لم يكن تقدُّم الروس انتصارًا في مواجهة، لكنه في الحقيقة كان ممكنًا فقط بسبب رغبة الأمريكيين أنفسهم بالتراجع عن موقعهم السابق بالخليج والمشرق، وكذا شرق أوروبا.
قلقٌ مشابهٌ يوجِّهه المحللون في الغرب تجاه المجر ورئيس وزرائها فيكتور أوربان رئيس حزب فيدس اليميني، والذي أعلن صراحة عن فلسفته في تدشين «ديمقراطية غير ليبرالية»، ضاربًا المثل بالنموذجين الموجودين حاليًا في روسيا وتركيا، والرجل رغم خطابه «البوتيني» كما يسمّى لا يزال يحظى برضا أوروبا، فقط لأنه ناجح في احتواء موجة اليمين الفاشي في بلاده بضمّ جزء منها داخل حزبه، والتي تمثلها حركة «يوبيك» الصاعدة صاحبة الخطاب الأشد تطرفًا واستبدادًا.
لم يستفد اليمين الشرقي، مثل نظيره الغربي، من الانتخابات الديمقراطية والحريات التي أتاحت للأخير الظهور بعد الحرب العالمية الثانية رغم التشويه الكبير الذي لحق بالأفكار القومية، فاستمرار اليمين الشرقي على قيد الحياة بعد سقوط الفاشية في الحرب العالمية الثانية يرجع لسياسات النظم الشيوعية البراغماتية، والتي أدركت عدم قدرتها على اكتساب أرضية في مجتمعات الشرق المحافظة دون تعزيز الروايات القومية وتأسيس علاقات مع الحركات القومية على الأرض، في حين شكَّل دخول تلك البلدان للاتحاد الأوروبي بعد عام 1991 بداية الضغط الإعلامي الغربي على اليمين الشرقي وظهور دعايات الدفاع عن الأقليات والشواذ والتعددية وما إلى ذلك.
لذا، يحنُّ اليمين المتطرف الشرقي اليوم إلى ستار الأمس الحديدي كتجربة تاريخية خاصة به دونًا عن الغرب، وهو يحنُّ للستار فقط ليس إلا؛ لدولةٍ أوتوقراطيةٍ تحميه من الانفتاح المُطلق على العالم وتحمي تجانسه العرقي والثقافي في الداخل، دون أن يشمل ذلك بالضرورة العداء الشيوعي مع المؤسسات الدينية المحورية والباقية، خاصة في بولندا ورومانيا اللتين عانت فيهما الكنيسة من قمع السوفييت، ودون أن يشمل ذلك بالطبع خوض صعوبات البحث عن الاحتياجات الأساسية.
على النقيض من غرب أوروبا، حيث تتركز الكراهية والعنصرية بوجه المهاجرين عمومًا والمسلمين خصوصًا، ترتكز دعايات اليمين الشرقي ضد تلك المنظومة وحرياتها الاجتماعية، ففي بولندا مثلًا تنصب جرائم الكراهية على الشواذ أولًا، ثم الخصوم السياسيين لليمين المتطرف -في إشارة واضحة على غياب الثقافة الديمقراطية عكس الحال في بلدان غرب أوروبا-، ثم الأقليات الدينية غير الكاثوليكية عمومًا واليهود بشكل خاص، في إشارة مرَّةً أخرى على التباين بين اليمين الفاشي الكلاسيكي في الشرق، بما يشمله ذلك من معاداة السامية، واليمين المتطرف الحديث في الغرب القريب جدًا من اليهود وإسرائيل.
يلفت النظر أيضًا التصوّر المختلف عن المسلمين وأسباب العداء معهم بين الشرق والغرب، فاليمين في غرب أوروبا يعاني بالأساس من المسلمين كوافدٍ جديدٍ في صورة مهاجرين بأعدادٍ كبيرة، وكعنصرٍ يتنافر مع المنظومة العلمانية اجتماعيًا وسياسيًا، أما في الشرق فليست ثمَّة مسألة مهاجرين على الإطلاق، فالإسلام هنا ليس وافدًا جديدًا أبدًا، ولكنه "خطرٌ ذو ماضٍ طويل"، تُركيٌّ في الغالب، بل إن المسلمين كان يُشار لهم بالأتراك في تلك المنطقة من العالم حتى نهايات القرن التاسع عشر نتيجة لتاريخ الخلافة العثمانية الطويل في شرق أوروبا.
يظهر كذلك ملف أقلية الروما العرقية (ويُشار لهم بالغجر) كمسألة ثقافية خاصة بتاريخ شرق أوروبا دونًا عن الغرب، فهم يتعرضون لجرائم كراهية واضحة، أبرزها في المجر حيث تستهدفهم حركة "يوبيك" باعتبارهم مجموعة من المجرمين غير منتمين للنسيج القومي، ومن ثم فمسألة الأقليات في الشرق لا تزال حبيسة الخطابات القومية الفاشية لما قبل العام 1945 نظرًا لكون تلك الأقليات أوروبية وجزءًا أصيلًا النسيج الثقافي، وليست مجموعة من الهنود أو العرب الوافدين خلال العقود الأخيرة.
على غرار فاشيّي ما قبل 1945 أيضًا، تمتلك معظم حركات اليمين الشرقي رغبة في مراجعة الحدود التي فرضتها دول الغرب الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية و/أو بعد الحرب الباردة، وهي رغبة يتشاركون فيها مع روسيا التي يُضرب بها المثل في الاستحواذ على شبه جزيرة القرم عام 2014، على العكس من اليمين الغربي الذي لا يناقش أبدًا المسائل الحدودية لا سيما وأن حدوده تعكس بدقة لا بأس بها الواقع الثقافي على الأرض.
على سبيل المثال، تطالب حركة "يوبيك" الفاشية المجرية بمراجعة حدود المجر لضم كافة الولايات المجاورة لها ذات الأغلبية المجرية، وتدشين ولاية حكم ذاتي للمجريين في أوكرانيا، في حين يركز حزب رومانيا الكُبرى في خطابه على ضم كافة الرومانيين تحت لواء الدولة الرومانية والحفاظ على نقائها في آن، بما في ذلك دولة مولدوفا الصغيرة المجاورة لرومانيا باعتبارها امتدادًا تاريخيًا للثقافة الرومانية، ويستهدف بدوره الأقلية المجرية الموجودة بالبلاد كعنصر دخيل عليها علاوة على عدائه التاريخي لليهود.
يمكن بالقول بأن ظاهرة تحليل اليمين الأوروبي نفسها لم تسلم من التمركز حول الغرب، فالخصائص الفريدة والمسار التاريخي الخاص لليمين الفاشي في شرق أوروبا ما بعد السوفييت بارتكازه للأسرة المحافظة اجتماعيًا وللكنيسة وللتعريفات الدينية الصريحة للانتماء الوطني في مقابل تعريفات الوطن الأكثر حداثة وعلمانية الواقعة إلى غربه، يتم تجاهلها أو التقليل من شأنها بينما تُدمج حركات اليمين الشرقية تحت قوائم اليمين الأوروبي، ومن ثم يوضع هؤلاء في قائمة واحدة مع مارين لو بِن وخيرت ويلدرز وغيرهما.
بيد أنه ثمة مسافة شاسعة تفصل بين حركة يوبيك في المجر ونشاطات الكنيسة الأرثوذكسية الرومانية وتوجهات اليمين البولندي الدينية وغيرها، وبين الاعتزاز بالحضارة والحداثة والتنوير الأوروبي بوجه المهاجرين وبيروقراطية الاتحاد الأوروبي المنتشرة في خطابات اليمين الغربي، وهي مسافة كبيرة لا تقل عن المسافة بين مارين لو بِن ودونالد ترمب، أو بين ويلدرز ونارندرا مودي رئيس وزراء الهند القومي الهندوسي.
يمين شرق أوروبا إذن جدير بما يكفي ليشكل ظاهرة منفصلة إلى جانب اليمين الأمريكي والأوروبي الغربي والهندي بالنظر لسماته القومية الدينية، وطبيعته الأقرب للفاشيّة للكلاسيكية المضادة لأية أقلية مغايرة عرقيًا ورغبته بإعادة رسم الحدود والتوسع جغرافيًا، وتحفّظه على المسلمين نتيجة لإرثه العثماني الخاص، وتطلعه لدولة مركزية فريدة لم يعرفها أقرانه في الغرب أثناء الحقبة السوفيتية، وفي الأخير -للمفارقة- لغياب أي تركيز في خطابه على معاداة عضوية الاتحاد الأوروبي على عكس اليمين الغربي، فالحنين للستار الحديدي لا يشمل الرغبة بالعودة لطوابير الخبز واللبن في نهاية المطاف.