الانسحاب العظيم.. كيف أسقطت "الفصائلية" حلب؟

تبدو النتيجة النهائية المخيفة واضحة للعيان: نزح أكثر من ١١٠ ألف حلبي من بيوتهم، منهم ٣٦ ألف إلى خارجها، لمناطق الثوار في إدلب وريف حلب الغربي، منتصف ديسمبر (كانون الأول) للعام الماضي ٢٠١٦، لتضع نهاية لواحدة من أطول وأهم معارك الثورة السورية، التي استمرت لما يقارب الأربعة أعوام ونصف، منذ دخول الثوار للمدينة في يوليو (تموز) لعام ٢٠١٢.
لم يكن هذا السقوط بهذه السرعة حتميًا -وإن كان مفاجئًا- فبعد أن عجز النظام عن استعادة السيطرة العسكرية على حلب -وعلى المدن الأخرى- تدخلت روسيا نهاية أكتوبر (تشرين الثاني) لعام ٢٠١٥ لإنقاذ النظام؛ صاحب تدخلها حملة قصف كثيفة استهدفت كل مناطق المعارضة، قصف ألقى أكثر من 16 ألف برميل متفجر خلال عام واحد فقط، وأدى لمقتل ١٧ ألف شخص تقريبًا في نهاية عام ٢٠١٦، حملة مترافقة مع صمت دولي، ومحاولات دبلوماسية خجولة، ولتكشف عن الثغرات والمشكلات البنيوية العميقة لدى المعارضة السورية، حيث كانت "ثورة دون ثوريين، وجهادية دون جهاديين"، حسبما وصفها الباحث حسن أبو هنية.
بعد حصار حلب، والاستنزاف الذي حصل على جبهاتها الشرقية، التي أصبحت أرضًا محروقة بالكامل، لم يعد بها حتى ساتر للمواجهة لفصائل مدينة حلب. |
تكثفت الحملة العسكرية في حلب تقريبًا مع بداية الربع الثاني من عام ٢٠١٦، سواء بالقصف الجوي الكثيف الذي استهدف النقاط الحيوية، من مستشفيات ومدارس ومساجد وحتى المخابز، أو بالحشد البشري الكثيف لجيش النظام السوري والمليشيات المحلية والأجنبية والطائفية الموالية له، سعيًا لحصار المدينة الذي بدأ ببطء وهدوء مستخدما آلية "دبيب النمل"، بتركيزه على منطقة محددة، قد تبدو بعيدة أو غير مجدية، بكثافة نارية كبيرة، وزخم بشري عسكري بالاعتماد على المليشيات، بدأ بالسيطرة على منطقة السفيرة في سبتمبر (أيلول) عام ٢٠١٣، وانتهى بحصار أحياء حلب الشرقية تمامًا بعد قطع طريق الكاستيلو، الشريان الوحيد للمدينة من جهتها الشمالية، بعد سقوط منطقة الملاح ثم مساكن بني زيد، نهاية يوليو (تموز) ٢٠١٦، لتصبح حلب حينها محاصرة بالكلية.
بينما كانت قلاع النظام ومناطقه صعبة الكسر تتهاوى واحدة تلو الأخرى من خاصرة حلب الجنوبية الغربية، في "ملحمة حلب الكبرى"، التي أعلن عنها "جيش الفتح" المشكل بغالبيته من الفصائل الإسلامية (أكبرها جبهة فتح الشام، وحركة أحرار الشام الإسلامية، وفيلق الشام، وانضمت لهم لاحقا حركة نور الدين زنكي)، وانتهت أخيرًا بفك الحصار عن حلب، كان الناشط والمقاتل يوسف موسى يبتسم -من داخل أحياء حلب المحاصرة- بسعادة لفك الحصار، ومكر بانتظار تحقق المخطط الذي تنبأ به.

فبعد حصار حلب، والاستنزاف الذي حصل على جبهاتها الشرقية، التي أصبحت أرضًا محروقة بالكامل، لم يعد بها حتى ساتر للمواجهة لفصائل مدينة حلب، متمثلة بــ"غرفة عمليات فتح حلب"، ويروي يوسف أن كتيبته التي كان ينتمي إليها مثلًا، والمكونة من ١٢٠ مقاتلًا قبل أن يُستنزف العدد في المعارك، أن تصل بعد لملمة جراحها والتعافي إلى ١٥ مقاتلا، منهم ثلاثة أشخاص فقط قادرين على التحرك.
أما جيش الفتح الذي كان يقاتل منذ نهاية عام ٢٠١٣ على جبهة النظام من جهة، وجبهة تنظيم الدولة الذي استهدفه بشدة من جهة أخرى، بعد طرده من المدينة ثم ريفها الشمالي، دون مؤازرات حقيقية ومنظمة للفصائل من إدلب؛ قرر كسر الحصار من خارج المدينة، ومن جهة الخاصرة الأقل كثافة لحلب حيث جبهتها الجنوبية الغربية، من منطقة الكليات العسكرية (كلية المدفعية وكلية التسليح والمدرسة الفنية الجوية) والراموسة وحي الـ١٠٧٠ شقة، وهو ما تمكنوا منه فعلًا، في السادس من أغسطس (آب)، واستطاعوا كسر الحصار بوتيرة متسارعة، سقطت خلالها تلال صعبة (تلة مؤتة وتلة أحد)، ومدرسة الحكمة التي شهدت عشرات محاولات الاقتحام السابقة من داخل المدينة، ورافقها شحن وضخ عاطفي وإعلامي كثيف، ووعود باستكمال تحرير المدينة لآخرها لا مجرد فك الحصار.
بعد انتهاء المعركة؛ نشر جيش الفتح بيانًا بعنوان "ملحمة حلب الكبرى – غزوة إبراهيم اليوسف"، تضمن الفرح بالانتصار المستحق والوعود باستكماله، إلا أنه حمل في ختامه "تنويهًا" كان سبب كل من الهزيمة اللاحقة وابتسامة مكر يوسف أعلاه؛ حيث لم يكتف جيش الفتح بالتبني الكامل للانتصار في معارك فك الحصار، لكنه نفى مشاركة أي من غرف العمليات الأخرى فيه، في إشارة إلى غرفة عمليات فتح حلب، في امتداد للتوترات الصامتة السابقة بين الفصائل والمناوشات التي تظهر من فترة لأخرى، وغياب التنسيق بين اثنتين من أكبر غرف عمليات المعارضة المسلحة في الشمال السوري، بعد رفض جيش الفتح معركة دعته إليها غرفة عمليات فتح حلب من جهة الكاستيلو وباشكوي بعد الحصار في شمال المدينة، بحجة أنها "معارك استنزاف ومقتلة وإضعاف للفصائل بلا طائل"، بحسب ما قاله يوسف، الذي اعتبر أن مشاركة جيش الفتح وحده كانت سعيًا لاستهداف العمق الثوري مقابل الجهادي للشمال السوري، ورفع الراية السوداء بدل راية الثورة، وتقديم "الفتح" نفسه كفاتح ومنقذ للمحاصرين.
كان طريق الراموسة المحرر ضيقًا ومهددًا في أي لحظة، وكان السعي لتوسيع الطريق وتثبيت فك الحصار، وهو تحرير كل من نقطتي معامل الإسمنت من الخارج، وحي العامرية من الداخل، لكن جيش الفتح خاض معركة الإسمنت دون تنسيق مع الداخل، فلم تحقق المعركة هدفها، مترافقة مع امتصاص الهجوم واستنزاف الفصيل نفسه، الذي قرر إعادة ترتيب صفوفه لأيام لم يمنحها إياه النظام والمليشيات الداعمة له بالطبع، فبدأوا جميعًا هجومًا كثيفًا بآلاف عناصر المليشيات، وقوة نارية هائلة، وإصرار شديد على استعادة النقاط الرئيسة من المعارضة المسلحة وإعادة الحصار لحلب، تحقيقًا لرغبة الروس الذين لا يريدون حلًا سياسيًا إلا بعد الحصار -بحسب يوسف- فحاولوا استعادة الكليات بخمس مرات متتالية خسروا بها مئات العناصر، من بين ١٥٠٠ عنصر خسرهم النظام في المجمل، بالمقاطع المصورة لعملية إعادة الحصار ككل.
عندما وقع الحصار الأول كان يوسف متيقنًا أنه لن يستمر، لأن المساحة الجغرافية الكبيرة وكثافة المقاتلين لن تسمح بذلك، لكنه أثناء استعداده للحصار الثاني بشرائه خلايا شمسية للكهرباء، لم يستطع أن يصدق البائع البسيط الذي كان يؤكد له أن "الحصار سيفك، ولا أعرف كيف"، لتعقد الحسابات العسكرية والسياسية العالمية، قبل أن تقع حادثة كسرت هذه الثقة على كل المستويات، بحسب ما يرى.
لم يكن المقاتل الشاب مصعب أبو العمير يحمل إصابة سابقة في يده، وثأرًا قديمًا يحمله من جبهة إلى جبهة فحسب؛ لكنه كان يحمل في فكره تصورًا جديدًا -قديمًا للثورة والعمل العسكري، يدعو به إلى الانتقال من العقلية "الفصائلية" ذات الكيانات، إلى العقلية "العسكرية" ذات المعارك والجبهات، فمنذ بدء المعارك مع تنظيم الدولة منذ منتصف ٢٠١٣، بدأ تراجع الفصائل وتحولها من فكرة الروح الثورية والعقيدة القتالية إلى فكرة التنظيم، فتحول العسكري من الإنجاز العسكري أمام العدو، بصد أو اقتحام أو قتال، إلى تنظيم الصفوف، ثم تحول قائد الفصيل من قائد للمعركة، يتابعها ويديرها وينشر الروح القتالية، إلى شخص جالب للدعم ويحاول أن يساوم الطرف الفلاني أو الآخر، وتحول الشرعي من الدعوي كمتابع لأخطاء الجنود ومشكلاتهم إلى منظر شرعي ومردد لتوجهات الفصيل الذي يوجد به، أيًا كانت.
غياب الثقة، وفشل الملحمة الثانية، رغم ما رافقها من تضخيم إعلامي وضخ عاطفي كبير، انطلاقًا من العقلية الفصائلية، تسببت بحالة من الانهيار النفسي والعسكري والاجتماعي داخل حلب. |
تسببت هذه العقلية بفشل ما أطلق عليه "الملحمة" الأولى، وتسببت تاليًا بوقوع حادثة فارقة، مطلع نوفمبر (تشرين الثاني)، أدت إلى انهيار الثقة ثم الخطوط الاجتماعية والعسكرية في حلب، وهي حادثة اقتتال بين حركة نور الدين زنكي، بالتعاون مع "كتائب أبو عمارة" واتهامات وأنباء عن دفع من أمنيي جبهة فتح الشام، وبين واحدة من أكبر الفصائل في مدينة حلب وهي "تجمع فاستقم كما أمرت"، الفصيل الذي وضع كل ثقله في حلب، التي يصفها عمير لنا بـ"الثقب الأسود للفصائل"، وكان تجمع استقم الأقدر على الاستمرار والتنظيم في المعركة، لامتلاكه مستودعات معدة لحصار طويل، وقوة مركزية قادرة على التحرك على كل الجبهات، إلا أن حركة الزنكي سيطرت على غالب مستودعات التجمع، واعتقلت قائده، صقر أبو قتيبة، الذي فضل تسليم نفسه على وقوع معركة طويلة، بتهمة محاولة اغتيال قائد كتائب أبي عمارة، مهنا جفالة، وهو ما لم يتم إثباته، ولذلك أطلق سراح أبي قتيبة قبل اتفاق إجلاء المدنيين من حلب بيومين.
أدت هذه الحادثة، انطلاقًا من الفصائلية إلى "اهتزاز الفكرة"، بحسب ما يصفها يوسف، وأدت إلى غياب الثقة بين العنصر وقائده والثقة بين الفصيل بالفصيل الآخر، والأهم هو فقدان الثقة بالفصائل لدى المدنيين، الذين لا يعرفون أن هناك اعتداء ولا يهمهم تفاصيل الاقتتال، بل يرون قتالًا داخليًا في وقت قاتل وحرج، أراد به أحد الفصائل أن يحقق نفوذه ويثبت نفسه، قبل أن يفك الحصار وتتحرر كل المدينة، بحسب ما كان يروج في "الملحمة الثانية" لفك الحصار عن حلب.
قبل هذه الحادثة بأيام، نهاية أكتوبر (تشرين الأول)، كان جيش الفتح الذي انضم له نور الدين زنكي يعد لمعركته الثانية، بعدد أكبر من الاستشهاديين ومن الانغماسيين، وبآليات ودبابات أكثر، على محاور مختلفة قليلاً عن المعركة الأولى، وإن كانت من الجهة نفسها، فتركز الهجوم كما لم يكن متوقعًا على أعرض خطٍ للنظام غرب حلب، على الـ٣٠٠٠ شقة وضاحية الأسد ومنيان والأكاديمية العسكرية، لتحول نقاط المعركة السابقة بدورها إلى رأس حربة ليس سهلاً اقتحامها من جديد.
وقد استخدموا تكتيكات مشابهة للتي استخدموها في المعركة الأولى بعد ما أثبتت نجاعتها: عمليات استشهادية تضرب الخطوط الأولى الصلبة، ثم انغماسيون يتقدمون بأسرع ما يمكن لتمشيط الخط الأول واقتحام العمق، وهو ما لم ينجح لاستعداد النظام والمليشيات جيدًا ضد الانغماسيين بتقسيمهم، على سبيل المثال، الخطوط الدفاعية إلى ثلاثة خطوط، والحد من عدد المقاتلين في الخط الأول والثاني وتأجيل القوات الصلبة إلى الخط الثالث وخلفه، بذلك تقل فعالية العمليات الاستشهادية وهي تضرب وحسب خط دفاع واحد لا يمتلك مركز الثقل، وينهك الانغماسيون الذين لا يدركون ما ينتظرهم في الداخل، ثم الاستعداد بمضادات الدروع التي نجحت بتعطيل وتدمير الآليات والمدرعات واحدة بعد واحدة، بحسب ما يرويه المخرج عبد الرحمن الكيلاني، بشهادته في سلسلة "فاجعة حلب".
أسباب إذن كغياب الثقة، وفشل الملحمة الثانية، رغم ما رافقها من تضخيم إعلامي وضخ عاطفي كبير، انطلاقًا من العقلية الفصائلية، تسببت بحالة من الانهيار النفسي والعسكري والاجتماعي داخل المدينة، ترافقت مع استغلال النظام لجبهات ضعيفة مخترقة، خصوصًا شمال شرق المدينة، أدت لارتباك وفوضى كبيرة، وانسحابات متسارعة متتالية، أسماها عمير في حديثه بـ"الانسحاب الكبير".

لم تكن كل الجبهات في حلب على وتيرة واحدة من التماسك والقوة العسكرية، في مدينة واسعة ومتعددة الجبهات متفرقة فصائلها، ففي الوقت الذي تركز به الثقل الثوري جنوب غرب النصف المحاصر من المدينة، في أحياء (صلاح الدين، السكري، بستان القصر، الكلاسة، الزبدية، الأنصاري، المشهد)؛ كان هذا الثقل يتراجع باتجاه الشمال الشرقي بتفاوت اجتماعي واقتصادي وانتشار للعشوائيات، ما سهل اختراق هذه الجبهات، التي كانت هشة ولم تشهد معارك واسعة وممتدة منذ مدة طويلة، من قبل النظام، باستخدام القوة الناعمة المعتمدة على نشر العملاء والترويج للإشاعات واختراق هذه الجبهات، وتأجيلها للحظة الانهيار المناسبة التي بدأت منذ سيطرة النظام على أكبر أحياء حلب الشرقية المحاصرة (مساكن هنانو)، نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) للعام المنصرم، ثم استمرار المعركة خلال ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، مع سقوط هذه الأحياء واحدًا تلو الآخر.
عندما سقطت مساكن هنانو بيد النظام، ومع ضغطه باتجاه الصاخور لتقسيم حلب المحاصرة إلى قسمين، وبينما كان عمير يحاول امتصاص الصدمة والوقوف محل رأس الحربة، متجاوزًا الفصائل للعمل بما يسميه "المجموعات"، المكونة من بضعة شباب فاعلين واثقين ببعضهم، والتي استطاعت توجيه ضربات للنظام في جبهات عدة في حلب ولكنها أتت متأخرة، وكان قائد القوة المركزية في تجمع فاستقم كما أمرت، علاء سقار أبو الحسنين، يحاول إيجاد شباب لملء نقاط الرباط في الحي بعد انهيار التجمع، وسط حالة من الفوضى والانهيار، وسط كل ذلك كانت الفصائل تتحدث عن تسليم المناطق للأكراد كخيار أفضل، وهو ما حدث بالفعل، حيث سيطر الأكراد على هذه المناطق وسيطر النظام على الصاخور، وصارت نقاط الرباط في نهاية حي آخر الشعار، في مشهد وصفه يوسف بـ "الجنوني" لتسليم هذه المساحات دون مقاومة، ووصفه عمير بـ"الانسحاب العظيم".
وقع الانسحاب العظيم، بعد تكشف غياب الثقة لأقصاه بين الفصائل، وانكشاف عملاء في المنطقة الشرقية، وحصول خيانات مباشرة واختراقات رآها عمير بعينيه في إحدى الجبهات، مترافقة مع تكثيف للإشاعات بين المدنيين والفصائل، اشاعات اعتبر عمير أن النظام لم يكن يروج لها وحسب، لكنه هيأ لها بيئة مناسبة عبر سماحه ببقاء الإنترنت رغم الحصار والدور الذي تسبب به بالانهيار النفسي والركون إلى الخيارات الخارجية، مثل انتظار فك الحصار أو الحل السياسي أو انتظار الحافلات الخضراء، خيارات مترافقة مع انهيار نفسي للمقاتلين وآخر عسكري للجبهات بسبب الفوضى والاختراق، وغياب للثقة بين الفصائل كان يتسبب بانهيار أكثر من جبهة معًا إذا تعرضت واحدة منها للانهيار، واستخدم عمير طريقة لوصفها فأطلق عليها "تقطيع الأوصال" للنظام، الذي كان ينتقل أفقيًا من جبهة إلى أخرى باحثًا عن واحدة هشة تمكنه من تقطيع أوصال المنطقة، وحصار بقية الجبهات وانهيار كامل للأحياء، كشفت ما وصفه يوسف بـ"بالونية" الفصائل، كناية عن الفراغ الشاسع الذي يسبحون منه وفيه، وتغلغل فيهم.

بهذه الطريقة سقطت الجبهات تباعًا، فبعد سيطرة النظام على مساكن هنانو، والأكراد على الصاخور، والقرار بتكثيف الثقل في النصف الجنوبية من حلب المحاصرة، وصارت نقاط الرباط في منطقة الحلوانية في نهاية حي الشعار، ثم بدأ النظام بالضغط ليسيطر على مناطق أوسع، وسقط كرم الجبل ثم القاطرجي والميسر ومشفى العيون، فهدأت منطقة الشعار نسبيًا، كجبهة، ووصل النظام إلى مشفى العيون، وأصبح بعيدًا عن قلعة حلب ٨٠٠ متر، وصارت هناك معركة وتم استرجاع الميسر ومعظم كرم القاطرجي، ولكن في الليلة ذاتها اقتحم النظام بشدة وسيطر على الشعار والقاطرجي والميسر، وعندها ازدادت الفوضى أكثر، وصارت نقطة المواجهة على دوار المرجين في آخر الصالحين، والمعادي بحلب القديمة (مشفى عبد العزيز)، التي شهدت مقاومة كبيرة، انهارت بعد أن أغار نور الدين زنكي وأبو عمارة على جيش الإسلام وفيلق الشام، واعتقال عمر شيخ العشرة قائد فيلق الشام هناك.
بعدها بدأ الضغط من النظام ومليشياته على جبهة الشيخ سعيد والإذاعة وسيف الدولة، التي شهدت اشتباكات عنيفة وشرسة بقيادة قائد الجبهة أبو الأيهم، الذي قتل أثناء المعارك، حتى استطاع النظام الوصول لدوار الحج، واستطاع حصار من تبقى في مساحة لا تتجاوز ثلاثة كم مربع، تمثل 5% من مساحة أحياء حلب المحاصرة، في حالة كبيرة من الفوضى وانهيار لبعض الجبهات دون قتال، وحتى قبل وصول الميليشيات إليها، إلى أن تم الضغط سياسيًا من الفصائل وإعلان اتفاق إجلاء المدنيين والمسلحين في ١٣ ديسمبر (كانون الأول)، إجلاء انتهى بصعوبة في ٢٢ من الشهر نفسه، بعد عدة محاولات إفشال من أطراف مختلفة، منها إيران التي استطاعت إدخال الفوعة وكفريا إلى الاتفاق بالقوة، وجبهة فتح الشام رغم انسحاب مقاتليها في اليوم التالي من الاتفاق، بحسب تأكيدات الناشطين.
كشف الانهيار السريع لأحياء حلب عن هشاشة الفصائل وضعف التنسيق بينها وغياب المنظومة الدفاعية، في مدينة لم تكن ذات حاضنة شعبية واجتماعية كبيرة، ولم تكن معادية في الوقت نفسه، سواء من بعدها المدني العميق، الذي يقلل "العصبية" الضرورية في الأزمات، أو لأنها لم تدخل بكل ثقلها منذ تحررها من فصائل الريف الحلبي، مع حضور عبء مئات آلاف المدنيين، الذين كانوا يتسببون بضغط على المقاتلين، وأضعف العقيدة القتالية، التي دفعت بعض الجبهات لتسليمها قبل وصول النظام وحلفائه حتى، في لحظة "ما بعد داريا"، التي شهدت تعزيزًا كبيرًا لفكرة المصالحة والتسليم.
أدى ذلك لاستحضار أوهام عدة ، منها وهم "الحافلات الخضراء" كحل كبير جاهز، استغلته روسيا بالتواصل مع بعض القادة وتقديم خيار السلامة مقابل التسليم، بحسب ما يؤكد الكيلاني، ووهم "درع الفرات"، العملية التركية التي مثلت الملاذ المنتظر ومنطلق الحل السياسي قبل العسكري، بحسب ما قاله عمير، ووهم الداعم والأصدقاء، سواء كانت تركيا التي تغيرت أولوياتها بعد الاتفاق التركي الروسي الذي لم تتضح تفاصيله وإن بدت آثاره، سواء بتقسيم الفصائل ودفعها لرفض "فتح الشام"، أو لتغير الخطاب والنبرة التركية، وتحولت به تركيا من دولة داعمة وداعية لإسقاط النظام، إلى وسيط لحلول دبلوماسية وإنسانية سلمية، أو كانت دول الخليج الغارقة في أزماتها العسكرية في اليمن، والاقتصادية بعد انهيار أسعار النفط، والفاقدة للمشروع والرؤية المحلية والإقليمية؛ أوهام انهارت جميعًا تحت أنقاض حلب.
"مشكلة أخرى من الجحيم"، هكذا وصف كريستوفر هل، مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، حصار حلب على يد النظام وحلفائه ومليشياته، باستخدام القصف الجوي العشوائي المكثف، و"العقاب الجماعي" الواسع باستخدام استراتيجيتيه الثنائيتين البسيطتين والمعلنتين: "الجوع أو الركوع"، و"الأسد أو نحرق البلد"، كأسلحة حرب ليعوض عن خسائره البشرية والعسكرية، دون كثير من الجدوى، حيث فقد تدمر لصالح تنظيم الدولة بينما كان يستعيد حلب، وليحقق في الوقت نفسه مكاسبًا عسكرية وسياسية أخرى له ولحلفائه روسيا وإيران بالدرجة الأولى، متمثلة بدفع المدنيين لاستبعاد خيار الثورة، والضغط على ممثليهم السياسيين والعسكريين للتفاوض والاستسلام، وإرسال رسالة لبقية السوريين بأن خيار المقاومة سيكون غاليًا، والعبث بالجغرافيا والديمغرافيا عبر "الباصات الخضر" وعمليات التهجير المتوالية، لتثبيت الحكم في المناطق الفعالة والرئيسة سياسيًا وعسكريًا وثقافيًا.
بعد حلب، لا تملك المعارضة خيارات أكثر أو أفضل من خيارات منظمة التحرير الفلسطينية بعد خروجها من بيروت عام ١٩٨٢، والتي أدت لدخولها تمردًا داخليًا استنزافيًا. |
ومع أن النظام لم يستطع تعويض استنزافه العسكري بانتصار حلب، ورغم تضارب الصلاحيات والمصالح لدى حلفائه بشكل ملحوظ، واضطراب التنظيم لدى عشرات المليشيات التي تحاول إيران ضبطها، إلا أن سيطرته على حلب مثلت انتصارًا كبيرًا له، سيدفعه إلى الانطلاق منها نحو جبهات عدة محتملة، ضد أعداء مختلفين: شرقًا باتجاه الرقة ودير الزور ضد تنظيم الدولة، الذي يتقدم في ريف حمص الغربي بسرعة كبيرة بعد سيطرته على تدمر، في خيار مستبعد دون مقابل سياسي من الولايات المتحدة التي تشرف على عملية الرقة المتنازع عليها بين أطراف متعددة، أو انطلاقًا ضد المعارضة السورية في إدلب دخولًا من جسر الشغور، في إعادة لتطبيق آليته العسكرية بــ"تقطيع الأوصال".
حيث تم تحويل معقل إدلب إلى جيوب صغيرة، واستعادة لطريق حلب الساحل، أو في الجيوب المتبقية لها في كل من ريف حمص والغوطة، التي تمثل أقرب وآخر التهديدات لوجوده في "سوريا المفيدة" كما يطلق عليها حلفاء الأسد، مع تهميش أو تأجيل لمعركة الجنوب مع "الجبهة الجنوبية" الخافتة والصامتة منذ زمن، بتوافق ضمني مع الأردن، وتوجيه للبنادق ضد فرع تنظيم الدولة هناك: "جيش خالد بن الوليد"، رغم محاولات استعادة السيطرة على المعابر مع الأردن، وهو ما لمح لقبوله رئيس هيئة الأركان المشتركة الأردنية محمود فريحات في مقابلة مؤخرًا.
وبالمثل قد تكون الخيارات بعد حلب أكثر مدعاة للانقسام في صفوف المعارضة السورية، خصوصا بعد استنزاف الكتلة الثورية الأكبر، أمام "الكتلة الجهادية"، وارتفاع وتيرة الاستقطاب والمزايدات، خصوصًا وسط الأنباء المتتالية عن تشكيل اندماجين متباينين، "جهادي مقابل ثوري"، أو جيش فتح مقابل جيش حر، أو راية سوداء مقابل علم ثورة، يمثل استمرارًا فيما يبدو للعقلية الفصائلية، وعدم تعلم من دروس الماضي القريب والأخطاء الكبرى المتمثلة في السيطرة على المدن الكبرى وعدم القدرة على إدارتها، والاعتماد على الدعم الخارجي، وانتظار التدخل الذي لن يأتي.
هذا الدعم الخارجي لن يأتي إما من ولايات متحدة اتبعت "عقيدة أوباما" بالابتعاد عن الانخراط الخارجي، وتسير الآن بـ"ظاهرة ترامب" اليمينية التي تفضل الأمن على الحرية، والديكتاتورية على الإرهاب، أو من خليج لا يبدو أنه يدرك الخطر الاستراتيجي لعدوه المعلن إيران الذي يتوسع جغرافيًا، ويعيد التشكيل ديمغرافيًا، من طهران إلى بيروت، ولم يفعل شيئا حيال بغداد ليفعل حيال حلب، أو من تركيا التي تقاتل ثلاثة تنظيمات تصفها بالإرهابية: تنظيم الدولة، والكيان الموازي لجماعة فتح الله غولن، وحزب العمال الكردستاني، في استنزاف عسكري واقتصادي واستقطاب سياسي وعدم قدرة على التحرك سوى بالمساحة التي استطاعت عمليتها "درع الفرات" استعادتها، دفعت أنقرة من واشنطن إلى موسكو، ودفعت الفصائل خطوة للخلف عسكريا، وللأمام سياسيا، بعد وقف إطلاق النار الذي أعلن مع إجلاء السكان من حلب، تمهيدا لمفاوضات سياسية غامضة، لا تملك فيها المعارضة كثيرًا من الخيارات.
عندما عاد يوسف سريعًا إلى منزله في بستان القصر وطلب من زوجته الناشطة "لينا الشامي" أن تلملم الأغراض سريعًا لاقتراب جيش الأسد وتمهيدًا للانسحاب، شدّت لينا على يده ونظرت في عينيه قائلة له: "لا تتخلى عن بارودتك. وهذه قضيتنا التي نقاتل لأجلها، وسنموت في سبيلها"، في رد كصدى صوت لرصاص عمير الذي يرى بأن الحل هو: "ابحث عن أرض تروق لك ولو مترًا بمتر ودافع عنها حتى الموت"، ومؤمنين كزوجين بأن العمل العسكري، بعد إعادة تنظيمه، هو العصب الثوري والأساس الوحيد لأي حل سياسي، إن حدث.