الصلب الأخضر.. اتفاق أوروبي-أميركي يغيِّر سوق الصلب العالمي

مقدمة الترجمة
أعدَّ روبينسون مِيَر، الصحافي في مجلة "أتلانتيك" الأميركية، تقريرا يتناول فيه اتفاق "الصلب الأخضر" الذي وضعت أساسه الولايات المتحدة وأوروبا الشهر الماضي وينتظر النضج الكامل في السنوات الثلاث المقبلة، مُستعرِضا مكاسب قضية تغير المناخ من هذا الاتفاق، وأيضا العوائق التي تواجه تطبيقه.
نص الترجمة
إذا أراد علماء الآثار بقبَّعاتهم المميزة تسمية عصرنا الحالي مثلما سمّوا عصور أسلافنا بالعصر الحجري والعصر البرونزي، فلربما من المناسب تماما أن يُطلقوا على عصرنا اسم "العصر الفولاذي"، إذ يتغلغل الفولاذ أو الصلب في أركان حياتنا المعاصرة كافة، فهو موجود في السيارات والأجهزة والمباني والطرق والبنى التحتية والأسلحة، ومن ثمَّ يُعَدُّ عنصرا مهما فعليا في كل منتج كبير مُصنَّع اليوم. "بينما تمضي يومك، فإنك تصادف الصلب كل بضع أقدام، حيث تماثل أهميته بشكل ما أهمية الرقاقات بالنسبة لصناعة التكنولوجيا"، هكذا يقول "تود تاكر"، مدير دراسات الحوكمة في معهد روزفلت.
علاوة على ذلك، يُشكِّل الصلب جزءا رئيسيا من واحدة من أصعب المشكلات المناخية في العالم. فعلى الرغم من أن هناك تقنيات موجودة حاليا بهدف توليد الكهرباء أو نقل الناس من مكان إلى آخر (عبر المترو والترام مثلا)* دون التسبُّب في انبعاثات ملوثة للمناخ، فإن الكثير من المشكلات الناتجة عن الصناعات الثقيلة ما زالت دون حلول تُذكر. ويُعَدُّ إنتاج الحديد والصلب وحده مسؤولا عن أكثر من 7% من انبعاثات الغازات الدفيئة عالميا عام 2016.

ومع ذلك، ففي شهر حافل بخصوص سياسات التغير المناخي أعلن فيه بايدن إطارا جديدا للإنفاق من أجل المناخ بقيمة 555 مليار دولار، ما زال لافتا أن يكون أحد أهم الأخبار المتداولة حتى الآن حول الصلب. ففي 31 (أكتوبر/تشرين الأول) الماضي، إبَّان قمة مجموعة العشرين بالعاصمة الإيطالية روما، اتفقت إدارة بايدن مع الاتحاد الأوروبي على ما سمّياه "الاتفاق القطاعي الكربوني الأول من نوعه عالميا".
إن هذا التدبير الجديد، الذي سيُتفاوَض عليه بالكامل على مدار السنتين أو الثلاث المقبلة، سيحمل هذه الدول على ترجيح كفة التجارة في الصلب المنخفض الكربون، بل وربما إغلاق حدودها في وجه ما يُسمى بالصلب الملوَّث في نهاية المطاف (وهو نوع من الصلب يتسبَّب في انبعاثات كربون كثيفة). كما ستتفق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على منهجية مشتركة لحساب الانبعاثات الكربونية التي "يشملها" الصلب (انبعاثات تُسبِّبها عمليات مصاحبة لصناعة الصلب)*.
بالنظر إلى تخفيض الرسوم الجمركية بين الطرفين، فعلى الأغلب سيُساعد هذا الاتفاق في خفض الأسعار على المستهلكين الأميركيين. ويُمثِّل هذا الاتفاق اعترافا أوروبيا ضمنيا بأن الصلب الأميركي يتسبَّب في انبعاثات أقل من صلب أي مكان آخر بالعالم، إذ يستخدم معظم منتجي الصلب الأميركيين حاليا أفران القوس الكهربية، التي تسمح بإعادة تدوير الخردة إلى مواد جديدة، وتتخطى خطوات عملية الصقل التي تستهلك الكربون بكثافة، حسبما يقول تاكر.
أفضت هذه الميزة إلى ما قد يُعَدُّ أهم جزء من الاتفاق الأوروبي-الأميركي: الدعم الكامل الذي حظي به من قطاع صناعة الصلب الأميركي ونقابته (وهي نقلة كبيرة، إذ إن القطاعات المصنِّعة للصلب والمعتمدة عليه لطالما عارضت جهود تصفير الكربون خوفا من تأثُّر أرباحها بالسلب)*. لقد وجدت إدارة بايدن وأوروبا طريقا لتكوين تحالفات جديدة (تضم أصحاب المصالح في عالم الصلب بدلا من إقصائهم)* يمكنها أن تدفع قُدما أهدافها الاقتصادية والجيوسياسية والبيئية المشتركة، ويُظهر الاتفاق بوضوح، على الأقل فيما يخص هذا القطاع، أن أميركا وأوروبا يستطيعان العمل معا على الرغم من نهجيهما المتباينَين فيما يتعلق بسياسات المناخ (إذ إن الرؤية المختلفة بين واشنطن وبروكسل عمَّا يجب فعله لمحاربة تغيُّر المناخ شكَّلت دوما عقبة أمام التوصُّل لاتفاق عالمي)*.
جسر تصفير الكربون يعبر الأطلسي
لأكثر من عقد من الزمان، أدار الاتحاد الأوروبي أنشط سوق لتجارة الكربون في العالم، حيث تُقدِّم الشركات عطاءات على الحق في إطلاق الملوِّثات المناخية. ولكن منذ عام 2017، تضاعف سعر التلوث ثلاث مرات (زادت الرسوم التي تدفعها الشركات نظير الصناعات الملوثة للبيئة)، حتى بدأت الشركات المصنِّعة الأوروبية تتوسَّل إلى الاتحاد الأوروبي لإنقاذها من المنافسة الأجنبية (إذ إن الواردات من الصلب وغيره من مصنوعات باتت أرخص بسبب قدومها من أسواق لا تتعنَّت في وجه التلوُّث الناجم عن الصلب، على عكس الشركات الأوروبية التي فُرِضَت عليها أسعار مرتفعة لتحوز "حصصا كربونية"، وهو ما صبَّ في صالح الصلب الملوَّث والرخيص القادم من خارج أوروبا).
في الصيف الماضي، تقدَّم الاتحاد الأوروبي بخطط طويلة الأمد لفرض ضريبة على الواردات الكربونية من الأسمنت والسماد والكهرباء والحديد والصلب والألومنيوم. وقد شكَّل ذلك مشكلة كبيرة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، التي لطالما اعتمدت في سياسات المناخ اعتمادا كبيرا على المعايير أكثر من اعتمادها على ضرائب الكربون، إذ إن المزيج المُعقَّد من قوانين شتى الولايات وشبكات الكهرباء المحلية قد جعل من حساب ضريبة كربون عادلة أو دقيقة أمرا مستحيلا تقريبا. وقد حذَّر "جون كيري"، مبعوث بايدن الخاص بشأن المناخ، الاتحاد الأوروبي من أن ضريبة الكربون على الواردات يجب أن تُستخدم فقط بوصفها "ملاذا أخيرا".
بدا النزاع الأوروبي-الأميركي نذيرا بوقوع شقاق بين الطرفين. وفي أسوأ السيناريوهات، عبَّر الأطلسيون (المؤمنون بأهمية التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري بين الولايات المتحدة وكندا وأوروبا) عن قلقهم من احتمالية توحيد أوروبا لسوقها (أو على الأقل مواءمة رسومها الجمركية) مع السوق الآخر العالمي الضخم للكربون: السوق الصيني. وتُعَدُّ الصين، وليست أميركا، أكبر شريك تجاري لأوروبا، وقد تبدو معاهدة مناخية صينية-أوروبية أكثر جاذبية بالنسبة لبروكسل من شراكة مع بلد انعزالي واستقطابي يخنقه الكربون مثل الولايات المتحدة. بيد أن اتفاق الصلب الأخير أعاق احتمالية حدوث ذلك، إن لم يكن قد أنهاها.

الحقيقة هي أن الصلب ضروري للغاية لأي عملية صناعية، لذا ترعى كثير من الدول صناعة الصلب فيها لأسباب اقتصادية وأمنية، ما أدَّى إلى فائض دائم. ولعل الصين، التي تُنتج نصف صلب العالم، تُنتج فائضا عن الحاجة يُقدَّر بعشرات ملايين الأطنان سنويا. (والصلب الصيني مسؤول عن 60% من الانبعاثات التي تُسبِّبها صناعة الصلب عالميا، ونحو 4% من الإجمالي العالمي للتلوث بسبب الكربون). وبحسب تاكر، فقد أجرت الولايات المتحدة وأوروبا واليابان "محادثات" حول مشكلة فائض الصلب الصيني طيلة عقود، لكنها لم تتخذ خطوات في هذا الصدد، إلى أن رفع الرئيس السابق دونالد ترامب الرسوم الجمركية على كل الصلب المستورد عام 2018. وبعد ذلك بفترة وجيزة، فرضت أوروبا رسومها الجمركية أيضا، وللمفارفة، أتاحت هذه الرسوم الفرصة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كي يتفاوضا على "اتفاق الصلب الأخضر".
بحسب روي هاوسمان، العضو في جماعة الضغط "عمال الصلب المتحدون"، فإنه بموجب الاتفاق الجديد، ستستورد الولايات المتحدة نحو مليون طن من الصلب من الاتحاد الأوروبي سنويا. ويلزم أن يكون أي صلب مستورد "مذاب ومصبوب" في أوروبا، ما يعني أنه لا يمكن أن يكون صلبا صينيا أُعيد تشكيله. أما الأهم في هذه الصفقة فهو الاتفاق على أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سيحسبان، على أساس طريقة مشتركة، تلوث الكربون الموجود في الصلب، وذلك من شأنه رأب فجوة فكرية مهمة بينهما.
حكاية قارتين: تاريخ تأويل أزمة المناخ

تاريخيا، لطالما تصوَّرت النخبة الأميركية والأوروبية مشكلة تغير المناخ بوصفها مشكلة عالمية تتمثَّل في المنتفعين بالمجان، الذين اعتقدوا أنه ما من دولة ستحل مشكلة التغير المناخي بمفردها، ولذا لم يكن لدى أي دولة منفردة الدافع لفعل أي شيء. ولحل هذه المعضلة، دعا "ويليام نوردهاوس"، عالِم الاقتصاد الحاصل على جائزة نوبل، إلى فرض ضريبة كربون عالمية في صفوف الدول المستعدة لذلك، إلى جانب تدشين "نادٍ للمناخ" يجمع الرسوم الجمركية على الواردات والصادرات.
تبنَّت أوروبا الكثير من توجيهات نوردهاوس جملة وتفصيلا، وهو ما لم تفعله الولايات المتحدة، إذ لم ينجح الكونغرس على الإطلاق في وضع سعر للكربون أو فرض عقوبات واضحة للتلوث الناتج من الكربون. ومن ثمَّ لاقى مؤخرا طريقٌ جديد في التفكير بشأن تغير المناخ شعبيةً أوسع، حيث جادل عالِما السياسة "مايكل أكلين" و"ماتو ميلدِنبِرغر" بأن تغير المناخ ليس مشكلة المنتفعين بالمجان على الإطلاق، إنما في الواقع هو مشكلة "صراع على التوزيع"، وهي رؤية لخَّصتها بنفسي في إبريل/نيسان الماضي كما يلي:
"إن التحدي في العمل العالمي من أجل المناخ لا يتعلَّق بما سينتفع به الآخرون (بالمجان) من وراء تقليص الانبعاثات في بلدك، وإنما يتعلَّق بمصالح كثيرة شديدة التعارض تقف بوجه عملية تصفير الكربون، ويكمُن مفتاح العبور نحو سياسة مناخية فعالة في تكوين تحالف يدعم تصفير الكربون ويعمل على جعله مستديما".
Today in #EUHistory: The European Coal and Steel Community (ECSC) was formally established by the Treaty of Paris.#NLatEU pic.twitter.com/NufI58j4nE
— Netherlands at the EU (@NLatEU) April 18, 2018
بطريقة ما، سيوحِّد اتفاق الصلب هاتين المنهجيتين. فهو يُطبِّق من جهة فكرة نوردهاس حول إنشاء "نادي المناخ"، الذي تستطيع أوروبا بواسطته معاقبة الدول المتعنِّتة في صناعتها الكثيفة الكربون. ومن جهة أخرى، يُعَدُّ الاتفاق تفاوضا ائتلافيا، يمد فيه القادة المؤيدون لإزالة الكربون في دولة ما يد التعاون لأنصار تصفير الكربون من القادة في دولة أخرى، مع توظيفهم لصناعة الصلب على طول ذلك الطريق (بدلا من تجاهل مصالحها أو انتهاج سياسات تصفير الكربون بشكل يُهدِّد مصالحها على طول الخط)*.
يُحدِّد ذلك نمطا لطريقة التعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والديمقراطيات الأخرى، وهو مفهوم ليس بعيدا تماما عن الأمل الذي تستند إليه فكرة الاتحاد الأوروبي نفسها. ففي عام 1952، حينما أسَّست كلٌّ من فرنسا وألمانيا الغربية وإيطاليا ودول منطقة البِنِلوكس (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ) "اتحاد الفحم والصلب"، قال "روبرت شومان"، وزير الخارجية الفرنسي حينها، إن هدف السوق ليس جعل الحرب بين فرنسا وألمانيا بعيدة عن التصور فحسب، بل ومستحيلة ماديا. وقد نجحت لعبة التوازن تلك، ونتج عنها اندماج أكبر، وتطور "اتحاد الفحم والصلب" في نهاية المطاف ليصبح الاتحاد الأوروبي.
في وقتنا الحالي، الأحلك والأكثر إثارة للقلق، لعل مثل هذا الأمل قد بات أمرا لا يمكن تصوُّره، بيد أن الاندماج قد انتصر، وتأجَّل الشقاق حتى حين على الأقل.
______________________________________________
*ملاحظات المُترجم
ترجمة: هدير عبد العظيم
هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.