الموافقة الألمانية، ومعها غُرفة بإحدى البنايات المخصصة للاجئين، وحوالي أربعمائة يورو شهريًا. بيد أن ديفيد لم يستخدم الغُرفة كثيرًا نظرًا لانشغاله بالخدمة العسكرية كما تقول هويته الأخرى: فرانكو المواطن والجندي الألماني.
هل اخترق لاجئ سوري مُسلم متخفٍّ في هوية مسيحية صفوف الجيش الألماني، وخطط لعمل عنيف مسلح إذن، كما ذهبت الشكوك في البداية، وتذهب مخاوف اليمين الأوروبي باستمرار؟ لوهلة، تبدو إجابة السؤال بديهية، إلا أن التحقيقات الفيدرالية الألمانية قادتهم إلى اكتشاف واقعٍ مدهش ومعاكسٍ تمامًا لتلك الشكوك: لقد قام جندي ألماني موجود حقيقةً، هو فرانكو، باختراق صفوف اللاجئين، وانتحال شخصية مسيحي دمشقي ليس موجودًا من الأصل.
يستحيل بالطبع تخيُّل استفادة جندي ألماني من غُرفة صغيرة ومبلغ مالي زهيد في ألمانيا لتفسير اللُغز الذي مثله فرانكو، لكن بعض التحقيقات القادمة من فيينا حلّت اللغز للألمان. لقد وجد المسؤولون النمساويون موادًا دعائية يمينية متطرفة بحوزة فرانكو، سرعان ما دفعت نحو وضعه تحت الرقابة، لتظهر للسطح عنصريته المتطرفة، ورسائل الكراهية المُعادية للأجانب التي يتبادلها مع نظرائه عبر تطبيق واتساب.
قادت التحقيقات كذلك لجندي آخر يدعى ماتياس مقرّب من فرانكو، والذي اكتشفت الشرطة في منزله ذخائر وقنابل يدوية ومتفجرات، دون أن تصل حتى الآن لأية دلائل واضحة على ما نوى كل منهما القيام به. بيد أن ثمة مسألة اتضحت رويدًا للشُرطة الألمانية: هنالك عدد من الألمان المتطرفين يخططون بالفعل لعمليات "إرهابية" ثم إلصاقها باللاجئين عبر انتحال شخصياتهم، والأخطر هو أن تلك الدوائر اليمينية يتواجد بعضها في صفوف الجيش الألماني نفسه.
البوندسفير: إشكاليات جديدة .. قديمة جدًا
"يفقد أي جيش لا يملك نوعًا من التقليد العسكري بوصلته واتجاهه، وتتضاءل قامته مهنيًا، ويصبح معرّضًا لخطورة الانحطاط لمجرد منشأة فنيّة معنية بالقتل"
(دونالد أبِنهايم، مؤرخ عسكري أميركي)
تأسس الجيش الألماني، المعروف بـ"بوندٍسفير"، في خمسينيات القرن العشرين، بعد موافقة دول حلف الناتو على قيام حكومة ألمانيا الغربية بإنشاء قوة عسكرية مندمجة في بنية الحلف، لضمان عدّم تغوّلها داخل أوروبا كما جرى مع الجيش النازي، المعروف بـ "فيرماخت". كانت إحدى متطلبات الالتحاق بصفوف البوندِسفير آنذاك أن يمتلك المتقدّم رؤية إيجابية نوعًا ما لمؤامرة 20 (يوليو/تموز)(2) 1944، والتي قامت بموجبها مجموعة من ضباط الـ"فيرماخت"، بقيادة الجنرال كلاوس فون ستاوفنبرغ، بالتخطيط لاغتيال الزعيم الألماني أدولف هتلر، ثم السيطرة على ألمانيا والوصول لتسوية مع الدول الغربية.
لطالما اهتمت القيادة في ألمانيا الغربية طوال فترة ما بعد الحرب بـستاوفنبرغ وأعوانه باعتبارهم تجسيدًا لما سُمّي بـ"القيادة الداخلية" أو (Innere Führung) بالألمانية، وهو المبدأ الذي تأسس عليه البوندِسفير ولا يزال، ويقضي بعدم وجوب الانصياع المُطلق للقادة داخل صفوف الجيش، على العكس من معظم العقائد العسكرية المنتشرة حول العالم، بل انصياع الفرد لضميره إذا ما تناقضت أفعال القيادة مع أبسط مبادئ العدل والحرية، تمامًا كما فعل ستاوفنبرغ عام 1944.
بيد أن التأكيد النظري على القيادة الداخلية وتجريم الإرث النازي كلّه، تناقض مع المتطلبات الواقعية لإعادة بناء الجيش الألماني، إذ لم تجد قيادة ألمانيا الغربية في تلك الفترة مفرًا من اللجوء لبعض قيادات العصر النازي للاستعانة بخبراتها(3)، بل وبعض قيادات تنظيم إس إس وافن المسلّح التابع للحزب النازي نفسه، لا سيّما وأن السواد الأعظم من جنود وضباط ألمانيا خضعوا لهتلر في نهاية المطاف، في حين شكّل ستاوفنبرغ وأعوانه حالة استثنائية.
بحلول نهاية الخمسينيات، كان البوندِسفير قد استقطب حوالي 12 ألفًا من ضباط الجيش النازي(4)، وثلاثمائة ضابط من تنظيم إس إس وافن، علاوة على أربعين عُيّنوا برُتبة جنرال، ليتمكن من تأسيس نواة للبوندسفير، وهي مجموعة كان لا بد وأن تؤثر في طبيعة وثقافة الجيش الألماني، بل وظهر أثرها في تفاصيل عدة، مثل إطلاق أسماء بعض "مجرمي الحرب النازيين" على بعض المنشآت والثكنات، وانتشار سرديات بين البعض تشير لما فعله ستاوفنبرغ وأعوانه بـ"الخيانة"، رُغم كل التلميع السياسي لهم بعد سقوط النازية.
لم يقتصر الأمر على الملتحقين بالجيش، بل ووصل للخطط والسياسات العسكرية التي تشابهت كثيرًا مع ما تعارفت عليه العسكرية الألمانية طوال القرنين الثامن والتاسع عشر، وهي ظاهرة منطقية نوعًا ما كما تقول كاثرين كليهر(5)، الأستاذة الأميركية المتخصصة في سياسات الأمن الدولي، فالمؤسسة العسكرية معنية في نهاية المطاف برسم عقيدة إستراتيجية خاصة بمحيطها الجغرافي، غير المتغيّر بطبيعة الحال، وملائمة لمحيطها الثقافي المتغيّر تدريجيًا عبر التاريخ، لكنه ظل ذي ملامح ثابتة مثل التوجّس من الروس، علاوة على القيمة الكبيرة للإستراتيجية والتكتيك العسكري الألماني خلال الفترة النازية، والمشهود له بين أعدائه كذلك، وكان صعبًا التخلي عنه بتلك البساطة.
ظلت تلك "الإشكالية النازية" تحت السيطرة بشكل ما، بالنظر لصرامة الالتزام بالتحالف الغربي، والإمكانيات المحدودة التي سُمح للألمان بالحصول عليها عسكريًا، علاوة على تجذُّر الرفض الشعبي لممارسات النازية، مما انعكس بالتبعية على المجنّدين الممثلين لكافة الشرائح الاجتماعية الألمانية وثقافة ما بعد الحرب. بيد أن ذلك الواقع لم يدُم طويلًا داخل البوندِسفير، نتيجة تحوّلات ثلاث، كان أولها سقوط حائط برلين، وإعادة توحيد ألمانيا.
بإعادة توحيد ألمانيا، ظهرت شريحة اجتماعية جديدة بالكُلية داخل الجمهورية الفيدرالية الألمانية، بعيدة تمامًا عن المنظومة السياسية والإعلامية والثقافية لألمانيا الغربية، ورُغم العداء الشديد الذي كنّه الشيوعيون للنازية، إلا أن مفاهيم مثل "القيادة الداخلية" و"الانصياع للضمير" والخروج عن القادة في أوقات معيّنة كان بعيدًا تمامًا عن ثقافة ألمانيا الشرقية، والتي مثّل أهلها حوالي خُمس سكان ألمانيا بعد توحيدها.
كان الحدث الثاني هو إلغاء التجنيد والاعتماد على قوة عسكرية قوامها من المحترفين المتقدمين بأنفسهم للالتحاق بالجيش(6)، وهو أمر أثر بشدة على تمثيل كافة شرائح المجتمع الألماني، وفتح الباب أمام زيادة نسبة المتحمسين بطبيعتهم للخدمة والثقافة العسكرية، وهُم أكثر احتمالًا ليكونوا من صفوف اليمين المتطرف، علاوة على زيادة نسبة تمثيل الشرائح الأفقر لما تمنحه الخدمة العسكرية من مميزات، ومن ثم زادت نسبة الملتحقين بالبوندِسفير من سكان ألمانيا الشرقية سابقًا، والتي تصل حاليًا لثلث مجنّدي الجيش، نسبة توضع في سياق مقارنة مهمة مع نسبتهم من السكّان وهي الخُمس.
أخيرًا، أتت موجة اليمين المتطرف التي اجتاحت أوروبا قبل حوالي خمسة أعوام كرد جزئي على الأزمة الاقتصادية داخل منطقة اليورو، وكذلك على أزمة اللاجئين السوريين وتوافدهم على أوروبا، لتعود للسطح إشكاليات الإرث النازي داخل البوندِسفير في لحظة يقل فيها تمثيله للمجتمع الألماني كما كان سابقًا، ويتزايد فيه تواجد المجموعات الأكثر تعبيرًا عن الآراء العنصرية.
البوندِسفير في زمن اليمين: شبح الفيرماخت
"كانت هنالك إشارات مستمرة لصلابة جنود الـفيرماخت. لقد أشار مدرّسونا دومًا لتلك الفترة "النازية" أثناء منحنا التدريبات الأساسية."
(فيليب ليزنهوف، باحث في برنامج أوروبا التابع لصندوق مارشال الألماني، وعضو سابق بالقوات الخاصة الألمانية)
استغرق الأمر عامين قبل أن تتسلل أخبار المحاضرة المثيرة للجدل إلى مجلة "شبيغل" عام 1997، لكنها سرعان ما لفتت انتباه الجميع وأثارت عاصفة من الانتقادات داخل وزارتي الدفاع والخارجية في ألمانيا. لقد حدث الأمر بالفعل وتلقى أحد الضالعين في النشاطات النازية دعوةً لإلقاء محاضرة داخل أروقة أكاديمية الضباط في هامبورغ(7)، وأطلق العنان للحديث عن دعم ذوي الأصول الألمانية في مناطق غرب بولندا، المعروفة بـ"بروسيا الشرقية"، باعتبارها جزءً من ألمانيا التاريخية.
كان المحاضر يدعى مانفرد رودر، العضو السابق بمنظمة الحركة الألمانية النازية المتطرفة في السبعينيات والثمانينيات، والمُدان بالمُشاركة في حادث تفجير استهداف لاجئَيْن من فيتنام، ليتلقى على إثرها عقوبة بالسجن حتى العام 1990. غير أن نشاطاته استمرت بعد خروجه بتأسيس تنظيم متطرف جديد يهدف لإعادة توطين الروسيين من أصل ألماني في بروسيا الشرقية، وفي عام 1997 حين غرّمته السلطات ثلاثة آلاف دولار لقيامه بكتابة كلمات "كذب" و"تشويه" على جدران أحد المتاحف المخصصة لضحايا الحرب العالمية الثانية.
لم تكن محاضرة رودر تحت سمع وبصر القيادات العسكرية الألمانية في أكاديمية هامبورغ محض صدفة أو خطأ كما اتضح فيما بعد، بل ولم تكن المحاضرة هي المشكلة الرئيسية، ولكن ما تكشف آنذاك عن علاقة على استحياء بين تنظيم رودر والجيش الألماني. لقد ثبُت تورط البوندِسفير في تزويد تنظيم رودر بالعربات والشاحنات، كما صرّح مسؤولون ألمان، ليستخدمها في نشاطات لحماية "ذوي الأصول الألمانية" في روسيا ووسط أوروبا.
تُظهر أخبار كتلك بين الحين والآخر عن "التساهل" الذي يتم التعامل به داخل ثكنات البوندِسفير حيال التراث النازي، تارة لأجل احتواء المجموعات اليمينية الموجودة والاستفادة منها وضمان ألا تتحرك بعيدًا عن أعين السلطات في آن، وتارة أخرى لتحقيق أهداف متعلقة بالسياسة الألمانية بشكل غير مباشر، في تجسيد واضح لإشكالية الاستمرارية الجغرافية والتاريخية لكيان ألمانيا على مدار القرنين الماضيين، والحساسيات السياسية المتعلقة بالمشروع السياسي لذلك الكيان من ناحية أخرى في الثلاثينيات والأربعينيات.
في عام 2003، قام القائد السابق للقوات الخاصة، راينهارد غونزل، بتهنئة عضو برلماني محافظ على تصريحات له تُقارن اليهود بالنازيين باعتبارها نوعًا من المراجعة التاريخية لمواقف ألمانيا التقليدية بعد الحرب، وهي خطوة تبعها طرده من منصبه، ثم نشره لكتاب "مقاتلون سرّيون"(8)، يمجّد فيه من بطولات القوات الخاصة الألمانية وجذورها في المرحلة النازية. لا يبدو غونزل استثناءً عابرًا، لا سيّما بالنظر للرُتبة التي وصل إليها، فقد رأى فيليب ليزنهوف، العضو السابق بالقوات الخاصة، التعامل المفتوح مع الإشارات والرموز النازية في صفوف قواته(9)، بل واستماع بعض الجنود للفرق الموسيقية النازية الناشئة في ألمانيا.
في (ديسمبر/كانون الأول) 2016، أفادت وزارة الداخلية الألمانية في ردها على مساءلة برلمانية من حزب اليسار بوجود حوالي 600 مذكرة اعتقال لم تنفّذ بعد بحق نازيون جُدد(10)، منها أكثر منها 403 صدرت في الأشهر العشرة الأولى من العام 2016 فقط، وهي مذكرات تصدر بموجب "جريمة تمت بدافع يميني سياسي". يقول ماتياس كوينت، أحد الباحثين في شؤون اليمين المتطرف، بأن "أعداد النازيين الجدد الناشطين تحت الأرض تتزايد بشكل يهدد بخلق تنظيمات يمينية إرهابية قادرة على تنفيذ أهدافها باستخدام العنف".
ليست تلك بمبالغات بالنظر للإحصائيات الخاصة بجرائم التطرف اليميني في ألمانيا، والموجّه بالأساس للباحثين عن اللجوء، إذ زادت الهجمات الموجهة لمقرات استضافة اللاجئين خمسة أضعاف في عام 2015 مقارنة بالعام السابق، كما تشهد تلك التنظيمات زيادة في أعداد المنتمين تصل لأكثر من عشرين ألف عضو، وهُم يجدون طريقهم للسلاح، مثلهم مثل نظرائهم من الجهاديين، بمجرد مطالعة مواقع الإنترنت.
"رُعب المهاجرين" (Migrantenschreck)، على سبيل المثال، نموذج لأحد تلك المواقع، وهو موقع ألماني مُسجّل في روسيا، ويوفّر لمرتاديه خدمة شراء أسلحة بيضاء وخفيفة، بل ويستعرض كيفية استخدام السلاح بوجه أهداف مفترضة ممثلة بصور السياسيين الألمان الحاليين. يدير الموقع ماريو رونش، أحد المنتمين لدوائر النازيين الجدد، والمطلوب أمنيًا لتحريضه على العنف، والذي يُعتقد بوجوده في المجر حاليًا لأجل بيع أسلحة محظورة داخل ألمانيا للمواطن العادي.
بالنظر لتلك الموجة اليمينية المتصاعدة، وجذورها التاريخية العنيفة في ألمانيا، تبدو تحركات القيادات العسكرية حتى اليوم متباطئة نوعًا ما حيال ما يُكشف عنه من تساهلها مع النازيين الجدد ونشاطاتهم في صفوفها، وهو أمر يُعزى لانحياز برلين إلى احتواء هؤلاء، واستخدام وترويض طاقاتهم في آن، بدلًا من التعنُّت في طردهم ثم المعاناة من ويلات انضمامهم فيما بعد لمجموعات متطرفة خارج سيطرة ورقابة السُلطة تمامًا.
في وقت تتمدد فيه روسيا فعليًا برعاية بعض أشكال اليمين المنحاز لها في بلدان أوروبا، قد تجني برلين بعض الثمار من غض الطرف عن يمينها النازي وكراهيته التاريخية للروس، بل وإمكانية استخدامه في شرق ووسط أوروبا لمكافحة أجندة الروس، تمامًا كما حدث مع تنظيم رودر.
خيوطٌ نازية في برلين
قبل حوالي ثلاثة أعوام، ظهر هولغر أبفل، زعيم الحزب الوطني الديمقراطي آنذاك، المؤسَّس كخليفة للحزب النازي في أوكرانيا بعد سقوط النظام النازي عام 1945، بصُحبة وفد قادم من أوكرانيا يمثل حزب يميني هو "سـفوبودا"، واصطحبه في جولة داخل برلمان ولاية ساكسونيا الشرقية، وعاصمتها مدينة درسدن، حيث كان نائبًا برلمانيًا هناك لعشر سنوات.
تحدث أبفل بفخر شديد عن الحزب الأوكراني الفاشي، والذي يفخر بدوره بالجنود الأوكرانيين المنضمين لصفوف ألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، ويرى ضرورة الاحتفاء بأعضاء اللواء الرابع عشر لتنظيم "إس إس وافن" النازي، المكوّن من الأوكرانيين خلال الأربعينيات، باعتبارهم أبطالًا قوميين في أوكرانيا.
ثمة مسافة كبيرة بين السُلطة في ألمانيا والحزب الوطني الديمقراطي نظرًا للمواقف النازية الصريحة للأخير، بيد أن كافة محاولات حظر الحزب فشلت، بما فيها طلب تقدمت به كل ولايات ألمانيا العام الماضي ورفضته المحكمة الدستورية(11)، مشيرة لاستحالة وصول الحزب للبرلمان أو فوزه في أية انتخابات، ومن ثم صعوبة إطاحته بالنظام الديمقراطي في ألمانيا. في عام 2003، كانت المحكمة قد رفضت طلبًا مشابهًا نظرًا لانتشار واسع لمُخبري السُلطات الألمانية داخل الحزب، ومساهمتهم في وضع الأدلة ضد الحزب مما اعتبرته المحكمة أمرًا غير مقبول.
يستمر وجود الحزب النازي على هامش الحياة السياسية، لكن معظم أحزاب ألمانيا تنأى بنفسها عنه، بما في ذلك حزب البديل اليميني نفسه الأكثر حضورًا واعتدالًا منه في آن، والرافض لإرث العنصرية النازية في ألمانيا مثله مثل الحزب الحاكم رُغم اختلافه على سياسة استقبال المهاجرين ووجود الاتحاد الأوروبي. غير أن هامشية الحزب داخل ألمانيا لا تمنع توسع شبكات علاقاته مع النازيين الجدد في الداخل، ومع اليمين الفاشي في بلدان شرق أوروبا من ناحية، وهو تداخل يصُب لصالح احتواء النفوذ الروسي في نهاية المطاف.
حين أتى وفد الحزب الأوكراني سـفوبودا إلى مدينة درسدن بدعوة الحزب النازي(12)، لم تكن تلك في الحقيقة أول زياراته لألمانيا، فقد سبقها عام 2013 زيارة أخرى بدعوة من سفير ألمانيا في كييف، علاوة على حصول أعضاء الحزب على دعوات لحضور فعاليات مؤسسة كونراد أديناور، أحد أذرع الاتحاد المسيحي الديمقراطي الذي تترأسه المستشارة أنغلا مركل.
يستحيل حتى اليوم تخيُّل ظهور قيادات سياسية ألمانية في صورة واحدة مع قيادات الحزب النازي الألماني، بيد أن خيوط الجمهورية الألمانية والحزب النازي المتنافرة في الداخل، تبدو أكثر احتمالًا للتشابك غير المباشر في الخارج، تمامًا كما جلبت تحوّلات الواقع الألماني في الخمسينيات تلاقيًا بين خيوط النظام النازي القديم ونظام ألمانيا الغربية الوليد رُغم تنافر الأجندتين.
تظل مواقف ألمانيا التاريخية صادحة في عدائها الصريح مع الإرث النازي لا شك، لكن حتمية الاستمرارية المتعلقة بموقعها وتاريخها وعلاقاتها مع محيطها تظل تفرض على مؤسساتها نوعًا من الاحتواء الجزئي لبعض خيوط الظاهرة النازية هنا وهناك؛ خيوط تتشابك داخل مؤسستها العسكرية وفي علاقاتها بشرق أوروبا أكثر من أي مساحة أخرى.