ميدان يحاور المستشرق الألماني "باترك فرانكي".. الإسلام على صفحات ويكيبيديا الألمانية

ميدان يحاور المستشرق الألماني "باترك فرانكي".. الإسلام على صفحات ويكيبيديا الألمانية

حسنا، لنعرفكم مباشرة بضيفنا اليوم؛ البروفيسور "باترك فرانكي"، أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية بجامعة "بامبرج" في ألمانيا، دَرَس الإسلام والدراسات السامية ومقارنة الأديان في جامعة "بُون" الألمانية، ودرَّس في جامعات "هَالة" و"هامبُرغ" و"يِنا" الألمانية، ثم تولى كرسي الدراسات الإسلامية في جامعة بامبرج. وتتركز أبحاثه حول الفكر الإسلامي في العصر الحديث، والتاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري لمدينة مكة، والأخلاق الجنسية في الإسلام، والفكر الشيعي الحديث، كما أن له مساحة اهتمام خاصة بالإسلام في جنوب شرق آسيا.

 

للبروفيسور فرانكي العديد من المقالات البحثية والمؤلفات المطبوعة، وكان من أوائل مَن اتجه إلى تحويل الدراسات الإسلامية إلى الرقمنة (Digitalisierung) في ألمانيا، فقد أصدر مرجعا رقميا بعنوان "المدخل البامبرغي لتاريخ الإسلام" (BEGI) مُقسَّما إلى أربعة عشر فصلا، ويُستخدم مرجعا إلكترونيا مفتوحا لتدريس الإسلام بالألمانية. كما أولى البروفيسور فرانكي إثراء المحتوى الخاص بالإسلام إلكترونيا عناية كبيرة، فأسس "موسوعة بامبرج للإسلام"، وهي موسوعة إلكترونية على الترتيب الأبجدي، وتُنشَر موادها بالتعاون مع ويكيبيديا الألمانية، وهي بمنزلة المرجع الأكاديمي الأول لويكيبيديا الألمانية فيما يختص بالإسلام وموضوعاته. وتهدف الموسوعة إلى إثراء المعلومات الصحيحة حول الإسلام باللغة الألمانية، وتتميز بالدقة حتى فاقت بعض موادها مواد النسخة العربية والإنجليزية من ويكيبيديا.

البروفيسور "باترك فرانكي"، أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية بجامعة "بامبرج" في ألمانيا
البروفيسور "باترك فرانكي" أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية بجامعة "بامبرج" في ألمانيا

في السطور القادمة، حاورنا الدكتور باترك فرانكي حول الأسباب التي دفعته إلى التخصص في دراسة الإسلام، وأسرار تركيز مشاريعه على الفضاء الإلكتروني والمصادر المفتوحة، ورأيه في الاستشراق الألماني، وغيرها من الموضوعات المهمة.

 

  • لماذا الرقمنة؟ بصيغة أخرى، ما الذي دفعكم في السنين الأخيرة إلى أن تنصب مشاريعكم على الفضاء الإلكتروني والمصادر المفتوحة (Open Source)؟ ولماذا ارتبطت مشروعاتكم بويكيبيديا الألمانية وثمة مقالات فيها تحوي معلومات رصينة حول موضوعات إسلامية مختلفة؟ هل هناك خطة مُتبعة في إثراء المحتوى الإسلامي بالألمانية، أم أن المواد المختارة متعلقة بصورة أساسية باهتماماتكم البحثية؟

بالطبع لستُ الباحث الوحيد النشط في الفضاء الرقمي للدراسات الإسلامية، ويمكننا القول في زماننا المعاصر إن كل الباحثين يستخدمون الفضاء الرقمي بصورة أو بأخرى، سواء عند نشر بحوثهم إلكترونيا، أو عند صيانتهم لقواعد البيانات والبحث الرقمية، أو حال وجودهم في وسائل التواصل الاجتماعي. لكن المميز في مشروعي أنني استخدم "ويكيبيديا الألمانية" مكانا للنشر، وهو ما يُمكِّنني من الوصول إلى عدد كبير من القُراء، الذين يرون بدورهم في ويكيبيديا مقالات بحثية مختلفة عن المألوف، ودون تسطيح في المحتوى المُقدم.

 

ويهدف مشروعنا "موسوعة بامبرج للإسلام" (Bamberger Islam-Enzyklopädie) إلى تغطية جميع الموضوعات المرتبطة بالإسلام على ويكيبيديا الألمانية، وذلك سواء بتطوير المقالات الموجودة بالفعل، أو بإضافة مقالات جديدة. لكن هذا الأمر يستغرق بالطبع وقتا طويلا، فهناك أكثر من 7500 مقالة مرتبطة بالإسلام موجودة بالفعل في النسخة الألمانية من ويكيبيديا، لكنها مواد تحتاج إلى مزيد تحرير وعناية. وأَهدِف من مشروعي هذا أيضا إلى توسيع نطاق الموسوعة بإضافة مقالات جديدة، أحاول فيها أن أعرض نتائج أبحاثي الخاصة، ومثل هذه المقالات تكون أطول من المعتاد في مواد ويكيبيديا.

صورة من مقال للبروفيسور فرانكي من موسوعة بامبرج الإسلامية منشور على ويكبييديا الألمانية، وهو مقال يتناول سيرة الإمام السيوطي رحمه الله.
صورة من مقال للبروفيسور فرانكي من موسوعة بامبرج الإسلامية منشور على ويكبييديا الألمانية، وهو مقال يتناول سيرة الإمام السيوطي رحمه الله.
(مواقع التواصل الاجتماعي)

 

  • غريب على أذهان المشارقة أن يتخيلوا شابا أوروبيا يتجه إلى دراسة الإسلام ويتخصص فيه، فحدثنا عنك. ما الذي دفعك إلى التخصص في الإسلام رغم اختلاف الثقافة الأوروبية عن الإسلامية وبُعد المسافة الجغرافية؟

كان الدافع لي هو الفضول المحض، فمنذ سن المدرسة تنامى لدي الشغف بالشرق، كنت مولعا جدا باللغات، وتعلمت حينها العبرية والعربية، وقمت في تلك السن أيضا بعدد من الرحلات بدراجتي بين البلدان الأوروبية. ثم بعد المرحلة الثانوية، انطلقت بدراجتي في جولة إلى المشرق، وقد استغرقت مدتها 3 أشهر، مررت خلالها بتركيا وسوريا والأردن. تعرُّفي على عدد من بلدان الشرق المختلفة في هذه الجولة أيقظ في داخلي الرغبة في إتقان لغات هذه البلاد بصورة أفضل، ومن هنا قررت دراسة الاستشراق. في البداية لم أكن متحمسا لدراسة الإسلام باعتباره دينًا، ولكن تنامى اهتمامي بالإسلام لاحقا، وسبب ذلك يعود إلى أنني درست لمدة عام في سوريا، وعرفت حينها أكثر عن المذاهب والجماعات الإسلامية المختلفة، فتطلَّعت إلى دراسة أسباب الخلاف فيما بينها.

 

  • هل لك أن تُحدثنا عن أهم النقاط البحثية التي تهتم بها في دراستك للإسلام؟

أعمل في أبحاثي على مجالات شديدة التباين. ففي رسالتي للدكتوراه درست شخصية "الخِضْر" عليه السلام، وبحثت أثرها الرمزي على مختلف التيارات والمذاهب الإسلامية، وفي مختلف الأزمان أيضا. ولإتمام هذه المهمة، طالعت جميع الوثائق المتصلة بالخِضْر في شتى أنحاء العالم الإسلامي، من الأندلس غربا إلى آسيا الوسطى والهند شرقا. وتبيَّنت أن الأفكار حول الخضر واسعة جدا وخلافية للغاية بين التيارات الإسلامية المختلفة، ووقتها أطلق عليَّ مشرفي الأول للدكتوراه مُمازحا لقب "مؤسس علم الاستخضار". في أعمال أخرى، ركزت على تاريخ مكة على رأس الألف الثانية من الهجرة. أما الآن، فأُعِدُّ دراسة مستفيضة عن تاريخ علم الكلام. ويمكنني القول إن أبحاثي في المجمل تتمحور حول تاريخ الأفكار والمفاهيم الإسلامية.

 

  • ما أهم المشاريع البحثية التي تعمل عليها في السنين القادمة؟

بصورة أساسية، من المهم بالنسبة إليَّ أن أواصل تحديث وتعديل "المدخل البامبرجي لتاريخ الإسلام" (BEGI). والمميز في هذا المدخل أنه يُنشَر على منصة ويكي الجامعة، وهي أحد المشاريع المنبثقة من ويكيبيديا وتقبل التعديلات باستمرار على عكس الكتاب المطبوع. وتُتيح لي هذه الميزة تحديث محتوى المدخل كل عام بحسب معارفي الجديدة، وهو ما يُمكِّنني من التفاعل مع المجريات الجديدة وإضافتها للمدخل، فأُضيف مثلا التصريحات الجديدة للمنظمات الإسلامية، وهكذا.

 

فيما عدا ذلك، يكون تركيزي البحثي على موضوعات مختلفة سواء التاريخية أو الراهنة. بيد أن الموضوع الوحيد الذي أود الاستمرار في العمل عليه بشكل مكثف هو التاريخ الفكري والاجتماعي لمكة. ولا يخفى أن هذه المدينة التي تُمثِّل المحور الديني الفعلي للعالم الإسلامي قد تعرضت في العقود الأخيرة إلى تغير جذري في مظهرها، ولهذا السبب بالضبط من المهم أن يُحفَظ إرثها الثقافي من خلال النصوص المحفوظة المتصلة بها.

 

  • يعلم العرب أن الاستشراق الألماني كان له جهود كبيرة في السابق، لكن المراقب يجد أن هذه الجهود تلاشت الآن ولم تعد كسابق عهدها، فهل تتفق أولا؟ وإن كان نعم، فما أسباب ذلك؟

الحقيقة أنني لا أرى ذلك. وأرى أن سبب هذا الانطباع عن الاستشراق الألماني هو أن الإسهامات البحثية عادة ما يُدركها الجمهور بعد وقت متأخر نسبيا. وحتى اليوم يُسهِم الباحثون الألمان بإسهامات بحثية مهمة، فلا يمكننا مثلا أن ننسى المجلدات الستة في العلاقة بين علم الكلام والمجتمع في الإسلام المُبكِّر التي قام بها "يوسف فان إس" (Josef van Ess) الذي وافته المنية العام الماضي. ولا يمكننا أن نُغفل أيضا المجلدات الكثيرة التي قدمتها "أنجليكا نويفرت" (Angelika Neuwirth) في تفسير السور المكية في القرآن. وقبل بضع سنوات فقط قدَّم "توماس باور" (Thomas Bauer) تفسيرا جديدا وابتكاريا للتاريخ الإسلامي في كتابه "ثقافة الالتباس". أما "غريغور شولر" (Gregor Schoeler) و"أندرياس جورك" (Andreas Görke) فقد طوَّرا في السنوات الماضية مناهج جديدة في البحث في السيرة والحديث، بل إن عددا من كبار الباحثين في الدراسات الإسلامية في أميركا هم من نتاج مدرسة الاستشراق الألماني، مثل "زابينه شميتكه" (Sabine Schmidtke) في برينستون، و"فرانك جريفل" (Frank Griffel) في جامعة ييل.

 

  • هل تتفق مع السردية القائلة إن الاستشراق الألماني كان أكثر إنصافا من غيره لأنه لم يتورط في استعمار العالم الإسلامي مثل الاستشراق البريطاني والفرنسي، أم أنك تنظر إلى الاستشراق وتُقيِّمه من منظور آخر؟

منذ نشأة الاستشراق الألماني وهو ذو منزع فيلولوجي قوي (الفيلولوجيا علم دراسة اللغة)*، وذلك خلافا للاستشراق البريطاني والفرنسي. لذا، فإن هذه السردية ليست خاطئة بالكلية، لكن هذا التركيز الألماني على الفيلولوجيا نتج مصادفة، بعدما فشلت محاولات ألمانيا في تشييد إمبراطورية استعمارية. وعلينا هنا ألا ننسى أن أول كرسي للدراسات الإسلامية (Islamwissenschaft) بالمعنى المعروف اليوم أُنشئ في معهد الدراسات الاستعمارية في هامبُرج عام 1908. وهذا يعني أنه كانت هناك رغبة ألمانية -من حيث المبدأ- في أن يُستخدم الاستشراق من أجل الاستعمار، ولكن بعد الحرب العالمية الأولى كان على ألمانيا التخلي عن تطلُّعاتها الاستعمارية، ومن ثمَّ عاد الاستشراق الألماني إلى الاقتصار على الأعمال الفيلولوجية.

 

  • وإلى أي مدى تتفق مع أطروحة "إدوارد سعيد" في نقده للاستشراق؟
"إدوارد سعيد"
إدوارد سعيد (مواقع التواصل)

أطروحة إدوارد سعيد، القائلة إن الخطاب الاستشراقي المجتمعي في صوره النمطية قدَّم في الماضي تبريرا أيديولوجيا للاستعمار، هي أطروحة صحيحة جزئيا بالتأكيد. لكن سيكون من الخطأ أن نستنتج من هذا أن الدراسات الاستشراقية العلمية اليوم تروِّج لصور نمطية سلبية عن الشرق أو الإسلام، أو أنها خطاب سلطوي بحسب مفهوم المفكر الفرنسي "ميشيل فوكو" للسلطة، بل إن عامة مستشرقي اليوم يتعاملون بشكل نقدي للغاية مع الصور النمطية السلبية التي انتشرت مجتمعيا عن الشرق، ويحاولون عوضا عن ذلك رسم صورة متمايزة قدر الإمكان للأوضاع في هذه المنطقة، ولا يتغاضون عن الدور السلبي الذي لعبه الاستعمار الأوروبي وسبَّب ظهور العديد من الإشكالات الاجتماعية والسياسية في الشرق.

 

  • يُدرس الإسلام الآن في ألمانيا في عدة تخصصات مختلفة، فهناك أقسام الدراسات الإسلامية (Islamwissenschaft)، وهناك أقسام الشريعة (Islamische Theologie)، وهناك برامج دراسات الشرق الأوسط (Nahoststudien)، فكيف يُدرس الإسلام في كل قسم من هذه الأقسام؟

برامج دراسات الشرق الأدنى/الشرق الأوسط في ألمانيا (Nahoststudien) ليس لها صلة كبيرة بالإسلام بوصفه دينًا، فهي دراسات مناطقية محضة. أما برامج الدراسات الإسلامية الثقافية (Islamwissenschaft)، ورغم أن لها صلة بالإسلام، فإنها لا تختص في غالب الجامعات الألمانية بالإسلام وعلومه، وإنما هي تخصص مَعنيٌّ بدراسة العالم الإسلامي والحضارة الإسلامية، وهذا بالتركيز على منطقة الشرق الأوسط، مع عدم الالتفات إلى المناطق الأخرى من العالم الإسلامي. وهذا التخصص يقابل إلى حدٍّ كبير ما يُعرف بـ"دراسات الشرق الأوسط" في المؤسسات الأكاديمية الناطقة بالإنجليزية (الأنجلو-أميركية) (Middle Eastern Studies). وفي عدد قليل فقط من الجامعات الألمانية، مثل جامعتَيْ "بامبرج" و"إيرفورت"، يختلف الوضع، حيث تركز فيها الدراسات الإسلامية على الإسلام بوصفه دينًا وليس مجرد ثقافة.

 

أما برامج الدراسات الشرعية (Islamische Theologie) أو الإلهيات الإسلامية، فإنها لم تنشأ إلا حديثا في الجامعات الألمانية، وهذا بهدف القضاء على التفاوت الاجتماعي. فمثلما أُتيح للكنائس المسيحية في الجامعات الألمانية عبر كليات اللاهوت، كان المقصود من إنشاء هذه البرامج أن يتلقى المسلمون المقيمون في ألمانيا القدر نفسه من التمثيل الأكاديمي، ويؤدي ذلك إلى دمجهم في المجتمع الألماني بصورة أفضل. كما كان المستهدف من إنشاء هذه البرامج إعطاء المسلمين الفرصة لتأهيل أبنائهم في جامعات الدولة لتولي مناصب دينية. وتطابق أقسام الدراسات الشرعية ما يُسمى في المؤسسات الأكاديمية الناطقة بالإنجليزية بالدراسات الإسلامية (Islamic Studies)، لكن للدراسات الشرعية في ألمانيا مجالس استشارية ولها دورٌ في تحديد محتوى المواد الدراسية أو تعيين بعض الوظائف المرتبطة بالبرنامج. والجمعيات الإسلامية لها مندوبون في هذه المجالس الاستشارية يُمثِّلونها فيها، على غرار التمثيل لمندوبي الكنائس في كليات اللاهوت المسيحية داخل الجامعات الألمانية.

 

  • غالبا ما تكون أقسام الدراسات الإسلامية في معهد واحد بجوار الدراسات التركية والإيرانية واللغة العربية، فما مساحات التكامل بين هذه الأقسام الأربعة؟ وهل الدراسات الإيرانية والتركية تركز على الثقافة المحلية واللغة الخاصة بالمنطقة التي تدرسها، أم تتداخل أيضا في دراسة الإسلام ثقافةً ومفهومًا؟

غالبا -وليس دائما- ما تُجمع هذه البرامج الأربعة في معهد واحد لأن ثمة سمات كثيرة تجمعهم؛ فمَن أراد أن يفهم الإسلام حقا عليه أن يستوعب تجلياته المتنوعة في بلدانه المختلفة. وهذا هو السبب في أن الدراسات الإسلامية في ألمانيا تُقدِّم في كثير من الأحيان دورات متعلقة بالإسلام مع تركيز إقليمي، مثل التركيز على تركيا وإيران والبلدان العربية، وكذلك الهند وجنوب شرق آسيا أيضا. ومن جهة أخرى، يُمكن القول إن الإسلام صَبغ بقوة التاريخ والثقافة والبنى الاجتماعية لهذه البلاد، ولذلك تُدرَّس في أقسام الدراسات التركية، والإيرانية والعربية أحيانا، مواضيع لها علاقة بالإسلام أيضا، وهذا هو السبب في أن هذه التخصصات يُكمل بعضها بعضا بشكل ممتاز وبصورة فعالة، وهذا هو الهدف المنشود من ضمهم في معهد مشترك.

 

  • ما أبرز نقاط القوة والضعف في الدراسات الأكاديمية الألمانية المرتبطة بالدراسات الإسلامية اليوم؟

الإجابة عن هذا السؤال ليست بالأمر الميسور، والسبب في ذلك أن الدراسات الإسلامية في ألمانيا أصبحت هي الأخرى ذات طابع عالمي بدرجة كبيرة في هذه الأيام، ولذا لم تظهر الخصوصيات القومية بقوة في الثقافة العلمية. ويرجع هذا الطابع العالمي في الحياة العلمية إلى التعاون في المشاريع البحثية الدولية، وإلى وجود عدد كبير من الباحثين الأجانب في فِرَق البحث الألمانية.

 

لكن مع ذلك كله، ومن حيث الأصل، كانت الدراسات الإسلامية الألمانية ذات طابع فيلولوجي، وربما لا تزال إنجازاتها الكبرى تختص بمجال الفيلولوجيا والتاريخ حتى الآن. ومن الاهتمامات البحثية الرئيسية للدراسات الإسلامية الألمانية فيما يختص بالتاريخ الإسلامي مسألة كيفية استخدام نصوص دينية لبناء هويات جماعية، ولإضفاء الشرعية أو نزع الشرعية عن الحُكام أو المراجع الدينية، ويتم التحقيق في هذه المسألة مرارا وتكرارا بصورة فعالة وناجحة. وعلى العكس من ذلك، فإن البحوث الأنثروبولوجية لم يكن لها أثر كبير في الدراسات الإسلامية الألمانية حتى يومنا هذا، ويمكن أن نرى في ذلك نقطة ضعف.

 

  • كيف تنظر إلى مآلات المجتمع الأكاديمي الألماني المرتبطة بالإسلام في الخمسين سنة القادمة؟

لا أدري إن كنت فهمت هذا السؤال على وجهه الصحيح أم لا. فإذا كان السؤال يختص بنتائج الأبحاث التي تجري اليوم، فإنني أظن أن معظمها سيظل فعالا في الخمسين عاما القادمة. أما إن كنت تقصد كيف ستتطور الدراسات الإسلامية ذاتها في الخمسين عاما القادمة، فإن هذا يتوقف على ما ستؤول إليه العلوم الإنسانية في ألمانيا بالعموم، ويتوقف كذلك على موضع الإسلام في النظام الأكاديمي الألماني العام.

 

فيما يتعلق بتطوُّر الدراسات الإنسانية عموما، فمن المتوقع أن تستمر أهمية الاستخدام المنهجي للعمليات الحوسبية والمصادر الرقمية وأن تتزايد في العقود القادمة، وهذا المجال العلمي هو ما يُعرف بالإنسانيات الرقمية (Digital Humanities). أما ما يتصل بموقع الإسلام داخل النظام الأكاديمي الألماني العام، فمن المتوقع على المدى الطويل أن تتقدم الدراسات الشرعية على حساب الدراسات الإسلامية الثقافية، مما يعني أن الدراسات المعيارية للإسلام سيكون لها شأن أكبر بكثير مما هي عليه اليوم، ونتوقع أيضا أن الأبحاث حول الإسلام ستكون في المقام الأول بأيدي المسلمين.

 

  • هل تتداخل المؤسسات الأكاديمية مع صُنَّاع القرار في ألمانيا فيما يخص القوانين المرتبطة بسياسات الإسلام في ألمانيا، أم ثمة فصل بينها وبين السياسة في الموقف من الإسلام والعالم الإسلامي؟

من حيث الأصل، هناك كثير من القرارات السياسية المتصلة بالإسلام أو العالم الإسلامي يشارك فيه الباحثون في الدراسات الإسلامية بصفة استشارية. والمثال الأبرز على ذلك هو المؤتمر الألماني الإسلامي الذي أُسِّس عام 2006، وهو أهم منصة للحوار بين الدولة الألمانية والمسلمين المقيمين في ألمانيا. وقد اشترك سابقا عدد كبير من الباحثين في الدراسات الإسلامية في هذا المؤتمر، ومنهم البروفيسور "ماتياس روه" (Mathias Rohe)، وهو أحد المتخصصين في الفقه الإسلامي. علاوة على ذلك، كانت إدارة المؤتمر في أيدي باحثين في الدراسات الإسلامية لفترة طويلة.

 

إحدى المؤسسات التي تسد الفجوة بين السياسة الخارجية والعلوم الأكاديمية هي مؤسسة "المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية" (Stiftung Wissenschaft und Politik) في برلين، المعروف اختصارا بـ(SWP). ويعمل بالمعهد عدد من الباحثين في الدراسات الإسلامية، ومنهم "جيدو شتاينبرج" (Guido Steinberg)، وهو أحد المتخصصين في السياسات السعودية. وفي الفترة من 2005 إلى 2020 ترأس المؤسسة أحد الباحثين في الإسلاميات أيضا وهو "فولكر بيرتس" (Volker Perthes).

 

  • إلى أي مدى يمكننا اعتبار المؤسسات الأكاديمية المرتبطة بدراسة الإسلام مُسيَّسة، أو تخضع للحالة المزاجية للحكومات المختلفة؟

تتمتع الجامعات ومعاهد البحث الألمانية باستقلالية تامة، فعلى سبيل المثال لا يُعيَّن رؤساء هذه المؤسسات وعُمداء هذه الكليات من قِبل الدولة، وإنما يُنتخبون مباشرة من زملائهم. وهذه الاستقلالية تجعل المؤسسات محصنة بقدر كبير من التأثير السياسي الحكومي. لكن الذي يحدث بالطبع أن بعض الباحثين أحيانا قد يتعاطف مع موقف حزبي سياسي بعينه، فينعكس هذا الموقف على أبحاثه الأكاديمية. فنجد مثلا أن بعض الباحثين يميلون في أبحاثهم إلى المسائل الأمنية، بينما يركِّز البعض الآخر على سياسات اندماج الأجانب في المجتمع الألماني.

 

وربما يكون الطلاب هم أكثر مَن يساهم في جعل الجامعات الألمانية مساحة مُسيَّسة. ففي السنوات الأخيرة حاول بعض طلاب اليسار منع أنشطة تعليمية في عدد من الجامعات الألمانية، لأنها -بحسب رؤيتهم- فعاليات عنصرية أو فعاليات تمييزية. فعلى سبيل المثال حاول الطلاب في جامعة فرانكفورت عام 2019 منع مؤتمر عن التقييم المجتمعي للحجاب، واتهموا المؤسسة المنظمة بأنها معادية للإسلام. وأعتقد أن هذه الأشكال من التسييس قد تكون خطرة على الحرية الأكاديمية، لأنها تستهدف قمع التبادل الحر للحُجَج المختلفة.

 

  • رغم إنصاف عدد كبير من الأكاديميين الألمان حول الإسلام، فإن الصوت الأعلى في الإعلام هو صوت تيار الإسلاموفوبيا، فما أسباب ذلك؟

الحقيقة أنني لا أتفق تماما مع هذا الوصف لحالة الإعلام الألماني، وانطباعي أن معظم قنوات البث العام وأغلب الصحف اليومية الكبرى في ألمانيا تبذل وسعها لعرض صورة متزنة عن الإسلام. فأنا أقرأ يوميا صحيفة "جنوب ألمانيا" (Süddeutsche Zeitung) ونادرا ما أجد فيها مقالات يمكننا تصنيفها أنها مقالات معادية للإسلام. لكن خطاب الإسلاموفوبيا يوجد بصورة أكبر على منصات التواصل الاجتماعي، حيث يعرض الناس آراءهم السياسية مباشرة دون تدقيق وترشيح.

 

في رأيي أن هناك ثلاثة أسباب لنشوء الخوف من الإسلام في المجتمع الأوروبي؛ أولها انهيار الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي، وهما العدو السياسي للغرب والمنافس للنظام الغربي (حتى نهاية التسعينيات)، فكان على الإسلام أن يملأ هذا الفراغ. وثانيها تزايد "الإرهاب الإسلاموي" بتزايد عدد الهجمات الإرهابية في أوروبا بعد عام 2001. وثالثها الهجرة الجماعية للمسلمين من آسيا وأفريقيا بعد الربيع العربي.

 

إن تزامن هذه العوامل الثلاثة معا أنتج موجة غير مسبوقة من معاداة الإسلام في أوروبا، التي بلغت ذروتها في ألمانيا بتأسيس حركة الوطنيين الأوروبيين ضد أسلمة الغرب المعروفة بمؤسسة "بِغيدا" (Pegida)، والتحوُّل المناهض للإسلام لدى حزب البديل الألماني (AfD). لكن مناهضة الإسلام تجاوزت ذروتها بسبب تراجع وتيرة هجرة المسلمين إلى أوروبا والهجمات الإرهابية في أوروبا في السنوات الأخيرة. وفي هذه الأثناء أيضا بات الغرب ينظر إلى روسيا والصين باعتبارهما خصمين جديدين، مما أدى إلى تراجع الخوف من الإسلام.

 

  • هل هناك اطلاع على ما يكتبه العرب الآن حول الإسلام باللغة العربية؟ أم يُكتفَى في المجتمع الأكاديمي الغربي بالاطلاع على الكتابات المكتوبة باللغات الأوروبية؟

لا، بالطبع نحن ندرس في الدراسات الإسلامية الأفكار الإسلامية الحديثة، ولذلك نُطالع دوما المصادر العربية، وكذلك التركية والفارسية، بل والإندونيسية أيضا. ومَن يحصل على درجة علمية في الدراسات الإسلامية في ألمانيا عليه أن يُثبت أنه يُحسن التعامل مع المصادر العربية قراءة وتحليلا، لأن الأبحاث الغربية وحدها لا تكفي في ذلك. لكن يجب أن نعترف أيضا أن الدراسات الإسلامية في الغرب لا تُعطي دورا كبيرا للآداب العربية الثانوية (المراجع المتأخرة)، والسبب في ذلك أنها موجَّهة أكثر نحو البحوث المنهجية، أما الدراسات الإسلامية في ألمانيا فتتجه نحو الوصفية.

 

  • كيف تقيم الأوضاع في الشرق الأوسط بعد مرور عقد على الربيع العربي؟

عُلِّقت آمال كبيرة على الربيع العربي في العالم العربي والغرب، وقد توقَّع كثيرون أن جيلا جديدا من السياسيين العرب سيقود بلدانه إلى الديمقراطية والمشاركة الاجتماعية الفعالة، وتابعت الحكومات والمنظمات الغربية هذا التطوُّر بتعاطف كبير، وحاولت أن تقدم المساعدة حيث أمكن. لكن للأسف خُيبت الآمال المرتبطة بالربيع العربي، وانزلقت عدة دول عربية إلى الفوضى، وعادت بعض الدول الأخرى إلى الاستبداد واستخدمت حربها على الجماعات الإسلاموية مسوِّغا لذلك. ومع التحول للاستبداد في تونس مع "قيس سعيّد" يبدو أن إرث الربيع العربي السياسي قد دُفن أيضا في البلد الذي بدأ منه. ولذا بدت رؤية بعض الباحثين الذين يرون أن العالم العربي لا يمكنه التحول إلى الديمقراطية نظرا لبنيته الاجتماعية الخاصة وكأنها رؤية صائبة، ولكن كل شيء يمكن أن يتغير سريعا مرة أخرى في المستقبل.

المصدر : الجزيرة

إعلان