النظام القوي والدولة الضعيفة.. كيف نفهم أزمة الاقتصاد المصري؟

اقتصاد مصر
(الجزيرة)

إذا أردنا وصف الوضع الاقتصادي في مصر بعبارات بسيطة فسيكون ذلك الوصف كما يلي: أزمة مالية خانقة، وعجز بالموازنة، وركود اقتصادي، يأتي كل ذلك مصاحبا لتضاؤل الاحتياطي النقدي من العملة الصعبة، وانهيار قيمة الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي، وعجز مزمن في الموازنة.

 

تعطينا الأرقام لمحة أوضح عن حجم الأزمة، حيث بلغت الفجوة بين حجم الإيرادات وحجم المصروفات نحو 30.18 مليار دولار بمشروع موازنة العام المالي الحالي بدون احتساب أقساط الديون، مع ملاحظة أن الموازنة عُرضت على مجلس النواب في مايو/أيار 2022 عندما كان الدولار الأميركي يساوي 18.49 جنيها فقط. (1) فيما تُمثِّل أقساط الديون وفوائدها نحو 90 مليار دولار بنسبة 54% من إجمالي الإنفاق العام، الأمر الذي جعل الحكومة المصرية تتجه إلى جمع مزيد من الضرائب. ورغم كل ذلك، تُصِرُّ الحكومة المصرية على المُضي قُدما في مشروعات ضخمة لم تثبت جدواها الاقتصادية، وبعضها ظهرت بوادر فشله بالفعل، مثل مشروع مدينة الأثاث الذي دُشِّن بدمياط لكنه لم يشهد أي إقبال من حرفيي الأثاث في مدينة دمياط، معقل الصناعة الأقدم في البلاد.

انفو 1
(الجزيرة)

تأتي هذه الأزمة الاقتصادية والأخطار تحيط بخزينة الدولة وسط مخاوف من تخلف مصر عن سداد ديونها. وكان أحد أهم باحثي السياسة المصرية "روبرت سبرينغبورغ" قد تنبأ بوقوع تحولات في توجهات النظام السياسي المصري نتيجة الأزمات الاقتصادية، وذلك في كتابه "مصر في عهد مبارك" الصادر عام 1989، الذي حاول من خلاله التنبؤ بمصير نظام مبارك الذي تعرَّض في نهاية الثمانينيات إلى أزمة مالية خانقة أدت بالفعل إلى توقف مصر عن سداد ديونها الخارجية ووصلت عمليا إلى حالة الإفلاس.

 

في كتابه، أكَّد سبرينغبورغ أن النظام المصري يجب أن يتكيَّف مع تدهور موارده، ومن ثمَّ يتعامل مع تناقص المستفيدين منه بالتزامن مع زيادة نفوذ معارضيه. وقدَّم الخبير المرموق والمسؤول الأميركي السابق بعض السيناريوهات المحتملة للتحول السياسي في مصر، أولها استمرار الديكتاتورية مع ازدياد التوجه الرأسمالي النيوليبرالي وتوسُّع دائرة تحالف السلطة مع رجال الأعمال وإشراكهم في دائرة السلطة. وهذا هو السيناريو الذي ساد في أميركا اللاتينية في السبعينيات والثمانينيات، التي تعرَّضت دولها أيضا لأزمات ديون عنيفة.

 

أما السيناريو الثاني فيشترك مع السابق في التوجهات الاقتصادية وفي استمرار الوجه الاستبدادي، لكن الفرق أن النظام سيحاول التحالف مع قوى مدنية جديدة لإضفاء نوع من الشرعية المدنية حتى تتدفق عليه الموارد من جديد. بالطبع لا يمكن اعتبار هذه السيناريوهات واقعية أو حتى ذات أهمية في الوضع الحالي، لكن المفارقة هنا هي أن الأسباب التي أدت إلى انهيار الخزينة المصرية في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي تبدو مشابهة جدا لأسباب الأزمة الاقتصادية الراهنة، وهي أسباب عرضها أستاذ الاقتصاد المصري "سامر سليمان" في كتابه "النظام القوي والدولة الضعيفة: إدارة الأزمة المالية والتغيير السياسي في عهد مبارك"، الذي تتبَّع فيه سليمان أسباب الأزمة المالية المستمرة في مصر، ومشكلة نقص الإيرادات الأزلية التي تعاني منها الخزينة المصرية منذ عهد الخديوي إسماعيل حتى يومنا هذا، وكيف يحاول النظام السياسي التكيُّف معها.

كتاب "النظام القوي والدولة الضعيفة: إدارة الأزمة المالية والتغيير السياسي في عهد مبارك" لأستاذ الاقتصاد المصري "سامر سليمان"
كتاب "النظام القوي والدولة الضعيفة: إدارة الأزمة المالية والتغيير السياسي في عهد مبارك" لأستاذ الاقتصاد المصري "سامر سليمان" (مواقع التواصل)

كما شرح سليمان في كتابه كيف أدت الأزمة المالية إلى ظاهرة مركبة وهي زيادة النزعة المركزية للدولة مصحوبة بميلها للتفتُّت وانشطارها إلى جزر منعزلة، بالتزامن مع محاولات زيادة إيرادات الدولة وفشل تلك المحاولات الواحدة تلو الأخرى، وطبيعة النظام السياسي نفسها التي تقف عقبة أمام زيادة الإيرادات. ونلاحظ هنا أن كل ما درسه وحلله سليمان كان قبل توسع وتمدد النفوذ الاقتصادي للجيش المصري، وقبل ظهور طبقة بيروقراطية عسكرية تدير الدولة وتبتلع جزءا كبيرا من الإيرادات.

 

الدولة الريعية.. وجذور الأزمة الاقتصادية

رغم حالة الإفلاس التي وصلت إليها الخزينة المصرية عام 1989، لم يحدث أيٌّ من السيناريوهات التي توقعها "سبرينغبورغ"، أما ما حدث فكان شيئا لم يتوقعه أكثر المحللين الاقتصاديين تفاؤلا، حين قال أحدهم في وكالة رويترز وقتها: "لا يمكن إنقاذ الاقتصاد المصري إلا بمعجزة من السماء". وبالفعل حدثت المعجزة حين عبرت دبابات "صدام حسين" الحدود الكويتية في أغسطس/آب 1990، إذ طلب التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة مشاركة مصر في الحرب على العراق، ووافق نظام مبارك على ذلك مقابل إلغاء نحو نصف ديون مصر الخارجية، وضخِّ المعونات في خزانة الدولة شبه الخاوية. وهكذا ارتخت الأزمة المالية للدولة المصرية، واستطاع النظام السياسي أن يواصل عملية الضبط والسيطرة لسنوات وسنوات.

 

لكن حالة الانتعاش النسبي التي عرفتها الخزانة العامة في بداية التسعينيات لم تكن سوى هدنة قصيرة في سلسلة طويلة من الأزمات الاقتصادية التالية، فقد ظلت مصر تعاني أزمة مالية هيكلية من أهم أعراضها ارتفاع عجز الميزانية، وميلها المُزمِن للاستدانة، سواء من الخارج أو من الداخل، بجانب التضخم والانهيار في سعر العملة.

تأسست الدولة الريعية في عهد عبد الناصر، حيث احتلت مصر المرتبة الأولى في العالم على قائمة المساعدات السوفيتية
تأسست الدولة الريعية في عهد عبد الناصر، حيث احتلت مصر المرتبة الأولى في العالم على قائمة المساعدات السوفيتية. (مواقع التواصل)

وصف سامر سليمان تلك الأزمة وقتها بأنها "أعنف أزمة مالية تمر بها تلك الدولة التي أسسها محمد علي بعد أزمة الديون التي عرفتها في عهد الخديوي إسماعيل، وانتهت بالتدخل الأجنبي ثم الاحتلال البريطاني لمصر". ويُرجع سليمان السبب الرئيسي لتلك الأزمة إلى "عجز الدولة المصرية عن تعبئة وتوليد دخول تفي باحتياجها، وعدم قدرتها على تقليص نفقاتها بالقدر الذي يجعلها توائم التدهور في إيراداتها".

 

لكنه قرر أيضا أن النظام السياسي المصري غير قادر على مواجهة تلك المشكلة وحلها، بل يسعى فقط لمحاولة التكيف معها بسبب طبيعة الدولة المصرية، حيث شرح سليمان في كتابه أن الدولة المصرية "دولة ريعية"، والدولة الريعية هي الدولة التي تتحكم في موارد كثيرة تستطيع بواسطتها أن توزع الكثير من العطايا، بدءا من دعم السلع ومرورا بالرعاية الصحية وصولا إلى التوظيف المباشر في جهاز الدولة. ويقول سليمان إن ما تحصل عليه الدولة من دخول ريعية (أي مصادر دخل مستدامة مثل النفط) يسمح للدولة الريعية بالقيام بوظائفها في توزيع العطايا ومن ثم تحقيق السيطرة السياسية. ولذا سعى النظام السياسي المصري دوما لتنمية الإيرادات الريعية خاصة عن طريق المساعدات الخارجية.

 

تأسست هذه الدولة الريعية في عهد عبد الناصر، حيث احتلت مصر المرتبة الأولى في العالم على قائمة المساعدات السوفيتية، واستمرت في عهدَيْ السادات ومبارك، حيث احتلت المرتبة الثانية من حيث المساعدات الأميركية. ومنذ وقوع الاقتصاد المصري في الركود عام 1966 ثم الهزيمة العسكرية عام 1967، صار احتياج النظام المصري الذي أسسه الضباط في 23 يوليو 1952 احتياجا ماليا مُلِحًّا بشكل غير مسبوق، بل وصار جذب استثمارات جديدة والحاجة إلى ضخ أموال في الاقتصاد المأزوم مسألة حياة أو موت. فقد تحطَّم الجيش عام 1967 وتأزَّم الاقتصاد وأصبحت الخزينة فارغة والأسواق راكدة، ووقف الجميع متربصا بالنظام.

ضخ السادات الأموال في مشروعات البنية التحتية وإسكان الشباب وبناء الاستراحات الرئاسية، وحاول تقليص الإنفاق الاجتماعي، مما أدى إلى انتفاضة الخبز عام 1977.
ضخ السادات الأموال في مشروعات البنية التحتية وإسكان الشباب وبناء الاستراحات الرئاسية، وحاول تقليص الإنفاق الاجتماعي، مما أدى إلى انتفاضة الخبز عام 1977. (مواقع التواصل)

هذه اللحظة العصيبة من تاريخ النظام المصري أصبحت بعدئذ لحظة مؤسسة ومفتاحية لفهم سياسات خلفاء عبد الناصر، خاصة حينما ننظر إلى تمدُّد الجيش المستمر في الاقتصاد المصري، وتوسيع إمبراطوريته الاقتصادية، وهذا التمدد يأتي رغم إدراك طبيعة الأزمة التي تمر بها الدولة المصرية، وفي ظل المعاناة التي لا يمكن إصلاحها إلا بفتح المجال العام، وهو ما سيقود بالضرورة إلى موت "نظام الضباط". ولذا، يجب على النظام دائما أن يختار بين النظام القوي والدولة القوية، بين جيش ذي اقتصاد قوي يحمي النظام مع بقاء الدولة ضعيفة، وبين دولة ذات مؤسسات تضع القيود على الجيش وتُنهي هيمنة الضباط السياسية، وحينها يمكن أن تتكرر لحظة ما بعد هزيمة 1967 مرة أخرى عندما كان نظام الضباط في أضعف حالاته.

 

بعد أن نجح عبد الناصر في التصالح مع الأنظمة الخليجية، بمعاونة الاتحاد السوفيتي، نجح خليفته السادات في إعادة بناء الجيش، وحقق انتصارا عسكريا على إسرائيل، ليجد السادات نفسه بعد الحرب في مأزق شديد. فالدول النفطية لم تعد راغبة في تقديم الدعم نفسه للنظام المصري، والاتحاد السوفيتي الظهير القوي للنظام المصري دخل في مرحلة ركود اقتصادي شديد، ومن ثم لم يجد السادات بُدًّا من التحول نحو الغرب والاتجاه لسياسات الانفتاح والاقتراض من الغرب. وبالفعل ساعد هذا التحول على استقرار الأوضاع نسبيا، إذ اعتمد الاقتصاد المصري على إيرادات قطاع البترول وقناة السويس مع المساعدات والقروض الخارجية. وكما هو الحال في الوقت الراهن، ضخ السادات الأموال في مشروعات البنية التحتية وإسكان الشباب وبناء الاستراحات الرئاسية، وحاول تقليص الإنفاق الاجتماعي، مما أدى إلى انتفاضة الخبز عام 1977.

 

في الوقت الذي كانت الدولة تنسحب فيه من الاقتصاد، استمرت البيروقراطية في النمو بل والتضخم، حيث كانت هذه البيروقراطية المتضخمة هي عنصر الاستقرار والقاعدة التحتية للنظام المصري. لكن الاقتصاد المصري عاد مرة أخرى للركود منذ منتصف الثمانينيات، وأخذت إيرادات الدولة في التراجع، وأصبح نمو الاقتصاد شبه معدوم، فقاربت مصر على الإفلاس بحلول عام 1989. صار التراجع في إيرادات الدولة وتضخمها المتراكم مرضا مزمنا مع الوقت، مهما تلقَّى النظام من دعم خارجي واقترض داخليا، وظل هذا المرض يُطِل بوجهه الكئيب مُعرِّضا الدولة كلها للخطر، وحين أطلَّ بين الحين والآخر احتاج النظام إلى التكيُّف بسرعة مع تقلبات المرض وأعراضه، وهو ما فعله نظام مبارك طيلة عشر سنوات تلت الأزمة، لكنه انهار في النهاية تحت وطأة تداعيات التغيُّرات السياسية في الشرق الأوسط بعد 2003 وآثار الأزمة المالية العالمية لعام 2008 بعد ثلاث سنوات من حدوثها.

 

الإيرادات.. الوقود الذي يؤدي نقصه إلى الانفجار

An employee counts Egyptian pounds at a foreign exchange office in central Cairo, Egypt, March 20, 2019. REUTERS/Mohamed Abd El Ghany
إن أزمة الطاقة وانخفاض أسعار النفط بجانب الغزو الروسي لأوكرانيا فعلت بمصر اليوم مثلما حدث بنظام مبارك عام 1986، فقد أوشكت الخزينة المصرية على الإفلاس. (رويترز)

استلم السادات الحكم وسيناء تحت الاحتلال الإسرائيلي، بجانب الأزمات الاجتماعية والسياسية التي خلفها النظام الناصري. وكان على السادات أن يتخلص من رجال عبد الناصر ويبعدهم عن دائرة النفوذ قبل أن يتحدث عن المشكلات السياسية والاقتصادية التي تركها سلفه، ويحيط نفسه برجاله المخلصين ويصنع حوله وأسفل منه طبقات موالية لنظامه. وبالمثل، ورث مبارك الحكم ومصر تعاني من أزمة اقتصادية وسياسية واجتماعية أدت إلى اغتيال السادات، فكان عليه أن يصنع قاعدته الاجتماعية الخاصة، ويغذي بيروقراطية الدولة بشبكة جديدة من الولاءات لنظامه، علاوة على تقليص قوة رجال الأعمال المرتبطين بعهد السادات، مثل "رشاد عثمان" و"عصمت السادات"، لإخلاء الساحة لطبقة جديدة من رجال الأعمال. ولذا، استند نظام مبارك إلى قدمين، الأولى طبقة رجال الأعمال، والثانية الجسم البيروقراطي الضخم الذي صار يدين بالولاء لنظامه.

 

ورغم أن الانفتاح الاقتصادي خلق طبقة جديدة من الرأسماليين والأغنياء، يوضح سليمان أن بيانات الإيرادات والنفقات للدولة توضح عكس ما يبدو تماما، حيث باتت الدولة تسيطر على أغلب موارد المجتمع، ويتضح ذلك من زيادة نسبة الإنفاق من 48% عام 1974 إلى 62% عام 1981. ولكن رغم تدفق الأموال على خزانة الدولة، استمر النظام في الاستدانة وطلب المزيد من المساعدات من الخارج، وهو وضع مماثل تماما لما حدث في عهد الخديوي إسماعيل في سبعينيات القرن التاسع عشر، حين ترافقت زيادة إيرادات الدولة من صادرات القطن مع سقوطها التام في الديون.

انفو 2
(الجزيرة)

كانت النتيجة الطبيعية أن تطالب الجهات الدائنة في الخارج الحكومة المصرية بالقيام بإصلاحات تضمن لها استرداد أموالها، وهكذا وقَّعت الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولي اتفاقية للإصلاح الاقتصادي عام 1977، التي ألزمت مصر بتخفيض الإنفاق الاجتماعي وتخفيض الدعم على السلع الأساسية، مما أدى إلى زيادة مفاجئة بأسعارها، فانفجرت انتفاضة 1977 واندلعت اشتباكات عنيفة بين المتظاهرين والشرطة كادت أن تؤدي إلى انهيار جهاز الشرطة وربما انهيار النظام لولا تدخل الجيش وفرض حظر التجوال بالشوارع.

 

جاء مبارك إذن مسكونا بهواجس وكوابيس العصر الذي سبقه، لذلك فقد تعلَّم أن أي تخفيض للإنفاق الاجتماعي وتقليص للدعم يجب أن يحدث تدريجيا وإلا سيواجه النظام تهديدا وجوديا مثلما حدث عام 1977. ومن حُسن حظ مبارك كان تدفق الإيرادات على الخزينة المصرية كبيرا في بداية عهده، فقد كانت أسعار النفط مرتفعة مما أدى إلى ارتفاع دخل قناة السويس، ولكن بحلول عام 1986 تغير الوضع وانخفضت إيرادات الدولة بشدة.

 

كان الوضع مماثلا في بداية عهد السيسي، فقد تلقت الدولة المصرية مساعدات خارجية هائلة، ومثل نظام مبارك نجح في التكيف مع طبيعة الدولة المصرية، غير أن أزمة الطاقة وانخفاض أسعار النفط بجانب الغزو الروسي لأوكرانيا فعلت بمصر اليوم مثلما حدث بنظام مبارك عام 1986، فقد أوشكت الخزينة المصرية على الإفلاس، وفشل مشروع الإصلاح الاقتصادي.

 

انهيار الخزينة المصرية

يشرح سامر سليمان في كتابه كيف كان عام 1986 فارقا بالنسبة لخزانة الدولة المصرية، حيث انهارت أسعار البترول إلى النصف تقريبا، فتدهورت عائدات الدولة من تصديره، كما انخفضت عائدات قناة السويس فأصبحت الحكومة غير قادرة على تمويل وارداتها. وفي مايو/أيار 1987، وقَّعت الحكومة المصرية اتفاقا للإصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي، وكان على الحكومة أن تنفذ بمقتضاه حزمة من السياسات الاقتصادية والمالية، منها تخفيض الإنفاق العام، وتصفية شركات القطاع العام الخاسرة، وتحرير ما تبقى منها. وعلى مستوى السياسات النقدية كان عليها أن تخفض سعر الجنيه مقابل الدولار، ورفع سعر الفائدة لتُشجِّع على الادخار وتسيطر على الاستهلاك.

انفو 3
(الجزيرة)
انفو 4
(الجزيرة)

لكن هذا المشروع فشل فشلا ذريعا، إذ لم تستطع الدولة تخفيض الإنفاق الاجتماعي، كما زاد عجز الموازنة، مما ألجأ الحكومة إلى طبع المزيد من النقود، ومن ثمَّ ارتفع التضخم حتى وصل إلى نحو 20%. وفي نهاية الثمانينيات، تحوَّل النظام المصري إلى البحث المُضني عن المعونة والتمويل من كل مكان، وهكذا وصلت الخزينة المصرية إلى حافة الإفلاس قبل أن تنقذها دبابات صدام حسين.

 

بعد أن وافقت الدول الدائنة على إلغاء نصف ديون مصر، بشرط تنفيذ الحكومة المصرية برنامج إصلاح اقتصادي صيغ بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؛ نجحت الحكومة في تخفيض عجز الموازنة، لكن يقول سليمان إن ذلك لم يحدث بسبب التزام الحكومة المصرية ببرنامج الإصلاح، إذ إن الإنفاق العام لم ينخفض، بل على العكس ظل في ازدياد نظرا لضرورة ضمان النظام ولاء قاعدته الاجتماعية. لماذا نجحت الحكومة حينئذ إذن؟ ببساطة بسبب تدفُّق الإيرادات الريعية من جديد على الخزانة المصرية.

انفو 5
(الجزيرة)

ونجد أن الأمر ذاته يتكرر في الوقت الراهن، فقد أنفقت ما يقرب من 4 مليارات دولار من الاحتياطي النقدي للدولة في حفر تفريعة قناة السويس، بجانب ضخ مليارات الدولارات في مشروعات ضخمة مثل العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين ومئات الكباري والطرق الجديدة. ورغم تدفق الإيرادات على خزينة الدولة، ظل هناك عجز في تغطية نفقات الدولة، فلجأت الحكومة إلى طباعة النقود والاستدانة، فارتفعت مخصصات سداد وخدمة الديون بالميزانية المصرية، كما ارتفع معدل التضخم في مصر نحو ثلاث مرات في عام 2022 فقط.

انفو 6
(الجزيرة)
انفو 7
(الجزيرة)

لزيادة إيرادات الخزينة، لجأت الحكومة إلى زيادة الضرائب، ففرضت الضرائب على كل شيء تقريبا، بدون إصلاح حقيقي لنظام الضرائب في مصر، وبدون تقديم أي خدمات حقيقية مقابل تلك الضرائب، حتى أمست مصر أشبه بدولة جباية تجمع المال من الشعب دون تفرقة بين فقرائه وأغنيائه، ودون أن تقترب بضرائب مُعتبرة من ثروات الأثرياء، وبالطبع دون المساس باقتصاد المؤسسة العسكرية. ولذا عندما حدثت تغيرات بالسياق الدولي، وتوقفت الإيرادات الريعية والمساعدات والقروض الخارجية، عادت الأزمة للاقتصاد المصري من جديد، لا سيما والبلاد لا تمتلك قطاعا صناعيا حقيقيا ينتج سلعا للتصدير، ولا مصادر دخل أخرى. ومن ثمَّ دخلت مصر في حالة الركود الحالية وهي تحاول البحث عن قروض خارجية تنقذ خزينتها من الإفلاس، بما يتطلبه ذلك من تحرير سعر صرف الجنيه وخفض الإنفاق ورفع الدعم.

 

انهيار الدولة الريعية.. هل هو انهيار لنظام يوليو؟

في 14 أغسطس/آب 2022، نشر الإعلامي "عماد أديب" المقرب من السلطة مقالا بجريدة لبنانية معروفة، وتحدَّث فيه عن "14 سببا لسقوط الحكام والأنظمة". قبل ذلك بشهرين، نشر أديب مقالا يقول فيه بوضوح إن أي أزمة أو انهيار يتعرض له النظام المصري سيُهدِّد أول ما يُهدِّد الممالك الخليجية التي ستزيد هجرة المصريين إليها، وهو أمر أثار تساؤلات عديدة.

 

لماذا يكتب أديب مقالا وكأنه رسالة تهديد من النظام المصري إلى دول الخليج، ثم يعود ليكتب مقالا آخر وكأنه رد من الخليج على قادة الدولة المصرية. الأغرب أن أديب ظهر في فضائيات عربية منها قناة "سي إن إن عربية" مؤكدا أن مقاله السابق لا يقصد به النظام الحالي. (2) ولكن بعد فترة قصيرة من نفيه عاد أديب بمقال جديد بعنوان: "بدايات متفجرة لعام 2023" (3)، إذ بدأ أديب مقاله الجديد (بتاريخ 22 أغسطس/آب 2022) مخاطبا الجميع بالقول: "للأسف كان بودِّي أن أُبشركم بالشهور الباقية من هذا العام وبالعام الميلادي المقبل، لكن، عذرا، الآتي سوف يسير من سيئ إلى أسوأ"، و"يا ويلنا من الشهور المقبلة". فقد توقع أديب حدوث "انهيارات اقتصادية كبرى تؤدي إلى قلاقل اجتماعية عنيفة تنجم عنها فوضى أمنية غير مسبوقة".

تشرح مقالات عماد أديب الأخيرة (4) لماذا تُعَدُّ قدرة الحكومة المصرية على التكيف مع التغيرات الاقتصادية وانخفاض إيرادات خزينة الدولة أضعف من الفترات السابقة، حيث فقدت مصر اليوم كل أوراق القوة التي حصلت بموجبها على الدعم والمساعدات الخارجية. لقد تغير السياق الإقليمي كليا، وأصبحت دول الخليج في حلف قوي يقود المنطقة، وانتقل مركز الثقل السياسي العربي إلى الخليج، بجانب سياسات الخليج في التوظيف التي قلَّلت من العمالة المصرية. كل ذلك أفقد مصر مكانتها في العهود السابقة، وأضحى أي تغيير بمصر يرتبط بهذا الحلف الإقليمي.

 

أما على المستوى الداخلي، فقد ارتبطت الدولة المصرية بمصالح جنرالات الجيش، مما يجعل أي توتر أو اضطراب معقدا ووخيم العواقب، لكن هذا الارتباط في الوقت نفسه ضاعف من أعباء النظام تجاه قاعدته المتمثلة في الطبقة العسكرية، وهذه الطبقة من العسكريين واللواءات تعترض على تحرير الشركات التي تمتلكها أو عرضها في البورصة، كما تعترض على عملية بيع أصول الدولة للحصول على أي مصدر نقدي. لكن السؤال: إلى متى تستطيع أن تصمد الخزانة المصرية؟

 

يُجيب سامر سليمان عبر دراسته للاقتصاد السياسي لنظام مبارك بأن لجوء النظم السلطوية إلى العنف باستمرار مع زيادة الضرائب لا يعكس إلا ضعف وهشاشة النظام، بيد أن سليمان قرر في نهاية كتابه الآتي: إذا كانت الدولة المصرية دولة ضعيفة يقف على رأسها نظام يبدو قويا لكنه يظل أضعف من أن يسيطر على المجتمع كله، فكذلك المجتمع المصري مجتمع ضعيف ومتنافر لا يستطيع الضغط على النظام والمشاركة في السلطة. ولكن تبقى حقيقة ساطعة هي أن الدولة المصرية بهذا الشكل الريعي تزداد ترهُّلا وتحلُّلا، وتزداد الحلول معها تعقيدا وتأزُّما مما ينبئ بمستقبل غير مبشّرٍ بأي حال.

—————————————————————————

المصادر

1- مشروع الموازنة في مصر: عجز واستدانة ومزيد من الضرائب

2- أول تعليق من عماد الدين أديب لـCNN بعد هجوم إعلاميين مصريين على مقال "14 سببا لسقوط الحكام"

3- بدايات متفجّرة للعام 2023.

4- عماد أديب.. 14 سببا لسقوط الحكام والأنظمة

5- النظام القوي والدولة الضعيفة: إدارة الأزمة المالية والتغيير السياسي في عهد مبارك، سامر سليمان.

المصدر : الجزيرة

إعلان