هل ينهي "الربيع الأسمر" حكم الديناصورات في أفريقيا؟

مع حلول الأيام الأخيرة للعام 1967 بدا أن الحظ قد قرر أخيرًا أن يبتسم في وجه الشاب الثلاثيني، ألبرت برنارد، وأن خدمته القصيرة نسبيًا للجيوش الفرنسية، التي كنت تحتل بلاده قبل أعوام، قد آتت أكلها بأسرع مما توقع. في ذلك التوقيت، كان العسكري اليافع البالغ من العمر 32 عامًا قد تربع للتو على رأس السلطة، بعد مرور قرابة سبعة أعوام على استقلال بلاده. لكن الأحلام الخجولة للبلاد حديثة العهد بالاستقلال لم تكن متوافقة أبدًا مع آمال العسكري الطامح، الذي تداعب مخيلته تلك الرغبة التي لا تقاوم في البقاء في السلطة إلى الأبد.
بعد نصف قرن بالتمام من هذه الأحداث، وتحديدًا في الرابع عشر من يناير/كانون الثاني الماضي لعامنا الحالي 2017، كان العالم يشاهد ذاك المسؤول الخمسيني محتلًا بمفرده المقصورة الرئيسية لحفل افتتاح كأس الأمم الأفريقية الحادية والثلاثين، في مشهد أثار الكثير من الانتباه. لم يكن هذا المسؤول سوى رئيس البلاد الحالي، ألان برنارد، وهو نجل ألبرت برنارد نفسه. ففي عام 2009، وبينما كان الموت يتأهب لتغييب ألبرت برنارد بونغو، الذي صار يعرف بعد أن أعلن إسلامه عام 1973 باسم عمر بونغو، بعد 42 عامًا كاملة قضاها على رأس السلطة، كان الصغير ألان، أو علي بونغو، وزير الدفاع يستعد لخلافة أبيه بحكم الواقع، قبل أن يمكن لنفسه عبر انتخابات صورية في «مملكة بونغو»، التي تشتهر في الأوساط العالمية باسم جمهورية الجابون.
هنالك الكثير مما يمكن الحديث عنه في تلك الدولة الصغيرة نسبيًا، والقليلة الكثافة السكانية، والغنية بالنفط والمنجنيز على الساحل الغربي لإفريقيا، فقبل أقل من ستة أشهر تقريبًًا من منافسات الكأس، وبالتحديد في أغسطس/آب الماضي، كانت البلاد قد شهدت مظاهرات واسعة تخللتها أحداث عنف، احتجاجًا على إعادة انتخاب علي بونغو لفترة رئاسية ثانية تمتد لسبعة أعوام، في انتخابات مشكوك في نزاهتها، حسمها بونغو بفارق ستة آلاف صوت فقط، إلا أن احتجاجات الجابون ليست مجرد نقطة منعزلة أو جملة اعتراضية مقطوعة السياق، حيث تشهد أفريقيا من أقصى الشرق في أثيوبيا، إلى أقصى الغرب في غامبيا التي أطاحت مؤخرًا بديكتاتورها يحيى جامع الذي حكم البلاد لمدة 22 عامًا، موجات من الاحتجاجات المتقطعة التي بدأت إرهاصاتها في عام 2005، ونشطت في عام 2011 متأثرة بموجة الربيع العربي، واحتدمت بقوة في العامين الأخيرين. وقد أعاد رحيل جامي المفاجئ، وغير المتوقع، أفريقيا السمراء إلى دائرة الضوء من جديد، في إحدى الجولات النادرة التي يتم فيها تداول أخبار القارة بعيدًا عن نتائج المباريات وبورصات لاعبي كرة القدم المحترفين.
"الرجل الأبيض ذكي جدًا، جاء بهدوء وسلام بدينه، فضحكنا على حماقته وسمحنا له بالبقاء، والآن استمال إخواننا، ولم تعد عشيرتنا قادرة على التصرف كرجل واحد، لقد وضع سكينًا على الأشياء التي تشد أواصرنا فتداعينا"
(الكاتب النيجيري تشنوا أتشيبي، رواية "أشياء تتداعى)
حين نتحدث عن أفريقيا، فإنه يلزمنا قدر كبير من التأني وقدر أكبر من التواضع، بالنظر أولًا إلى نسبة ما نعرفه إلى ما لا نعرفه حول تلك البقعة المهمشة من العالم، وبالأحرى بالنظر إلى مدى دقة وموثوقية ما نعرفه عنها، بداية من أخبارها اليومية التي لا نلقي لها بالًا، وانتهاءً لخرائطها المتداولة التي سرعان ما يطويها الطلاب والصحفيون بحثًا عما يرونه أهم وأجدى. كان الجغرافي الألماني كاي كراوس هو أول من نبه إلى حقيقة أن الخرائط الحديثة، المرسومة وفق إسقاط ميركاتور، غالبًا ما تظهر الأماكن القريبة من خط الاستواء أقل من حجمها الحقيقي، ما يجعل أفريقيا تظهر على خريطة العالم بمساحة تقترب من مساحة جرينلاند، رغم أنها تفوقها في واقع الأمر بمقدار 15 مرة. وقد قام كراوس بنشر خريطته الشهيرة التي تظهر الحجم الحقيقي لقارة أفريقيا، بعد أن ضمّن داخلها الدول الكبرى جغرافيًا وفق نسب واقعية.
ورغم أن حديثنا اليوم لا يدور عن الجغرافيا، إلا أن حقائق الجغرافيا، وأكاذيبها أيضًا على ما يبدو، غالبًا ما تثبت قدرتها على الحضور والانتقام بطريقتها الخاصة. وحين تتواطأ الخرائط على ظلم مجتمعات بعينها، فإن السياسة سوف تظلمها بالتبعية بكل تأكيد. لم تكن القارة السمراء حديثة عهد بالنضال ودعوات التحرر على كل حال، تلك الدعوات التي يمكن أن نصفها بأنها قديمة قدر الاستعمار الذي فتك بالقارة لقرون طويلة، وعرفت أفريقيا تظاهرات حركات التحرر والقوى العمالية وأبناء المناطق المهمشة منذ عهد الاستعمار. وحتى بعد الاستقلال شهدت أفريقيا تظاهرات سياسية واقتصادية ضد حكم الحزب الأوحد، وضد الإجراءات الاستبدادية والتقشفية الجائرة المفروضة من قبل الأنظمة الوريثة لعهود الاستعمار.
وقد بدأت هذه التظاهرات تأخذ الكثير من الزخم أوائل الثمانينيات وأواخر التسعينات مع نهاية الحرب الباردة، جالبة التحول الديمقراطي إلى القارة. فبين عامي 1989 و1994 انتقلت 35 دولة أفريقية من نظام الحزب الأوحد إلى تعددية حزبية، وأفرزت تحولًا في القيادة في 18 دولة منها. إلا أن الكثير من عمليات التحول إلى التعددية وضح فيما بعد أنها شكلية بشكل كبير، وأن وظيفتها كانت مجرد إضفاء الشرعية على هياكل الحكم السائدة. وفي النهاية وجد الأفارقة أنفسهم يدورون في دوائر مفرغة، انتخابات بروتوكولية سرعان ما تأتي بنفس الوجوه.

على مدار العقد الماضي، وتحديدًا منذ عام 2005، عادت الاحتجاجات إلى أفريقيا من جديد، وشهدت معظم دول القارة موجات احتجاجية جديدة تتعدد أسبابها وتتداخل بشكل كبير، إلا أنها جميعا تشترك في كونها تمثل شكلًا من أشكال المعارضة السياسية، ومقاومة سيطرة الدولة وتدخلها العنيف في حياة الناس، والاحتجاج على شيوع الفساد في ظل سيطرة الأنظمة الحاكمة على السلطة مع غياب تنافسية حقيقية. ورغم أن العديد من هذه الاحتجاجات كانت تبدو مفاجئة ومحدودة، إلا أنها كانت لديها القدرة على الاتساع. أما الظاهرة الأهم فهي أن هذه الاحتجاجات صار يغلب عليها الطابع الشبابي العصري لموجات الاحتجاج التي شهدتها بلاد العرب أواخر عام 2010 وأوائل عام 2011، ما جعل الكثيرين يعتقدون أن أفريقيا في طريقها لصناعة ربيعها الخاص، بينما لا تزال تحتفظ بطريقتها المتميزة في الانزواء كما عودتنا السمراء دائما.

رغم أن جنوب أفريقيا كانت من أوائل الدول التي شهدت تحولًا إلى نظام حكم تمثلي حقيقي عام 1994، إلا أنه كان عليها أن تنتظر عقدين آخرين قبل أن تنجح في إسقاط "سيسل رودس" في كيب تاون. ففي مارس/أذار 2015 اندلعت المظاهرات في جامعة كيب تاون، الجامعة الأفضل تعليميًا في أفريقيا كلها بما في ذلك دول الشمال الإفريقي، احتجاجًا على ارتفاع الرسوم الذين يمنع طلاب المناطق المهمشة من استكمال دراستهم، ولكن التظاهرات توسعت لتطالب بتحرير جامعات جنوب أفريقيا تحت شعار (أسقطوا رودس)، نسبة إلى سيسل رودس المستعمر البريطاني الذي أسس جامعة كيب تاون، ووضع أسس الأنظمة الاقتصادية والتعليمية في جنوب أفريقيا وغيرها من بلدان القارة، والذي كان تمثاله الشهير لا يزال قائمًا في قلب الحرم الجامعي.
رغم المستوى التعليمي المرموق لجامعة كيب تاون مقارنة بأي جامعة أخرى في أفريقيا، كان الطلاب يرون أن الجامعة لا تزال تحمل بقايا من إرث الاستعمار وعهود الفصل العنصري في بلادهم، حيث اتهم الطلاب الجامعة أنها لم تتخذ ما يكفي من الإجراءات لزيادة عدد الطلاب، وأعضاء هيئة التدريس «الملونين»، وإدخال نتاج المفكرين المحليين إلى المناهج التعليمية. وكان تمثال رودس على وجه التحديد يرمز إلى هيمنة «البيض» على الحرم الجامعي. وبعد شهر تقريبًا من التظاهرات كان تمثال رودس قد سقط أرضًا بالفعل، في حين لا يزال الطلاب مقتنعين أن أمامهم طريقًا طويلًا ليقطعوه للتخلص من إرث رودس الحقيقي.
ورغم أن التهميش والتجاهل الإعلامي لا يزالان يغلبان على التعاطي العالمي مع القضايا الأفريقية، إلا أن هذا الجيل من الأفارقة ربما يكون محظوظًا نسبيًا بالمقارنة بأسلافه قبل بعض عقود. فرغم أن الكثير من المناطق في أفريقيا لا تزال خارج تغطية شبكة الإنترنت، إلا أن الأمور تحسنت كثيرًا خلال العقد الأخير، وأصبح من الشائع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في الحشد والتغطية ونقل صوت المحتجين إلى العالم، مثلما حدث في جنوب أفريقيا، وحتى في غامبيا مؤخرًا، وأصبح من الشائع أن نرى الشباب الأفارقة يستخدمون الوسوم الاحتجاجية، مثل وسم «فلتسقط الرسوم» (FeeMustFall)، الذي كان بمثابة تدشين لموجة الاحتجاج في جنوب أفريقيا. وهناك وسوم أفريقية أخرى لاقت رواجًا كبيرًا في العامين الأخيرين منها وسم «سأمنا» (Tajamuka)، الذي استخدمه الشباب في زيمبابوي للاحتجاج على حكم موجابي، ووسم «لن أنسى» (#IShallNotfForget) الذي استخدمه الطلاب في بتسوانا. وقد سلطت هذه الوسوم وغيرها الضوء على الاحتجاجات في أفريقيا، ولاقت انتشارًا عالميًا، إلا أن ضعف خدمة الإنترنت في أفريقيا جعل انتشارها داخليًا يقتصر على المناطق الحضرية، والفئات الشبابية، في حين ظلت المناطق الريفية تعتمد المنشورات الورقية والدعايا الشفهية.
لم تكن الاحتجاجات عبر مواقع التواصل الاجتماعي الظاهرة الوحيدة المميزة للربيع الأفريقي، والذي شهد تشكيل حركات شبابية أسوة بتلك التي ظهرت في الدول العربية إبان انتفاضات ربيع العرب، ومنها على سبيل المثال حركة ين ماري السنغالية، والتي تأسست في يناير/كانون الثاني عام 2011، على يد مجموعة من مطربي الراب وشباب الصحفيين بهدف الاحتجاج ضد عدم فاعلية الحكومة، والمطالبة بتسجيل الشباب غير المسجلين للتصويت. وقد دعمت الحركة مطالبات الإطاحة بالرئيس عبد الله واد في انتخابات عام 2012 بعد إقدامه على إبرام تعديل دستوري يسمح له بالترشح لفترة ثالثة، وقيامه بتوسيع نفوذ نجله في الحزب الديمقراطي السنغالي. تمت الإطاحة بعبد الله واد عبر الانتخابات بالفعل، على الرغم من أن حركة بن ماري لم تعلن دعمها رسميا للرئيس الحالي، وزعيم المعارضة الأسبق، ماكي صال أو أي حزب سياسي آخر.
وهناك أيضا حركة المكنسة المدنية (Le Balai Citoyen) ، وهي حركة معارضة في بوركينا فاسو نشأت ضد حكم الرئيس السابق بليز كامباوري في عام 2013 حيث تم تأسيسها من خلال اثنين من الموسيقيين وأحد مطربي الراب. كانت الحركة جزءً فاعلًا في انتفاضة بوركينا فاسو عام ،2014 التي أجبرت كامباوري على الاستقالة بعد حكم دام 27 عاما، وهناك أيضا حركة الكفاح في الكونغو الديمقراطية التي تواصل الاحتجاج ضد سياسات الرئيس جوزيف كابيلا بينما يتعرض أعضاؤها لجرعات كبيرة من القمع، إضافة إلى غيرها من الحركات التي تواصل الاحتجاج لأسباب مختلفة، سواء في تلك الدول التي تحظى بديمقراطية نسبية مثل جنوب أفريقيا وغانا ونيجريا والسنغال، أو حتى تلك الدول التي لا تزال خاضعة لحكم الديكتاتوريات العتيقة مثل أنغولا أو الكاميرون أو غينيا الاستوائية.
كعادتها تصر أفريقيا على تحدي كل المسلمات، هنا البقعة الوحيدة في العالم التي لا يزال بإمكانك أن تجد فيها الديناصورات، ليس في الغابات بالطبع ولكن على مقاعد الحكم. غالبًا ما يتم إطلاق لقب الديناصورات على أولئك الحكام الذين جاوزوا عقدين من الزمن في مقعد السلطة، ورغم أن مدة بقاء الرئيس الحالي في السلطة لا تصلح وحدها للحكم على نزاهة الحكم من عدمه، فلم يتجاوز حكم كل من جوزيف كابيلا رئيس الكونغو الديمقراطية أو علي بونغو رئيس الجابون حاجز العقدين، ولكن كليهما تولى السلطة خلفا لوالده، إلا أن مدة بقاء الحاكم في السلطة غالبًا ما تكون أحد مثيرات الاحتجاج خاصة بين أوساط الشباب.
في أنجولا وغينيا الاستوائية على سبيل المثال، حيث يحكم الرئيسان إدوارد دي سانتوس وتيودورو أوبيانج منذ 36 عامًا على الترتيب، فإنه قرابة 100% من سكان البلاد ولدوا تحت حكم الرئيس الحالي، وتنازعهما في هذه النسبة زيمبابوي تحت حكم روبرت موغابي، الذي يناهز عامه الثلاثين في السلطة، بينما تنخفض هذه النسبة لتقارب 80% في تشاد وأوغندا والكاميرون.
وعلى إثر الإطاحة بديناصور بوركينا فاسو، بليز كامباوري، عام 2014 ثم ديكتاتور غامبيا يحيي جامع مطلع العام الحالي، تتزايد آمال الشباب الأفريقي في الإطاحة بحكم الديناصورات، وسوف تكون أنغولا "دي سانتوس" هي المرشح الأبرز، خاصة بعد أن أعلن الرئيس الذي أتم عامه السابع والثلاثين في الحكم نيته مغادرة السلطة قبل انتخابات هذا العام، وأنه سيتخلى عن رئاسة الحزب الحاكم «الحركة الشعبية لتحرير أنغولا» لصالح وزير دفاعه جواو لورينزو. ورغم ذلك تبقى البلاد في معضلة كبيرة لأن الدستور لا ينص على إجراء انتخابات رئاسية، وهو يمنح منصب الرئيس للحزب الفائز في الانتخابات التشريعية، بما يعني أن لورينزو سيكون الرئيس القادم للبلاد، في حين تتحكم عائلة دي سانتوس ورجاله في مقاليد السياسة والاقتصاد فيها. وليس من الواضح بعد إذا ما كان هذا الانتقال الداخلي سوف يمنع وقوع اضطرابات قبيل الانتخابات المنتظرة في أغسطس/آب من العام الحالي.
وسيكون روبرت موغابي أيضًا أحد المرشحين لمغادرة السلطة، وتعيش بلاده في خضم أزمة اقتصادية طاحنة منذ ثمانية أعوام تسببت في الانهيار التام للعملة، حيث يتم تداول السلع بالدولار الأمريكي، في حين تفرض البنوك حدًا أقصى للسحب اليومي ما يولد مشهد الطوابير المعتادة فيها. تسبب هذا التردي الاقتصادي في مظاهرات كبرى خلال العامين الماضيين للمطالبة بتنحي موغابي (92 عاما)، وهي تظاهرات ينتظر أن تتجدد هذا العام، في ظل الحديث عن خلافات داخل جبهة التحرير الحاكمة بسبب تردي صحة موغابي، واستمرار التدهور في البلاد الغنية بالغاز، رغم أن الانتخابات «الشكلية» الدورية في البلاد ينتظر عقدها خلال عام 2018.
ومن المرجح أن تشهد الكونغو الديمقراطية، بقيادة جوزيف كابيلا، احتجاجات كبرى أيضًا أثناء الانتخابات المنتظرة هذا العام، حيث انتهت ولاية كابيلا بالفعل نهاية العام الماضي 2016، في حين أجبرته المظاهرات التي طالبت بتنحيه على توقيع اتفاق سياسي مع المعارضة لإجراء انتخابات عامنا الحالي 2017، ويحكم كابيلا البلاد منذ عام 2001 متوليًا السلطة خلفًا لوالده، ولذا يتمتع بنفوذ واسع داخل الجيش، وليس من المرجح أن يتخلى عن السلطة طواعية، ما ينذر بحملة قمعية أكثر شدة أو انتقال سياسي مشوب بالكثير من العنف.
«فليحفظ الله ملكتنا»
(أبو بكر تايوا أول رئيس وزراء لنيجيريا، في كلمته أثناء حفل الاستقلال، متحدثًا عن ملكة بريطانيا)
تتفجر الموسيقى من مكبرات الصوت الواقعة في خلفية شاحنة تقف في مكب للنفايات، في إحدى ضواحي لوساكا عاصمة زامبيا، في حين يشكل بعض الشباب الذين يضعون المناديل على وجوههم طوقًا أمنيًا، بينما يحاول بعض الأطفال القفز فوق الشاحنة من أجل الحصول على رؤية أفضل. كان هذا هو المشهد القائم خلال المؤتمر الرئيس للمرشح الرئاسي للمعارضة في زامبيا، هاكايندى هيتشيليما، أوائل أغسطس/آب الماضي، بعد أن منعته الحكومة من إقامة تجمعات انتخابية في أي مكان آخر. واضطر هيتشيليما في نهاية المطاف إلى الانسحاب من الانتخابات احتجاجًا على مخالفات الفرز، في حين تم إعلان فوز الرئيس إدغار وونغو بولاية جديدة.

لم تكن الأحوال بهذا السوء في زامبيا عام 1991 حين كانت ثاني دولة في القارة تطيح بحاكمها عبر صناديق الاقتراع، حيث يبدو أن الأمور لا تسير كما يحب الأفارقة في كثير من الأحيان. وفقًا لمؤشر فريدوم هاوس كانت هناك 29 دولة أفريقية في عام 2015، من إجمالي 48 دولة، تصنف على أنها حرة أو حرة جزئيًا، انخفاضا من 34 دولة قبل عقد من الزمان، بما يعني أنه، رغم الاحتجاجات المتواصلة، فإن هناك العديد من الدول الأفريقية تسجل تراجعات في مؤشر الديمقراطية والحكم التمثيلي. وإذا كانت تجربة الربيع العربي أثبتت أن التخلص من الأنظمة الاستبدادية ليس بتلك السهولة، وأن هذه الأنظمة غالبًا ما تقاتل للعودة حتى النفس الأخير، فإن هذه الاستنتاجات تثبت نفسها من جديد بصورة أكثر وضوحًا في أفريقيا.
كانت بدايات الديمقراطية الشكلية الوليدة في القارة عبر تلك البرلمانات التي تركتها دول الاحتلال قبل مغادرتها. كانت هذه المؤسسات الديمقراطية شديدة الضعف، مقارنة بالجيوش التي حظيت بدعم كبير من القوى الاستعمارية، وعملت كقوات قمعية مهمتها حفظ الأمن الداخلي ومنع تمرد الشعوب.
وسرعان ما صعدت هذه الجيوش إلى السلطة عبر انقلابات عسكرية بحجة أن «توحيد البلاد أهم من الديمقراطية»، وهو الشعار الذي رفعه قادة أمثال جوليوس نيريري في تنزانيا، وكوامي نكروما في غانا، وموبوتو سيسي في الكونغو، وحظى هؤلاء القادة بدعم كبير من القوى الاستعمارية مستغلين فترة الحرب الباردة، ما ساعدهم على ترسيخ حكمهم وتقويض المؤسسات الهشة في البلاد.
ومع سقوط الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة، تقلصت تدفقات المساعدات بشكل كبير إلى القادة الأفارقة ما تسبب في انتقال العديد من الدول إلى نظام التعددية الحزبية، وأبرزها بنين وزامبيا وساحل العاج، لكن على الجانب الآخر هناك بعض الدول التي سقطت في حروب أهلية مثل الكونغو، مهددة مصالح الشركات الكبرى للنفط والتنقيب عن المعادن، والتي مالت لدعم القادة العسكريين حفاظًا على مصالحها.

حلت الكثير من هذه الشركات محل الاستعمار المباشر في غالبية دول أفريقيا، وقدمت الدعم للقادة من أجل الحفاظ على مصالحهم، ما تسبب في إيقاف مسيرة الحكم التمثيلي في معظم الدول النفطية مثل أنغولا والجابون والكاميرون، وتراجعها في أماكن أخرى مثل نيجيريا. وحسب تقدير نيكولاس شيزمان، وهو أكاديمي يتبع جامعة أوكسفورد، فإنه من بين 91 رئيسًا ورئيسًا للوزراء، حكموا أنظمة مدنية في القارة منذ 1989، فإن 45% منهم خدموا في القوات المسلحة أو كانوا مقاتلين قبل أن يصلوا للسياسة. ورغم أن الانقلابات أصبحت أقل شيوعًا اليوم، إلا أن انتشار رجال الجيش السابقين يسلط الضوء على الدور الذي لا تزال الجيوش الأفريقية تمارسه في السياسة.
يستفيد الحكام أيضًا في الوقت الراهن من توجهات الحكومات الأجنبية الأكثر ميلًا للتركيز على القضايا الأمنية. على سبيل المثال، تعني مساهمة أوغندا بقرابة 6000 جندي لقمع حركة الشباب، الجماعة «الجهادية» في الصومال، أن الحكومات الغربية سوف تصبح أقل ميلًا لانتقاد "موسيفيني"، الأمر نفسه ينطبق على الحكومة الإثيوبية، التي تسيطر عليها أقلية التيجراي، والتي تعمل أيضًا ضد حركة الشباب. في حين تستفيد أنظمة مثل إريتريا وأنغولا أيضًا من دعم القوى الجديدة القادمة إلى القارة، حيث لجأ نظام دي سانتوس في أنغولا إلى الصين للحصول على التمويل بسبب قيود الشفافية المفروضة من صندوق النقد الدولي، في حين يتدفق الدعم إلى إريتريا من دول الخليج، ومن قبلها إيران، في إطار الحرب الدائرة بين الطرفين للسيطرة على البحر الأحمر.
ويظهر أن السمة المميزة للسياسة في معظم القارة هي أن الفائز يأخذ كل شيء، ويستخدم سلطة الدولة في محاولة لإبقاء حكمه، محولًا جميع المؤسسات، بداية من اللجان الانتخابية إلى الهيئات القضائية، إلى مؤسسات صورية ما يؤدي إلى انتكاس سريع لمسار الحكم التنافسي. ربما يعود ذلك في جزء كبير منه إلى هشاشة كثير من الاقتصادات الأفريقية المعتمدة في غالبها على تصدير النفط والمعادن، ما يفتح أبوابًا كبيرة للفساد والارتزاق السياسي.
ولكن هذه الموجة تشهد عددًا من الاختلافات التي تبشر بالتغيير: فبداية هناك تشكل ملحوظ للطبقة الوسطى في العديد من المجتمعات الأفريقية، مع غزو متنام للتكنولوجيا التي تمد يد العون للشباب الطامح لذلك التغيير، إضافة إلى تغييرات ديمغرافية ملحوظة تميل لتركيز السكان بوتيرة متسارعة في المدن. وسوف يمثل العامان القادمان اختبارًا حقيقيًا لمدى تأثير هذه العوامل على المشهد السياسي الإفريقي، إلا أن المؤكد أن طريق التسونامي الإفريقي المنتظر لن يكون مفروشًا بالورود، وتحت أنظار شباب السمراء يقبع مسار الربيع العربي كعظة حية، أو ربما كخطوة أولى على الطريق الطويل.