في الأرجنتين ما يمكن أن يسترعي الانتباه أكثر من نتائج منتخب كرة القدم وأخبار لاعبيها، شهدت هذه البلاد ستة انقلابات عسكرية أثناء القرن الماضي، والعديد من التفجيرات وأعمال العنف الدموية.
"اللعنة، إنني أرى في نادي القتال أقوى وأذكى الرجال الذين عاشوا على الإطلاق بكل هذه الطاقات المهدورة، جيل كامل يملأ الغاز ويخدم في المطاعم ويتبع إعلانات السيارات والملابس والوظائف، بلا هدف ولا مكان، بلا حرب عظيمة، كسادنا واكتئابنا العظيم هو حياتنا، ونحن غاضبون، جدا جدا!"
– تايلر دردن – فيلم نادي القتال
يعرف الأغلب تقريبًا قصة "نادي القتال" ذائعة الصيت، حيث دفع غضب "تايلر دردن" من واقعه إلى جمع من الغاضبين أمثاله تحت الأرض، في نادٍ للقتال، يجلس هو على رأسه، ضمن قاعدة واحدة: لا تُخرجوا النادي من تحت الأرض، ثم بدأ بالتوسع شيئًا فشيئًا لجمع هؤلاء الغاضبين، الأقوياء والأذكياء كذلك، ثم درَّبهم ضمن قوات ونُخَب، وترك لهم حرية ممارسة الأعمال الإرهابية ابتداءً بمهاجمة الشركات الائتمانية، ثم قرر التحول إلى تمرد مسلح يُسقط الحكومة، ضمن مشروع "الفوضى"، قبل أن يقتل "تايلر"/المتحدث إحدى شخصيتيه، ويحاول إيقاف الخلايا التي بدأت بتنفيذ ذلك، إلا أن "دردن" لم يكن الغاضب الوحيد/مزدوج الشخصية في تلك اللحظة التاريخية.
هناك شابٌ آخر، شابٌ غاضبٌ مشاكس، انتصر على موظفٍ بسيطٍ متواضعٍ بداخله، ورآه الجميع وحده للمرة الأولى وهو يصرخ في وجه القاضي: "أيها القاضي بغير ما أنزل الله"، قبل أن يتصدر اسمه الشاشات مجددًا على مدى ثلاثة أعوام كاملة بالخوف والرعب، مستمرًا في عمله حتى كتابة هذه السطور.
عمل الزرقاوي بدايةً على استهداف القوات الأمريكية التي احتلت العراق، ثم وسَّع قدراته وأهدافه لتشمل الشيعة، الذين كفَّرهم بحسب مرجعيته السنية، ضمن مجموعة كبيرة من العمليات الإرهابية المكثفة، لكنه قبل اغتياله بشهور، وبعد تأسيسه لـ "مجلس شورى المجاهدين"، ركَّز على هدف تأسيس إمارةٍ إسلاميةٍ في العراق، وهو ما تمسَّك به أتباعه بعد اغتياله، فتحول من تنظيم "إرهابي"، بالمعنى العام، يستخدم العنف لأهداف سياسية، إلى تنظيم متمرد، يسعى لإسقاط الحكومة والانفصال عن الدولة.
استفزَّت أعمال الزرقاوي حينها كل مراكز الأبحاث العالمية للكتابة عن التنظيم، والسعي لإنهائه، وكان من أبرز هذه المراكز: معهد راند، الممول جزئيا من وزارة الدفاع الأمريكية، لكن الزرقاوي لم يكن حيًّا ليقرأ، في إحدى دراسات راند، أن تنظيمه الساعي لأهداف دينية، سيكون من أصل 62 تنظيما إرهابيًا منذ عام 1968، فشلت جميعًا بتحقيق أهدافها، لكن ربما اطلع أتباعه على دراسة أخرى، وعلموا أن القوات المسلحة النظامية، التابعة للسلطة الحاكمة، قد انهزمت أو عجزت عن الانتصار، أو مستمرة في القتال في 69 % من الحالات الـ 89 المدروسة، وأغلبها في النصف الثاني من القرن الماضي.
"أكثر من نصف المعركة يدور في ميدان الإعلام، وإننا في معركة الإعلام في سباق على قلوب وعقول أمتنا"
– نائب زعيم تنظيم القاعدة حينها، أيمن الظواهري، في رسالة إلى زعيم القاعدة في العراق، أبي مصعب الزرقاوي، منتقدًا مشاهد الذبح المسؤول عنها وقتها.
خلطت قيادات تنظيم الدولة ما بين أفكار "الجوكر"، الذي عمل على استقطاب قيادات العصابات والإرهابيين، وتمحيصهم وتصفيتهم بحسب ولائهم للفكرة وله شخصيًا، وبين أفكار "دردن" الذي عمل على استقطاب «العامة الغاضبين»، واختراق المجتمع من خلالهم، وتدريبهم وتجهيزهم، وأضاف لهم المقاتلين الأشداء الذين شاركوا في حروب سابقة، وتعددت خبراتهم القتالية في جغرافيا متنوعة.
وتتقاطع أفكار "دردن" مع كبار منظِّري نظريات التمرد ومكافحته، حيث يحتل ولاء السكان المحليين للمقاومة المسلحة الناجحة، أو ما نعرِّفه بالحاضنة الشعبية، أولوية في كتابات هؤلاء، فيرى "ماو تسي تونغ"، أبرز مهندسي الحروب الثورية الحديثة أن "على المقاتل أن يسبح بين الناس كما يسبح السمك في البحر"، وهو ما يؤكده الدليل الميداني لمكافحة التمرد المسلح الخاص بالجيش الأميركي ومشاة البحرية "المارينز"، الذي بُنيَ بالأساس على تجارب فيتنام والعراق وأفغانستان، مع دراسة عميقة لحالات أخرى، داعيًا لـ "كسب عقول وقلوب الجمهور المحايد"، في ردٍّ بمثابة تأكيدٍ لما قاله الزرقاوي أعلاه.
لم يأخذ تنظيم الدولة هذه النقطة، كما لم يُبالِ بغياب أسباب القوى الأخرى للتنظيمات، بل عمل على تعزيز بنيته الهيكلية، في مساحات جغرافية مفتوحة، وفي مياهٍ دولية غير صديقة، وعلى تطويرها ليستطيع البقاء والاستمرار والصمود، ولجأ إلى الاستقطاب باستخدام تكتيكات واستراتيجيات عسكرية، مستغلًا وحشية تعامل القوات النظامية مع السكان المحليين، محققا ما أسماه الجنرال "ستانلي ماكريستال"، القائد السابق للقوات الأمريكية في أفغانستان، بـ "حساب المتمرد"، قائلًا: «كل مدني بريء تقتله القوات النظامية، يُوَلِّدْ عشرة مقاتلين جدد ضدهم».
«تقنية التقلص والتوسع حسب التطورات الميدانية، هي قرار عسكري وليست قرارًا أيديولوجيًا، ويقف من ورائها ضباط سابقون في الجيش العراقي، من مؤيدي نظام صدام حسين، وتقنية (داعش) الدفاعية هي نفس التكتيك الذي استخدمه المتمردون ضد الجيش الأمريكي، في حرب الخليج الثانية، وفي بعض المدن التي كانت تحت سيطرة التنظيم، وسقطت في الأشهر الأخيرة في أيدي الجيش العراقي، مثل الرمادي وتكريت ورتبا والفلوجة». أليكس فيشمان، محلل الشؤون الأمنية والعسكرية في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية.
يُرجِعُ الباحث "عمر عاشور" قوة تنظيم الدولة، وقدرته على الصمود، أمام قوىً محلية ودولية، تتفوق عليه عددًا وعدّة بمراحل كبيرة، بالنظر إلى طبيعة التنظيم وهي: مزيجٌ من تمرُّدٍ مُسلَّح، بقيادة عناصر عالية الكفاءة العسكرية والأمنية، ومقاتلين أشدَّاء، وهياكل إدارية صلبة ومنظَّمة، وقادرة على الحُكم في مناطق السيطرة تحت القصف المكثف. هذه النوعية من المقاتلين، تم إدخالها ضمن المجلس العسكري للتنظيم، المكوِّن الأهم داخل تنظيم الدولة، والذي يمثِّل مركز قوة التنظيم ونواته الصلبة، ويجعل من الصعب تفكيكه وهزيمته.
"المُفَخَّخات سرُّ الانتصارات"
– قيادات في الجيش السوري الحر وعسكريون ليبيون قاتلوا تنظيم الدولة.
في معركة واحدة من معارك "الفرقة 101″، من الجيش السوري الحر، مع تنظيم الدولة، فقد الفصيل في معركة واحدة، على يومين متتاليين، ما يقترب من 65 عنصرًا، بعد استهدافها بعدد من المفخخات، استطاع بعدها التنظيم السيطرة على قرية "أم حوش"، في ريف حلب الشمالي، العام الماضي.
يروي ضابط سابق في الفرقة التي تكبدت الخسائر، رغم دعمها بمضادات دروع، تفاصيل المعركة بقوله: «بعد تفجير السيارات، لا ترسل داعش أكثر من 10:15 مقاتلًا من جنسيات مختلفة. يتقدمون مسافة 50 مترًا ثم ينبطحون، ثم يتقدمون 50 مترًا أخرى، ثم ينبطحون ويتمركزون، مؤكدًا أن «هذه الطريقة في الهجوم لم نسمع بها في أية أكاديمية عسكرية عربية، بما في ذلك أكاديميات نظام البعث»، وهو ما أشار له ضباط آخرون في الجيش السوري الحر، وبعض العسكريين الليبيين من الكتيبة 166، والتي قاتلت تنظيم الدولة في سرت، عن أسباب الانتصارات العسكرية للتنظيم، رغم قلَّة العدد والعتاد، كانت الإجابات مشابهة وملخصها: المفخخات مفتاح الانتصارات.
بعد ذلك، يروي النقيب حسن الحجري، أحد قادة لواء صقور الجبل، في سوريا، أنه بعد الضرب بالمفخخات يتم الهجوم مباشرة بوحدات «الانغماسيين»، وهي وحدات كوماندوز صغيرة لا تزيد عن 20 مقاتلًا، كثيرون منهم غير محليين، وهذه الوحدات تخضع لتدريبات خاصة على تكتيكات «القتال عن قرب»، ومهمتهم الرئيسية، بعد الضرب بالمفخخات، هي كسر خطوط العدو الدفاعية والإغارة على الأهداف الصعبة، ثم التقدم ببطء.
فإذا كان تنظيم الدولة لم يأخذ بقاعدة الصيني "ماو تسي تونغ" بضرورة "السباحة في الحاضنة الشعبية"، إلا أن أساليبه تنسجم مع ما كتبه القائد العسكري الشهير "صن تزو"، في كتابه "فن الحرب"، خاصة فيما يتعلق بجمع المعلومات الاستخبارية عن العدو، والتخفي قبل وبعد الضرب، والضرب في الخاصرة الضعيفة، واستخدام عنصر المفاجأة بشكل عالي الكفاءة، وتجنُّب العدو في مناطق قوته ووقت استعداده، لكن "داعش" أضافت جمعًا ما بين تكتيكات "إرهاب المدن"، بالهجوم بطوابير السيارات المفخخة بقيادة انتحاريين، بصورة مفاجئة ومتكررة، والاستخدام المُكَثَّف لسلاح القناصة والاغتيالات قبل وأثناء الهجوم، مع أساليب الحروب الثورية التقليدية، وخاصة الوحدات المختلطة من العسكريين والمتطوعين المدرَّبين، سريعة الكرِّ والفرِّ، وصغيرة العدد، بالإضافة إلى التكتيكات النظامية التقليدية، مما أثبت أثبتت فعالية كبيرة رغم قلَّة العدد.
بعد بدء معركة الموصل، هاجم التنظيم كلًّا من مدينتي كركوك والرطبة، البعيدتين نسبيًا عن الموصل، كما هاجم "كوباني" في سوريا عندما استعادت القوات الكردية كركوك، وهو ما كرَّره بهجومي تدمر والرمادي المتزامنين، فيما اعتبره باحثون "لامركزية ميدانية"، حيث تُتَّخذ قرارات الهجوم على مستوى قيادة ميدانية متوسطة، دون الرجوع للقيادات العليا، وهو أمر حيوي للأداء العسكري، فهي تساعد القوات الضاربة المتحركة للتنظيم على اتخاذ قرارات سريعة، في مواجهة قوات متفوقة عليها إلى حدٍّ كبير. وبالإضافة لذلك، يبدو أن القيادات الميدانية للتنظيم تتعلَّم بشكل سريع، مما يحسِّن أداءها بشكل مستمر.
يبدو أن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، الذي سعى لإنهاء وجود تنظيم الدولة في الموصل، والذي وصف تنظيم الدولة بـ "الجوكر"؛ فاته مشهدٌ أساسيٌّ آخر في تُحفة "كريستوفر نولان" "فارس الظلام"، يضع به "الجوكر" عينه بعين "باتمان"، ويضحك ساخرًا قائلًا: «أنا لا أريد قتلك، فأنت تكمِّلُني ببساطة، وبدونك أنا مجرد رجل عصابات تافه"، وهو دورٌ تلعبه واشنطن بشكلٍ ما، كما أنه نسي أيضًا قصة خادمه المطيع "ألفريد"، وهو يحاول أن يشرح له كيف كان مسؤولو الحكومات يحاولون شراء ولاء القبائل هناك بحجارة ثمينة، كانت تُسرق على يد قُطَّاع طُرُق، انتهت خلال ستة أشهر، وهي نفس المدة تقريبًا ما بين مجزرة الكيماوي التي قامت بها الحكومة المحلية، وسيطرة "داعش" على الموصل بأيدي عصاباتها.
لم يقل أوباما أن "الجوكر" حين خرج لم يخرج من العدم، بل خرج من وسط المدينة المليئة بالمجرمين، على عينه وعين الحكومة المحلية، لأنها مدينة تريد مجرمين من طراز أفضل، لا يوثِّقون إهانة الشعب وحرق الجثث بكاميرات الهواتف، بل ينتجون قطع الرؤوس ضمن إصدارات هوليوودية عالية الجودة، ولا يحتاجون تسريبات بمساحات بالـ "تيرا بايت" في بنما لتوثيق سرقتهم للبلاد تحت شركات علنية، بل يسرقون النفط علنًا ثم يبيعونه لهذه الشركات، ويبدو أن هذه اللعبة الهزلية ستستمر إلى أن يختار فارس الظلام أن يتَّبِعَ نصيحة مستشاره الحكيم "ألفريد"، الذي يشير عليه بـ "حرق المنطقة كلها"، ناسيًا أن هذا ما يريده رجال العصابات، وما يريده الجوكر تحديدًا، ويبدو أن "داعش" تريده أيضًا.