حول المسلمين في البوسنة وذكريات المذبحة.. ميدان يحاور الشاعر جمال الدين لاتيتش رفيق علي عزت بيغوفيتش

عرفه النّاس أوّل مرّة عام 1983، شابا ضئيلا لم يتجاوز السّادسة والعشرين، يجلس في الصّف الثّاني للمتّهمين في المحاكمة السّياسيّة الأشهر التي عرفتها البوسنة والهرسك ضمن يوغسلافيا السّابقة، التي عُرفت بـ "محاكمة المثقفين المسلمين"، وكان المتّهم الأوّل فيها هو الرّئيس البوسني السّابق علي عزّت بيغوفيتش، ومعه هذا الشّاب الضّئيل أحد أبرز رفقائه الفكريين، والسياسيين فيما بعد، هو الشّاعر جمال الدّين لاتيتش.

كونه شابا نشأ في حقبة سيطرة النّظام الشّيوعيّ المُحكَمة على مفاصل الحياة في البوسنة والهرسك، التي ولَّدت هوة متسعة بين البشناق (الاسم الذي يُطلق على مسلمي البوسنة) وهويّتهم الدّينيّة، كان من الغريب، بل ومن النّادر، أن يكون هناك شخص مثل جمال الدين على هذا القدر من الوعي بقيمة الانتماء الإسلامي بوصفه عاملا أساسيا في استنهاض مسلمي البوسنة من حالة الاستسلام والخنوع للوضع المفروض عليهم بوصفهم وَرَثة لحضارة زائلة يُنظر لها على أنها "رجعية" و"مُتخلِّفة"، ولا تليق بأوروبا الحديثة.

لم يكن جمال الدّين شابا "عاديا" حينها، بل كان شاعرا واعدا ينشر قصائده في كبرى صحف ومجلّات البوسنة والهرسك، وخرّيجا في كلّيّة الآداب بجامعة سراييفو، الكلّيّة التي يُنظر لها باعتبارها أحد معاقل الشّباب الشّيوعي، ولم يكن لديه نشاط سياسيّ يجعله ضمن المُشتبَه بهم بوصفهم أصوليّين، بما يعني أن الأبواب كانت مفتوحة له ليصبح ذا شهرة مرموقة في يوغسلافيا السّابقة، ولذا استُدعِي بعد القبض على بيغوفيتش ليقوم بالشّهادة ضدّه وضدّ رفاقه، ولكن رَفْض لاتيتش القيام بالأمر كلّفه الحكم عليه بست سنوات ونصف في السّجن.

علي عزّت بيغوفيتش (يمينا) ومعه الشّاعر جمال الدّين لاتيتش، أحد أبرز رفقائه الفكريين.

بعد إطلاق سراحه، عمل نائبا لرئيس تحرير صحيفة "بريبورود" الإخبارية الإسلامية، ثمّ أنشأ صحفا أسبوعية أخرى وتولّى رئاسة تحريرها، وكان الحراك البشناقيّ قد بدأ يتطور في ذلك الحين، فشارك لاتيتش في تأسيس حزب العمل الدّيمقراطيّ مع علي عزّت بيغوفيتش، وتقلّد منصب رئيس التلفزيون الرسمي، وبقي لصيقا بالرئيس والمفكر الراحل بيغوفيتش حتى وفاته.

حصل على درجة الماجستير من كلية الفلسفة، جامعة زغرب (قسم الأدب العالمي)، والدكتوراه من كلية العلوم الإسلامية عام 1999 في موضوع "أسلوب التعبير القرآني"، وعمل أستاذا مساعد بقسم التفسير بكلية العلوم الإسلامية في سراييفو، كما درَّس التفسير في الأكاديمية التربوية الإسلامية وكذلك النظرية الأدبية في كلية الفلسفة في نوفي بازار. وفي عام 2010 خاض الانتخابات العامة في البوسنة والهرسك على منصب العضو البوشناقي في مجلس الرئاسة.

جمال الدين لاتيتش يُعَدُّ من أبرز شعراء البشناق المعاصرين، وله أعمال أدبية غزيرة، ومنها قصيدته ذائعة الصّيت "جحيم سربرنيتشا" التي تُغنَّى كل عام في موقع إحياء ذكرى ضحايا المجزرة.

لمعرفة المزيد حول تجربته السياسية، وكذلك أعماله الفكرية والأدبية، كان لنا معه هذا الحوار في "ميدان".

قصيدة "جحيم سربرنيتشا"

  • بداياتك في العمل السياسي كانت بعد محاكمات 1983، المحاكمة السّياسيّة الأشهر التي عرفتها البوسنة والهرسك ضمن يوغسلافيا السّابقة، واتهمت حينها بالتآمر لصالح إنشاء "حكم إسلامي" في البوسنة، كيف تأثرتم بتلك الفترة وما أبرز ملامحها؟ 

هذه المحاكمة وسنوات السجن تلك علَّمتني كثيرا، بما يكفي لأكون قريبا من الله جلّ شأنه أكثر، ولأتعرّف إلى جوهر النّظام الشيوعي الاستبدادي وظلمه ومنهجه المُتَّبع لقمع الصّوت الحقيقي. أذكر أنّني حين تلقّيت نبأ الحكم عليّ بالسجن ست سنوات ونصف صلّيت الاستخارة جلوسا على مقعدي، لأنه لم يكن هناك مكان آخر حتى أقف وأؤدي القيام والرّكوع. دعوت الله أن يكتب لي العمر، وعاهدته أنني سأُسخِّر ما بقي من حياتي لأجل الإسلام، والإسلام فقط، بكل ما أملك من قوة وإمكانات، ومما علَّمتني إياه تلك الأيام العصيبة أن تعرّفت عن قُرب لإخوتي، وشعرت أننا كنّا في وحدتنا ومطاردة السّلطة لنا مثل أصحاب الكهف، وقادت تلك المحاكمة لنوع من الصّحوة في المجتمع البشناقي والعودة للإسلام، وهو أمر يعاكس تماما ما أراده العدو.

  • حسب قراءتنا لتاريخ تلك الفترة، حُكِم عليك لأنك رفضت الشهادة ضد بيغوفيتش ورفاقه، حدِّثنا عن ذلك.

على مدى شهر من الزّمان، استدعت السلطات الشيوعية العديد من شباب سراييفو المسلمين، وكان هناك خوف كبير منتشر في البلاد. جاؤوني في صلاة الجمعة وطلبوا منّي الحضور معهم، ومنذ ذلك الوقت حتى منتصف اليوم التّالي حاولوا إجباري على توقيع شهادة ضدّ المرحوم علي عزّت بيغوفيتش وحسن تشنغيتش الذي كان رفيقي في الكليّة، وعلى شهادات أخرى. وزير الشّؤون الدّاخلية حينها أتى بنفسه في منتصف الليل وتوعَّدني بست سنوات ونصف في السّجن إذا لم أُوقِّع، والحمد لله لم أقبل التّوقيع أبدا، كان من الأفضل أن أخضع للحبس بدلا من إلحاق العار بنفسي وأسرتي. تلك الليلة ضربوني حدّ الإغماء، وفي الصّباح حين رموني في السّيارة واقتادوني للسّجن لم أكن أعبأ بالموت، كلّ ما كان يُقلقني هم أهلي وزوجتي وأصدقائي، كيف يستقبلون الخبر، وما الذي سيحدث لهم بعدي.

كان بقائي في الزنزانة أسهل من أن أبقى "حُرًّا" تحت سلطتهم. لحظة دخولي زنزانتي توضّأت وصلّيت ودعوت الله وتوكّلت عليه. كلّ مجموعتنا حُكم عليها بأحكام إضافية لرفضنا الوشاية ضدّ بعضنا، وبالنّسبة للمحقّقين كان هذا دليلا إضافيّا على أنّنا مجموعة مُنظَّمة لأهداف مُعادية، مع أنّ هذا لم يكن صحيحا، نحن تحمّلنا بكل تعاون وتعاضد التعذيب والاضطهاد.

حاولوا إرغامنا على الاستسلام، كانوا يَعِدوننا في السّجن بالإفراج المُبكِّر لو قَبِلنا الاعتراف على أصدقائنا، ولكنّنا رفضنا جميعا، كان هناك سجناء سياسيّون آخرون من الصّرب (وكان عددهم قليل: اثنان أو ثلاثة) والكروات والألبان القوميّين، وبعضهم قَبِل الاعتراف على جماعته وخرجوا ستة أشهر قبل البقية. موقفنا هذا أكسبنا احترام البقية، وكانوا يمنحونا ثقتهم، وكنّا نمارس معهم دور الأب الذي يُهدِّئ من روعهم ويُطمئنهم. كانت ممارسات السّلطات تهدف إلى كسرنا معنويّا وجسديّا، لكنهم لم ينجحوا في ذلك، وعندما شاهدوا صمودنا، وعرفوا أنّنا غير قابلين للمساومة، توقَّفوا عن اضطهادنا وتعذيبنا، لقد عرفوا أن بإمكانهم أن يقتلونا دون أن نستسلم. أنا فخور بكل إخوتي وفخور بنفسي أيضا كيف استطعنا الصّمود، مع أنه للأمانة لو سُجنت مرة أخرى فإنني لا أعرف هل سأتصرّف مرّة أخرى كما فعلت أم لا.

مثلما يحدث في كلّ الأنظمة المُتسلِّطة المُستبِدّة كانت تلك أياما وليالي صعبة للغاية، عملت إدارة السّجن كلّ جهدها لجعل حياتنا مستحيلة، فمثلا كنت أستطيع الوضوء في الزنزانة ولكن لم أستطع القيام بالصّلاة على طريقتها الحقيقية من قيام وركوع، بل أتّخذ وضعية أؤديها بها على سريري. أثناء المحاكمة أُصِبت بانهيار عصبي حاد، كنت أقع أرضا فجأة دون أن أعي ذلك، وكلّ أعضائي كانت ترتجف دون أن أستطيع السيطرة، وينساب منّي العرق البارد، وحين أغفو قليلا تعود مشاهد التّحقيق وما جرى خلال يومي إلى ذهني فأجفل.

ولم يمرّ صباح دون أن أدعو الله أن يحميني من سجن داخل السّجن، وأقصد هنا الزنزانة الانفرادية التي وضعوني فيها عدّة مرات لأني كنت الأصغر سِنًّا والأضعف بنية بهدف الضّغط عليّ. كنت أرى أحلاما تشدّ من أزري، فمثلا بدون مقدمات في إحدى الليالي أرى أنّني أتحاور مع العالم حسين جوزو (أحد كبار علماء الدين المسلمين في البوسنة)، أو أحلم بآية قرآنية، أو أنّني أصلّي في مرج أخضر، وعلمت أن أصدقائي حصل لهم ذلك أيضا، كنا ندعو الله بحرارة، ولم أعش أياما أفضل في التقرُّب إلى الله ومعايشة معنى التوكّل والمناجاة الخفيّة من تلك الأيام.

  • كنت رفيقا للرئيس بيغوفيتش في مراحل مختلفة، هلا تُحدِّثنا عن موقف شخصي كنت شاهدا عليه يُعبِّر عن جوهر شخصيته؟

كان بيغوفيتش شخصا مُبتهجا محبوبا يحبّ المزاح، ولديه قوة لا نهائية في أفكاره، مع أنّه لم تتح له فرصة تلقّي العلم الشّرعي ودراسته بسبب سجنه في شبابه وظروفه اللّاحقة حيث عاش في مطاردة وخوف ومُنع من السّفر.

كنت أحبّ شجاعته، كان شجاعا حقا. بعدما أُصبت بمرض شديد وتدهورت صحتي نقلوني إلى سجن فوتشا، وكنت مع علي عزّت بيغوفيتش وصالح بهمن في زنزانة واحدة، ولقد تولّيا الاعتناء بي. كان قد مضى عليّ عام ونصف لم أتناول فيها طعاما مرقا، لأن كل الطعام المطبوخ احتوى على لحم الخنزير، وطالبنا بتغيير الطعام لكن دون جدوى. أذكر أن علي عزت ذهب إلى الطّباخين وقال لهم: "نريد طعاما مطبوخا دون لحم خنزير"، فقال له الطّباخون: "هذا ليس من صلاحياتنا"، فتقدَّم نحوهم وكسر الحاجز الزجاجي بيننا وبينهم وصرخ: "لن أغادر مكاني حتى أنال طعاما دون لحم خنزير". سارعت إدارة السجن والشّرطة للمكان وحاصروه، ورغم أن وقوفه في المكان عطّل عملية تسليم الطعام للمساجين، لكنّه لم يرضَ التراجع وهتف: "العبيد في الإمبراطورية الرّومانية كان لهم حق الحصول على غذاء، وأنا إنسان ولن أتناول هذا الطّعام"، ثمّ هدَّد بالإضراب عن الطعام، وفي النّهاية استجابوا لطلبنا وسمحوا لنا بطعام مطبوخ بشروط شريعتنا.

  • تحدّثت مرارا في مقابلاتك عن خصوصية "الإسلام البوسني"، ما الذي تقصده بذلك المصطلح؟ 

هذا المصطلح يُستخدم بطريقة سلبية أحيانا، وبطريقة إيجابية أحيانا أخرى. يستخدمه العلمانيون المتطرّفون للحديث عن إسلام مُعلمَن، يتساهل معتنقوه في أداء الفرائض، ويسمح بشرب الخمر مثلا، وهو في الحقيقة موجود في أوساط مجتمعنا، وللأسف لم يحدث أبدا أن اجتُثَّت عادة شرب الخمر تماما من وسطنا. منذ فترة ليست بعيدة، ألَّف باحث فرنسي اسمه بوغاريل كتابا حول ذلك، وله تصريحاته بعد هجوم إرهابي في فيينا، ذكر فيها أن مسلمي البشناق ليسوا مدعاة للاشتباه، وليس هناك ضرورة لتفتيش مساجدهم ومنظماتهم لأنّهم ليسوا متديّنين مثل المسلمين الآخرين. وأنا أختلف مع هذا التّعريف، وأؤمن بإسلام واحد، فليس هناك إسلام خاص بالبوسنة وواحد آخر خاص بتركيا وآخر بمصر مثلا.

لكن في سياق إيجابي، لو تحدّثنا عن "الإسلام البوسني" فهو تقليدنا الإسلامي القائم على الحكمة والاعتدال والمرحمة لكل الوجود البشري. أنا أؤمن أنّ البشناق حين اعتنقوا الإسلام اعتنقوه بدافع الحكمة. كانت البوسنة قبل وصول طلائع الفتح العثماني تتضمَّن ما يقارب الأربعين طائفة دينية، وكانت أرضا للنزاع ومحاولات الهيمنة والاستحواذ. عندما جاء الفاتح، وخصوصا حين أقرَّ "نظام الملّة" حيث كانت هناك ملة الإسلام، الكاثوليك، والأرثوذكس، وانضم لها بعد ذلك ملّة اليهودية في عصر سليمان القانوني، توقّفت الحروب الطائفية.

طوال الفترة التي كان الإسلام مسيطرا فيها على المنطقة كانت الحروب الطائفية مُتوقِّفة، ولكن بمجرد انهيار الدولة العثمانية عادت الحروب الطائفية من جديد، وهذا ما نقصده بالإسلام البوسني بوصفه قوة رحم، وقوة عدالة، وقوة شجاعة استطاعت أثناء سيطرتها على المنطقة وقف الصّراعات الدّينية ووقف سفك الدماء واستيعاب الآخرين. هذا الدّور الذي لعبه الإسلام في تاريخ البوسنة أجده فريدا وعبَّر عن روح الإسلام التي تدفع للتّحرُّر والتطوُّر واستيعاب الآخر.

  • تُركِّز في مقابلاتك على دور البوسنة المحوري في إيجاد تناغم بين الحضارة الإسلامية والثقافة الغربية، فما العوامل التي تجعل البوسنة مؤهَّلة لذلك؟ وكيف السبيل لعمل ذلك لو أُتيحت الفرصة؟

نحن مندهشون من صعود اليمين المُتطرِّف، والمصطلح اللازم استخدامه لتوصيف الوضع هو صعود الإسلاموفوبيا، التي تستخدمها النّخبة الأوروبية للتشتيت عن مشكلات البلاد الحقيقية بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة، عندها اختفت الشيوعية بوصفها عدوا وأصبح الإسلام هو العدو البديل. للأسف هذه النظرة وهذه السياسة أُنشِئت ليس برغبة شعوب الغرب، هذه رغبة قادة الدول. بكل سرور رأينا هزيمة الأحزاب المتطرفة في انتخابات البرلمان الأوروبي، وهذا يعني أن غالبيته الآن ليست مصابة بـ "الإسلاموفوبيا".

لديّ رأي شخصي فيما يتعلّق بالإسلاموفوبيا، وهو أنها، في الحقيقة، بدأت منذ بداية الرسالة المحمدية، منذ أن بدأ المسلمون يستولون على أراضي الإمبراطورية البيزنطية، وكان هناك صراع مستمر بين الممالك الإسلامية القوية والدول النصرانية. الدول الغربية المعاصرة تحتمل المسلمين ما داموا أفرادا ولم يُؤسِّسوا تجمعات تتمتع بالوعي الذاتي والتّمسُّك بتعاليم الدين، فمثلا رئيس وزراء النمسا، التي أعرف عنها الكثير بحكم أن لي أقرباء هناك، هو صديق للمسلمين، ولكن تحت تأثير فرنسا والتغييرات الحاصلة بسبب كورونا تغيَّر الوضع. النمسا، أكثر الدول ديمقراطية، وأول دولة في أوروبا اعترفت بالإسلام ديانة رسمية داخل أراضيها عام 1912، أصبحت تُعاني من الإسلاموفوبيا، رغم أنه يعيش بها أكثر من نصف مليون مسلم.

يقود قادة الغرب طوال الوقت سياسة يُسمّونها "الاندماج"، وهي أقرب لمعنى أن يتخلَّى المسلم عن دينه. وما يحصل في الحقيقة العكس، هناك إقبال على التمسُّك بالدين الإسلامي عند الأجيال الجديدة، هناك إقبال على إظهار تعاليمه للعلن مثل الحجاب، شباب يذهبون للجامع ولا يشربون الكحول، لا يريدون اتِّباع الغرب في سلبياته و"قِيَمه"، وهؤلاء يصبحون "مثيرين للمشكلات". لحُسن الحظ هناك زعماء آخرون مثل أنجيلا ميركل التي قالت إن الإسلام جزء مندمج "لا يتجزّأ" من ألمانيا، وإن ألمانيا لا تمانع ذلك.

لقد تابعت أيضا كتابا بعنوان "مستقبل الإسلام" لجون إسبوزيتو (بروفيسور إيطالي أميركي متخصص في الدراسات الإسلامية) نشر فيه دراسة استقصائية تُشير إلى أن المسلمين ليس لديهم فوبيا أو عداوة مع الغرب، ولا يخافون عند رؤية لباس غربي مثلا أو عندما يشاهدون نمساويا أو نمساوية بلباسهم العادي، أما هم بالمقابل فالكثير منهم للأسف بدؤوا يشعرون بالمُعاداة نحونا نحن المسلمين أول ما نبدو مختلفين عنهم، سواء بملابسنا أو بشيء ما يُميّزنا، وأعتقد أن ما يحدث للمسلمين في الغرب اليوم يُشكِّل دافعا قويا للبحث عن الوسائل الأنسب لنردّ على الإسلاموفوبيا، وأحسن طريقة بنظري للردّ هي بأخلاقنا وثقافتنا، للأسف زعماء العالم الإسلامي لا يُقدِّمون نموذجا إيجابيا في هذا الصّدد.

  • عبّرت عن قلقك في مقابلات مختلفة على مستقبل الدولة البوسنية ومستقبل مسلمي البوسنة، فما الأمور التي تُثير قلقك؟ وكيف السبيل للتخلُّص منها برأيك؟

هذا سؤال يجب أن يطرحه على نفسه كلّ سياسيّ بوسني. نحن يجب أن نستغلّ كل أوجه القوّة لدينا كي نحدّ من عوامل الخوف، وأكبر عامل مُسبِّب للخوف في البلقان هو مشروع صربيا الكبرى، أو حركة صربيا الكبرى التي تدعمها الكنيسة الصّربية، الذي يُعَدُّ حراكا فاشيا بامتياز. هم يُفسِّرون التّاريخ بصورة مُحرَّفة عمدا، ويربّون الجيل الصّربي الجديد على كراهية كل ما هو إسلامي، عثماني، تركي. لديهم "إسلاموفوبيا" و"تركوفوبيا" في الوقت نفسه.

وعندما يظهر تحرُّك صربي، وأقصد هنا التشتنيك (القومية الصربية) تحديدا، يظهر تحرُّك كرواتي من الأوستاشا (القوميين الكروات)، الذين لا يرغبون أن تكون البوسنة تحت سيطرة التشتنيك ويُفضِّلون أن تكون تحت سلطتهم. قام الطّرفان بتقسيم بلدنا بينهم دون أن يعبؤوا بنا، كما فعلوا قبيل الحرب العالمية الثانية في الاتفاقية المشهورة بـ "سفيتكو ماتيتش"، وعندما سُئلوا كيف استطعتم تقسيم البوسنة بينكم وفيها أغلبية مسلمة؟ أجابوا: "وزَّعناها بيننا وكأنّهم غير موجودين أصلا!". بالنسبة لنا، هناك احتمالية للحوار مع الطّرف الكرواتي "تحرُّك كرواتيا الكبرى"، أما الطّرف الصّربي فلا. ولكنْ هذان الطّرفان، ورغم عدائهما الشرس لبعضهما بعضا، يتّحدان ضدّ مسلمي البوسنة، لكننا إذا رجعنا لمصدر قوّتنا في ديننا وأساليب ديننا، وإذا أنضجنا حسّنا ووعينا السياسي، وقمنا بالتّحالف مع دول أخرى سواء كانت دولا مسلمة أم غيرها، نستطيع مقاومة مخطّطاتهم.

البوسنة والهرسك قضية عالمية وستبقى كذلك، وهذا يناسبنا، ولدينا إمكانية الدخول في الاتحاد الأوروبي، وإذا دخلنا الاتحاد، فستُتاح لنا الفرصة للعيش أخيرا بسلام. وبكل الأحوال لن نكون أبدا مثلما كنا في التسعينيات غير مستعدين، وأتحنا بهذا الفرصة لحدوث الإبادة الجماعية.

  • اشتهرت عنك قصيدة "جحيم سربرينتشا"، ما خصوصية مجزرة سربرينتشا بالنسبة لمجازر البوسنة والمجازر التي حدثت في أنحاء أخرى من العالم في وجهة نظرك؟

كتبت قصيدتي عن الإبادة الجماعية في سربرينيتشا، ولكنها في الحقيقة تتحدّث عن المذابح الجماعية التي حدثت لكل مسلمي البلقان على مدى الزمان، وخصوصا المئة والخمسين سنة الأخيرة. في قصيدتي تحدّثت عن "إبادة جماعية لا منتهية" كما قال مصطفى إماموفيتش رحمه الله في كتابه "تاريخ البشناق"، وتعمّدت أن أُسمّي قصيدتي "إنفيرنو" ومعناه "المحرقة"، لأن إنفيرنو كان عنوان الجزء المركزي لأعظم قصيدة كُتبت في أوروبا الغربية في العصور الوسطى "الكوميديا الإلهية"، القصيدة كتبها دانتي أليغييري ودعا فيها لوقف انتشار الإسلام في شبه جزيرة البيرينيه، وشوَّه صورة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام تشويها كبيرا، وقدَّمه بوصفه معاديا للمسيحية وكارها للغرب. ولذا وضعت عنوانا فرعيا لقصيدتي جحيم سربرينتشا "رسالة موجَّهة إلى دانتي"، وعملت القصيدة على الوزن نفسه الذي كتب به دانتي قصيدته ويُسمّى "تيرسينا"، وهو وزن صعب لا يقدر عليه إلا مَن له باعٌ طويل في الشّعر، جعلت قصيدتي مفتوحة بلا نهاية، اختتمتها بحوار بين لاجئة بشناقية مجهولة الهوية مع راهبة اسمها مارية وأخرى يهودية، وهو في الحقيقة حوار بين الأديان، كل الأشخاص في القصيدة يطلبون السلام بين الشعوب والأقوام.

  • أنت من الشّعراء الذين أحيوا القصائد الدّينية المُسمّاة بـ "الإلهية"، ما أهمية هذا النوع من الشّعر بالنّسبة للثّقافة البوسنية المعاصرة؟

لم أكن أُدرك أني أنقّب من نبع غزير حين سمعت قصيدة إلهية لأول مرّة من والدي وأنا في بداية المراهقة، والدي رحمه الله درس في المدرسة الشرعية وتتلمذ على أيدي النّقشبندية. حين سألته بعدما أعجبتني القصيدة: "لمَن هي منسوبة؟"، أجابني بأنّه لا يعرف، كان يتعلّمها في المدرسة الشّرعية. تلك القصيدة المعنونة بـ "لماذا تئنين يا ناعورة المياه"، علمت فيما بعد أنّ كاتبها هو التركي يونس إمرة أشهر شعراء قصائد الإلهية، وله انتشار كبير في البوسنة خصوصا في التّكايا. وكان لدينا تاريخيا شعراء بوسنيون اشتهروا بهذا النّوع من الشّعر مثل "إلهامي بابا" و"ميليا".

تعرّفت بعد البحث على ثقافة ضخمة كامنة في مكتباتنا ذات صبغة شرقية. عندما بدأت بكتابة الإلهية كانت في الواقع ثقافة شبه مندثرة ومنسية بل ومُحارَبة. الحكم الشّيوعي حاول تدمير كل ما يُشير إلى ماضينا الخاص كوننا مسلمين، هدم مساجدنا وعمارتنا، وترك قصائد الإلهية لتندثر بنفسها بفعل الإهمال والنسيان، نحن تمّ تغريبنا ولم نكن نعرف بوجود هذا الفن أصلا. كنا ندرس في المدارس عن شعراء صرب ولا نعرف شيئا عن شعرائنا، ندرس كثيرا عن شعر بودلير ولا نعرف أي شيء عن جلال الدين الرومي. كان مفترضا لشعبنا أن يضيع هويته عبر تضييع ثقافته، حتى لغتنا كانت تُدعى بـ "الصربوكرواتية"، ولم نكن نعرف أن لغتنا تُدعى بالبوسنية.

  • أنت في طور الإعداد لكتاب عن الإعجاز البياني للقرآن الكريم، وربما هو الأول من نوعه باللغة البوسنية، ما أهم مضامينه، وما الذي دفعك لإنجاز هذا العمل؟

اهتمامي بهذا العلم بدأ بطريقة غير مُتوقَّعة، كنت أدرس الماجستير في الأدب العالمي بجامعة زغرب، وبقي أن أُقدِّم رسالتي التي كنت أنوي أن يكون موضوعها حول الشّعر الأندلسي، إذ كان خبراء الأدب العالمي مأخوذين بهذا النوع من الشعر، وكانت المسألة هل هو شعر عربي أم عبري، وأنا كنت منحازا لفرضية أنه شعر عربي بشكل خاص.

درست حينها اللغة الإسبانية، وكنت أستعدّ للسّفر إلى جنوب فرنسا للالتقاء بشاعر كبير شغوف بالشعر الأندلسي، ولكن دخولي السّجن ألغى كل هذه المخطّطات. وبينما كنت يوما أتمشّى في السجن مع علي عزّت بيغوفيتش وتحدّثنا عن القرآن الكريم، اقترح عليّ أن أدرس هذا الموضوع كوني شاعرا وباحثا، عندما خرجت من السجن -وقد خرجت قبله- لم تمنحني السّلطات جواز سفري، فلمّا قابلت أساتذتي عبّروا عن دعمهم لي، وسمحوا لي باستكمال دراستي، وعندما عرضت عليهم الموضوع الجديد انبهروا به، وكان أستاذ كبير في البلاغة قد أنهى أول دراسة من هذا النوع على الإنجيل في ذلك الفصل. وعندما عرّفتهم إلى اللغويين والبلاغيين العرب مثل سيبويه وابن جنّي لم يستطع أساتذتي تصديق هذا الكمّ من الإبداع الموجود لدى العرب، ورَجَوني أن أكمل دراستي الدكتوراه لديهم وأتابع البحث في الموضوع، غير أني فضّلت حينها إكمال الدكتوراه في كلية العلوم الشرعية بسراييفو.

  • البوسنة والهرسك أقامت علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، ومع ذلك نلحظ تجاهلا تاما من إسرائيل للمصالح الحيوية البوسنية، في رأيكم ما موقف الشارع البشناقي الحقيقي من هذه العلاقة بين البوسنة وإسرائيل؟

شعبنا بالكامل يقف بجوار فلسطين وشعبها، لا أستطع تبرير علاقة البوسنة والهرسك مع إسرائيل ما دامت تتعامل بهذه الطريقة مع إخوتنا الفلسطينيين، هذه ليست رغبة شعبنا.

في أحد المؤتمرات التي حضرتها جلست قريبا من الوفد الفلسطيني، وأقبلت لأُسلِّم عليهم، وعندما علم رئيس الوفد بأني بوسنيّ رفض السّلام عليّ، والسّبب أنّ البعض زعم بأن البوسنة باعت أسلحة لإسرائيل، وهو زعم ساذج ولكن تمّ تداوله على نطاق واسع. كنت فعلا محرجا ولكني لم أستطع لومه، فقلت لأعضاء الوفد: "أنا أقف ضدّ ذلك وكذلك شعبنا، هذا ليس نحن، وفي كل قيادة هناك مأجورون يفعلون ذلك، أتفهَّم غضبكم، وحتى لو كنت متأذيا فلن ألومكم".

ما أريد قوله هنا إنّ البوسنة بين المطرقة والسّندان، لا يستطيع مسلموها قيادة سياسة خارجية مستقلة. قبل إنشاء دولة إسرائيل كانت هناك وحدة بوسنية حاربت إلى جوار الفلسطينيين، وكذلك هناك أشخاص من جماعتنا البشناق هاجروا إلى فلسطين واستوطنوا إحدى قرى حيفا، ولقد شاهدت صورا فوتوغرافية للمسجد الذي أقامته جماعتنا، قبل أن يقوم الصّهاينة بتشريدهم وبقيت فقط منارة المسجد الذي تحوَّل إلى مطعم يُقدَّم فيه الكحول.

أتذكّر أيّام الحرب، ورد اتصال لكلية العلوم الشرعية حيث أعمل أستاذا، وكنت أنا بالمصادفة مَن تلقَّى المكالمة، وإذ برئيس الوحدة العسكرية المسؤولة عن نفق الحياة على الطّرف الثاني يخبرني بأن مجموعة من العرب جاؤوا للمدينة عبر النّفق وهو لا يستطيع التّفاهم معهم، ففكَّر بالاتصال بالكلية الشرعية التي من المفترض أن يعرف أحد فيها العربية، وإذا بهم وفد من وزارة الأوقاف الفلسطينية. جمعت زملائي وقمنا باستقبالهم، أحضروا معهم لنا خمسين ألف دولار لدعم شعبنا، كنا في حالة دهشة وصدمة من هذه اللفتة الإنسانية، وتحدَّثنا عن العلاقة بين شعبَيْنا وكيف أنّهم ممتنون للبشناق الذين حاربوا إلى جوارهم قبل خمسين عاما.

هذه العلاقة مع الشّعب الفلسطيني تُشرِّفنا، ومن وقت ليس ببعيد كنت في إسطنبول والتقيت بأخي السّيّد خالد مشعل، تكلّمنا طويلا ومنحني مقابلة ودعوته لزيارة سراييفو، وأخبرته أن قيادة البوسنة ليست بيد البشناق وحدهم، بل هي قيادة ثلاثية تضم مسلمي وصرب وكروات البوسنة، ولذا ليسوا أحرارا في اتّخاذ موقف قوي ضد ممارسات إسرائيل.

علاقتنا الوطيدة مع الفلسطينيين لا تعني أن لدينا مشكلة مع اليهود ديانة، اليهود في البوسنة لطالما عاشوا في استقرار وأمان، وحماهم المسلمون أثناء مطاردة الحكم الفاشي النازي، ولم يكن المسلمون أبدا مُعادين للسّامية.

في نهاية مقابلتنا، سألنا جمال الدّين لاتيتش عن واقع الشباب المسلم في البوسنة في الوقت الحالي، وسر إقبالهم المتزايد على اعتناق التوجُّهات السلفية. انتقد لاتيتش في جوابه المشيخة الإسلامية في البلاد، مؤكِّدا أنها تتبع السّياسيّين، وليس لديها الوقت لتستمع للشباب فضلا عن محاولة حلّ مشكلاتهم. وختم لاتيتش حواره معنا قائلا: "شبابنا يبحثون عن الفهم، ليسوا متطرّفين، وليسوا إرهابيين كما يحاول بعض السّياسيين تسميتهم، وليسوا تهديدا للسِّلْم المجتمعي".

المصدر : الجزيرة

إعلان