شعار قسم ميدان

في الذكرى الـ25 لانطلاقها.. ميدان يحاور "أحمد الشيخ" مقدِّم أول برنامج على شاشة الجزيرة

ميدان - أحمد الشيخ

مقدمة:

حين أعلن ضيفنا بدعائه "رب اشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، واحلل عقدةً من لساني، يفقهوا قولي" عن انطلاقة قناة الجزيرة قبل 25 عاما، ربما لم يكن أحد ليتوقع أن الشبكة الإعلامية التي انطلقت للتو في الجزيرة العربية، سوف تحقق ما حققته، وأنها سوف تغير معالم الإعلام في المنطقة إلى الأبد. في هذه المقابلة التي أجريناها قبل عامين، يحدثنا أحمد الشيخ رئيس التحرير الأسبق لقناة الجزيرة العربية، ومؤسس موقعها الإلكتروني عن تجربته الطويلة في مجال الإعلام، وكواليس تأسيس الجزيرة قبل ربع قرن من اليوم.

 

نص المقابلة:

حينما باغته مقدِّم برنامج "فصاحة" على تلفزيون قطر بسؤاله "من أنت؟"، أجابَ مُرتجلا: "أنا طيفُ حُلُمٍ يُمسكُ بعَنان بَغلةِ عُمر إذ يقترب من أسوار القدس فاتحا، أنا طيفُ حلم يرفرف فوق أسوار دمشق يبحث عن خالدَ مُقتحما، أنا نَصْلُ سيف يبحث في حِطّين عن صلاح الدين وقد ملأت تكبيراته السماوات والأرض، أنا حجرٌ في يد طفل عند أسوار القدس أو في شوارع نابلس القديمة يواجه الحديدَ والرصاصَ والجُند. أنا، لا شيء، في ذات صباحٍ أفيقُ ولا أدري من أنا في هذا الزمن، أنا مثل هامليت، حائر، أبحث عن حفارِ قبورٍ يبحثُ في داخلي عن إجاباتٍ لأسئلة لا أجد لها جوابا، هذا أنا، بكل بساطة".

 

بهذه الكلمات حاول الصحفيّ أحمد الشيخ التعبير عن نفسه، وفي اللحظات التي تُظهر إجابته حيرةً يبحث معها عن إجابات، فإنه يقدّم عبر مسيرته إجابات للسائلينَ والحائرين. فمُتابعو الشأن الإعلامي يعرفون "الشيخ" في صور أخرى، وأحوال راسخة رسوخَ صوته في الإعلام العربي، وكتاباته، ومسيرته الإعلامية التي خلّفها إرثا للأجيال القادمة. فهو أول صوت سُمع على شاشة الجزيرة، قائلا بصوته الجهوريّ: "رب اشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، واحلل عقدةً من لساني، يفقهوا قولي"، وليعلن بهذا الدعاء بدء انطلاق الجزيرة للعالم في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1996م، وليصدح معها صوته للآفاق. وأول من قدّم برنامج "الشريعة والحياة"، كما أنه مؤسس الموقع الإلكتروني لقناة الجزيرة باللغة العربية وأول رئيس تحرير له، بالإضافة إلى مساهمته بإطلاق الموقع الإلكتروني للجزيرة الإنجليزية. كما ترأّس "الشيخ" تحرير قناة الجزيرة العربية لستة أعوام، من 2004 وحتى 2010.

 

وفي هذه المقابلة لـ "ميدان"، نسعى لاستنطاق بعض مما تزخر به تجربته، علّنا نتعرف عن قرب على شخصية أحمد الشيخ، بلسانه هو، وأسئلتنا نحن.

  • ميدان: في البداية، لا شك أن هناك محطات ومواقف عائلية وتاريخية بارزة كان لها الأثر في تشكيل اهتمامك الإعلامي والسياسي، هلّا عرضتَ لنا بعضا من هذه المواقف، خصوصا أن دراستك الجامعية كانت بعيدة عن الإعلام؟

بالنسبة للإعلام كقاعدة عامة، فإتقانه والإبداع فيه لا يشترط أن يكون عبر الجامعة، بل القضية كما شأن أيّ عمل آخر، يتمثل في عشقه، والحرص على إتقانه والتجويد في كل الحالات. وكما قال تعالى: "إن رحمة الله قريب من المحسنين"، والإحسان هنا لا يعني أن تدفع نفقة أو صدقة، بل الإحسان يمتد حتى إلى أنك إذا "ذبحت ذبيحتك أن تُحسن ذبحها" كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام.

 

إنما كلٌّ مُيسّرٌ لِما خُلق له. في الطفولة، أتذكر، حينما كان عمري خمسة، أو ستّة أعوام، ذلك الصبيُّ الشقي، في قريةٍ شوارعها بلا أسماء، وكلّ رجالها كما قال محمود درويش في الحقل والمحجر، والغبار يكسو شوارعها، والصبيُّ الشقي يصعد عند المسجد في القرية، وفي بيت شيخ القرية، أي المختار، ثمّة صوت يخرجُ من غرفة عُليا، وهذا الصبي يستمع، فيقول الصوت: "هنا لندن، القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية". يخرجُ الصبي ويذهب للحارة الأخرى، وفيها شيخ آخر، مختارٌ آخر، فيسمع الصوت نفسه في تلك الغرفة أيضا: "هنا القاهرة، هنا صوت العرب، هنا لندن، هنا إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية من عمّان والقدس" -قبل أن تضيع القدس من قاموس العرب-. ويتعجب الصبي، يذهب إلى البيت، فيسأل والده، إني أسمع الرجل نفسه هنا وهناك، كيف؟ كيف يكون هذا؟. حيث إني ظننتُ أن هناك رجلا يتكلّم لديهم، فلم أكن قد رأيت قبلها مذياعا، ولا راديو. والزمن هنا كان في العام 1955، حينما بدأت أعي الدنيا وأنا الذي ولدتُ في العام ١٩٤٩. فيقول والدي -رحمه الله-: "هذا يا بُني "الراديو"، وإن شاء الله بكرة بتكبر وتشوفوا".

أحمد الشيخ: أنا من قريةٍ اسمُها جَمَّاعين بنابلس، والأرض هي العنوان، والهوية والهوى، وكل شيءٍ يتصل بها
أحمد الشيخ: أنا من قريةٍ اسمُها جَمَّاعين بنابلس، والأرض هي العنوان، والهوية والهوى، وكل شيءٍ يتصل بها

وقد أعطى الإنجليز في عهد الحرب العالمية الثانية لكل مختار راديو، وأهل القرية يتجمعون أسفل بيت ذلك المختار يستمعون لأخبار الحرب، ومنهم من كان يقف مع هتلر، ومنهم من كان مع الحُلفاء، وقد كانت خطط تهويد فلسطين ماضية وهم لا يدرون عنها شيئا. نحن غافلون عنها، من يومنا حتى اليوم. ثم بدأت أجهزة الراديو تنتشر في القرية لمّا بدأ الناس بالذهاب للخليج، وقد كان جهاز الراديو حينها كبيرا، يوضع على سطح البيوت، وبطارياته في الماء. وأصبح الراديو حينها رمزا للمكانة الاجتماعية، فمن امتلك راديو، ارتفعت قيمته الاجتماعية، أما نحن، وبسبب ظروفنا المادية، فلم نكن نمتلكه. وكنت حينها أتوق، وأقول: "لو عِنَّا راديو". أخيرا في 1959، اخترع اليابانيون الترانزيستور، وحلّ محل هذا الجهاز الكبير، ليصبح الراديو في متناول الفئات الأقل درجةً في السُّلّم الاجتماعي، فإن كان لديك شيء من المال، بات بإمكانك شراؤه.

 

فذهب والدي، وكنتُ في العاشرة تقريبا والتوقُ يزداد للاستماع لتلك الأصوات، وفي تلك الفترة، جاء والدي بالراديو العتيد بعد عودته من نابلس. لونه أحمر ويحملُ شعار "SANIO"، وكانت تلك فرحة، فرحة غامرة. فانغمس الصبيُّ في هوى الراديو، وأصبح يتابعُ ما يطلبه المستمعون والشيخُ المتصابي بطله، ويستمع إلى ألف ليلة وليلة في إذاعة القاهرة. ثم يكادُ يتهاوش مع والده على الوقت، فالوالد الكبير يريد أن يستمع للأخبار، وهذا الصغير يريدُ أن يلهو. لكنه أيضا كان يستمع إلى أكرم صالح وأولاد العيسى في إذاعة لندن: "هنا لندن أيها السادة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إليكم نشرة الأخبار وأستهلها بالعناوين".

 

أخذ الصبيُّ يعيدُ هذه العبارات، فترسّخت في نفسه. وكنتُ أقول: "آه، لو أني في يومٍ من الأيام أرى لندن تلك". وذات يوم، قال لي أبي -وكأنه كان يطّلع على صفحة في الغيب، حاشا لله-: "يا بُني، لا تعجل، قد يأتي يومٌ ترى نفسك فيه تقرأ من إذاعة لندن، فإنك لا تدري ماذا يُيسّر الله لك". ومن تلك اللحظة، كانت الأحلام تراود ذلك الصبي، يتخيل نفسه وراء المايكروفون، يتخيل نفسه يتحدث مع أحمد سعيد، يتخيل نفسه يقرأ شيئا، يكتب شيئا. نما ذلك الهوى، ذلك العشق في النفس. ومرّت الأيام، وجاءت الأيام، وذهبت.

 

الصبيّ، ذلك الصبي المُتصابي الشقيّ، يلهو ويلعب، وفي النهاية فلّاحٌ بسيط، ابن فلاحين بُسطاء، كل عملهم في الأرض، هي الهوية، والوطن، والأم، والأب، والمستقبل، والحاضر، والماضي. تلك الجبال، تلك الأراضي في فلسطين، في قريةٍ اسمُها جَمَّاعين بنابلس، فالأرض هي العنوان، والهوية والهوى، وكل شيءٍ يتصل بها، حتّى شُويهاتي، حتّى بَقَراتي كانت جزءا من الهوية ولا تزال. وكُلها صورٌ جميلة، وعظيمةٌ يا بُنيّ، لا تُفارق خيالَ الصبي، فما زال صبيًّا، يسرحُ معها كلَّ ليلة، لا ينام ليلةً إلا وتراوده تلك الصور، وكأن العالم، وعقله، توقف. إننا كالأطفال، والطفلُ فينا لا يموت.

 

المهم، وحين وجدت نفسي عام 1994، داخل ذلك الأستوديو في لندن، في البي بي سي، تذكرتُ مقولةَ والدي، لكأنّه كان يعلم، لا والله ما كان يعلم، لكنها خبرةُ الشخص الأكبر "إنك لا تدري، قد تُيسّر لك الأيام". بالطبع كنتُ قد دخلتُ الإعلام وامتهنت العمل فيه قبلها، لكن أن أبلغَ هذه الذروة، في لندن، فكان ذلك أدعى لتذكّر مقولة والدي حينها. من هناك بدأ العشق، من تلك الأصوات الجميلة، من البرامج الممتلئة بالمحتوى، وبالعلم والمعرفة. من هنا بدأ العشق مع الإعلام، لكنني ما إن تخرجتُ في الجامعة، في عام 1972 بعد دراستي في الجامعة الأردنية للغة الإنجليزية والأدب، ولم أكن حينها أعمل في الإعلام، إلا أن الراديو لم يكن يُفارقني ليل نهار، حتى وأنا في الجامعة، وكنت دائم التسجيل على شريط "الكاسيت". حيث كان في إذاعة بغداد أصوات جميلة، فكنت أستمع لـ "ويبقى العراااااق الأصييل، الأصييل". وهذا الشاب يُدرّب حنجرته، وكأن الأقدار تسوقه لكي تكون تلك الحنجرةُ موردَ رزقه. الأقدار، ربُنا ييسرنا لما يُريد، ونحن لا ندري، إذًا "كلٌّ ميسّرٌ لما خُلقَ له". وبعد تخرجي، كنت ملتزما حينها مع الحكومة الأردنية بأن أخدم مدرسا لديهم، فخدمتُ في عمّان ثلاث سنوات، ثم تركتُ الأردن وذهبت للكويت، وعملت أيضا في التدريس.

 

حتى وأنا أعملُ بالتدريس، لم يكن الراديو يفارقني، والجريدة، والمجلة. أقرأ، أتثقف، وأتابع ما يجري في العالم، حتى كنتُ أقرأ المجلّات الأجنبية، إيكونوميست، نيوزويك، تايمز ماغازين، وناشيونال جيوغرافيك. وعقبَ تخرجّي في الجامعة، قرأت ذات يوم في إحدى الجرائد الأردنية أن إذاعة صوت أميركا تريد مترجمين ومذيعين، فقلت لا بأس من التقديم، فتقدّمتُ بطلب في السفارة، وبعد أسبوعين، طلبوني للمقابلة، ذهبتُ وقدمتُ امتحانا في الترجمة، وتجاوزته بنجاح، وكان عُمري حينها 23 عاما، ثم قال لي أحدهم: "أتستطيع أن تقرأ شيئا بصوتك؟"، قلتُ: "نعم"، ودخلت وقرأت. وبعد انتهائي قال: "انتظر". فانتظرت، ثم خرجَ وقد استمع للشريط، فقال: "What a strong voice"، وسُنعطيكَ عقدا على صوت أميركا، وتذهب إلى واشنطن للعمل مذيعا ومترجما. وخاطبني ذلك الرجل مُتسائلا: "هل أخبرك أحد بتميز صوتك؟"، أجبته بالنفي.

 

في الحقيقة لم أستغل الفرص التي يمكن أن تتاح لي من صوتي، لأنك حينما تُطارد الرغيف، وهو أسرع منك بحسب متوالية هندسية، فكلما ركضتَ والتقطت أنفاسك، تجاوزك، لتكون في سعي دائم للركض وراء الرغيف، ناسيا ما يتصل بالفرعيات، وتبقى الأساسيات نُصب عينيك، في الرغيف، تريد أن تأكل، وما يتبقى يكون تَرَفا، فأنت تريد أن تكسب أموالا.

 

عقب اجتياز المقابلة بنجاح، ومن فرحي، تخيلتُ نفسي أمشي فوق رؤوس الناس. ولكنّ لي أسرة ينتظروني، فلم أكن قد عملتُ بعد تخرجي في الجامعة بالأردن بعد، وكانوا ينتظرونني في فلسطين. حينها، أخبرت والدي عبر الناس وأنا في عمّان، فجاءني بعدها بأيام قليلة مُسرعا، وقال: "أين؟ تذهب إلى أميركا؟ أين؟ سأغضب عليك، لا والله". فاشتريتُ رضاه بتلك الوظيفة. هل كان خطأ أم صوابا، لا أدري، لأن ما يسّره الله بعدها لي كان مميّزا جدا. وقد كان لأبي وجهةُ نظر في ذلك، فقد انتظرني طيلة تلك السنوات لإعانته، فربما ذهبتُ ولم أعُد، وهو الأمر الذي حدث كثيرا حولنا، وكان لأبي تجربة شخصية لأحد أقاربه الذي ذهب ولم يعُد. فخاف عليّ هو وأمي، وهذا حقُّهم. في الحقيقة، ووفق تلك الظروف، التي تسعى فيها للكسب الآني، فإنك لا تستطيع لوم أهلك، ولا نفسك.

 

بعد التخرج، وكما ذكرتُ سابقا، فقد عملت ثلاثة أعوام في التدريس بالأردن حتى عام 1975، ثم انتقلت للكويت للتدريس أيضا والتي بقيت فيها حتى عام 1990. وذات يوم، وخلال فترة التدريس، كنت أخبر المدرّسين حولي في فترة الصيف الذي يستغلها غالبية المدرّسين للسفر لبلدانهم، وحيثُ لم أكن أمتلك المال الكافي للسفر، فقد بقيت في الكويت محاولا إيجاد عمل إضافي، للتكسُّب. فأخبرت زملائي أني أريد البحث عن إحدى الجرائد لأعمل مُترجما فيها بعد فترة الظهيرة، والمدرسون بعادتهم تقليديون، مثبّطون، فقال أحدهم: "يا عمّي ما عندكش خبرة، ما حيقبلوك". إلا أني أصررت على التجربة بنفسي، وذهبت لصحيفة القَبَس الكويتية، وكان هناك حارس مصري اسمه يُسري، يسّر الله له أمره أينما كان، قال لي: "أيوا يا بيه؟"، فقلت له: "أريد أن أعمل مُترجما"، قال: "ممنوع أطلّع الناس"، قلت له: "بس بدي أشوف، إذا قبلوني، قبلوني، إذا ما قبلوني، خلص". نظر لي، وقال: "والله انت ابن حلال، قلهم إنه يُسري في الحمّام ومفيش حد، اطلع شوفهم".

جريدة القبس

صعدت، ووجدت رجلا يُدخّن، وقد أصبح صديقا لي لاحقا، اسمه صالح الخريبي، وقد كان ممُسكا بسيجارة، ثم وضعها على منفضة السجائر، وهو يُترجم على ورق الجرائد الأصفر. فنظر لي، وقال: "هل لديك خبرة؟"، قلت له: "لا". فقال: "ليش جايني؟"، فقلت بالفُصحى: "جئتُكَ طالبا للرزق، فلتُجرّبني". فقال: "أوف. طالبا للرزق؟"، قلت: "أنا مُدرّس، وبدّي آكل خُبز". فمزّق ورقة من مجلة التايم تتناول الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وقال لي: "ترجمها". فترجمتها، وعُدت له بعد ساعة. فقال: "قلتَ لي انه ما عندك خبرة"، فأجبته بالموافقة وأنّي لم أعمل سابقا. مَسَكَ بيدي، وذهبنا إلى مدير التحرير واسمه رؤوف شحوري من لبنان، وهو الذي بات صديقا لي حتى اليوم، ووافق عليّ. قال لي رؤوف في اليوم ذاته: "عندك تليفون بالبيت؟"، فقلت له: "لأ، ليش؟"، فأجابني: "مشان تقول لمرتك إنه انت مش حتيجي عالغدا، وحتشتغل معنا، وحنعطيك 80 دينارا كويتيا في الشهر". وقد كان مبلغا جيدا جدا حينها. ومن هنا، من هذه اللحظة، بدأت مسيرتي الإعلامية.

 

  • ميدان: لا شك أن لفلسطين دورا رئيسيا في تكوينك الشخصي والمهني، وأنت الذي ولدت بعد النكبة بعام، فأين تقع فلسطين من مسيرة أحمد الشيخ الإعلامية؟

هذا السؤال الإجابة عنه بَدَهيّة، فأنت تتحدث مع شخصٍ ولد بعد النكبة بعام كما قُلت، في فلسطين، أو فيما كان يُعتقد أنه جزءٌ حرٌّ في فلسطين. لذلك، كان التفاعل مع القضية الفلسطينية أمرا طبيعيا، حتى فيما تسمعه في الراديو، وفيما تقرؤه في الصحف. وأتذكر أحد المواقف الطريفة، حينما كان جمال عبد الناصر دائم الخطابة، وكان الأردن -الذي كان يُسيطر على الضفة الغربية حيث أعيش- حينها ضد عبد الناصر، وكان "يا ويلو" من علمت عنه المخابرات الأردنية أنه يستمع لإذاعة صوت العرب.

 

فُكنت أُخرجُ الراديو على شرفة المنزل الصغيرة، وأستمع لعبد الناصر. فكان جارنا أبو عبد الله يُخبر والدي أن هذا الولد سيسجنك، ويسجن أهل بيتك. فيأتيني والدي ليخبرني برفق للتخفيف مما أقوم به، وأننا لسنا بصدد تحمل تبعات هذا الموضوع. منذ تلك الأيام، صار اتهام الأنظمة العربية حاضرا، والتجاذبات حول القضية الفلسطينية حاضرة أيضا. ومن هنا فقد نشأت في بيئة تحيط بها القضية الفلسطينية وامتداداتها من كل جانب. حينها، كان كل شيء تقيسُه بمقياس هذه القضية. الوطنيُّ هو الذي يُخلصُ في حب فلسطين، والخائن هو الذي يخذل فلسطين. بذلك، أصبحت القضية بالنسبة لي أنا، وجيلي في ذلك الوقت، أبيض وأسود، ولا مكان للوسط. فلسطين هي المحك، وورقة القياس، والكاشفة.

 

بين هذا وذاك، في تلك الأيام، لم يكن عقل الصبي أو الشاب مُعقّدا بما فيه الكفاية ليُفلسف الأمور ويعطيها أبعادا أخرى. كما أني حينما كبُرت، وكبُر ذلك الولد الصغير، فإن معظم ما أنتجه كان عنها، وهذا لم يكن من باب التعصب، بل من باب العاطفة، والخدمة للأمة. فقد أنتجتُ عن فلسطين ما يقرب من 10 إلى 12 فيلما وثائقيا، لأن الأمة في الحقيقة بحاجة إلى توعية في هذه القضية، حيث ما زالت هي المركزية، والأساس فيما نعيشه اليوم من أزمات.

 

في الحقيقة، كل شيء بُنيَ انطلاقا من هذا الفهم. وحتى هذه اللحظة، بالنسبة لي كشخص، أقيس الأشياءَ بفلسطين. صحيح أن هناك فارقا بالنضج الذي يراكمه العُمر، فربما أُفسّر وأتعمّق أكثر. قد لا أذهبُ وأُلقي الاتهامات جُزافا للناس، وأقول هذا خائن كما كان أيام الصِّبا. لكن، في نهاية المطاف، كل شيء في حياتك، عملك، تربية أبنائك، وفي فرحك، وترحك، في سفرك، قعودك، هو مرتبط وما زال بهذه القضية. لأنني أولا فلسطيني، ولأنني عربي أؤمن بالعروبة، ولأنني مُسلمٌ أرى أن سورة الإسراء جاءت في نهاية النصف الأول من القرآن الكريم، ونهايتها في بداية النصف الثاني من القرآن. هي إذًا محور القضية كلّها. لهذه الأسباب، أنا هكذا.

 

  • ميدان: رغم دراستك للغة الإنجليزية في مرحلتك الجامعية، فإنه يمكننا ملاحظة مركزية اللغة العربية في شخصية أحمد الشيخ، والتي انعكست طيلة مسارك الإعلامي، كتابة، وصوتا، وأداء، فما أسباب هذه المركزية، وكيف تشكّل شغفك باللغة؟

أيضا، كلٌّ ميسّرٌ لما خُلق له. سبحان الله. اللغة في نهاية المطاف لغة الأم، التي تُرضعها مع حليبها، هي التي تُشكّل شخصيتك، لأنها الأداة، والوعاء، الذي يصِلك من العالم، ويُوصل تجاربك إلى العالم. "وعلّم آدمَ الأسماء كُلّها"، القضية ليست هنا كوني أنا أحمد، وأنتَ عُمر، لا. اللغة معرفة، ودلالات، ومعطيات تصل إلينا عبر اللغة. فاللغة التي يتعلّمها الواحد منّا تُصبحُ جزءا من تكوينه، من شخصيته، وهذا عن اللغة بعمومها. فما بالك بلغةٍ خلّدها كتابٌ مقدّس، لا يقوى إنسانٌ ولا مخلوقٌ على وجه الأرض أن يأتيَ بمثله أبدا. أنت تقرأ أيَّ آيةٍ فهي مُعجزة، وتستمع له فتزدادُ كلّ يومٍ قناعةً أن هذا ليس من قول بشر. يستحيل أن يأتي إنسان بمثل هذا. وهذا الذي رضعناه مع الأم، في البداية.

 

أتذكر أيضا أن المدرسة، والمقادير، كان لهما دور في هذا التكوين. ففي عام 1956 دخلت المرحلة الابتدائية، وكان يُدرّسنا مادة الدين والتربية الإسلامية واللغة العربية شيخٌ معمّم رحمة الله عليه، واسمه أبو معن محمد حسن. أبو معن هذا كان يسكن نابلس، ويأتي كل يومٍ لقريتنا بالسيارة، ونحن صِبية صغار، وكنّا نتسابق كما يفعل الذين من قبلنا حينما ينزل شيخٌ من سيارته، فنتسابق أيُّنا يحمل حقيبته ونقبل يديه، فهو مُعمّم، شيخ، هكذا تربّينا. فالشيخ إذا رأيته عليك لِزاما أن تقبل يده. فيقول لنا: أنا لا أتكلّم إلا الفُصحى. وكان يعرف من لديه القدرة على الأداء منذ الصغر ويشجعهم. وكان كل يوم، حين نمسك بحقيبته، يقول بصوت جهوريّ: "قفوا يا أبنائي.. قِفوا". وكانت مدرستنا على تلّة تُطل على فلسطين المحتلة، أو كما تُعرف بفلسطين الـ 48، وربما في يومٍ صافٍ تستطيع أن تشاهد البحر المتوسط منها، وكان بالصوت الجهوري ذاته يقول وهو يشير إلى تلك الأرض بيده: "ذاااك بحرُنا، تلك أرضنا. ذاك بحرنا، تلك أرضنا". كلّ يوم.

 

فأذهبُ وأقولُ لوالدي: "هذا الشيخ مجنون يا بابا"، فيقول لي: "ليش يا أبوي؟"، فأقول: "كل يوم بقول ذاك بحرنا، تلك أرضنا. ذاك بحرنا، تلك أرضنا. كل يووم؟"، فقال والدي: "ستكبر يا بُنيّ يوما وتعرف أن الشيخ ليسَ مجنونا". وكبرتُ وعرفت.

 

وكان الشيخ يدخل للصف، ثم يكتب على اللوح "بلاد العُرب أوطاني … من الشامِ لبغدانِ"، ويعطينا ألفيةَ ابن مالك ونحن صغار، وكنّا نختم القرآن في الرابع الابتدائي. من هنا ينشأ عندك حبُّ العربيةِ، خاصة إن كنتَ تمتلك من الله عز وجل المقدرة. وكان الشيخ يعلمُنا أحكام التجويد، وكنتُ أعرف الغُنّة، ويقول الشيخ: "آآه يا أحمد، يا أحمد". وفي أحد الأيام كنت أقرأ من الكتاب، وقال لي الشيخ، غُنْ. فقلت له: "هذا ليس قرآنا". قال: "نعم، هذا ليس قرآنا، وصفّق لي". فغرس في نفسي حبّ اللغة، وحب العربية، وجاء لحسن الحظ أساتذةٌ بعده مَشوا أيضا على المنوال ذاته. بالإضافة إلى الراديو الذي كنت أستمع له. كما أني كنتُ أحب القراءة، وأذكر أني استعرت أول كتاب حينما كنت في الصف الرابع من مكتبة المدرسة، وكان عن الثورة الجزائرية تحت عنوان "الجزائر أرض اللهب والدم". واليوم أتساءل: لماذا لم يكن في مكتبتنا شيء عن فلسطين، وهي بجانبنا؟ أعرفُ اليوم لماذا. كنا ننشد للجزائر في الصباح، ولم نكن نُنشد لفلسطين. مع أني أحب الجزائر وسعيد أنّي أنشدت لها "قَسَما بالنازلات المَاحقات". إلا أن فلسطين كانت محتلة، لماذا لم نكن نُنشد نشيدها يا قومنا، يا من كنتم في الضفة الغربية؟ واليوم أعرف لماذا.

 

لا نريدُ أن نزيد في هذا. من هنا، ومع تداخل كل تلك العوامل، جاء حب اللغة العربية، فأنت لا تحتاج إلى أن تدرس اللغة العربية لتُتقنها. لا تحتاج. ما عليك إلا أن تُطالع، وتقرأ، وتفكّر، وتستمزج. وأن تطور الذائقة الجمالية لهذه اللغة. هذه ذائقة تستطيع أن تطورها كلّما قرأتَ أكثر، خاصّةً كلّما استمعت لكتاب الله وقرأت فيه، وكلّما ذهبتَ إلى التراث، وقرأت، وحاولت أن تكتب أكثر، تتطور الذائقة لديك وتتعزز المقدرة اللغوية وتتقوى. هذا هو الطريق لمن أراد، ولا طريق آخر.

 

  • ميدان: هل كان لكتب الأدب دور في تشكيل حصيلتك اللغوية؟ وما الكتب أو الروايات التي ما زالت عالقة في ذهنك وتنصح الآخرين بها؟

أحمد الشيخ: كلما قرأت، استطعتَ أن تُحدّق في اللحظة، وفي النص. والتحديق أمرٌ مطلوب، لا أن تكون قراءةً عابرة تمرُّ مرّ الكرام

بالتأكيد كان لها دور، وهي كثيرة في الحقيقة. وكنت أتمنى لو أنّي كنتُ أُتقن اللغة الإنجليزية منذ البداية، لكنتُ قرأتُ في مجال الرواية، لأن الغربيين أتقنوا هذا الفن قبلنا بعقود طويلة. ولكن القراءة كانت في البداية مما هو متوفر في المجال العام، أولا ما كنا نتعلمه في المدارس وفي دروس المحفوظات: المُعلّقات السبع، أشعار شوقي، أشعار المتنبّي، أشعار الرّصافي، أشعار البُحتري، أشعار أبو تمّام، كل هذه. وكانت عطلة المدرسة في الصيف جميلة، ولا تأتي بداية الدوام الدراسي إلا وأنهيتُ قراءة الكتب التي استعرتها من أبناء عمومتي الذين كانوا يكبرونني سنًّا.

 

ثُمّ كلما كان في مدرسة القرية من روايات مطبوعة في ذلك الوقت فإني أتلقّفها منذ البداية، كروايات نجيب محفوظ، والأجنحة المتكسّرة لجبران خليل جبران التي قرأتها مرارا، وعبقريات العقّاد، وطه حسين صاحب الكتابات الجميلة، وميخائيل نعيمة، ورفاعة الطهطاوي، والشاعر إبراهيم طوقان، وكثيرون غيرهم. كل تلك الروايات ساهمت في تشكيل حصيلتي اللغوية والأدبية، فكلّما قرأتَ أكثر، كوّنتَ لنفسكَ ذائقة لغوية، وتزيد متعتك. وكما قلت سابقا، كلما قرأت، استطعت أن تحدّق في اللحظة، وفي النص. والتحديق أمرٌ مطلوب، لا أن تكون قراءةً عابرة تمرُّ مرّ الكرام، وعليك أن تتساءل عمّا يقوله الكاتب، وما تقوله الشخصيات، وعما تتعلم منها، وكيف تتقاطع معها، وتتفارق معها. فالقراءة ليست لمجرد التسلية، لكنك بحاجة إلى أن تستوعب، وتعي ما هو موجود أمامك. ودون وعي، تمر الأشياء أمامك دون أن تكتشف قيمتها. والفرقُ بين قارئ وقارئ هو مقدار الوعي في اللحظة التي تمر أمامك.

 

مثلا حينما تقرأ مسرحية شكسبير، عليك أن تتساءل عن الذي يقوله هامليت. فلسِفه، حاول أن تعكسه على نفسك، أن تتقمّصه. ومن هنا، فإن الشاعر أو الأديب الناجح هو الذي يجعل القضية الشخصية قضية عامة لبني الناس. فهامليت مثلا لم يكن صراعه مُتّجها نحو شخص، بل هو صراع الإنسانية مع الظلم، والشر، لذلك يستطيع الناس الشعور بأنهم هامليت. كل الناس ترى نفسها المتنبي وهو يقول: "ما لي أُكتِّم حُبًّا قد بَرَى جسدي … وتدّعي حُبّ سيفِ الدولةِ الأمَم". انظر لهذا البيت من الشعر، هو يعاتب سيف الدولة، حزين لأن سيف الدولة لم يُعطه ما يريد. وهنا تجدُ أن مخارج الحروف في بيت الشعر مُضعّفة مُشدّدة، وكأنه يريد أن يكظم حُزنه داخل نفسه.

 

وحين تقرأ لعنترة "ولقد شَفَى نفسي وأبرأ سُقمها … قِيلُ الفوارس وَيكَ عنتَرَ أقدِمِ"، حين كان قومُ عنترة يعدُّونه عبدا، وأبوه غير راضٍ عن الاعتراف به حتى يتزوج عبلة. ويقول إنه بعد مرضها أصبحوا الآن في حاجة إليه. لذلك عليك أن تقرأ النص، وتفهمه في سياقاته، لا كما يقرؤه سائر القوم. فكّر فيه وحدّق، وإلا فما فائدة القراءة؟

 

ثم بعد ذلك، ولمّا خرجتُ للعالم الآخر، كان لدينا "عالم المعرفة" ومجلّاتها المختلفة، والروايات الأجنبية حينما تعلمت الإنجليزية. كلّ ذلك أمدّني بالبُعد العالمي للثقافة، بصَنعَة الثقافة. ومع المُراكمة، تبدأ بتعلّم الصَّنعة، لا الهواية.

 

  • ميدان: يمكن الملاحظة ببساطة حين الحديث معك الأداء المليء بالشجون، وكيفية توظيفك للغة، ونبرة الصوت، والانفعالات، حينما تتحدث. فإلى أي المواقف ترجع صقل هذه المهارة؟

في الحقيقة، لم أتدرب في مدرسة قرآنية، ويا ليتني تدربت فيها. ولم أتدرب في مدرسة مسرحية. إنما هذا الاستماع للراديو، والتدريب الذاتي، والتقليد، مثّل البداية ونقطة الارتكاز. وكنت أقلّد الأصوات التي أسمعها وأنا في المنزل، وأينما كنت. ثم بدأتُ أطالعُ أحيانا المواضيع التي تتناول مخارج الحروف، ونطقها، بالإضافة إلى الشيخ أبو معن، الذي ساعدني كثيرا لإتقان مخارج الحروف. ثم بدأت أتفاعل، فحينما تضع قدما على الطريق، وتستشف جماليات النص الذي أمامك، فإذا استطعت أن تُحدّق في اللحظة، أن تُحدّق في تفاصيل النص، فستجد فيه بُحورا من الجمال التي لا تستشفّها العين الهاوية، بل تريد عينا مُتفحصة تُحدّق في اللحظة الزمنية والمكانية، وتحدق في سياقات النص، لتستشرف وتستشف ما فيه من جماليات، وإن فعلتَ ذلك، وحين تفعل ذلك، تستطيع أن تتفاعل مع النص، لأنك فهمته. إن كانَ فيه حُزنٌ، تتغير نبرة الصوت لتعكس الحزن، وإن كان فيه فرحٌ، تتغير لتعكس الفرح، لتطير. وإن كانَ موقفا عابرا، فإنك لست بحاجة إلى التفاعل. ومن ثمّ يأتي دور التدرب على مخارج الحروف، أما نبرة الصوت، فهذه من الله عزّ وجل. لكنك تستطيع أن تصقل أداءك من الصِّغر إن أوتيت الفرصة والموهبة، وهذا ما قدّرني الله عز وجل عليه من ذلك الراديو الأول.

وفي النهاية أقول: "كلٌّ ميسّر لما خُلق له"، وكأن الله منحني هذا الصوت لأعيش منه. تطوير الأداء يعود لك، وإذا وجدتَ من يستطيع تدريبك الموسيقى والمقامات ومخارج الحروف كالمقارئ المصرية والشامية فهذا مفيد جدا من حيث صقل الموهبة.

 

  • ميدان: قبل الانتهاء من الأسئلة المرتبطة بمسيرتك الشخصية، أود أن أطرح سؤالا عن تجربتك في التدريس، وهل تمنيت لو أكملت الخوض في هذا المسار؟

لو أنّي أستقبل من أمري ما استدبرت، -رغم كون الإعلام نقلني إلى العالم- لو أوتيت الخيار، لربما اخترت الطريق الأكاديمي، ولَمَا درست الإنجليزية، واخترت واحدا من ثلاثة: إما التاريخ، أو العربية، أو العلوم الشرعية، وأكملت في مسار أكاديميّ في أحدها. الآن في هذه السن أسألُ نفسي: ماذا لو كنتَ أنتَ أستاذا في جامعة، وتُشرف على الناس والعقول وتُسهم في تطورها؟ لكن لعلّ ما قمنا ونقوم به له أثره الجيد. التدريس تجربة عظيمة، ثلاثة في الأردن، وخمسة في الكويت، وتركتها في عام 1980 حتى يومنا هذا. وصدقني إن قلت لك إني أحلم أحيانا ليلا أن الجرسَ قَرَع، وأنّي تأخرتُ عن الفصل. لأنها كانت في البدايات، والبدايات يبقى أثرها ممتدّا. كما أن جميع من درّسوني كان لهم جميل الأثر فيّ، من الشيخ أبو معن، ثم الأستاذ مطلق، وعبد الحليم زيد. كانت صدورهم واسعة، وحينما يكبر الواحد منا، يشعرُ أنه أصبحُ بمستوى أولئك، لكنه يكون مخطئا.

 

وقد كانت صدورهم رحبة للحد الذي كان يدفعني لتحدّيهم في المسابقات الشعرية، وحينما كنت في بدايات المرحلة الثانوية، كنتُ أقول للأستاذ عبد الحليم -رحمة الله عليه-: "أنت والفصلُ في جهة، وأنا في جهة في قرض الشعر، من يسبق". وكان يقول لي: "حتى أنا؟"، وأقول له: "وأنت معهم يا أستاذ". وكنتُ أبزُّهم. وكان نمط المسابقة سجالٌ شعري أنا أبدأ ببيت شعر وأنت تبدأ من الحرف الذي انتهى به البيت الذي قُلته. وهي ما يُعرف بالمُساجلة الشعرية، وقد كانَ يضحك الأستاذ ويُسَرّ، رحمه الله. وبالطبع كنتُ أعمل على التحضير للمنافسة، وآتي بالأبيات الصعبة، فالقضية ليست حفظا فقط، لكنها تتطلّب إعدادا لإحراج الخصم.

 

  • ميدان: بالانتقال لمسيرتك الإعلامية التي أعطيتنا بعضا من ملامحها، أخبرنا عن تجاربك الإعلامية التي سبقت وصولك للبي بي سي ومن ثم الجزيرة؟

كما ذكرتُ لك، فقد كنتُ أعمل في الصباح مُدرّسا حتى الساعة الواحدة، ثم من الساعة الواحدة وحتى الخامسة مساء أعمل في صحيفة القَبس الكويتية. بعدها، وسعيا لمزيدٍ من التَكسُّب، فقد كنت أبحث عن عمل آخر بجانب التدريس والصحيفة. وقد كانَ لي قريب يعملُ في تلفزيون الكويت، وأخبرني عن بحثهم عن محرّرين لبرنامجٍ يُبثُّ مساء، فتقدّمت، وقبلوني. فكنت أذهب للتلفزيون بعد فترة دوامي بالقبس، وحتى التاسعة مساء.

 

عمليا، كانت بدايات عملي في التلفاز عبر تلفزيون الكويت، لكنّها كانت صنعة تقليدية قديمة جدا، استفدت منها كيفية تحرير الأخبار، حيث كان عمري حينها يشارف الـ 27 عاما، وكلّ من علّمني حينها رحل عن هذه الدنيا، رحمهم الله. أذكر منهم كامل العَلَمي، إحسان الدَجَاني، إحسان العَمَد، عبد القادر شكري، أحمد عبد العال، وليد اليحيى، وكثيرون كان لهم فضلٌ كبير. عملتُ معهم، فعلّموني كيف أُعلّم الخبر بإتقان، وقد كانوا يعتمدون عليّ بعد تمرّسي لعمل النشرة وتحريرها، وبقيتُ معهم حتى عام 1980. وفي هذا العام أيضا تركتُ التدريس، حيث تيسّر لي عملٌ في الخطوط الجويّة الكويتية بأجر أعلى، ففضلت هذه الفرصة حينها، وكنت أعمل على مجلّة توضع داخل الطائرة، واسمها "البُراق"، تختصُّ بالطيران. بالطبع أصبحتُ بعد هذه السنين التي عملتُ بها في الصحف والتلفاز مُتمرّسا في الترجمة والتحرير. بالإضافة إلى عملي في الطيران، تركت العمل الإضافي في صحيفة القَبَس، وانتقلت للعمل بجريدة الأنباء الكويتية، وبقيت فيها حتى عام 1990، وتركت الأنباء قبل مجيء صدّام حسين للكويت بأسبوعين لظروف شخصية، فقد كنت حينها في الحج، وحدثت معيَ ظروف أخّرتني، فأساءت صاحبة الجريدة إليّ، فقلت لها: "ما دمت تتحدثين معي بهذه الطريقة، فأنا لا أستطيع الاستمرار بالعمل معك"، واستقلت. في تلك الأيام كنت أنوي العودة لجريدة القبس، قبل أن يفاجئنا الاحتلال العراقي للكويت.

 

عدتُ للأردن، واستقريت بأبنائي الثمانية هناك، وقد كانت فترة عصيبة عليَّ وأبنائي، "كُنّا صفر، صفر، معناش إشي"، إذ كانت أموالي في الكويت حينها ولم أتمكن من أخذها معي وفقا للظروف التي طرأت حينها. وقد أعادوها لي لاحقا عقب انتهاء الحرب. لكنها كانت سنة صعبةً جدا. وحينها عملت مع أخي غير الشقيق في أعمال البناء بالضفة الغربية، لكنني لم أستطب ذلك العمل، فالتعامل مع الناس في هذه المهنة كان مُرهقا. فتركت العمل، وذهبتُ بعدها في العام 1994 إلى لندن، إلى البي بي سي. هناك تعلمتُ صَنعةَ التلفزيون الصحيحة، في هاتين السنتين فقط أتقنت هذه الصَّنعة، وكنت أستطيع أن أبُزَّ الإنجليز فيها.

 

  • ميدان: صِفْ لنا تجربتك بالبي بي سي، وهل كانت بوابة صوتك للعالمية؟

في الحقيقة نعم، وكنت أقرأ نشرات الأخبار فيها، ولبداياتها قصّةٌ مشوِّقة. فحينما دخلت للبي بي سي في اليوم الأول، ذهبنا لنتدرّب في الراديو. وكان هناك المذيع الفلسطيني العملاق ماجد سرحان، رحمه الله. وهو رجل عظيم، من أفضل الأصوات على الإطلاق. وكنا نتدرب على برنامج "عالم الظهيرة"، ولم يكن يعرفني ماجد سرحان بالطبع، وكان هو المذيع الرئيسي ونحنُ نقرأ التقارير، فقال: "من معنا اليوم في الأستوديو؟"، فقالت زميلة اسمها علياء شرابات: "معنا فُلان من القديمين، والأستاذ أحمد الشيخ". فنظر إليّ نظرةَ استغراب، ثم أشاح، وبدأ يُراجع الترجمات، وقال: "والله ياخي الأستوديو وضعه غريب، يعني أي حد صار ييجي جديد يحكوله يلا عالأستوديو. هيك بنفع هالكلام؟"، وكان المقصودُ معروفا بالطبع، كان يقصدني أنا. فقلت له: "يا أستاذ ماجد، أنت تقصدني. وصحيح أني لا أمتلك خبرة، لكنّي كنتُ أتمنّى لو أنك انتظرت حتى تسمعني، أو تقرأ ترجماتي التي قمتُ بترجمتها". لم يُجبني، ولم يقُل شيئا رحمة الله عليه. وهو الذي أصبح صديقا لي لاحقا. المهم، دخلنا إلى الأستوديو، فجاء دوري لأقرأ ترجماتي، ولم ألحَن في اللغة العربية، وبأداء وصوت جميلين، وكنت أنظرُ إليه. ووجدته ينظر إليّ مندهشا وأشار إليّ بالإجادة. وبعدما انتهينا، عدنا للغرفة، فمسَكَ بيديّ وقال: "يا قوم، أريدُ أن أعتذر لهذا الشّاب، فأنا قصدته، ولكنّه أذهلني، والآن وبعد انتهائنا فأنا أدعوه للغداء على حسابي من باب الاعتذار، ومن أراد منكم أن ينضمّ إلينا، فليفعل". رحمه الله، تُوفي بعدها بعامين.

مذيع البي بي سي الراحل ماجد سرحان

الناس لا يعرفونك في البداية، ثُمّ تتكشّف قدراتك، فإن كانت حقيقية، فإنها تُكسبك احترام الجميع، حتى المُحترف منهم. وقد تعلمتُ هناك الصَّنعة الحقيقية، والتي أرى أننا ما زلنا بحاجة إلى تعلّمها وإتقانها في قنواتنا العربية. سواء من حيث التعامل مع الصورة، الكتابة للصورة، مونتاج الصورة، كتابة النص، قراءة النص. كلُّها لها قواعد، وليست ضرب عشواء.

 

في الحقيقة، يعود السبب لهذا الضعف الإعلامي في العالم العربي إلى غياب ثقافة الحرص على التجويد، وأن ينعكس ذلك على التصوير والمونتاج والقراءة والصوت والنص الاحترافي. هذه عوامل الصَّنعة التي ينبغي أن تتوفر في إنتاج العمل الإعلامي، فالقنوات الإعلامية ليست أداة تسلية فقط، فهناك قنوات مخصصة لذلك، إلا أن الأخبار كذلك ينبغي أن تُقدّم بصورة جاذبة وفيها إبداعٌ وخَيَال. هناك تعلمتُ كيف أقف أمام الكاميرا، وكيف أكتبُ النَّص، وكيف أجعله جذّابا، وكيف أكتب للصورة، وكيف أقرأ قراءة صحيحة، حيثُ هذّبت قراءتي وأُعطيت قواعد جديدة، كما أنّي تعلّمتُ مونتاج الصورة، وكيف أبدأ العمل من الفكرة حتى تصبح عروسا على المسرح. فالعمل التلفزيوني يجب على صاحبه أن ينظر إليه باعتباره عروسا تتزين بأجمل وأرقى الثياب، حتى تذهب للجمهور في أبهى حُللها، فإن ذهبت كذلك، أحبَّها العريس وعشقها. هي كما قال أبو العلاء المَعرّي في إحدى قصائده: "وليلتي هذه عروسٌ من الزنجِ … عليها قلائدُ من جُمانِ".

 

  • ميدان: ما الفوارق الجوهرية التي وجدت أن المحطّات التلفزية الأجنبية تختلف فيها عن المحطات العربية، هل الأمر مرتبط باختلاف العقلية؟

في الأصل، الفرق ينبع من الخبرة، فالبي بي سي مثلا أعرق وأطول وأكثر تجربة، إذ لها قرابة الـ 100 عام، فتجمّعت لديهم خبرة عريقة، وهذا ما يميزهم، فنحن قد تتجمّع لدينا خبرة، لكننا لا ندوّنها، ولا نطورها، ولا نستخدمها من أجل أن نرتقي بها وترتقي بنا، فلا تتراكم عندنا الخبرة، فتذهب هباءً. فالمُدير الذي يأتي، يُلغي الإرث الذي قبله، ويطالب الصحفيين بنسيان ما سبق، وقد شهدت عددا من هذه المواقف أمامي. لتُمسح تلك الخبرة ولا تتراكم. إذًا، فالفرق في طول الخبرة، فكل واحد هناك يبني على عمل الآخر. يضيف نعم، ويطوّر، لكنه لا يهدم.

 

الأمر عائدٌ كذلك للثقافة، أي ثقافة العمل والحرص على التجويد فيه وبناء عملية تراكمية من التجويد المستمر. بالإضافة إلى الإدارة، فمهما توفرت الأموال -وهيَ مهمة بلا شك- دون إدارة ناجحة، فإن الأموال تضيعُ هباءً وتتبدّد. هناك، تستطيع ببساطة أن تجد إدارة تحرص على التجويد، وتضعه نُصب أعينها. كنتُ أذهب أحيانا في البي بي سي الساعة السابعة والنصف صباحا، وكنت أرى كبير المديرين التنفيذيين هناك واسمه "جون بيرت" حاضرا، وأحيانا كنت أتأخر حتى الساعة السابعة والنصف مساء فأراه خارجا معنا. في الصورة الأخرى، فقد عملتُ مع مُديرين لم أرهم 5 ساعات في العمل. يأتي الساعة التاسعة، ويذهب الساعة الثانية ظُهرا. وكثير من رؤساء الأقسام كانوا على الحال ذاته، وهذا ما تُنتجه الإدارة الرَّخوة من تسيُّب. كما يُمكنك أن ترى بوضوح في عدد من المؤسسات الإعلامية العربية ترجيح كفة الولاء للمدير والأيديولوجيا على حساب الكفاءة المهنية، وهذا ينعكس على التوظيف والتَّرقّي داخل المؤسسة.

 

المذيع مثلا في البي بي سي يأتي قبل النشرة بـ 4 إلى 5 ساعات، يقرأ كل شيء، ويكتب مقدماته، فهو الذي يكتبها ويُحرّرها، ويحضّر أسئلته، ويناقش المنتج، فهو بذلك يكون جزءا أصيلا من النشرة. أما اليوم، فكثيرٌ منهم يأتي قبل النَّشرة بساعة أو أقل، فيكون مجرّد مُلقٍ. هنا يتمثّل الفرق، في الحرص على الإتقان والحرص على التراكم والتجويد.

 

أما حرص الكثيرين من مديرينا فيتمثّل في حرصهم على ألا يُراكم، فهم يتصرفون من منطلقات شخصية لإثبات أنهم أنجزوا شيئا وحدهم. كل ما ذكرته يتجمّع فيُنتج ثقافة مختلفة تماما، يُنتج صَنعَة إعلامية لها قواعد، وليست متروكة للأهواء. وهذه القواعد إذا عدتَ لثقافتنا وديننا فستجدها حاضرة، فالوضوء له قواعد، والصلاة والعبادات كلها لها قواعد.

 

  • ميدان: نصل الآن لتجربتك في الجزيرة، في العام 1996م.. أخبرنا عن التأسيس والانطلاقة.

قبل أن أصل لتجربة الجزيرة، وأثناء عملي في البي بي سي، فجأة، وفي أحد الأيام دون سابق إنذار، قالوا: "خلص، سكّرنا"، وقد قطع السعوديون حينها التمويل عن القناة العربية بعد خِلاف مع إدارة الشبكة. بعدها تظاهرنا لمدة أسبوعين علّنا ننال حقوقنا، لكن دون جدوى. وقبل أن تُغلق القناة العربية، جاء وفد قطري كان فيه المدير السابق للقناة محمد جاسم العلي (أبو جاسم) والسهلاوي وعدنان الشريف.

 

وبعد أن أُغلقت، أتيت للدوحة في الأول من يونيو/حزيران 1996، أي قبل الانطلاق بخمسة أشهر، وبقينا نُحضّر حتى إطلاقها، وكان التساؤل حينها: "هل سيفعلون حقا كما البي بي سي بأن تقول ما تريد دون تدخّل؟". وقد كانت الإدارة تؤكد لنا ذلك، لكن السؤال ظلّ قائما. وفعلا وَفَّوا بما قالوا. ومنذ السنة الأولى تسوّدت المشهد الخليجي/الإقليمي. وكانت الجماهير تنظر لها باستغراب، فاغرين أفواههم وغير مُصدّقين لما يرونه، فهل يُعقل أن تتحدث قناة خليجية بمثل هذه اللهجة حيال دول مجلس التعاون؟

ففي هذا العالم العربي، أن يوجد صوتٌ يقول الحق، ويتحدث في العتمة، فإن هذا لم يكن مألوفا بحال، ولذلك كانوا مندهشين. وبعد عامين من تسيّدها المشهد العربي والإقليمي، ذهبت للعالمية، خاصة بعد عملية "ثعلب الصحراء" الأميركية في بغداد، والتي دفعت السي إن إن لبث المقاطع والصور الخاصة بالجزيرة، وبذلك أصبحنا نُسابق تلك القنوات، حتى إننا في العام 2004 كنا رقم 4 في العالم.

 

وكان صوتي أول صوت يخرجُ على شاشة الجزيرة، إذ قُلت: "ربِّ اشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، واحلل عُقدةً من لساني، يفقهوا قولي"، وقد فَقِه الناسُ قولَ الجزيرة. يُقال إن السيّد المسيح وُلد متكلِّما. وكنتُ أقول: "الجزيرةُ كعيسى عليه السلام، وُلدت ناطقةً، وتسابق الآخرين في الكون". وقد كان الفريق الأول مؤمنا بالرسالة، والحرية، فانعكس ذلك على انطلاقة القناة.

 

صحيح أن الجزيرة لم تعد تحمل البريق ذاته الذي حملته في ذلك العهد، إلا أن هذه هي سنة الحياة، صعودٌ وهبوط، ورغم هذه الحال، فإن الجزيرة ما زالت وستبقى إن شاء الله، بصرف النظر عمّا يحدث والظروف التي تمر بالمنطقة عموما، فستبقى صوتا مؤثرا يثق به الناس ويعودون إليه إذا حلكت حولهم الأجواء وأعتمت. كما قال أبو فراس الحمداني: "سيذكُرُني قومي إذا جدّ جدّهمُ … وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدرُ"، والجزيرة كذلك، فحينما يطرأ حدث، تعود الناس للجزيرة، إذ تعلم أن الخبر يأتي من هُنا. صحيحٌ أن أداء الخبر يهبط، إلا أن ذلك يدفعنا للعودة إلى قضية الصَّنعة واستكمالها، فهو أمرٌ واجب، وليس من فضول العمل الصحفي.

 

  • ميدان: ننتقل الآن للعام 2000 وتأسيس الموقع الإلكتروني العربي لقناة الجزيرة والذي كنتَ أول رئيس تحرير له، هلّا أخبرتنا عن تجربة التأسيس من الفكرة حتى التنفيذ؟

في الحقيقة، ومنذ بداية عملي في الجزيرة، فقد كانت هناك بعض المشكلات الإدارية التي لم أكن مرتاحا بشأنها، وفي عام 2000، ذهبت إلى أفغانستان للعمل على فتح مكتب للجزيرة هناك أيام حكم طالبان، وبالفعل أتممت إجراءات الافتتاح. وبعدها وللظروف الإدارية التي أشرت إليها أعلاه، فقد فكّرتُ جدّيا بالاستقالة، وحينها أخبرت نائب رئيس مجلس الإدارة محمود السهلاوي أنني أريد العمل على إطلاق موقع إلكتروني للجزيرة، وقد كانت فكرتي بالأساس ومن يقول غير ذلك فهو كاذب، أو أني أفضل الاستقالة على البقاء في القناة. وبالفعل وافقوا على الفكرة وكنت رئيسا للتحرير، وعملتُ لمدة 5 إلى 6 أشهر في تدريب الصحفيين. وبعد إطلاق الموقع بشهرين، وإثر تراكم عدد من المشكلات، عدتُ للقناة للعمل في برنامج "مُراسلون"، بجانب برنامج "الشريعة والحياة"، الذي كان أول برنامج يُطلق على القناة وكُنت أول من قدمه، وتحديدا بعد شهر من انطلاقة القناة مع الشيخ يوسف القرضاوي.

 

بعدها في عام 2001، وبعد تغطيتي لأحداث 11 سبتمبر/أيلول التي أشرفتُ عليها بنفسي في غرفة الأخبار، استقلت بالفعل، وحاولوا إقناعي بالبقاء، لكني اعتذرت، وغبت عن الجزيرة نحو 9 شهور للعمل في تلفزيون أبوظبي، ولم يعجبني الحال. لأعود للدوحة من بوابة هيئة الإعلام الخارجي، وقمت بالعمل على مجلة "الراصد" لمدة 7 أشهر. ليستدعني الشيخ حمد بن ثامر بعدها للعودة للجزيرة بهدف إطلاق الموقع الإنجليزي لقناة الجزيرة، إذ كان هناك فريقٌ يعملون عليه لمدة عام دون النجاح في إطلاقه، فاستدعاني الشيخ للإشراف عليهم. حينها أخبرته أني بحاجة إلى أربعة شهور لإطلاقه، وقد حدث بالفعل وكنت حينها مديرا للتحرير، وهو الموقع الذي ما زال قائما حتى اليوم ومُبدعا.undefined

وحينما جاء وضاح خنفر مديرا للقناة، جئت أنا رئيسا لتحرير القناة العربية لفترة امتدت من 2004 حتّى أكتوبر/تشرين الأول 2010. وبعدها انتقلت لأصبح مستشارا لمجلس إدارة الجزيرة حتى اليوم. وخلال هذه الفترة عدت للعمل على برنامج "الشاهد" الذي كان يُسمى "تحت المجهر سابقا"، وهو برنامج وثائقي، أجريت خلاله 9 حلقات وثائقية عن فلسطين بعنوان "الجرح المفتوح"، وعملت على الثورة المصرية، والسودان، وكوريا الجنوبية، والعراق، وأماكن كثيرة أخرى. بالإضافة إلى تقديم برنامج "مراسلون" و"الشريعة والحياة".

 

  • ميدان: مع وجود مواقع التواصل الاجتماعي واتجاه المؤسسات الصحفية لها، عادة ما تنظر الصحافة "التقليدية" لهذا النمط من الصحافة باعتباره لا يمت للصحافة بصلة. فهل هناك ثوابت في العمل الصحفي لا يمكن التنازل عنها؟ وهل هناك معادلة يمكن من خلالها ضبط السيولة التي أصابت الصحافة، بدءا من تقييم المنتج الصحفي وفق الأرقام، لا المحتوى، للكم على حساب الكيف؟

بداية، أنت لا تستطيع أن توقف التيارات التي تحدث في المجتمعات، وذلك بصرف النظر عن إيمانياتك. هذه أمور ستحدث، وفي بعض الأحيان تكون جارفة، إلا أن الأشجار القوية تصمد في مواجهة تلك الريح، وتتأقلم معها، وقد تنحني شمالا أو جنوبا، لكنها تصمد. كيف تصمد؟ إذا كانت جذورها متينة في الأرض، وهذا ما ينطبق على وسائل الإعلام. فالتيارات التي تراها اليوم أنت لا تستطيع إيقافها، لكنك تستطيع أن تُرشّدَ حركتها، أن تجعلها أكثر اتساقا مع العقل، وهذا يحتاج أولا إلى أن تكون مؤمنا بأن "المحتوى هو الملك"، أن تنطلق من هذه القاعدة بصرف النظر عن الواسطة، أو الوسيلة. فالوسيلة من الضروري أن تتماشى معها، إذ ليس من المنطقي أن ترفض مثلا العمل على الهاتف، أو الانتقال لمساحة الفيديوهات القصيرة. لذلك فإنك ستتجه لكل تلك الوسائل، وستعطي الشباب ما يحتاجون إليه، لكنّي سأمنحهم إياه بطريقة صحيحة، موثَّقة، علمية. أي لا أُعطيهم الغث فقط وأترك السمين. فالعمل على المنصات الجديدة ضروري، فأنا مثلا الذي أدخلت للجزيرة العربية تويتر، وفيسبوك. لكن المهم هو ما تضعه عليها، فهل أنت مستق مع القواعد الصحفية العامة، كالمصداقية، والدقّة، والنزاهة. وذلك ينطبق أيضا على المواد التي يمكن تصنيفها باعتبارها "ترفيهية"، فأنت بحاجة إلى أن تعرضها بالصورة الصحيحة، إذ لا يصح الانجراف وراء التيارات غير الموثقة، وأن تضع أنباء لا مصادر لها.

 

وكثير من المؤسسات تقع في أخطاء بسيطة تدفعها للاعتذار، لأن المسؤولين عنها بحاجة إلى تدريب، فالمسألة ليست منحصرة في عدد الزيارات المأمول على المادة الصحفية، فهذه الأرقام كثيرا ما تكون خادعة ومضللة. نعم أنا أريد زيادةً في عدد الزيارات، لكني أريده على مادة جيّدة. ومن يقول إن الشباب لا يفضّلون المواد ذات الجودة المعرفية، فهذا يظلم الشباب، وكأنه يقول لهم إنهم تافهون. أعطِهم مادةً جيّدة، سيحبّونها. وفي العالم الآن، هناك عودة للأصول، عودة للجهات ذات الموثوقية. فالناس بدأوا بالتنبه لحاجتهم إلى مصدر أخبار موثوق، وسط كل هذه الإشاعات التي تملأ الفضاء الافتراضي. إذًا، فالحل ليس في تجنب هذه الوسائل، لكن في التعاطي معها بصورة مسؤولة، تراعي الصدق، والموثوقية، والفائدة. فشبابنا بحاجة حقيقية إلى مساحات صحفية تحمل على عاتقها تقديم ثقافة رزينة، تساهم في زيادة الوعي بما يدور حولهم.

 

  • ميدان: هناك من يرى أن تدهور المحتوى الصحفي عائد لتغليب أولويات التسويق على أولويات الصحافة، أي تحكُّم معيار التسويق بتقييم المادة الصحفية؟

في كثير من الحالات هذا صحيح، لأن القائمين على كثير من المواقع خامتهم الثقافية ضحلة، فأنا لا أستطيع أن أطالبه بأن يتعمق أكثر، "وكلٌّ على قدر الزيت فيه يُضاء"، فهو لا يمتلك المعرفة أساسا، ولذلك هو يَسعد كثيرا بما يحققه من زيارات. وهنا أطرح تساؤلا: لماذا لم ينحرف عمالقة المواقع الصحفية كالنيويورك تايمز والبي بي سي والسي إن إن لهذا المنحدر التسويقي؟

 

لأنهم يدركون أن المحتوى هو الأساس، لكن للأسف، فبعضُ مديرينا روّجوا لقضية الزيارات، وجاؤوا بمديرين لا تتجاوز ثقافتهم "أرنَبةَ أنفه"، وهذا أمرٌ خطيرٌ جدا، وفيه ظلم للشباب إن قُلنا إنهم لا يفقهون سوى الترفيه، هذا ليس صحيحا بالمُطلق. وإن كان صحيحا، فلماذا لا نرتقي بهم؟ فهذا واجبنا أن نرتقي بذائقتهم، وبثقافتهم، وبوعيهم، وقدرتهم على التوثيق والبحث والتمحيص. وإلّا أين رسالتكَ كإعلاميّ؟

 

إن قلتَ لي إنك لا تملك رسالة، فأنا لا أريد التعاطي معك من الأساس. فنحن بالأساس غارقون في التسلية، ألا تكفينا الـ "إم بي سي" التي تفيض علينا بكل قاذورات الإعلام؟ والقنوات الأجنبية التي تفيض علينا بأجنداتها ومصالحها الخبيثة، وحساباتها الأخبث؟

 

  • ميدان: قبل الانتقال للسؤال الأخير، لفتني تكرارك المستمر لحديث "كلٌّ ميسّرٌ لما خُلق له"، فهل هناك قصة مرتبطة بها؟

هذا حديث للرسول صلى الله عليه وسلم. في النهاية، إذا قلتُ لك إني مُخيّر في كل شيء، فأنا أكذب. فالإنسان مُخيّرٌ في أمور قليلة، وكل الأشياء الأخرى هو مسيّرٌ فيها بالمقادير. هو مخير مثلا فيما إذا كان سيذهب للبنك، أو إصلاح سيارته. أما في نهاية المطاف، فقد وهبني الله قدرة على التعاطي مع الإعلام، فُييسر الله لك ما يُعينك على تحقيق هذا التعاطي، وهذا ما أقصده. فالله عز وجل يعلم في علمه الأزلي أن هذا الشخص سيرتزق من عمله وراء المايكروفون، فييسر له أسباب تطوير صوته، وييسر له أسباب الانتهال من الثقافة، وأسباب العمل. هذا ما أقصده بـ "كلٌّ ميسّر لما خُلق له". لا ينبغي لأحد أن يقول: "إنما أوتيته على علم عندي"، فنحن حقيقة لا نستطيع إنجاز شيء، والتطور، دون الآخرين، ولذلك فالمحطات التي نمر بها يكون لها دور كبير في تشكيل شخصيتنا وإنجازاتنا.

 

  • ميدان: نهاية، ما الذي تقدمه من نصائح للمهتمين بالصحافة، وللصحفيين، أو لعموم الشباب؟

حسنا، تريد أن تكون صحفيا على قدر المسؤولية، فلا بُدّ أولا من عشق هذه المهنة. أنا الآن عمري 70 سنة، ولو سمحوا لي، لنزلت للميدان لإنتاج الوثائقيات من جديد.

 

ثانيا، اغتنم يومك بالتثقيف، بالقراءة، والاطلاع على ما يجري، فدون ثقافةٍ ستبقى صحفيا تقليديا. فما الذي يميز الصحفي المتمكن؟ الثقافة بالتأكيد. فالثقافة ركيزة من ركائز تنظيم التفكير، وهي أمر مهم جدا، مهما كان المجال الصحفي الذي تعمل فيه.

 

ثالثا، انظر لتجارب الآخرين، وحاول أن تستفيد منها. قلّد ولكن عليك أن تخرج بنموذج جديد خاص بك. إياك واختراع العَجَلة من جديد، فالعجلة موجودة، بل ضع الحصان أمامها وانطلق. انطلق بأسلوبك، وضع بصمات مميزة لك، ولا تكن مجرد صحفي عادي. فهناك أمور وبصمات أفتخر أنه كان لي بصمة فيها، ولا أقول إنّه لا أحد أفضل مني، بالتأكيد لا، وهناك من هو أفضل مني الآن، ومن سيأتي لاحقا، وهذا لا يُضيرني. لكن الأهم، أن يكون للصحفي بصمته الخاصة دون أن يغترّ. واحرص على التجديد.

 

رابعا، التدريب، وكلّما حصل الصحفي على فرصة لأن يتدرب، ويحتك بالآخرين في الميدان، فهذا جميل جدا. ولا يظننّ أحدٌ أنه استغنى عن التدريب مهما بلغ من السن والمعرفة. أنا الآن أود أن أتدرّب على "صحافة الهاتف"، وأنا لست بحاجة إليه، لكني أود أن أعلم كيفية إنتاج التقارير من الهاتف، فهذا جديدٌ عليّ.

 

وبهذا أُنهي نصائحي، ولكل مجتهد نصيب.

المصدر : الجزيرة