كيف أصبحت إيران دولة المليشيات الأولى؟
أجهش الجمع بالبكاء، وضرب بعضهم صدره بيديه على الطريقة الشيعية مستمعين لبعض كلمات الرثاء من المرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي، وملتفين حول جثة ملفوفة بالعلم الإيراني هي جثة الجنرال حسن شاطري الآتية من سوريا رأسا بعد أن نالتها ضربة جوية مجهولة المصدر قيل إنها إسرائيلية -على الأرجح- على الطريق بين دمشق وبيروت.
وسط صفوف المصلين جلس الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس المعروف التابع للحرس الثوري مبتعدا عن الصف الأول كما هي عادته في الابتعاد نسبيا عن الأضواء، ثم وضع رأسه بين كفيه وشرع في البكاء، ليس فقط على زميل مرموق من فيلق القدس ومن رجال الحرس الثوري، ولكن على صديق قديم عرفه أثناء الحرب العراقية الإيرانية قبل نحو ربع قرن.
لعل الحرب السورية هي أكثر حرب أحزنت سليماني وأغضبته في آن بعد الحرب مع العراق في الثمانينيات، والرجل ليس غاضبا من أعدائه في المعركة الذين يتراوحون بين إسرائيل والسعودية وحتى فصائل الثورة السورية وتنظيم الدولة الإسلامية المعروف إعلاميا بـ"داعش"، ولكنه غاضب في الحقيقة من بشار الأسد وجيشه النظامي الضعيف، والذي يذكره بالهزيمة المبكرة في أولى معارك القوات المسلحة الإيرانية مع العراق قبل عقود.
"الجيش السوري عديم الفائدة، فقط أعطاني كتيبة واحدة من الباسيج وسأجتاح البلد كلها".. هكذا قال سليماني ذات مرة لأحد السياسيين العراقيين، معبرا عن حنينه للباسيج، المليشيات الإيرانية التابعة للحرس الثوري داخل البلاد، والتي سحقت بنجاح الاحتجاجات الواسعة ضد النظام الإسلامي في إيران عام 2009 تماما كما فعلت في نهاية التسعينيات حين تنامى الحراك الإصلاحي في إيران ضد قبضة المحافظين.
يكره سليماني إذاً الحرب السورية، لأنها تذكره بالحرب العراقية من حيث تعداد المقتولين فيها من رجاله وأصدقائه، ولأنها تثبت له مجددا ما يؤمن به من أن الجيوش النظامية بلا قيمة في هذه المنطقة من العالم، لا في الحروب المعتادة بين الدول الثقيلة وبعضها البعض كما حدث بين النظام الإسلامي في إيران ونظام صدام في العراق قبل أكثر من ربع قرن، ولا في الحروب والمعارك الداخلية التي يحاول عن طريقها نظام ما بسط سيطرته على كامل أراضيه كما يفعل نظام الأسد اليوم.
ليست مفاجأة بالطبع ألا يكنّ رجل كسليماني أي احترام لتقاليد العسكرية الحديثة وانضباطها العقلاني، فهو ليس فقط ابن الحرس الثوري، بل ولا يمتلك أي تعليم جامعي، على العكس من بعض جنرالات الحرس نفسه، فهو ابن أسرة متعسرة الحال من فلاحي محافظة كرمان، تلقى علوم الدين من علماء الشيعة الموجودين في قريته، ولم يُعرف عنه سوى اهتمامه بقوته البدنية في ساحات ممارسة الرياضة قبل أن ينضم للثورة وحرسها عام 1979، وترقى سريعا حتى وصل لقيادة فيلق القدس المرموق عام 1998 وبرتبة لواء (1)، وهو ما يستحيل تخيل وصوله له بتلك الخلفية الحياتية المتواضعة في المعايير المعتادة بأي منظومة عسكرية حديثة.
على العكس من تجربة محمد علي في مصر وتجربة النظام الجديد العثمانية لم تشهد إيران محاولات تحديث عسكري جذرية وناجحة في القرن الـ19، كما افتقد الفكر الشيعي كذلك في تلك الفترة نفس درجة الاهتمام السني بأساليب التحديث التقني والمؤسسي القادمة من أوروبا، في انعكاس ربما لاستقلالية القاعدة الاقتصادية الاجتماعية لعلماء الشيعة عن أي دولة أخرى، وارتباطها أكثر بقواعدها الشعبية مقارنة بعلماء السنة، وبالتالي عدم حاجتها للقلق من مآلات تراجع الدول الإسلامية أيا كانت، على عكس السنة الذين امتلكوا تقليدا سياسيا طويلا، وشكل صعود الغرب هاجسا واضحا بالنسبة لهم.
افتقدت إيران أيضا نفس الاستمرارية الحضارية التي حفظت بعضا من المؤسسات المدنية في مصر وتركيا نتيجة غزو المغول الكارثي عليها الذي دمر بشكل شبه كامل الحياة المدنية الإيرانية المحتضنة سابقا للمذهب السني بمؤسساته السياسية والتعليمية، ليترك المغول في النهاية مسرحا سياسيا وعسكريا شديد القبلية كان مناسبا أكثر للطرق الصوفية المغالية، وكانت إحداها الطريقة الصفوية المتشيعة قبل سيطرتها على كافة أنحاء إيران عبر مجموعة من العصابات المسلحة "قزل باش"، وهو أمر أدى لتشيع إيران بسهولة.
في معظم الفترة بين عامي 1501 و1925 خضعت إيران لفوضى التناحر بين مختلف قيادات القبائل في الداخل، وللغارات المستمرة من قبائل الأفغان والأوزبك القادمة من الشرق، علاوة على هجمات متكررة من الروس في الشمال، والعثمانيين في الغرب، وقوة البريطانيين الصاعدة في الهند، فوضى عارمة انتهت بتبلور خمس قوى عسكرية إيرانية مختلفة في القرن الـ19، أولاها قوات القبائل المتفرقة جغرافيا، ثم حرس النظام المكون من قوات هشة اقتصر عملها على دعم الشاه "القاجاري" داخل القصر، و"الجندرمة" الأشبه بالمليشيا التي دربها السويديون والألمان، ولواء "القوزاق" الذي دربه الروس، وأخيرا شرطة الجنوب التي دربها البريطانيون وتمركزت في جنوب إيران (2).
خرج مؤسس حكم الأسرة البهلوية رضا خان من صفوف القوزاق الروسي الأقوى، ونجح في دمج الجندرمة تحت لوائه، ثم القضاء على حرس النظام، وإقصاء شرطة الجنوب، وأخيرا تقويض قوات القبائل عن طريق تحديث شبكات الطرق الإيرانية، والتي سهلت مهمة الوصول للمناطق النائية، ثم تأسيس قوات جوية حديثة باتت معها مهمة عبور الجغرافيا الإيرانية الوعرة مسألة يسيرة، بيد أن انحياز رضا خان البسيط إلى الألمان في الحرب العالمية أدى لاجتياح بريطاني روسي مشترك قضى على تجربته القصيرة، وجلب ابنه الضعيف مكانه تحت وصاية غربية.
ورث محمد رضا مركزية عسكرية نسبية من حكم والده، لكنه بسط سيطرته في النهاية عبر تأسيس دولة بوليسية دانت له بالولاء لا عبر نظام عسكري كلاسيكي، ومع الفساد السياسي والمالي الذي عززته عوائد النفط نمت الاحتجاجات الشعبية ضده مدعومة بمشاعر دينية ساءتها السياسات العلمانية للنظام لينتهي حكمه بثورة "إسلامية" قادها بسهولة ملالي الشيعة الذين فشلت دولته في الهيمنة عليهم، على العكس من سيطرة أتاتورك السهلة على المؤسسات الدينية السنية الموروثة عن الفترة العثمانية بمركزيتها، ثورة أعلن فيها الجيش الإيراني الحياد، وشهد بعدها تهميشه لصالح قوى الثورة العسكرية التي كسرت احتكاره الفعلي للقوة المسلحة بعد خمسة عقود فقط من تحقيقها.
كان الحرس الثوري الذي هيمنت على صفوفه شرائح اجتماعية بسيطة وأكثر تدينا هو البطل بلا منازع بعد نهاية الحرب مع العراق، ولولاه لما استعادت إيران ما احتله العراق مطلع الثمانينيات، وهي بطولة اشتملت أيضا على تضحيات مليشيا الباسيج الضخمة التي غلب عليها المتطوعون من الريف، وعادة ما استخدموا في هجمات الموجات البشرية كما تعرف ومات معظمهم (3)، والذين عززت تضحياتهم سرديات النظام الشيعي "الكربلائية" إن جاز التعبير.
منذ ذلك الوقت لم تختلف كثيرا مهام الجيش الإيراني أو "الأرتش" كما يعرف، فرغم الأعداد الكبيرة لجنوده فإنه مهمش جغرافيا بتمركزه خارج المدن الكبرى في مقابل إيكال مهام ضبط الأمن في الداخل لمليشيا الباسيج البالغ قوامها على الأقل مليون مقاتل يحصل بعضهم على حوافز مادية، كما أن الجيش مهمش سياسيا أيضا نتيجة التواجد الثقيل للحرس الثوري كجيش موازٍ فعليا يمتلك قوات المشاة والبحرية والجو الخاصة به، ويشرف على نظام إيران الصاروخي، بل ويمنع التواصل المباشر بين قيادة الجيش والمرشد الأعلى قبل المرور عبر مقر قيادة القوات المسلحة التابع فعليا للحرس الثوري، والذي يقر ويمنع خطط تسليح وعمليات الجيش. (4).
العقيدة العسكرية الشيعية الجديدة ترسخت جزئيا لدى القوى السياسية الممثلة لشيعة العراق ولبنان الأقرب مذهبيا لإيران نتيجة ثقلها وتأثيرها بينهم، ولا سيما بعد الثورة الإسلامية بدعمها السياسي والمالي |
هي عقيدة عسكرية وأمنية شاملة في الحقيقة استخلصها مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران الخميني من تاريخها وصبغها بثقافته المذهبية، فالرجل لم يثق يوما بالجيش وولائه لأي فكرة دينية رغم ما أتيحت له من صلاحيات لـ"تطهيره"، موقنا أن الانضباط العقلاني المطلوب لتأسيس قوات عسكرية حديثة ونظامية سيفرض نفسه مع الوقت، ويخلق فجوة واسعة بين ثقافة الضباط وثقافة الملالي الشيعية، ويؤدي حتما إلى انقلاب عسكري في المستقبل يعيد اليد العليا سياسيا للطبقات الوسطى ذات التوجه المدني سياسيا.
لعل الخميني وأنصاره من الشيعة قد استبطنوا -بشكل غير واعٍ أيضا- الشكوك الشيعية المعتادة تجاه فكرة السلطة المؤسسية بمعناها المدني كما عرفها السنة على مدار تاريخهم، فاستحضروا الروح العسكرية القبلية الصفوية التي أتاحت تشييع إيران رغم الاختلاف الواسع بينهم وبين هرطقات الصفويين الذين لم يتشربوا أبدا الثقافة الشيعية من أئمة المذهب المعتبرين، وهي روح عسكرية لم تنبع فقط من ثقافتهم الشيعية -بل ومن ثقافتهم الفارسية أيضا- المشكلة من قرون طويلة من فوضى قبائل المغول والأتراك بمختلف مذاهبهم.
اتجه الخميني إذاً منذ وقت مبكر إلى رعاية فكرة الحرس الثوري، ولا سيما أن العقوبات المتتالية على النظام الإيراني أدت لتجفيف منابع تسليح الجيش التقليدي، فدفعت الملالي في طهران إلى التركيز على القوات غير النظامية، ورعاية شبكات من المليشيات خارج حدود إيران تستطيع الرد على أعدائها بضرب أهداف مختلفة تابعة لهم، وهي عقيدة وصلت ذروتها عام 2007 حين أعيد تعريف مهام الأرتش والحرس الثوري، وتم إيكال مهمة حماية الخليج الفارسي وخليج عمان وبحر قزوين بالكامل للقوات البحرية التابعة للحرس الثوري فقط بعد أن كان يتقاسمها مع الأرتش، في حين عهد للأرتش بمسؤولية تمثيل القوة الإيرانية في حدود أضيق (5)، في توسيع غير متوقع للثقافة العسكرية غير النظامية حتى في البحر.
على صعيد آخر، يمكننا القول إن تلك العقيدة العسكرية الشيعية الجديدة ترسخت جزئيا لدى القوى السياسية الممثلة لشيعة العراق ولبنان الأقرب مذهبيا لإيران نتيجة ثقلها وتأثيرها بينهم، ولا سيما بعد الثورة الإسلامية بدعمها السياسي والمالي، وهو ما يخلق بالتبعية حزاما من التحالفات الشيعية يقف فيه نظام الأسد العلوي حالة استثنائية هشة تضمن استمراريتها فعليا مليشيات إيران لا جيشه التقليدي، وهو ما يجعله الحلقة الأضعف بغياب ظهير اجتماعي شيعي فعلي في جنوب سوريا يشكل حاضنة للقوات الشيعية الموجودة هناك الآن.
ليس غريبا إذاً أن يقرر سليماني قيادة المعركة في سوريا بنفسه، على العكس من الثقة التي يضعها في حلفائه بجنوب لبنان وجنوب العراق، وأن يرسل أعز أصدقائه من جنرالات الحرس الثوري إلى هناك، بيد أن شغل الحرس الثوري لتلك الفجوة العسكرية مرحليا لا يجيب حتى الآن عن الفجوة الديمغرافية بعيدة المدى في سوريا، بل يشي لنا بأبرز نقطة ضعف في المشروع الإيراني الحالي رغم صلابته العسكرية، وهي عدم قدرته على التمدد خارج نطاق التكتلات الشيعية، ولا يشمل مصطلح "تكتلات شيعية" إلا الإثني عشرية فقط حتى الآن، علاوة على عداوة المحيط غير الشيعي التي يجلبها ذلك التوسع، وهو ما ينعكس في الفرق الشاسع بين شعبية إيران في العالم العربي قبل وبعد الثورة السورية.
في أعقاب محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا الصيف الماضي عكفت الحكومة التركية على إستراتيجية جديدة لنقل مواقع ثقل القوات المسلحة خارج المراكز الحضرية، في محاولة لقطع الطريق على إمكانية تحركها بسهولة إلى قلب المدن والتجمعات السكانية الكبرى ومن ثم بسط سيطرتها، وهي إستراتيجية تضمنت تسليح الشرطة بشكل أوسع وبأسلحة أثقل، لتستمر قدرة النظام على حفظ الأمن العام.
انهالت الانتقادات على تلك الإستراتيجية الفريدة، واعتبرتها نوعا من تقويض المنظومة الحديثة التي تأسست عليها تركيا لأكثر من تسعة عقود، بيد أنه بالنظر إلى التجربة الإيرانية السابقة لا يبدو أن ذلك المنهج لتحييد القوات المسلحة واحتكارها القوة العسكرية منهجا فريدا، مع الفارق أن النظام الإسلامي في إيران امتلك هامشا واسعا بحكم انتصار ثورته لترسيخ البديل الذي يريد في صورة مليشيات شيعية، في حين لم يجد النظام التركي الإصلاحي المحافظ سوى المناورة باستخدام مؤسسة تقليدية أخرى منتمية لنفس المنظومة الحديثة، ولكنها تتسم بالولاء للنظام أكثر من القوات المسلحة.
هل من علاقة إذاً بين العقلانية والانضباط الحديثين اللذين تأسست عليهما فكرة القوات النظامية وتنافرهما مع ظهور نظم سياسية أكثر تعبيرا عن التوجهات التقليدية الدينية غير العقلانية لدى الشرائح الاجتماعية الغالبة في الشرق الأوسط، وهي توجهات تبرز غالبا عبر ثورات أو تحولات ديمقراطية؟ وهل يمكن أن تؤدي السياسات التركية الجديدة إلى ظهور نموذج جديد أكثر "مدنية" للاشتباك باحتكار الجيش للقوة العسكرية مغاير للنموذج الإيراني الذي اتجه بوضوح للقبلية العسكرية العقائدية والطائفية؟ وهل يمكن لذلك النموذج على المستوى الإقليمي أن يقف لصلابة المليشيات الأيديولوجية المدعومة إيرانيا؟ للحديث بقية.