شعار قسم ميدان

وهم القيصر.. هل يحكم بوتين روسيا منفردا؟

على مدار ساعة كاملة ظل جسد "بوريس نِمتسوف" نصف العاري مرميًا على جسر "بولشوي موسكـﭬورتسكي" القريب من أسوار الكرملين، في حين أخذت الشُرطة تفحص موقع الجريمة التي وقعت منتصف الليل في العاصمة الروسية، قبل أن تلف جسده في كيس بلاستيكي أسود وترحل.

كان "بوريس" في طريقه للعودة إلى منزله بعد أن أدلى بحوار في نفس الليلة لمحطة راديو "صدى موسكو" هاجم فيها سياسات الرئيس "فلاديمير بوتين" في تناول الملف الأوكراني، واتهمه بالكذب والتسبب بقطع علاقات روسيا المهمة مع الغرب، قبل أن تقترب منه سيارة مُسرعة ويتلقى خمس رصاصات من أحد ركّابِها.

كان "بوريس" قد تلقّى تهديدات سابقة بالقتل نتيجة لنشاطاته المُعارضة؛ بل وأفصح قبل الجريمة بأسابيع عن خوف والدته من قيام "بوتين" بقتله، وهو ما دفع بالجميع نحو الاستنتاج المنطقي بأن النظام الروسي قتله بأمر "بوتين"؛ ليتخلص منه كما فعل سابقًا مع غيره، بيد أن تفاصيل المشهد وما تبعها تشي بأن ما جرى أكثر تعقيدا مما تصوّره كثيرون؛ بل ومما تصوّره "بوريس" نفسه عمّا وصلته من تهديدات، وأن التصوّرات المنتشرة خارج روسيا عن الكرملين بعيدة عن الواقع قليلًا، أو ربما كثيرًا..!

بوريس نِمتسوف

لم يشكل "نِمتسوف" في الحقيقة أي خطر يُذكر على النظام الروسي، ويلفت النظر هنا قيام محطة "صدى موسكو" باستضافته، وهي المملوكة لعملاق الغاز الروسي "غازﭘروم" إحدى أركان نظام "بوتين"، أضف لذلك أن الرجل كان جزءًا من النظام يومًا ما، فقد عمل نائبًا لرئيس الوزراء تحت قيادة "بوريس يلتسين" في التسعينيات، حتى خرج حزبه من البرلمان بعد انتخابات 2003، وازداد التباعد بين أفكاره الليبرالية وقيادة "بوتين" الجديدة؛ لكن أفكاره تلك لم تكن لتؤرق رجلًا مثل "بوتين"، يحسب موازين السياسة بالقوة والسُلطان فقط؛ والتي لم يملك "نِمتسوف" أيًا منها.

على غير العادة، منح "بوتين" أجهزة الأمن الروسية سلطات موسعة للكشف عن القاتل، فيما اعتبرته منابر إعلامية غربية عديدة جزءًا من مسرحيته السياسية ليس إلا؛ لكن التحقيقات الموسعة تمت بالفعل، وكشفت خلال بضعة أيام فقط عن بعض المفاجآت، أبرزها ما صرّحت به الشُرطة بعد فحصها للرصاصات المستخدمة في الجريمة من أن "قاتلي نِمتسوف ليسوا محترفين أبدًا"، وأن الرصاصات المستخدمة قديمة وأُطلِقَت من مسدس منزليّ الصنع.

توالت التفاصيل باعتقال الشُرطة لخمسة شيشانيين على صلة برئيس جمهورية الشيشان والمقرّب من بوتين، "رمضان قديروف"، أحدهم نائب القائد العام سابقًا لميليشيا "الشمال" التي تخضع لـ"قديروف"، والذي اعترف في البداية بإطلاقه الرصاص بنفسه؛ قبل أن يُنكر مجددًا ويتهم السلطات بتهديده وتعذيبه، ومنهم أيضًا سائق السيارة التي حملت قاتل "نِمتسوف"، والذي صرّح بعدم ندمه على المشاركة في قتل "نِمتسوف"؛ باعتباره "عميلًا للمخابرات الأمريكية ولأوباما، وعاهرًا غربيًا يشوّه الحكومة الروسية".

رمضان قديروف (يمين) وبوتين

تدور في موسكو منذ سنوات الأحاديث -والشائعات أحيانًا- عن العداوة التي يكنها جهاز الأمن الفيدرالي الروسي لـ"رمضان قديروف" وحاشيته، وسلطته المفرطة والخطيرة في الشيشان، وعلاقته الوطيدة بـ"بوتين"، وحماسه المبالغ فيه للدفاع عن روسيا أكثر من الكرملين نفسه، في محاولة لإثبات ولائه -أو ربما قوته-، وهي شائعات وصلت للاعتقاد بأن أجهزة الأمن الفيدرالي انقلبت على "بوتين" لعدم رضاها عن الملف الشيشاني؛ حين اختفى الرئيس فجأة لبعض الوقت في مارس 2015 قبل أن يظهر مجددًا، وهو ما دفع بالبعض -إذن- لاتهام الأجهزة بقتل "نِمتسوف" والزج بأسماء هؤلاء الشيشانيين في الجريمة لتصفية بعض الحسابات مع "قديروف".

كشفت التحقيقات في الواقع عن معرفة هؤلاء الشيشانيين بتفاصيل حياة "نِمتسوف" بشكل أتاح لهم تتبعّه بسهولة، فقد كانوا على علم بشكل سيارته الـ"رينج روفر" والرقم الخاص بها، وعنواني منزله ومكتبه في العاصمة الروسية، بيد أن ما نستطيع أن نجزم به هنا هو معرفة أحد الطرفين بتلك المعلومات على أقل تقدير؛ إما الأجهزة التي تتبعت "نِمتسوف" وقتلته بقرارها الخاص قبل أن تزج بتلك المعلومات في تحقيقاتها لإحراج "قديروف" أمام "بوتين"، وإما حاشية "قديروف" الشيشانية بالفعل؛ مما يكشف سلطانها الواسع المتجاوز للشيشان، وقوتها الاستخباراتية الخاصة.

شيء واحد مؤكد هنا، وهو أن "بوتين" -على عكس ما ذهبت بعض الصحف الغربية- لم يكُن بصدد مسرحية حين طلب تحقيقات موسعة في جريمة قتل "نِمتسوف"، وأنه أراد بالفعل معرفة القاتل الذي أحرجه أمام العالم بإطلاق الرصاص على أحد معارضيه -وزملائه سابقًا- على بُعد أمتار من الكرملين دون علمه.  شيء آخر مؤكّد أيضًا -على عكس الصورة الشائعة خارج روسيا- وهو أن "بوتين" ليس قيصرًا نافذًا في موسكو؛ فالروس أنفسهم على استعداد لتداول -وتصديق- شائعات بإمكانية إزاحته عن كرسيه لمجرد اختفائه بضعة أيام.

موسكو: الإمبراطورية واللادولة

"تتصارع طبقات البويار -الأرستقراطية الروسية- مع بعضها البعض، ولكن ليس مع القيصر أبدًا؛ لأن مصارعة العرش تسقط بالمملكة كلها في الفوضى.. لقد رأى "إيـﭬان الرابع" ذلك بأم عينيه بينما سقط حلفاء كُثُر له قتلى في صراعات البويار، في حين لم يُمَس هو."

(جيفريهوسكينغ، مؤرخ بريطاني للتاريخ الروسي والسوفيتي)

روسيا

لطالما اعتاد الغرب على النظر لروسيا كعُقدة أزلية لا حل لها، فهي بلد أوروبي ثقافةً كما يُفترض؛ لكنها فشلت في اللحاق بالمنظومة الغربية سياسيًا واقتصاديًا على مدار قرون طويلة، على النقيض من اليابان مثلًا والتي نُظِر لها كبلد آسيوي نجح في تحويل قبلته السياسية للغرب، فالهوس بفكرة الإمبراطورية في موسكو يخلق حاجزًا مستمرًا بينها وبين بقية الأوروبيين المتوجسين منها باعتبارها عملاقا "نِصف متحضّر"، أضف لذلك انصياعها في الداخل لثقافة "القيصر" البعيدة تمامًا عن ثقافة المؤسسات الأوروبية؛ لكن تلك الصورة تصبح اختزالية مع بعض التدقيق في تاريخ الروس، تمامًا كما كانت تصوّرات غربية كثيرة عن الشرق.

ظهر الروس على مسرح العالم خلال القرن التاسع كمجموعة من قبائل وتجار "الفايكينغ" قدموا من إسكندنافيا، واستوطنوا سهول شرق أوروبا المُطابقة لمعظم أوكرانيا وبيلاروسيا وغرب روسيا اليوم. بيد أن أصولهم العرقية سرعان ما تلاشت لصالح تجربتهم التاريخية "الأوراسية" الخاصة، والتي بدأت باجتياح المغول في القرن الثالث عشر؛ لتخضع معظم مناطقهم في شرق أوروبا للمغول، وتنفصل عن بقية أوروبا، وترتبط في نفس الوقت بمساحات شمال آسيا. لم يستغرق الروس وقتًا طويلًا حتى بدأوا في الانسجام مع واقع المغول شديد التنظيم، وللمفارقة ظل التوجّس من خطر الهجمات الأوروبية مسيطرًا لدى بعض أمرائهم؛ حيث قام "ألكسندر نفسكي"، أحد أبرز أمراء الروس آنذاك، بالاستفادة من الاعتراف بسلطان المغول؛ ليواجه هجمات القبائل الألمانية والسويدية الكاثوليكية آنذاك.

حاجز ديني -إذن- فصل الروس عن نظرائهم في الغرب وتطوّرهم الثقافي، تعزز مع انفتاحهم الكامل على المغول وتبنّي سمات حُكمهم: منظومة عسكرية مركزية قادرة على بسط سيطرتها على مساحات شاسعة، وبيروقراطية تتحكّم بالسكان وحصر أعدادهم وتجنيدهم وجمع الضرائب منهم، ولكن ليس بالضرورة تنظيم حياتهم المدنية بكفاءة. بقيت تلك السمات مع الروس حالما ظهرت قوتهم من جديد، وهي قوة كُتِب لها وراثة التركة المغولية في سهول أوراسيا كلها بحلول القرن السادس عشر، وهي تركة كانت أثقل على الروس المرتكزين لغرب أوروبا منها على المغول المنتمين لقلب آسيا.

حاجة أكبر للسيطرة على تلك المساحات الشاسعة خلقت معها اهتمامًا مركزيًا -ولا يزال- بالقوة العسكرية القادرة على الانتشار والتمركز بكافة أنحاء أوراسيا، والاعتماد على الروابط الشخصية الموثوقة؛ بدلًا من تشكيل مؤسسات وقواعد مستدامة، ومن ثم ظهرت القوة السياسية مع الوقت في صورة "عصابات" سياسية ملتفة حول تلك الشخصيات في مختلف المجالات والولايات. لم يكن شبح "الاستبداد الروسي" الذي رأته أوروبا باستمرار -إذن- نزعة ديكتاتورية أو قيصرية فردية؛ بل كان منظومة معقدة من المحسوبيات أملتها الثقافة السياسية الأوراسية ومساحتها الشاسعة، واستمرت بأشكال مختلفة حتى اليوم. لقد كانت بمثابة تضحية بمفهوم الدولة الأوروبي لصالح مفهوم الإمبراطورية الأوراسي.

لم يكن "مدفديف" مجرد دُمية في يد "بوتين"، كما صُوّر -باستمرار- في وسائل الإعلام العالمية، بل ممثلًا لجناح ثقيل في الواقع، وصل ثقله لإزاحة أحد حلفاء "بوتين" نفسه من منصبه على رأس هيئة السكك الحديدية الروسية.
لم يكن "مدفديف" مجرد دُمية في يد "بوتين"، كما صُوّر -باستمرار- في وسائل الإعلام العالمية، بل ممثلًا لجناح ثقيل في الواقع، وصل ثقله لإزاحة أحد حلفاء "بوتين" نفسه من منصبه على رأس هيئة السكك الحديدية الروسية.

بالأمس كانوا البويار، ثم ملاك الأراضي في روسيا القيصرية، ثم طبقة "النومنكلاتورا" السوفيتية، حتى ظهرت "العائلة،" وهي مجموعة رجال أعمال تربحوا سريعًا من فوضى الخصخصة في عهد الرئيس "بوريس يلتسين"؛ لكن مشكلة العائلة الرئيسة -كما رآها بوتين حين وصل للسُلطة- أنهم طبقة بويار مختلفة كثيرًا عن بويار الأمس؛ حيث ترتبط شبكاتهم أكثر من اللازم بأسواق الغرب؛ وليس بالحفاظ على الإمبراطورية المنكسرة حينذاك.

 لم يحاول "بوتين" أن يقضي على مفهوم "القبيلة السياسية" بقدر ما حاول استبدالها بأخرى تتفق مع رؤيته لروسيا، ومن ثم دخل السُلطة بالتنسيق مع "العائلة،" لكنه سرعان ما بدأ في تدبير الخطط لإسقاط بعض أسمائها واحتواء بعضها الآخر، ثم فتح أبواب الكرملين أمام طبقة جديدة من البويار تكوّنت من شقين: أولهما الشق الاستخباراتي، والمعروف بالـ"سيلوفيكي"، وهُم زملاؤه من أجهزة الاستخبارات والأمن السوفيتية الذي عمل به لخمسة عشر عامًا قبل سقوط الاتحاد السوفيتي؛ وثانيهما الشق الليبرالي-التكنوقراطي، وتعرّف بمعظمهم حين عمل خلال رئاسة "يلتسين" في مكتب عُمدة مدينة بطرسبرغ، ويتزعّم هؤلاء "دمتري مدفديف".    
تسلّطت الأضواء الغربية -كعادتها- على معركة "بوتين" مع "العائلة" باعتبارها معركة القيصر لإحكام قبضته على روسيا؛ لكن الواقع هو أن قبضته الشخصية منفردة لم يكن لها محل من الإعراب بقدر ما كانت إدارته الذكية للعلاقات بين الأجهزة الأمنية من ناحية، وحلفائه -وبعضهم ليبرالي مثل "مدفديف" ويغفله الإعلام الغربي باستمرار- من ناحية أخرى، ليصبح الرجل قيصرًا على غرار قياصرة روسيا طوال تاريخها، ليس بفضل نجاحه في تدشين نظام سياسي يدور حول شخصه؛ ولكن بفضل نجاحه في إثبات كونه الشخص الأكثر كفاءة في إدارة العلاقات بين مختلف القبائل السياسية ومصالحها الاقتصادية، وإن كشفت تلك العلاقات عن توترها من حين لآخر كما جرى إبان مقتل "نِمتسوف".    

لم يكن "مدفديف" إذن مجرد دُمية في يد "بوتين"، كما صُوّر -باستمرار- في وسائل الإعلام العالمية؛ بل ممثلًا لجناح ثقيل في الواقع؛ وصل ثقله لإزاحة أحد حلفاء "بوتين" نفسه من منصبه على رأس هيئة السكك الحديدية الروسية -فلاديمير ياكونين-، ووصل به لرئاسة روسيا لأربع سنوات بين 2008 و2012 قبل أن يعود "بوتين" مجددًا لمنصب الرئاسة، ولاحتفاظه المستمر بمنصب رئيس الوزراء حتى اليوم، ولعل توجهه الليبرالي هو الذي يميل بالكفة لصالح آراء "بوتين" فيما يخص "رمضان قديروف"، على حساب آراء الجهاز الأمني الأكثر هوسًا بالقبضة المركزية.

وصل بوتين لموقعه بدأب شديد، وتدابير هادئة على غير عادة قياصرة ورؤساء سوفيتيين كُثُر أثاروا العواصف السياسية فور دخولهم للسُلطة.

وسط كل ذلك يظهر "بوتين"، ليس كشخص استحوذ على الكرملين، بل كشخصية تحتل وسط ذلك الطيف المعقّد من "القبائل"؛ ذوي العقلية الأمنية والعسكرية على يمينه، والليبرالية على يساره، فاحتواء ميليشيا شيشانية -متمردة سابقًا- ومنحها السلطة في الشيشان لا يشي أبدًا بعقلية محافظة أو أمنية كما يُشاع عنه في الغرب، وتوسّع نشاطات شركتي النفط والغاز -غازبروم وروزنفت- للعب دور مركزي في خريطة الطاقة العالمية، وغيرها من نشاطات اقتصادية وإعلامية تعتمد عليها روسيا لبث نفوذها؛ مستفيدة من قواعد السوق العالمي، أبعد ما يكون عن جمود المنظومة السوفيتية.

منظومة دقيقة يتربع "بوتين" على عرشها؛ ولكن لا يسيطر عليها بشكل مُطلق، فهو مُديرها ووسيطها الأول والأوسط، وقد وصل لموقعه بدأب شديد، وتدابير هادئة على غير عادة قياصرة ورؤساء سوفيتيين كُثُر أثاروا العواصف السياسية فور دخولهم للسُلطة.

الجودوكا: اللعب الدؤوب

"لقد علمني الجودو بأن خصمك الضعيف ليس فقط قادرًا على مقاومتك؛ بل وعلى هزيمتك أيضًا، فالقوة وحدها لا تحدد النتيجة، بل القدرة على التفكير وتبني الأسلوب المناسب."

(فلاديمير بوتين)

الملكة "إليزابيث" و "فلاديمير بوتين" (رويترز)
الملكة "إليزابيث" و "فلاديمير بوتين" (رويترز)

في واحدة من أيام صيف العام 2003 بالعاصمة البريطانية لندن، تقرر استقبال الرئيس الروسي الجديد آنذاك "فلاديمير بوتين" في زيارة رسمية بقصر باكنغهام؛ حيث تقيم الملكة "إليزابيث"، وهي زيارة كانت الأولى من نوعها منذ استقبال الملكة "فيكتوريا" للقيصر الروسي "ألكسندر الثاني" عام 1874. استعدت لندن لتلك الزيارة التاريخية، وشرع العاملون بمختلف أنحاء المدينة في تجهيزات عدة، بدءًا من الفودكا التي سيحتسيها "بوتين"؛ وحتى القيام بتعليق لوحة مرسومة للكاتب الروسي المرموق "ليو تولستوي" كلفتة طيّبة.

بيد أن التجهيزات أغفلت مسألة بسيطة، وهي عدم تجهيز كُرسي يناسب قِصَر قامة "فلاديمير بوتين"، الذي يبلغ طوله 165 سنتيمترًا فقط، ليضطر الرجل للجلوس على كرسي فخم دون أن تتمكن قدماه من ملامسة الأرض. لا يحبّذ البعض قِصَر القامة أبدًا، و"فلاديمير" واحدٌ من هؤلاء، فقد تعرّض للضرب كثيرًا في صباه نظرًا لحجمه الضئيل كما هي العادة بصفوف الصبيان في المدارس؛ لكن الفتى القصير سرعان ما وجد حلًا لتلك المُعضلة، تمامًا كما وجد حلًا لقامة روسيا المتضائلة عالميًا حين وصل للسُلطة مع مطلع القرن الجديد.

التحق "فلاديمير" بدروس الجودو وهو ابن الثانية عشر؛ ليصبح لاعبًا محترفًا فيما بعد، وقد رافقته رياضة الجودو إلى الكرملين؛ حيث يستمر اهتمامه بها وبفلسفتها إلى اليوم، وهي فلسفة يابانية تقوم على هزيمة الخصم بـ"الأسلوب الليّن" (المعنى الحرفي لكلمتي جو-دو)، وتقول بأن انتصار "الجودوكا" يعتمد على كفاءته في استخدام القوة المُتاحة له؛ وإن كانت أقل من المنافس، وعدم الإفراط في استخدام القوة لأجل القوة أبدًا، فالانتصار مسألة ذهنية لا بدنية، بل وإمكانية استخدام حجم الخصم نفسه كرصيد ضده بالتدبير والتوقيت المناسبين للنجاح في إلقائه على ظهره.

كانت الجودو رياضة مناسبة لرجل قصير القامة مثل "بوتين"، ولعلها أثرت عليه حين وصل للسُلطة كما يشي بذلك حديثه عنها ومشاركته في تأليف كتاب عنها مؤخرًا، فقد احتاج "فلاديمير" للصبر والتدبير طويلًا تجاه مراكز قوى "العائلة" الأثقل كثيرًا منه إبان توليه الرئاسة، والتي يمكنها الإطاحة به بسهولة إن أرادت في البداية، لكن الجودوكا نجح في توزيع قواه المحدودة داخل الكرملين بكفاءة، حتى حانت لحظة إسقاط أحد خصومه منفردًا على ظهره -الواحد تلو الآخر.

علمت معارك الشيشان بوتين أهمية استخدام فلسفة العدو نفسه في هزيمته -وليس حجمه فقط- دون المغامرة بإهدار قوتك الخاصة مهما كَبُرت دون طائل.
علمت معارك الشيشان بوتين أهمية استخدام فلسفة العدو نفسه في هزيمته -وليس حجمه فقط- دون المغامرة بإهدار قوتك الخاصة مهما كَبُرت دون طائل.

معارك الشيشان أيضًا علّمت "بوتين" نفس دروس الجودو، والذي سرعان ما قرر سحب القوات الروسية بكل ثقلها -وفشلها- في تلك الجمهورية الصغيرة، والاعتماد على شيشانيين مناوئين للمسلحين الإسلاميين، يمتلكون نفس ثقافتهم القتالية غير النظامية، وهي ربما أولى الحروب التي علمته أهمية الصراعات غير النظامية -كما أثبتت أوكرانيا وسوريا فيما بعد-، وعلمته أهمية استخدام فلسفة العدو نفسه في هزيمته -وليس حجمه فقط- دون المغامرة بإهدار قوتك الخاصة مهما كَبُرت دون طائل، وهو ما لا تفهمه حتى الآن أقطاب الأجهزة الأمنية ممن لا يستسيغون سلطة "قديروف".

ثمة نظام "أتوقراطي" صريح في روسيا إذن؛ لكنه نظام أتوقراطي أكثر تعقيدًا من اختزاله في قبضة القيصر، والذي يدير علاقاته، ليس فقط في الخارج؛ بل في الداخل أيضًا، بمنطق الجودوكا الذي لا يملك القوة منفردة بقدر ما يملك القدرة على إدارة مراكز القوى الموجودة بالفعل، وإقناع كافة تلك المراكز بأهميته لتحقيق مصالحها ومصالحه في آن.

يقتات السيلوفيكي كما عوّدنا على تضليل خصومه؛ وليس فقط التجسس عليهم، ولذا فإن وهم القيصر الذي يبثه إعلام الغرب، تبثه في الحقيقة أبواق النظام الروسي بنفسها كذلك، لما فيه من تعزيز شعبية النظام في الداخل، وتضليل خصومه في الخارج عن توزيع القوى الحقيقي داخل الكرملين، بيد أننا لربما نعذر الغرب حين نسلّط الضوء على طبيعة تلك المراكز وعلاقاتها المعقّدة ببعضها البعض وبالرئيس.

المصدر : الجزيرة