لماذا تخاف فرنسا من الربِّ إلى هذا الحدِّ؟
ثمة حرب تخوضها باريس اليوم ضد كل مظاهر التدين الإسلامي، لكن أزمة فرنسا مع الدين ليست وليدة اليوم، بل هي متجذرة بعمق في تاريخها.
ما القوى التي تُحكِم وثاق الديمقراطية الليبرالية؟ وما القوى التي تنقُض عُراها؟ كانت تلك بعض الأسئلة التي خطرت ببالي وأنا أستمع في وقت سابق من العام الماضي (2021) إلى وزير التعليم الفرنسي "جيان-ميشِل بلانكيه" وهو يدافع عن مقترح لقانون عُرِض على الشعب الفرنسي.
كان المكان مهيبا، إنه مجلس الشيوخ الفرنسي الذي يُضاهي دار الأوبرا في رونقه. ولم يكُن مقترح القانون قيد النقاش أقل مهابة، أو على الأقل عنوانه، وهو "مبادئ الجمهورية ومكافحة الانفصالية". تحدَّث "بلانكيه" تحت ناظرَيْ "جيان-بابتيست كولبير"، مهندس فرنسا الحديثة في طورها الأول الذي وقف تمثاله المصنوع من الرخام أسفل القُبة من خلف "بلانكيه"، حيث بدت بوضوح صلعة "بلانكيه" على خلفية شعر "كولبير" الطويل والمجعَّد. الآن، وبعد اعتمادها قانونا، أصبحت مكافحة الانفصالية أحدث فصول الحرب الطويلة بين الدولة الفرنسية والدين المنظَّم. وقد صُمِّمَ القانون بدفعة من إدارة الرئيس "إيمانويل ماكرون" لكي تحوز فكرة "اللائكية" ثقلا رسميا أكبر، وهو مصطلح يُترجم إلى العلمانية بمعناها الواسع، لكنه مُعقَّد ومشحون سياسيا أكثر بكثير.

يعرف الجميع ثلاثية "الحرية والمساواة والإخاء"، (الشعار الشهير للثورة الفرنسية)*، بيد أن "اللائكية" هي التي ترسم خطوط المعركة الضروس الأشد في فرنسا المُعاصرة، إذ بات المصطلح تعبيرا عن إصرار فرنسي فريد من نوعه على أن الدين يجب أن يختفي من المجال العام، وبالمثل الرموز والملابس الدينية. لم يقتفِ أيُّ بلد أوروبي آخر ذلك المسار، أما الكلمة نفسها فتعود إلى الكلمة اليونانية التي تعني "الشعب" (Laity) بوصفِه ضدا لنخبة الكهنة. وليست اللائكية نظيرا لحرية الدين (التي يكفلها الدستور الفرنسي بالفعل)، بل إن ما تعنيه هو التحرُّر من الدين. وفي وقت تُواصِل فيه الهجمات الإرهابية ذات الوازع الديني ترهيب فرنسا، فإن اللائكية قد تعقَّدت خيوطها مع أسئلة الهوية الوطنية والأمن القومي.
مَثَّل القانون الذي ناقشه "بلانكيه" في مجلس الشيوخ الفرنسي حينئذ مناورة سياسية متعدِّدة الجبهات، ومثالا كلاسيكيا على إقحام الأطراف الثالثة في المعارك السياسية من جانب "ماكرون"، سياسي "الوسط" الذي أسَّس حزبا سياسيا جديدا وما انفك يسعى نحو جذب أصوات الناخبين من يمين الطيف السياسي لصالحه. أولا، أتى القانون جزءا من جهود فرنسا لمكافحة الأصولية الإسلامية بعد سنوات من العُنف، وثانيا، شَكَّل ضمنيا دفعة ضد تركيا، أبرز داعمي الإخوان المسلمين في مصر، وهي الجماعة صاحبة النفوذ في بعض المساجد الفرنسية. وأخيرا، بسبب استناد القانون إلى الفكر الشامخ لـ"مبادئ الجمهورية"، فإنه يُعَدُّ وسيلة لقطع أنفاس اليمين واليمين المتطرِّف قبيل الانتخابات الوطنية المنتظرة الربيعَ القادم، حيث يُرجَّح أن يواجه "ماكرون" مجددا "مارين لو بِن" وحزبها "المسيرة الوطنية"، الذي يقتات على الخوف من المهاجرين والإسلام في بلد تبلغ نسبة مسلميه 8% من التعداد السكاني.
في سبتمبر/أيلول الماضي، مثلت شبكة من الجهاديين أمام المحكمة بتُهمة الضلوع في هجمات باريس عام 2015، التي خلَّفت 130 قتيلا منهم 90 لقوا حتفهم داخل قاعة حفلات "بَتَكْلان"، وقد وقعت الهجمات بعد أشهر معدودة من قيام "إرهابيين إسلاميين" بذبح عاملين بمجلة "شارلي إبدو" الساخرة. بالنسبة إلى أولئك الذين عاشوا تلك الأوقات المروِّعة في العاصمة مثلي، فقد أعادت المحاكمة إلى الأذهان ذكريات كئيبة، وهي أكبر محاكمة في تاريخ فرنسا، إذ تقدَّم فيها أكثر من ألف مُدعٍ عام، ومن المتوقَّع أن تستمر تسعة أشهر.
