كيف تتعامل حواجز تل أبيب مع هاجس الشباب الفلسطيني؟
ألحان الفجر في سماء الضفة الغربية المحتلة، تتسلل عبر نوافذ البيوت لتوقظ ساكنيها، ليست الصلاة كل ما في الأمر، سباق مع الزمن الآن سيبدأ، الوصول للمدرسة والجامعة والعمل مرهون بما تحتله "الحواجز العسكرية" من أوقات الصباح.
يتزامن وقت خروج المصلين مع بدء توافد الطلبة لمقاعدهم، التفكير في مجرد الوصول مرهق جدًا، لا مكان في العقول هنا لصعوبة المناهج، أو بوادر ثورة، يفكر الطلبة فيما هو أبسط، الخروج من ثقب الحواجز الأسود، والطرق الالتفافية التي فرضها واقع الضفة الاستيطاني.
ما أن تسير داخل قرى وحارات الضفة والقدس المحتلتين حتى تعكر صفو طريقك نقاط عسكرية مثل (حوارة، قلنديا، برطعة، عطارة)، ومعها يبدأ مسلسل التفتيش والوقوف لساعات طويلة، بينما تقف بارودة الاحتلال وخلفها حزمة من التشريعات، لتجعل المحتج على الأوضاع أقرب للسجن منه لمحطة الوصول القادمة.
في حي الشيخ جراح الواقع على سفوح جبل المشارف، إلى الشّمال من البلدة القديمة في القدس المحتلة، يعيش الفلسطينيون والإسرائيليون معًا، لكن مقاييس العيش متباينة، الجزء الأسفل يعاني ساكنوه الفلسطينيون من "تجاوزات" المستوطنين بشكل مستمر، حتى أصبحت المنطقة اليوم ملاذا للكثير من عائلاتهم، لاسيما وأن لجنة التخطيط والبناء التابعة للاحتلال صادقت مطلع عام 2014 على مخطط إقامة مدرسة دينية يهودية على قطعة أرض مساحتها 4 دونمات بالمنطقة، بينما يستمتع سكان المناطق المرتفعة في الحي بحياتهم، حيث المنازل والفنادق الفاخرة، ومكاتب تمثيل لقنصليات أجنبية، وظروف أمنية جيدة.
مع نسمات الفجر الأولى، تراقب "منى الكرد" عن كثب تحركات الجيش الإسرائيلي داخل حي الشيخ جراح، تقف دقائق صامتة أمام نافذة غرفتها التي باتت مصدر بث مباشر لصراخ جنود الاحتلال واستفزاز المستوطنين.
تحاول جاهدة ألا ترهق نفسها بالتفكير وقت مغادرتها جامعة بيرزيت برام الله المحتلة، المسافة طويلة، وساعات الانتظار على حاجز "قلنديا" كفيلة بضياع عدد من المحاضرات الجامعية، إلى جانب الأسئلة الاعتيادية المكررة دائمًا من قبل المجندات الإسرائيليات: "من أنت؟ من أي عائلة؟ إلى أن تذهبين؟ أين هويتك؟".
يقف الفلسطيني أمام كل هذا العناء "الحواجز" ساعات طوال ينتظر حتى يتسنى له الدخول في طابور لا ينتهي إلا بعد أن يقضي على مبررات الصبر في نفسه. |
أكثر ما يؤلم قلب "منى" أنها عاشت التشريد منذ طفولتها بصنوف متنوعة، فلا تقتصر المعاناة هنا على الحواجز العسكرية، فوالدها الذي انتهى عام 2000 من بناء منزله صدمه قرار إسرائيلي بمغادرة البيت بحجة عدم ترخيصه، ما دفعه إلى استئجار آخر قريب منه، رغم محاولاته التي باءت بالفشل حتى عام 2009 كي يحصل على قرار من المحاكم الإسرائيلية يعيد له منزله.
تحكي لنا "الكرد" فور وصولها حاجز قلنديا الواقع جنوب رام الله عن تفاصيل الحاجز، وهو أكبر الحواجز العسكرية التي أقامها جيش الاحتلال عقب الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000.
تتجلى في الحاجز ملامح "الاحتلال" من خلال تصميمه المتعالي على الإنسان والطبيعة، جدار إسمنتي، سياج داخلي، وممرات إلكترونية وأبراج كاميرات ومراقبة، يقف الفلسطيني أمام كل هذا العناء ساعات طوال ينتظر حتى يتسنى له الدخول في طابور لا ينتهي إلا بعد أن يقضي على مبررات الصبر في نفسه.
قصة الكرد لا تختلف كثيرا عن الشاب "يوسف"، المصاب بمرض وراثي تسبب في خلل في توازن جسده كما شقيقتيه، لم يدرك العشريني أن حقيبته المحتوية على حاسوبه المحمول ستكون مبررا لكل هذا "الهوس" حوله، إذ أن الهوس الإسرائيلي سرعان ما ألقى في أذهانهم بلزوم احتواء الحقيبة على مواد متفجرة، ليبدأوا في التعامل العنيف مباشرة بلا أي تحذير أو إجراءات وقائية قانونية.
لم يتكلم معنا "يوسف" بأريحية، وظل صامتًا أغلب الوقت في معاناة مفهومة، بينما تدخلت شقيقته الكبرى "زينب" وأخذت تقص عددًا من حكايات المعاناة الأخرى، فمنزلهم المحاط في الوقت الحالي بعشرات من بيوت المستوطنين لم تعد الحركة فيه سهلة، إما من وإلى القرية المنفصلة عن أحياء وبلدات القدس حتى رام الله، حيث رزقهم اليومي، يمتد وقت الانتظار على الحاجز الذي يبعد 20 مترًا فقط عن منزلهم بضع ساعات، وقد يمتد أيامًا أخرى حافلة بشتى أنواع الإهانات.
"التفتيش والإهانة" عناوين رئيسية يدرك معانيها كل فلسطيني يجتاز الحواجز العسكرية، عند الشباب تختلف معايير التفتيش، "اخلع الجاكيت، اخلع البنطال، ارفع يديك عاليًا" بعد هذه العبارات تبدأ رحلة من الإهانة والإخضاع، لا تنتهي إلا بعد إهماله على قائمة الانتظار لوقت قبل أن يسمح له بالمغادرة.
المشهد أكثر "استفزازًا وإهانة" بالنسبة للفتاة، على يمناها ويسراها تقف المجندات الإسرائيليات، علامات "الامتعاض" من العرب لا تغيب عن وجه الفلسطينية، تلوح إحداهن لها للدخول إلى الممر الإلكتروني، تسبقها حقيبتها وساعتها وأي شيء آخر، ثم تجبرها على خلع الجلباب تحسبًا لوجود غرض لم تنتبه إليه الآلة، وحين يُرفض الأمر بسبب حشد الشباب المتواجد، يصبح أمامها خيار واحد وهو أن تنسحب خلف الحاجز وترجع دون العبور.
الانتظار لساعات طويلة عند الحاجز دفع "منى" إلى استئجار بيت قريب من الجامعة والانفصال عن أهلها، على أن تعود إليهم لرؤيتهم نهاية كل أسبوع، مثل كثير من الفتيات أخذن ذات الخطوة في محاولة لتخفيف وطأة جدران المحتل وحواجزه.
يبدو السؤال بديهيًا هنا: متى وكيف نشأ هذا السجن العملاق من الحواجز الخرسانية الإسرائيلية؟ منذ تسعينيات القرن الماضي، ومع تصاعد هبات الشباب الفلسطيني عقب انتفاضة الأقصى الأولى عام 1987، أنشأ الاحتلال مئات من الحواجز العسكرية تحت مسمى «نقاط التفتيش»، يشرف عليها جيش الاحتلال أو حرس الحدود، على أن يكون هدفها الأسمى -وفق قولهم- "تعزيز أمن إسرائيل ومستوطناتها ومنع عبور من يحاولون الإضرار بها".
تفتح هذه البوابات ضمن أيام وساعات محددة، وبحسب الحالة الأمنية قد يغلق الحاجز في أي لحظة بسبب أي شكوك، بينما يسمح للمركبات والحافلات التي تحمل لوحات تسجيل إسرائيلية بالعبور بعد أن يتم تفتيشها والتدقيق في هويات من بداخلها.
تعد الحواجز العسكرية شكلًا أساسيا من أشكال الاستيطان وأدوات الإخضاع، لذا يضيف جدار الفصل العنصري إلى حياة الفلسطينيين مزيدًا من تعقيد حركة التنقل، والحياة الاقتصادية، ما يعد انتهاكًا صارخا لحقوق الإنسان وفق منظمات دولية، ولا تبالي تل أبيب بتوصيفات المنظمات كثيرًا، لذلك تزيد فرص توسع هذه الحواجز واستثمارها للبعد الأمني، دون أي رادع.
عمدت الحكومات الإسرائيلية ومنذ أيامها الأولى لاحتلال الأراضي الفلسطينية عام 1948 على نشر هذه الحواجز في كافة أرجاء مدن الضفة المحتلة، وتمثل الحواجز في واقع الحال عقوبة جماعية لتحقيق الكثير من أهداف تل أبيب، وعلى رأسها نجاح منظومة الحواجز والفصل في تغيير الواقع الجغرافي والديموغرافي الفلسطيني إلى مناطق مجزأة ومفتتة، يصعب معها التواصل، وصولا لذروة منظومة الحواجز الإسرائيلية "الجدار العازل" الذي يقام على طول الخط الفاصل بين أراضي عام 1948 وعام 1967 المحتلة.
وفي أحدث إحصائية بمنتصف عام 2015 وصل عدد الحواجز الثابتة المنصوبة في الضفة الغربية المحتلة إلى 96 حاجزا من بينها 57 حاجزا داخليا منصوبة في عمق الضفة الغربية، بعيدا عن الخط الأخضر، و17 أخرى في منطقة H2 في الخليل، 39 منها تعد نقاط فحص أخيرة قبل الدخول إلى إسرائيل رغم أن معظمها يقع على بعد كيلومترات إلى الشرق من الخط الأخضر، لكن قبل الدخول إلى القدس. 32 من هذه الحواجز أيضا معززة بصورة ثابتة وهي مغلقة أمام الحركة عندما لا تكون معززة.
الحواجز التي ضيقت أفق الحياة لدى الفلسطينيين، وقسمتها إلى تفاصيل منوعة بين التشتت والتهجير، تم خصخصة جزء منها بصورة تامة أو جزئية، وبعضها معزز اليوم بحراس مدنيين مسلحين، يتم تشغيلهم من قبل شركات الحراسة الخاصة، تحت إشراف إدارة المعابر في وزارة الجيش الإسرائيلي، ما خلق نوعًا مثقلًا من حرية التنقل، وفصل تام بين أجزاء وأحياء رئيسية لمدن الضفة المحتلة.
وللسجون أنواع أيضًا
الحواجز المزودة بالأجهزة الإلكترونية والكلاب المدربة، أخذت على عاتق مهامها التفتيش الأمني على الأفراد وما يحملونه من أمتعة، ووسائل النقل المحملة أيضا بالبضائع، تتعدد أشكالها، ويمكن تصنيفها حسب الواقع المعيش في أراضي الضفة المحتلة إلى ستة، أولها الحواجز المتحركة "الطيارة"، وليس لها مكان ثابت أو زمن محدد، وتليها الثابتة وتكون في العادة على مداخل المدن والبلدات والقرى الفلسطينية.
السواتر الترابية تتواجد على مداخل القرى الفلسطينية، بينما الشكل الرابع الحديدية والبلوكات الإسمنتية المقامة غالبًا على جدار الفصل العنصري، والخامسة حواجز الحدود والمعابر ونقاط التفتيش الأخرى، سواء تلك الدولية، أو الفاصلة مع مناطق الخط الأخضر، والأخيرة والأكثر خطرًا كونها ابتلعت مساحات شاسعة من أراضي الفلسطينيين هي المكونة لجدار الفصل نفسه.
في حديث "ميدان" المنفصل مع شابين من القدس المحتلة، حجبنا اسميهما خشية الملاحقة، لفتا النظر إلى أن سياسة التفتيش الإسرائيلي الممنهجة عند الحواجز "تزداد مع اتساع رقعة عمليات الطعن الفلسطيني ضد الجنود والمستوطنين"، والأمر كان واضحًا في العامين الماضيين حينما صعد عدد من الفتية وطلاب الجامعات من حالات الهلع والرعب في قلوب الإسرائيليين، وقتها كثفت الحكومة الإسرائيلية المراقبة على تحركاتهم، وبات التفتيش في أقسى صوره.
يحكى الشابان أن موجات الاستفزاز الإسرائيلي لتفتيش الفلسطيني يمكن قياسها وفقًا لخسائر عملية الطعن أو نظيرتها الفدائية، فكلما زاد حجم الخسائر ارتفع حجم الغضب لدى الإسرائيليين المتمركزين عند الحواجز صوبهم، ويتبع الأمر إلقاء عبوات الغاز المسيل للدموع، وإطلاق النار في الهواء، فيما قد يمتد الانتظار لساعات أطول مما كانت عليه في الماضي، وليس غريبًا أن تغلق الطرق لأيام أو أسابيع مع شلل تام في حركة التنقل.
تلزم التفرقة بين أمرين عند تفتيش الجنود لكل من يدخل ويخرج المدينة المحتلة، الحالة الاستثنائية التي فرضتها السياسات الإسرائيلية منذ احتلالها الأراضي الفلسطينية عام 1967، وما أعقبها من قوانين صارمة فرضت بالقوة على المتواجدين فوق الأرض المحتلة التعاطي مع الواقع العسير، وقتها منحت السلطة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو عام 1993سكان قطاع غزة والضفة المحتلة بطاقات هوية خضراء، وجوازي سفر واحد للمواطنين العاديين وآخر للدبلوماسيين والقيادات العليا.
أولا: حامل الهوية، وهي عبارة عن وثيقة التعريف الإجبارية في إسرائيل، كما نص عليها قانون حمل وإبراز بطاقة الهوية للعام 1982، ما يعني أن كل مواطن أو مقيم دائم عمره 16 عاما فما فوق من حقه حملها، وإبرازها عند الطلب منه من قبل أي ضابط شرطة برتبة أعلى.
العديد من الزيارات الاجتماعية تلغى بعد إغلاق الاحتلال الحواجز العسكرية لدواع أمنية وسياسية، أو بسبب الانتظار لساعات طويلة، وصعوبة الطرق الالتفافية، الوعرة. |
ثانيا: حامل التصريح، وهو عبارة عن بطاقة تصدرها إسرائيل لمن يحق له الإقامة داخل مدن الضفة الغربية المحتلة، وتحديدا مدينة القدس وقراها وأحياؤها، وبالتالي فإن حوالي 55 ألف فلسطيني دخلوا الضفة الغربية وقطاع غزة بعد اتفاقيات أوسلو، لكن لم يحصلوا على تصاريح إقامة معترف بها، والكثير منهم تقدموا بطلب الإقامة بناء على أسس لم الشمل، لكن الاحتلال جمد إجراءات لم الشمل مع اندلاع الانتفاضة الثانية في 2000، وأعاد تفعيلها قبل أعوام.
ورغم أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 وفقا للمادة "13" قد نص على بنود عدة شملت أن لكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة، ومغادرة أية بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة إليه، إلا أن الفلسطيني محروم من كل ما ورد في هذه الاتفاقات.
وعليه فإن العديد من الزيارات الاجتماعية تلغى بعد إغلاق الاحتلال الحواجز العسكرية لدواع أمنية وسياسية، أو بسبب الانتظار لساعات طويلة، وصعوبة الطرق الالتفافية، الوعرة، وقتها يغيب دور السلطة الفلسطينية عن أية معاناة تلحق بالمواطنين جراء الاتفاقات الموقعة بينها وبين الاحتلال، ويكون الفلسطيني أمام خيارين، إما أن يقبل بالواقع المعيش دون تحريك ساكن، وإما الاستمرار في مقاومة الاحتلال وسياساته لأجل الحرية والكرامة.