شعار قسم ميدان

"دبلوماسية الإليزيه".. كيف أعادت فرنسا الحريري إلى لبنان؟

French President Emmanuel Macron and Saad al-Hariri, who announced his resignation as Lebanon's prime minister while on a visit to Saudi Arabia, are pictured at the Elysee Palace in Paris, France, November 18, 2017. REUTERS/Gonzalo Fuentes
مقدمة المترجم

يشير المقال للدور البارز الذي لعبته فرنسا بقيادة رئيسها الشاب، إيمانويل ماكرون، في الأزمة التي كادت تعصف بلبنان في أعقاب استقالة رئيس الوزراء، سعد الحريري، وتبعات التدخل في علاقات البلدين بصورة خاصة وعلاقات فرنسا بمنطقة الشرق الأوسط بصورة عامة. 

 

نص المقال
استقال رئيس الوزراء اللبناني بشكل غير متوقع من منصبه في شهر (نوفمبر/تشرين الثاني) الماضي في ظل ظروف غامضة في السعودية، إلا أنه عاد إلى بيروت الأسبوع الماضي وأعلن هذا الصباح أنه قد ألغى استقالته -كُتب المقال في الخامس من شهر (ديسمبر/ كانون الأول)-. جاء هذا الإعلان بعد التوصل إلى اتفاق في الرأي مع الأحزاب السياسية المتنافسة خلال محادثات الائتلاف التي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها خُطوة لعزل حزب الله عن الحكومة الحالية. لهذا السبب، فقد أوضح صراحةً أن لديه شخص واحد يجب أن يشكر وهو: إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا.

 

وجاء إعلان هذا الصباح مفاجئًا مرةً أخرى في شهر زاخر بالأحداث على لبنان. ومن المقرر أن تلقي تلك الملحمة الضوء على شخصيات كبيرة: في مقدمتهم ولي العهد السعودي الجديد، محمد بن سلمان، الذي يزعم البعض أنه من قام بتدبير استقالة الحريري من الرياض، وشرع في اعتقال نحو 500 شخص بتهمة الفساد؛ والرئيس اللبناني ميشال عون، وهو مسيحي ماروني وحليف محلي لحزب الله الذي ترعاه إيران، والذي ادعى أن الحريري قد اُختطف من قبل السعوديين؛ والحريري نفسه، وهو مواطن سعودي لبناني مزدوج الجنسية، ذهب إلى الرياض دون إخطار مستشاريه، كما أنه لديه حيازات تجارية واسعة في المملكة الخليجية وعلاقات شخصية معها؛ وأخيرًا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي أقنع محمد بن سلمان بالسماح للحريري بالذهاب إلى فرنسا -حيث أقام في مقر الرئاسة الرسمي لمدة ثلاثة أيام- مما سمح له بالعودة إلى لبنان -الأسبوع الماضي- وإنهاء المواجهة التي استمرت ثلاثة أسابيع بين السعوديين، واللبنانيين، والإيرانيين.

 

 

فاجأ قرار ماكرون بإقحام نفسه في هذه الأزمة الكثيرين. ففرنسا، في المحصلة، لم تعد القوة العظمى في المنطقة، كما كانت في السابق. ولكن دوافعه للقيام بذلك كانت متجذرة لتاريخ مشترك، يقوم على المصالح الاقتصادية والاستراتيجية المتبادلة. فقد كانت لبنان محمية فرنسية في الفترة من 1920 إلى 1944 كما أنها لازالت تحتفظ بعلاقات اقتصادية وثقافية وسياسية قوية مع سلطتها الاستعمارية السابقة (كما أن الفرنسية هي اللغة الثانية في لبنان، بعد العربية). ويستضيف لبنان قاعدة عسكرية فرنسية و900 جندي فرنسي في إطار تفويض من الأمم المتحدة. وتعتبر فرنسا من أكبر الشركاء التجاريين للبنان، ولبنان أكبر المستفيدين من المساعدات الخارجية الفرنسية في المنطقة. أضف إلى كل ما سبق أن لبنان أيضًا شريك حاسم في أزمة اللاجئين ومكافحة الدولة الإسلامية. وهناك أسباب وجيهة تدفع ماكرون للاستثمار بعمق في استقرار لبنان.

 

يمثل دعم ماكرون بالنسبة للحريري، شريان الحياة لحكومته الضعيفة. هذا وقد عانى اقتصاد لبنان بصورة غير مسبوقة جرّاء تفاقم العجز العام الآخذ في الاتساع، والتدفق غير المسبوق للاجئين في البلاد، الناتج عن الحرب الأهلية السورية، مما أثار قلق المحللين من تكرار ما حدث لليونان في عام 2009، الواقعة على حافة منطقة اليورو. وفي شهر (سبتمبر/أيلول)، بعد زيارة الرئيس اللبناني ميشال عون إلى باريس، تعهد ماكرون بتنظيم مؤتمرين دوليين أحدهما لدعم الجيش اللبناني والثاني لجذب المستثمرين المحتملين. كما حافظ على تعهد فرنسا -الذي قدمه سلفه فرانسوا هولاند- بدفع مبلغ 100 مليون يورو للمساعدة في تعزيز الجيش اللبناني على مدى ثلاث سنوات. ويساعد ماكرون، باختصار، في شراء شرعية الحريري، سواء في لبنان أو على الساحة الدولية، في الوقت الذي أصبحت فيه بلاده ساحة معركة للحرب بالوكالة بين السعودية وإيران.

 

 

ربما تكون الثمار التي يجنيها ماكرون من دعم الحريري أقل وضوحًا للكثيرين، ولكنها كثيرة ومهمة لفهم سياسته تجاه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يقول حكيم الكروي، خبير السياسة العربية في معهد مونتيغن في باريس: يجب على فرنسا أن تستعيد دورها التاريخي كـ "قوة داعمة للاستقرار" في منطقة الشرق الأوسط، وذلك من خلال التوسط في الصراعات الإقليمية، كما كان الحال في الماضي. وأضاف "يبدو أن ماكرون قد فهم ذلك". كما أنه أكد أن استقالة الحريري والتي تمت في السعودية لم تكن لتسمح فرنسا قبل بضع سنوات بحدوثها.

 

وفيما يتعلق بمساعدة الحريري والوساطة بين السعوديين واللبنانيين والإيرانيين، يبدو أن ماكرون يستفيد أيضًا من تراجع دور الولايات المتحدة على ما يبدو الدبلوماسي في المنطقة. إذ لم يرشح الرئيس دونالد ترمب حتى الآن سفيرًا للمملكة العربية السعودية أو لبنان. وقال الكروي "لقد فتح ذلك الأمر الباب لفرنسا نتيجة غياب أمريكا".

 

وفيما يتعلق بما تعتزم فرنسا القيام به في هذا المجال، قدم ماكرون بعض التلميحات في مؤتمر صحفي الشهر الماضي. وقال إن فرنسا ستركز على "بناء السلام" وتجنب "التدخل في أي انقسامات وطنية أو إقليمية أو اختيار جانب واحد ضد الآخر". وحذر قائلًا "على الرغم من أن الكثيرين يرغبون في سحب القوى الغربية إلى التصادم المتزايد بين السنة والشيعة، إلا أنه سوف يقاوم هذا الأمر بكل ما أوتي من قوة". ولكن من غير الواضح كيف سيتمكن من أن يكون لاعبًا رئيسيًا في المنطقة مع نفوره من الانخراط في أي من المعارك الطائفية، أو حتى كيف يخطط لإقناع الشرق الأوسط بأنه ينبغي عليه أن يرحب بعودة فرنسا من جديد. لا يعتبر سجل فرنسا في المنطقة جيدًا على الإطلاق، وقد وعد العديد من الرؤساء قبل ماكرون -وأبرزهم نيكولا ساركوزي- بإصلاح العلاقات في المنطقة، إلا أنهم فشلوا في تحقيق ذلك. لذا يبرز السؤال: ما الذي يجعل ماكرون يعتقد أنه يمكنه أن ينجح فيما فشل فيه سابقوه؟

 

وبغض النظر عن ذلك، قد لا تكون عائلة الحريري أفضل شريك للبدء. وقد عانت علاقتها بالرئاسة الفرنسية من اتهامات بالفساد واستغلال النفوذ منذ تسعينات القرن السابق. وكان رفيق الحريري، والد سعد الحريري، رجل أعمال وسياسي بارز في لبنان، والذي قد اغتيل في عام 2005 ويتمتع بصداقة وثيقة مع الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك. وفي عام 2007، وفي نهاية رئاسة شيراك، انتقل هو وزوجته إلى شقة تبلغ قيمتها 4.4 مليون يورو (5.2 مليون دولار أمريكي) يقال إن عائلة الحريري أعارتها لهم، من أجل الإقامة "المؤقتة" والتي استمرت حتى الشهر الماضي. وقد أفادت وسائل الإعلام الفرنسية، بما في ذلك ليبيراتيون ولو فيغارو، عن علاقاتهما الوثيقة، ويدعي البعض أن سياسة شيراك تجاه لبنان تأثرت بصداقته مع رئيس الوزراء الراحل، رفيق الحريري. وقد نفى الرجلان مرارًا جميع الادعاءات بسوء السلوك واستغلال النفوذ، ولكن الشائعات قد عادت إلى الظهور وسط الأزمة اللبنانية الأخيرة.

 

وقد تولى ماكرون عناية كبيرة كي يثبت أنه، يختلف عن أسلافه، في هذا الشأن وغيره من القضايا، لا سيما من خلال التأكيد على أنه يأتي من جيل الشباب من السياسيين، وهو الجيل الذي لم يلوث بالفضائح السابقة. ومع ذلك، سيكون من الصعب عليه أن يتجنب هذا الماضي تمامًا مع ظهور الحريري الجديد على الساحة السياسية الفرنسية.

 

 

بل ولدى ماكرون بالفعل فضيحة مع الحريري. وذلك أنه عندما أفلست شركة البناء الحريري، السعودية أوجيه في شهر (يوليو/تموز) عام 2017 وأطلقت الآلاف من موظفيها، تم تسريح 240 عاملًا فرنسيًا، يطالبون الآن بنحو 20 مليون يورو (23.7 مليون دولار) في صورة دفع أجور وضرائب الضمان الاجتماعي. وردًا على سؤال حول هذه المسألة في حديثه الأخير، قال الحريري: "أنه سيتم دفع مستحقات هؤلاء العاملين فور حصولنا على مستحقاتنا من (الحكومة السعودية)".

  

ولكن لم يكن الجميع مقتنعين. إذ قالت لي كارولين واسرمان، المحامي الذي يمثل نحو 85 من موظفي السعودي أوجيه السابقين في فرنسا: "كان موقف الحريري غير مسؤول تمامًا… حتى إذا دفعت المملكة العربية السعودية له الأموال، فمن غير المؤكد أنه سيحيل تلك المدفوعات إلى موظفيه، لأنني لا أثق به في القيام بذلك". وقالت لي أن الذراع الدبلوماسي بقصر الإليزيه قد تواصل معها خلال هذا الأسبوع حول القضية، مشيرًا إلى أن الرئيس ماكرون مهتم بإيجاد حل للعمال في توقيت جيد، لأن الحريري مدين له الآن بمعروف (أو اثنين).

  

هذا وبدون شك فقد حقق ماكرون فوزًا دبلوماسيًا كبيرًا في الشرق الأوسط من خلال النجاح في إعادة الحريري إلى لبنان، ولكن هناك تكلفة لكل انتصار. إذا كان يعتزم ملء الفضاء الدبلوماسي الذي تركته الولايات المتحدة في المنطقة، فمن المرجح أنه سيكون لديه العديد من الفرص لمحاولة الوساطة في النزاع القائم في المنطقة، وسيجد تمامًا مثل ما وجدت الولايات المتحدة الأميركية، أن الانتصارات الكبيرة نادرًا ما تحدث.

 

=============================================

  

المقال مترجم عن: (ذا أتلانتك)

المصدر : الجزيرة