شعار قسم ميدان

من الموصل للموصل: «باطن الأرض خير من ظاهرها»

Buildings destroyed during previous clashes are seen as Iraqi forces battle with Islamic State militants in Mosul, Iraq January 23, 2017. REUTERS/Ahmed Jadallah
معركة الموصل

«أم تحسبين أمريكا أن الهزيمة فُقدان مدينة أو خسارة أرض؟ وهل انهزمنا عندما خسرنا المدن في العراق وبتنا في الصحراء بلا مدينة ولا أرض؟ وهل سنُهزم وتنتصرين إذا أخذتِ الموصل أو سرت أو الرقة أو جميع المدن، وعُدنا كما كنّا أول حال؟»

كلمة صوتية في ٢١ مايو (أيار) للعام المنصرم ٢٠١٦، للناطق الرسمي باسم تنظيم الدولة أبي محمد العدناني، والذي قتل في 30 أغسطس (آب) التالي مباشرة.
 

خلال أسبوع واحد منذ بدء معركة الموصل، في 17 أكتوبر (تشرين الأول) للعام الماضي، وحتى 24 من نفس الشهر، أعلن تنظيم الدولة أنه كبد القوات العراقية والبشمركة أكثر من 800 قتيل، لكن الخبر الأهم هو إعلانه القيام بـ58 عملية انتحارية، ضد القوات المهاجمة في الموصل، كما قال مسؤولون عراقيون إنهم فجروا 127 سيارة مفخخة، في تأكيد لاستخدام التنظيم لتكتيك «المفخخات مفتاح الانتصارات»، الذي ذكرناه في تقريرنا الأول.
 

بعد أربعة أيام من بدء معركة الموصل، هاجم التنظيم بشكل مباغت مدينة «كركوك» وسيطر على أجزاء كبيرة منها، على يد «عناصر على درجة عالية من التدريب والاستعداد»، بحسب رويترز، التي نقلت شهادات وصفتهم بـ «المتوحشين»، وأكدت وجود خلايا نائمة من داخل المدينة، ساعدتهم على السيطرة عليها، ثم بعد ستة أيام، شن التنظيم هجوم إلهاء آخر على مدينة الرطبة غربي بغداد، من ثلاثة محاور، هجومًا بدأ بواسطة سيارات مفخخة، ثم هجومًا كثيفًا بسيارات مزودة برشاشات آلية، وعلى متنها عناصر التنظيم.
 
undefined
 

داخل الموصل، عمل تنظيم الدولة على حفر ثلاثة خطوط لحمايتها: الخط الأول عبارة عن خنادق مليئة بالنفط، يتم حرقها خلال العملية لكيلا تؤثر الطائرات على عناصر التنظيم، والثاني عبارة عن خنادق دائرية من أجل الدفاع، في حين يتمثل الخط الثالث بالأنفاق التي تم تجهيزها، من أجل القتال والهجمات.
 

ونقلت شبكة «روداو» عن أحد العراقيين في الموصل أن «شبكة الأنفاق التي يبنيها التنظيم تتوسع بشكل كبير، وبينها أنفاق كبيرة تسمح بتحرك دراجات نارية، وتمتد من ضواحي المدينة إلى قضاء الحمدانية في سهل نينوى، لتسهيل تحرك مسلحيه بين المناطق، كما حفر التنظيم 12 نفقًا في شرق الموصل، لمنع تقدم القوات الأمنية، ولحماية المسلحين فيه.
 

وبالإضافة لذلك، أحرق تنظيم الدولة آبار النفط في المناطق الغنية به، في محاولة لصد فعالية قوات التحالف الجوية، عبر تعتيم مجال الرؤية لديهم، كما أحرقت عناصره مصنعًا للكبريت، بالقرب من القيارة الخميس الماضي، واستمر الحريق لعدة أيام، ونشر انبعاثات سامة في الهواء، ما اضطر المئات لتلقي العلاج الطبي.
 

وفي معركة القلوب والعقول، ركز التنظيم على ثلاثة جوانب: الحياة الطبيعية في الموصل، العمليات الانتحارية والعسكرية التي يقوم بها عناصره ضد القوات المهاجمة، وإظهار التشديد الأمني الذي يفرضه التنظيم داخل المدينة، وسط أنباء عن إفراج التنظيم عن بعض المعتقلين في الموصل، وإرسال الجرحى والعائلات إلى الرقة، استعدادًا للمعركة الطويلة.
 

من الموصل للموصل

إذا استطاعت القوات المشاركة في معركة الموصل إخراج التنظيم من المدينة، وفرض سيطرتها عليها، فإنه من المتوقع أن يعود التنظيم إلى «تحت الأرض».
إذا استطاعت القوات المشاركة في معركة الموصل إخراج التنظيم من المدينة، وفرض سيطرتها عليها، فإنه من المتوقع أن يعود التنظيم إلى «تحت الأرض».

إذا استطاعت القوات المشاركة في معركة الموصل إخراج التنظيم من المدينة، وفرض سيطرتها عليها، فإنه من المتوقع أن يعود التنظيم إلى «تحت الأرض»، كما كان في المدينة نفسها، خلال أعوام 2004: 2009، تحت اسم (تنظيم القاعدة في العراق)، ثم (دولة العراق الإسلامية)، قبل أن يعود للظهور بعد خروج القوات الأمريكية في عام 2010، نفس العام الذي أعلن به مقتل أبي عمر البغدادي، ووزير حربه أبي حمزة المهاجر، في 19 أبريل (نيسان)، ومبايعة أبي بكر البغدادي «أميرا للمؤمنين بدولة العراق الإسلامية»، كما أطلق عليه، وتعيين أبي سليمان وزيرا للحرب.
 

عمل البغدادي منذ استلامه على تطوير عمل الأجهزة المختلفة للتنظيم، وتطويرها مؤسسيًا، ومنحها مهمات محددة ودقيقة، تجمع ما بين طبيعة المؤسسات في الدول المعاصرة، وأدوارها الوظيفية من جهة، وبين طبيعة التنظيم وظروف عمله، التي تمتاز بدرجة أكبر من التعقيد والغموض، في حالة هجينة وخاصة تزاوج ما بين الدولة فوق الأرض، والتنظيمات السرية تحت الأرض في الوقت نفسه، ووضع خطط واستراتيجيات محكمة، توجت بالسيطرة على الموصل وعدد من المحافظات السنية في العراق، بعد ذلك بثلاثة أعوام، بحسب ما يرى الباحث أبو هنية.
 

وبدراسة قام بها معهد "راند"، حول هيكلية التنظيم وتمويله وعملياته في العراق، خلال أعوام 2005 :2009، بالاعتماد على أكثر من 140 وثيقة سرية؛ وجد الباحثون أن الفضل ببقاء التنظيم «تحت الأرض» رجع إلى ما أسموه بـ «مجموعات الدعم الوظيفي»، التي دعمت التنظيم في صموده وفعاليته، وقدرته على الاستمرار، مؤكدين أن هذه الشبكة لا زالت موجودة حتى الآن، ويمكن للتنظيم أن يستغلها ويبني عليها عند الحاجة، وهذا ما أشار له العدناني نفسه في خطابه، المقتبس منه أعلاه.
 

وبالاعتماد على وثائق التنظيم خلال نفس الفترة، التي قضاها تحت الأرض، شكل فريق الباحثين في راند صورة لكيفية تنظيم وعمل (تنظيم القاعدة في العراق – دولة العراق الإسلامية)، في العراق ككل، والأهم، في منطقة واحدة، حيث كانت تشكل هيكلًا متماسكًا من الأمن، والاختراق والاغتيال، الشريعة، الإدارة، والإعلام، قبل أن تشكل مجلسًا عسكريًا، رغم أهميته ووجوده في المناطق، مما كان يمنحها سيطرة وامتدادًا وتأثيرًا ضمن منطقة معينة.
 

undefined 

وكانعكاس للتنظيم الأصلي الذي تم تأسيسه منذ الأيام الأولى للقاعدة، صمم التنظيم هيكلًا هرميًا، يمارس به الصلاحيات ضمن تنظيم بيروقراطي، ليحوله في عام 2008 إلى هيكلية قياسية شديدة الانقسام، تعرف بشكل «M»، حيث توجد بنية إدارية مركزية بوظائف عملية، تتكرر بحسب التوزيع الجغرافي، مما أدت لنموذج عملي. بيروقراطي متماسك، تم تطبيقه كما هو في تنظيم "الدولة الإسلامية" اللاحق. 
 

ويظهر المخطط صورة صغيرة عن كيفية عمل التنظيم في الموصل خلال عامي 2007: 2008، عندما كان في أقوى حالاته وتأثيره، حيث يوجد عدة أمراء وظيفيين، يعملون تحت توجيه أعلى من «والي» المدينة، المسؤول عن مهمات متعددة، ويدير سلسلة من الخلايا الوظيفية المتركزة جغرافيًا.
 

وفي أحد الوثائق التي تسربت من التنظيم، يتوقع أنها في نفس الفترة السابقة، يصف أحد قياديي التنظيم خطة للسيطرة على مدينة الحسيبة، في محافظة الأنبار العراقية، في 40 صفحة، في آلية وتتابع اعتمده التنظيم في السيطرة على العديد من المدن الأخرى، وتتضمن الخطوات التالية: اختراق المدينة والمناطق المحيطة وتأسيس منازل آمنة، تأسيس شبكة استخبارات وتشكيل صورة عن المدينة، تأسيس مجموعات أمنية ستغتال وترهب مسؤولي الحكومة والشرطة والقاعدة العسكريين ومالكي الأعمال والزعماء العشائريين، تشكيل أعمال وآليات كسب أموال للتمويل الذاتي للتنظيم، تطوير مجموعات مالية وإدارية تعزز قدرة التظيم وسيطرته وتجنيده، تطوير العلاقات مع الزعماء الدينيين وتشكيل محاكم شرعية لإصدار الفتاوى، تأسيس مجموعات إعلامية لنشر العمليات وإنتاج المحتوى الإعلامي، تأسيس خلايا عسكرية لشن الهجمات.
 

وبالتكرار الناجح لهذه العملية مرة تلو الأخرى، استطاع التنظيم فرض سيطرته على المناطق المدنية والريفية خلال أعوام 2005:2010، في مخطط يبدو أنه يتبعه اليوم، وعززه بعد أن خرج من تحت الأرض إلى أعلاها، لكنه لا زال موجودًا إن أراد العودة.

 

الأزمة السنية

"العراق اليوم أطلق عملية (قادمون يا نينوى) لتحرير مدينة الموصل، ولتحرير مُدن أخرى"، قادمون يا نينوى تعني في وجهها الآخر، قادمون يا رقة، قادمون يا حلب، قادمون يا يمن.

 إحدى مخيمات النازحين السُّنة من الموصل (رويترز)
 إحدى مخيمات النازحين السُّنة من الموصل (رويترز)

نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي الأسبق، والمتهم بإذكاء الطائفية في العراق خلال سنوات حكمه، والذي سقطت الموصل في عهده، في 23 أكتوبر (تشرين الأول)، بعد أسبوع من إطلاق عملية الموصل، في مؤتمر الصحوة الإسلامية، الذي دعا له المرشد الأعلى للثورة الإيراني علي خامنئي.
 

كل ما ذكر أعلاه كان يمثل الأبعاد الذاتية للتنظيم لقدرته على البقاء بعد الموصل، وكل الكتابات والدراسات والتقارير التي تم الاقتباس منها أعلاه، عربية وغربية وحتى إسرائيلية، أجمعت على أن التنظيم لن ينتهي بعد أزمة الموصل، لاستمرار السياسات الطائفية، وتقديم التنظيم نفسه كممثل لأزمة الهوية العربية السنية، والتي يتم «إذلالها من حلب إلى الموصل»، كبرى حاضراتها المدنية تاريخيًا، مما سيؤدي لانحساره ميدانيًا، واستمراره أيديولوجيًا، حيث تتناوش المدينة في معركة تحريرها الجيش العراقي الذي يرفع رايات الحسين الطائفية، والمليشيات الشيعية القادمة تحت «لبيك يا علي» و«لبيك يا زينب»، والبيشمركة التي تسعى لتوسيع مناطقها، وسط حضور خجل لتركيا التي تحذر من دخول المليشيات الشيعية، وصمت، وربما رغبة، أمريكية بهذه المعركة الطائفية.
 

تعميق الشعور السُنّي بالإقصاء والتهميش عزز حالة فقدان الثقة المفترضة بالحكومة المركزية في حكومتي المالكي وبعده رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي على حدٍ سواء، الأمر الذي سهّل على تنظيم الدولة كسب تأييد وتعاطف قطاعات أوسع من المجتمع السُني بدت واضحة في إعلان مجموعات عشائرية في الأنبار "وقوفهم وتضامنهم مع تنظيم الدولة الإسلامية ومبايعتهم زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي"، وفي نينوى المعقل الأهم له في العراق، وفي مدنٍ عدة أخرى عراقية وسورية.
 
undefined
 

ومن جانب آخر، تحضر «العدمية السياسية» لا من قبل الفصائل الجهادية عامة، وتنظيم الدولة خاصة وحسب، لكنها تحضر كذلك من طرف من يحاربهم، فلم يسمع من أي مسؤول أممي، ولو من باب خلخلة الصفوف في هذه التنظيمات، التحفظ عن اعتماد الإبادة وحدها نهجًا للتعامل مع «الجهاديين»، ويدعو إلى توفير إطار قانوني دولي خاص للتعامل مع «جرائمهم» مثلًا، بما يتوافق مع مبادئ العدالة، أو إلى تشجيع هذه المجموعات على سلوك باب السياسة، وعرض حد أدنى من الالتزام حيال العالم. أي الخروج من العدمية السياسية.

ولم يُسمع حتى من منظمات حقوق الإنسان الدولية أو من الأمم المتحدة ما يفيد بأن الإبادة لا يجب أن تكون نهج التعامل الوحيد مع تشكيلات مثل القاعدة وتنظيم الدولة، ولم يسمع في أي وقت أيضاً صوت من طرف المثقفين، في بلداننا أو في الغرب، يعترض على مواجهة تشكيلات إبادية بالإبادة، أو يقول إن الإبادة بالإبادة شكل متدن من العدالة، من صنف شريعة السن بالسن والعين بالعين، بحسب ما يقول الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، في تحالفات مواجهة للإرهاب تصف مجتمعات كاملة بهذه الصفة، وتعتمد «الإبادة» نهجا لها.
 

سردية الاحتجاج السني، التي عمل تنظيم الدولة على تمثلها، بحسب أبو هنية، تعبر عن حالة موضوعية لواقع عربي سني بائس، في محيط دولي وإقليمي معاد لطموحات وحقوق الأكثرية السنية في المنطقة، في لحظة تاريخية فارقة تشير إلى تفكك دويلات ونزاع إيديولوجيات وانشطار استراتيجات وانبعاث قوميات وهويات، وهكذا، فإن فكرة الدولة الإسلامية السنية قد تختفي من العالم الواقعي، لكنها ستبقى في العالم الافتراضي كي تعاود ظهورها بصورة أخرى، ولكن بطريقة أكثر راديكالية، وأشد عنفًا.

المصدر : الجزيرة