نوبل للاقتصاد 2021.. هل سنة إضافية من التعليم يمكن أن ترفع أجرك مستقبلا؟
في أغسطس/آب عام 1854، تفشَّى مرض الكوليرا في محيط شارع برود الكائن بمدينة لندن الإنجليزية، كان الأمر كارثيا إلى درجة أنه تسبَّب في وفاة 127 شخصا حول هذا الشارع تحديدا في ثلاثة أيام فقط، مع إجمالي تخطى حاجز 600 شخص في المدينة كلها. ساعتها، قرَّر جون سنو، وكان طبيبا ذا شهرة كبيرة، صبَّ اهتمامه بالكامل على هذا الشارع الغريب الذي حوى وحده نحو رُبع الوفيات من الكوليرا، ماذا يا ترى يمكن أن يقتل الناس في هذا الشارع على الشارع؟ ذنوبهم الوخيمة مثلا أم أن روحا شريرة تطوف بين المنازل؟
حسنا، لا هذا ولا ذاك، وبينما انتشرت الشائعات المُخيفة في طرقات المدينة العريقة، أحضر صديقنا خرائطها وقرَّر أن يدع الانفعال جانبا ويُفكِّر، وضع نقاطا سوداء في مواضع الوفيات، وكانت أولى ملاحظاته أن هذا الجانب من المدينة الذي يجري به شارع برود ستريت يحتوي على مضخة مياه عذبة تسحب من نهر التايمز القريب، وإحصائيا بدا لسنو أن تلك المضخة كانت مركز كل حالات الوفاة تقريبا.
طوَّر سنو فرضيته لتُصبح موثَّقة بالدلائل، فبحث عن المضخات الأخرى ووجد أن مستخدميها لم يُصابوا بالكوليرا، في الوقت نفسه، قرَّر أن يفحص حالات استثنائية للنظرية، فمثلا لم يُصب أحد من مصنع "بيرة" قريب للمضخة محل الاهتمام، وثبت له أن أفراد المصنع احتسوا البيرة بدلا من المياه طوال أيام الوباء، كذلك فإن أحد المباني حول مضخة شارع برود احتوى على صفر إصابات، فقرَّر سنو فحص تلك الحالة ووجد أن سكان المبنى يشربون من بئر خاصة توجد في باحته.
تجربة طبيعية
هنا تأكَّد الطبيب الذكي من أن الماء القادم من مضخة شارع برود هو السبب في إصابة الناس بالكوليرا، فأُغلقت المضخة، لكن الأمر لم يتوقَّف عند هذا الحد، حيث تسبَّب كشف سنو في تطورات كبيرة في أنظمة المياه والصرف الصحي بمدينة لندن، كذلك فإنه دون أن يدري كان يؤسِّس لعلم الأوبئة، إلى جانب نمط جديد تماما من التجريب نعرفه الآن باسم "التجارب الطبيعية" (Natural Experiments)، وهو الفرع العلمي الذي حاز جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2021، التي مُنحت لثلاثة علماء أميركيين هُم "ديفيد كارد" (David Card)، الذي حصل على نصف الجائزة، بجانب "جوشوا أنجريست" (Joshua Angrist) و"جيدو إيمبنس" (Guido Imbens) اللذين تقاسما نصفها الآخر.
BREAKING NEWS:
The 2021 Sveriges Riksbank Prize in Economic Sciences in Memory of Alfred Nobel has been awarded with one half to David Card and the other half jointly to Joshua D. Angrist and Guido W. Imbens.#NobelPrize pic.twitter.com/nkMjWai4Gn— The Nobel Prize (@NobelPrize) October 11, 2021
لفهم الأمر دعنا نرجع إلى سنو مرة أخرى، الذي كان مقتنعا أن سبب الإصابة بالكوليرا هو المياه الملوَّثة، بالمعايير التجريبية الحديثة كان من المفترض أن يختار سنو -لتأكيد فرضيته- مجموعتين عشوائيتين من الناس المشاركين في التجارب، الأولى ستشرب عمدا من ماء المضخة، والثانية ستشرب من ماء آخر، الأولى مجموعة للدراسة، والثانية مجموعة للمقارنة، ثم يفحص النتائج، لكن هناك مشكلة واحدة وهي أنك لا يمكن بأية حال أن تدفع شخصا طبيعيا لشرب ماء يمكن أن يمكن مُلوَّثا بمرض قاتل.
في هذه الحالة يجب أن تفعل شيئا آخر، وهو أن تبحث عن معايير التجربة العشوائية المعمول بها، لكن في العالم الواقعي، بحيث تكون طبيعة الأشياء هي ما دفع مجموعة من الناس للشرب من المضخة الملوَّثة ومجموعة أخرى للشرب من المياه غير الملوَّثة. هنا يظهر الفارق بين التجربة المنضبطة العشوائية (randomised controlled trial)، وفيها يُقسّم الخاضعون للدراسة عشوائيا بين واحد أو أكثر من البدائل المطلوب دراستها، وبين التجربة الطبيعية، التي لا يمتلك فيها الباحثون القدرة على التحكم في اختيار الناس.
فوضى السبب والنتيجة
في نطاق العلوم الاقتصادية والاجتماعية، تحظى التجارب الطبيعية بأهمية خاصة جدا، لأن بعض التجارب لا يمكن تصميمها أو إجراؤها معمليا، لا يمكن لك مثلا أن تُحدِّد مجموعتين من الأطفال وتُوجِّه واحدة لتلقي التعليم وثانية لتجاهل التعليم كي تدرس أثر التعليم على الأطفال. لكن على الجانب الآخر، غالبا ما تكون هناك مشكلات كبيرة في تحديد الرابط الواضح بين السبب والنتيجة في التجارب الطبيعية، بمعنى أن ترابط ظاهرتين قد لا يعني أن إحداهما تسبَّبت في الأخرى.
هذا في الحقيقة هو ما جعل المتخصِّصين في هذه النطاقات ينظرون إلى التجارب الطبيعية بعينَيْ الريبة. هل تتسبَّب الحرب في رفع نِسَب اكتئاب الجنود المشاركين فيها؟ هذا ممكن، وإذا حسبنا نِسَب الاكتئاب في المشاركين في الحرب فسنجدها مرتفعة فعلا، لكن هل يؤكِّد ذلك الفرضية القائلة إن الحرب هي السبب في الاكتئاب؟ لا، لأن السبب يمكن أن يكون عكسيا، أي إن نسبة أكبر من مصابي الاكتئاب هم مَن يميلون بالأساس للتسجيل جنودا في الجيش مقارنة بغيرهم.
هل تتسبَّب ألعاب الفيديو في سلوك عدواني لدى الأطفال؟ هذا ممكن، حينما نقيس نِسَب السلوك العدواني في الأطفال الذين يمارسون ألعاب الفيديو قد نجد بالفعل علاقة، لكنها للأسف علاقة لا تعني السببية، لأن الأطفال ذوي السلوك العدواني بطبعهم قد يكونون أكثر ميلا لاختيار ألعاب الفيديو هوايةً مقارنة بأقرانهم، يصل الأمر إلى تصوُّراتنا اليومية عن أشياء كثيرة، مثلا تظن الغالبية العظمى من الناس أن الطقس البارد من الأسباب المباشرة للإصابة بنزلة البرد، وهذا مفهوم لأن نِسَب نزلة البرد تزيد في الشتاء، لكن الواقع أن نزلة البرد هي مرض فيروسي يتضمَّن إصابة بالعدوى، ونحن في الشتاء نميل للوجود في غرف مغلقة ما يُحفِّز انتشار العدوى، ونظن أن الشتاء نفسه هو السبب.
جدلية الطلاب والدخل
الآن لنفترض أننا نود أن نفحص إجابة سؤال مهم جدا في علمَيْ الاقتصاد والسياسة وهو: هل الحصول على سنة واحدة إضافية في المرحلة الثانوية يمكن أن يُحسِّن دخل الطلاب مستقبلا؟ في الثلاثينيات من القرن الفائت كانت الإجابة عن هذا السؤال بـ "نعم"، والفكرة البسيطة كانت أن نحسب متوسط الثروة ومتوسط عدد سنوات التعلُّم فتظهر النتائج.
لكن هناك مشكلة في هذه الفرضية، لأن الأشخاص الذين يختارون تعليما لعدد سنوات أطول قد يختلفون في عوامل خفية عن أولئك الذين يختارون تعليما لعدد سنوات أقصر. على سبيل المثال، قد يكون بعض الأشخاص موهوبين في الدراسة والعمل معا، من المرجَّح أن يواصل هؤلاء الأشخاص الدراسة، لكن سواء واصلوا الدراسة أم لا فإنهم سيحصلون على دخل أفضل في كل الأحوال.
الحل إذن أن تكون التجربة عشوائية تماما بحيث تتضمَّن العينة التي نختبرها كل فئات الناس دون أي فرصة لسبب مُتخفّي، هنا يظهر "أنجريست" (ثم إيمبنس في وقت لاحق) بتجربة طبيعية ذكية. في الولايات المتحدة، يمكن للمراهقين ترك المدرسة عندما يبلغون من العمر 16 أو 17 عاما، لكن لأن الأشخاص المولودين قبل بداية شهر محدد كل سنة، ولو بيوم واحد، يُدرَجون في سنة دراسية مختلفة عن هؤلاء الذين وُلدوا في أول يوم بهذا الشهر، فإنه يمكن لنا استخدام هذه السمة لاختبار فرضيتنا، لأن الأطفال الذين دخلوا السنة الدراسية في سن أكبر عادة ما يميلون لترك التعليم في وقت أبكر، والعكس صحيح.
ولأن موعد ميلادك هو شيء عشوائي تماما لا يمكن أن ينم عن أي شيء، أمكن لأنجريست وزميله آلان كروجر (المتوفى الآن) عمل تجربة طبيعية عشوائية تماما توضِّح إن كان التعليم بالفعل يؤثر على الدخل أم لا، وقد ظهر أنه يؤثر بالفعل بنسبة 9% للربح مقابل كل عام إضافي! إذا كنت صانع سياسات، فيمكن لك أن تعتمد على نتائج كهذه لاتخاذ قرارات مُتعلِّقة بالتعليم في دولتك، والواقع أن دراسات ثلاثي نوبل هذا العام قد أوضحت أن الاستثمار في التعليم له تأثير إيجابي على دخل المواطنين عموما.
كم أجرك في الساعة؟
في أوائل التسعينيات، كان الافتراض الثابت بين الاقتصاديين هو أن ارتفاع الحد الأدنى للأجور يؤدي إلى انخفاض فرص العمل، كان هذا استنتاجا بدهيا يفترض أن زيادة الحد الأدنى للأجور يزيد بالتبعية من تكاليف الشركات، وبالتالي يخفض من قدرتها على توظيف المزيد من العمالة، كانت هناك بالفعل العديد من الدراسات التي أشارت إلى وجود علاقة عكسية بين الحد الأدنى للأجور والتوظيف، لكنها لم تكن تمتلك رابطا صلبا يعني السببية.
في تلك النقطة يظهر "كارد"، الذي درس مع كروجر تجربة طبيعية في أوائل التسعينيات، حيث رُفِع الحد الأدنى للأجر في ولاية نيو جيرسي الأميركية من 4.25 إلى 5.05 دولارات في الساعة، لكن مجرد دراسة ما حدث في نيو جيرسي بعد هذه الزيادة لا يعطي إجابة موثوقة عن السؤال، حيث يمكن أن تكون هناك عوامل أخرى في سوق العمل لا نعرف عنها شيئا وتؤثر على مستويات التوظيف بمرور الوقت، بالتالي كانت هناك حاجة إلى مجموعة ضابطة، أي مجموعة لم تتغير فيها الأجور ولكن جميع العوامل الأخرى كانت متشابهة.
في ولاية بنسلفانيا المجاورة لنيو جيرسي، لم تكن هناك زيادة في الحد الأدنى للأجور، لكن سوق العمل كان متشابها خاصة في المنطقة الحدودية بين الولايتين، ركَّز الباحثان تحديدا على معدلات التوظيف في مطاعم الوجبات السريعة، حيث يكون الأجر عادة منخفضا وبالتالي يكون الحد الأدنى للأجور مهما. وكانت النتيجة أن وجد الباحثان أن زيادة الحد الأدنى للأجور لم يكن لها تأثير على عدد الموظفين، وخلال عقد من الزمن توصَّلنا إلى نتيجة عامة مفادها أن الآثار السلبية لزيادة الحد الأدنى للأجور صغيرة، وأقل بكثير مما كان يُعتقد قبل 30 عاما.
هل يسرق المهاجرون سوق العمل؟
كانت الهجرة سؤالا آخر مهما بالنسبة إلى كارد، خاصة: كيف يتأثر عمل السكان المحليين بقدوم المهاجرين؟ تصوَّر الباحثون في هذا النطاق أن هذه علاقة سلبية، حيث سيزاحم المهاجرون أبناء البلد في عملهم، للإجابة عن هذا السؤال بتجربة طبيعية استغل كارد حدثا مهما في تاريخ الولايات المتحدة في إبريل/نيسان 1980، حين فتح فيدل كاسترو باب الهجرة لجميع الكوبيين فجأة، تسبَّب ذلك في هجرة 125 ألف كوبي إلى الولايات المتحدة، استقر الكثير منهم في مدينة ميامي، مما أدَّى إلى زيادة القوة العاملة في ميامي بنحو 7%.
لدراسة كيفية تأثير هذا التدفُّق الهائل للمهاجرين على سوق العمل، قارن كارد اتجاهات الأجور والتوظيف في ميامي مع أربع مدن أخرى بوصفها مجموعة مقارنة، والنتيجة أنه لم يجد أي آثار سلبية على سكان ميامي ذوي المستويات التعليمية المنخفضة خاصة، لم تنخفض الأجور ولم ترتفع البطالة مقارنة بالمدن الأخرى، أحد التفسيرات لذلك هو أن السكان الأصليين يتحوَّلون إلى وظائف تتطلَّب مهارات جيدة في اللغة الأم، وحيث لا يتعيَّن عليهم التنافس مع المهاجرين على الوظائف، وعموما فإن تجارب كارد هذه قد صنعت ثورة في نطاق دراسات الهجرة.
في أثناء ذلك كله، تمكَّن كلٌّ من أنجريست وإيمبنس في منتصف التسعينيات من إيجاد منهجيات منضبطة لاستخلاص العلاقات السببية في التجارب الطبيعية، مثلا حينما ترغب في قياس تأثير خدمة ما مثل تقديم مساق في علم الحاسب لمجموعة من الطلاب دون غيرهم، فإن مقارنة النتائج ليس بالسهولة المُتصوَّرة، لأن الباحثين لا يمتلكون سلطة على الطلاب ليجبروهم على اجتياز المساق الذي قُدِّم إليهم، بعضهم سيجتازه لأنه يحب الحاسوب، وبعضهم لن يهتم، وفي المجموعة الأخرى التي لم يُقدَّم لها المساق يمكن أن يظهر طلاب قد اجتازوا المساق بمفردهم على نحو خاص، هنا تظهر تداخلات في النتائج، لكن الآليات التي ابتكرها أنجريست وإيمبنس مثل "The Local Average Treatment Effect" أو ما يُعرف بـ"متوسط تأثير العلاج المحلي" ساهمت في تحقيق ضبط أفضل للتجارب الطبيعية، بحيث أصبحت أقرب للتجارب العشوائية المنضبطة.
كانت أعمال ديفيد كارد، بالاتحاد مع الطرق المنهجية والنظرية التي طوَّرها كلٌّ من أنجريست وإيمبنس، سببا في توصُّل الاقتصاديين إلى نتائج صلبة لم تخطر على بال، خاصة في نطاقات الحد الأدنى للأجور وسياسات التعليم والهجرة، لتنتقل إنجازاتهم في التجارب الطبيعية وضبطها إلى نطاقات علوم الاجتماع والعلوم النفسية، فاتحة نافذة جديدة يمكن أن ندرس من خلالها أعقد الظواهر الاجتماعية بدقة غير مسبوقة من أجل تحسين حياتنا، هل يوجد هناك أهم من ذلك ليستحق جائزة؟!
______________________________________________________________________________
المصدر: