شعار قسم ميدان

سيقوض النظام الدولي ويغير الاقتصاد.. هكذا سيغير كورونا الوجه النيوليبرالي للعالم

ميدان - أبقار الرأسمالية المقدسة.. هكذا سيغير "كوفيد -19" نظرتنا للاقتصاد العالمي
اضغط للاستماع

لا يُمثِّل فيروس كورونا المستجد (Covid-19) أول مرض وبائي تتعرّض له البشرية، ولن يكون الأخير بالتأكيد، لكن ما بات في حكم المؤكد أن آثاره ستتجاوز التوقعات والآثار المعتادة كافة لحالة مرضية عابرة، فالأمر يتعلّق هذه المرة أكثر من غيرها بتعقيدات تتصل بالنظام الاقتصادي والاجتماعي السائد عالميا، وبهوس الربح والتراكم الرأسمالي، وآليات إدارتنا لحياتنا المادية؛ ما يجعل كورونا تحديا أقرب لتحدٍّ حضاري، لا مجرد مرض أو وباء ننتظر له مصلا، كما يفتح أبوابا واسعة لتغيّرات في النظرة الاجتماعية العامة لمسائل الاقتصاد، وهو الأمر الذي سنسعى لقراءة أبعاده عبر هذا التقرير.

تحدٍّ حضاري: أكثر من مجرد مرض!

تعليقات عنصرية و"ميمز" ساخرة تجوب صفحات الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي حول الوجبات الغريبة للصينيين التي فاجأت العالم بشمولها على أنواع غير مألوفة من الحيوانات كالخفافيش والقوارض والحشرات والديدان، والتي عزّزت بعض الافتراضات بكون هذه الممارسات الأصل خلف وباء كورونا الحالي، الذي ذاعت إحدى الروايات الرسمية بأن أصله يرجع لوجبة غريبة تراوحت التقديرات فيها ما بين الخفاش وآكل النمل الحرشفي!

يكتفي البعض بربط تلك الممارسات بالجذور الثقافية والخلفيات التاريخية، دون وعي بكونها مجرد جزء من إطار أوسع بكثير أتى في سياقه المرض، وهو حالة التغيّر المناخي التي أثارت كثيرا من التحذيرات والجدالات على مدى العقود الماضية، والتي تجعل المرض مؤشرا لحالة تحدٍّ حضاري شامل، لا مجرد أزمة صحية عابرة.

كتاب
كتاب "المزارع الشاسعة تولّد الإنفلونزا الشرسة" لـ "روب والاس"

حيث يقول عالم البيولوجيا روب والاس، في كتابه عن دور المزارع الكبيرة في خلق أجيال جديدة من مرض الإنفلونزا، والمنشور عام 2016م (1)، إن فيروس كورونا (كعائلة كاملة من الفيروسات منها الفيروس الحالي) قد ظهر بسبب تحويل بعض الغابات التي كانت تُمثِّل نظما بيئية كاملة إلى أراضٍ زراعية ومزارع لتربية الحيوانات والدواجن على نطاق صناعي واسع، ومع التشابهات الجينية بين تلك الحيوانات ونظيرتها البرية التي كانت تعيش في تلك الغابات، سقطت تدريجيا السدود المناعية بينها وبين بعضها، ثم بينها وبين الإنسان، بسبب ضعف المناعة الناتج عن الزحام والإنتاج الكبير لتلك الحيوانات والنظم البيئية الجديدة، وما مثّلته من بيئة ملائمة لتحوّر الفيروسات وانتقالها جيئة وذهابا بينها وبين الحيوانات البرية الأصلية (2)، ما يتوافق جزئيا مع رواية انتقال فيروس كورونا الحالي المُستجد (كوفيد-19) بين خنزير مراعٍ وخفاش، ولا يتعارض مع رواية انتقاله من حيوان بري بيع في أحد أسواق مدينة ووهان الصينية، فالتفسير يصحّ في الاتجاهين بتمحوره حول ضعف السدود المناعية بين الحيوانات البرية والداجنة والإنسان، بسبب ذلك التغيير البيئي.

وبحسب والاس، يصل الأمر إلى ما اعتبره تحالفا بين المزارع الكبيرة ومرض الإنفلونزا، فنحن هنا نتحدث عن ثنائية تصنع المرض، أولا عبر نمط الإنتاج الرأسمالي الكبير المتمحور حول خلق الأرباح بتوسيع نطاق تراكمه بشكل لا نهائي، حتى لو اعتمد في سبيل تحقيقه لتلك الأرباح على أساليب إنتاجية مضرّة تخلق ظروفا مواتية لنشأة وانتشار أمراض جديدة، والثانية هي الاختلالات البيئية الناتجة عن نهم التراكم الربحي المذكور، الذي أدّى إلى اختلال العلاقة بين الإنسان والبيئة، وبشكل أعم التغيّر المناخي، الذي قاد -كذلك- لظهور أمراض جديدة مثل كورونا وسارس، وعودة أمراض قديمة مثل الملاريا والسل والأمراض الاستوائية، وقائمة طويلة مما يُعرف بالفيروسات الزومبي (3) والأمراض البكتيرية المدفونة في الثلوج (4).

undefined

ويعني ما سبق أن الأمر يتجاوز كونه مجرد عَرض صحي عابر، بل هو نتاج لبنية ومنظومة عمل قائمة، بشكل سيدفعه للتكرار خلال مدة زمنية طويلة الأمد، وبشكل متصاعد، وبالنظر لآثاره، ولقيود الإطار الرأسمالي الحالي في مواجهتها؛ فنحن نتحدث عمليا عن تهديد حضاري، وليس مجرد مشكلة صحية.

النموذج النيوليبرالي للحياة: أبقار الرأسمالية المُقدسة

ربما تكفي نظرة سريعة في الركائز الأساسية للنظام الرأسمالي لإخبارنا عن الجذور الهيكلية للوضع الحالي، وكيف تتصل بمشكلة كورونا وتعقيدات حلها، خصوصا في صورته النيوليبرالية السائدة منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي.

undefined

فأولا، يقوم النظام الرأسمالي على حافز الربح، ارتباطا بقيادة القطاع الخاص للنشاط الاقتصادي بمناحيه كافة، فتتحقق أهداف تخصيص الموارد على الاحتياجات، وإنتاج السلع والخدمات، وتوزيع الناتج الاجتماعي من خلال حوافز الربح، وتفاعل قوى العرض والطلب، يظهر ذلك عموما وتطبيقيا في ربط مصلحة المجتمع بمصلحة القطاع الخاص، بل وتحقيقها أساسا من خلاله، ما يتجلّى في السياسات الحكومية التي تدفع دوما بحزم إنقاذ الاقتصاد من خلال دعم القطاع الخاص ومُلّاكه الأغنياء، تاركة الفقراء لنزاهة وكرم ذلك القطاع الخاص وأغنيائه في نقل آثار تلك الحزم إليهم، كذا، وهو الأهم، من خلال هيمنة حسابات واعتبارات الربح الضيقة على ما سواها من حسابات واعتبارات اجتماعية، بشكل أنتج وغلّب نوعا من العقلانية الاقتصادية ضيقة الأفق قصيرة الأجل على أولويات العقلانية الاجتماعية الأوسع أفقا والأطول أجلا، وما قضية التغيّر المناخي سوى أحد الأمثلة.

ثانيا، يسعى رأس المال للتراكم المستمر، مرتبطا بذلك بهدف "النمو للنمو" على مستوى الدول والمجتمعات، أو هوس مؤشر الناتج المحلي الإجمالي "GDP" الشهير، والذي يفترض قدرة لا نهائية لنمو الاقتصادات وتوسّع الاستهلاك، بغض النظر عن حدود الموارد الطبيعية وحاجات التوازن البيئي، ما أخلّ بعلاقة التبادل بين الإنسان والبيئة، حتى نشأ ما عُرف بالفجوة الإيكولوجية التي تُعبّر عن اختلال علاقة التبادل والتوازن تلك بين الطرفين، والتي كان قد نبّه إليها مُبكرا تقرير "حدود النمو" الشهير، الذي صدر عن نادي روما عام 1972م، وتبعته سلسلة تقارير أخرى، ليؤكّد ضرورة التوازن بين حاجات السكان ونمو الاقتصاد من جهة، واستهلاك والموارد والتوازن البيئي من جهة أخرى، ويُحذِّر من تجاوز "الاقتصاد لحدود الطبيعة" (5).

ثالثا، سيطرت البورصات والبنوك، أو رأس المال المالي والمصرفي بصيغة أخرى، على الاقتصاد الرأسمالي وتوجهاته منذ ما يقارب القرن، وتعزّزت هيمنتها مع صعود النيوليبرالية منذ السبعينيات، بحيث أصبحت مؤشراتها في طليعة مؤشرات الازدهار والانهيار الاقتصادي وأهمها لدى الحكومات والإعلام، لتضخ فيها الحكومات التريليونات أوقات الأزمات، باعتبارها حجر أساس استقرار الاقتصاد، فيما الواقع أنها بانفصالها الكبير عن الاقتصاد العيني (أي الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي من زراعة وصناعة وخدمات)، بجانب سيطرة المضاربة ورؤوس الأموال الساخنة عليها، تعاني من هشاشة تكوينية تجعلها قابلة للانهيار مع أية هزّة، جارّة معها كامل الاقتصاد، حيث أصبح وضع الاقتصادات الرأسمالية يشبه هرما مقلوبا يقف على رأسه بتوازن صعب وغير منطقي، فتتجاوز قيمةُ الأوراق المالية من أسهم وسندات وما شابه من صكوك ملكية القيمةَ الحقيقيةَ للأصول المادية التي يُفترض أنها تُمثِّلها من ممتلكات عينية ورأس مال إنتاجي، أي بصيغة أخرى تتراكم ديون مالية وهمية بدون مقابل مادي حقيقي (اعتمادا فقط على الثقة بها ووعود السداد حين الطلب)؛ ما يجعل أي اهتزاز في العلاقة بينهما يرتد على الاقتصاد كله بتذبذبات هائلة قد تودي بالاقتصادين المالي والعيني معا.

رابعا، تتسم الرأسمالية بكونها نظاما عالميا بطبيعتها، لذا فإنها تحتاج إلى التوسّع المستمر وتقسيم العمل دوليا؛ ما يجعل التجارة الدولية إحدى أهم ركائزها، حتى إن كثيرا من المُنظِّرين لا يرون العولمة شيئا جديدا، بل مجرد تعزيز للميل العالمي المتأصل في الرأسمالية منذ نشأتها، يسّرته ووسّعت نطاقه ثورة الاتصالات لا أكثر، هذه التجارة الدولية التي تعود التنظيرات لها إلى عهد منظّري الرأسمالية الأوائل، آدم سميث (ونظريته في الميزة التجارية المطلقة)، وديفيد ريكاردو (ونظريته في الميزة التجارية النسبية)، كتفسيرات وتأسيسات نظرية لمزايا التجارة الدولية على صعيد تقسيم العمل وكفاءة استخدام الموارد والرخاء العالمي عموما، والتي على أساسها نادى الاقتصاديون الليبراليون دوما بتعميق الاندماج في السوق الدولية، وعدم جدوى مساعي الاكتفاء الذاتي، وضرر بناء صناعات وطنية غير ضرورية، إلى آخره من تنظيرات ومن خطابات ليبرالية تقليدية للمنظمات الرأسمالية الدولية.

هذه المكونات الأربعة يمكن اعتبارها الأبقار المُقدسة للرأسمالية، فهي أهم مكوناتها قطعا، وإن لم يكن حصرا، وقد تشابكت هذه المكونات مع أزمة كورونا بشكل مباشر أو غير مباشر، إما خلقا لها على ما سبق ذكره، من خلال دور القطاع الخاص وحافز الربح في إنشاء المزارع الكبيرة والمساهمة في التغير المناخي، أو تأثُّرا، كما سنتبيّن بالمسح المُوجز لأهم الآثار الاقتصادية والاجتماعية لأزمة كورونا.

مُقدسات تتساقط: الآثار الاقتصادية والاجتماعية طويلة المدى لكورونا

undefined

تُشير التقديرات المبدئية لخسائر مليارية كآثار مباشرة لتفشّي كورونا، وهي خسائر منطقية ومتوقع ضخامتها مع انتشاره في مجموعة البلدان التي تُمثِّل أهم وأكبر مراكز الاقتصاد العالمي وقواعد ومفاصل سلاسل القيمة والتوريد العالمية، والتي تُمثِّل 60% من العرض والطلب، و65% من الإنتاج الصناعي، و41% من الصادرات الصناعية، كذلك لارتباط تلك الخسائر بقطاعات اقتصادية شديدة الأهمية مثل الصناعة والتجارة والسياحة والنفط وغيرها.

وعلى مستوى هذه الآثار المباشرة، تُشير ورقة حديثة لمارتن إيشينباوم وآخرين (6) إلى أن انتشار فيروس كورونا المستجد يفرض مبادلة إجبارية في الأجل القصير بين احتمالية حدوث ركود حاد بسبب الوباء والخسائر الصحية والإنسانية المرتفعة له، بحيث يجب على صناع القرار الموازنة بين الخيارين، أما في الأجل المتوسط، فستؤثر تكاليف الإفلاسات والآثار الركودية للبطالة وصدمات سلاسل العرض والتوريد على مُجمل الأداء الاقتصادي، ما تدعمه بمدخل مختلف دراسة أشمل حول الآثار الاقتصادية للأوبئة (7) كانت قد صدرت بمناسبة تفشّي فيروس الإيدز في أفريقيا، حيث رأى كاتبها مورين لويس أن للأوبئة سمة "السلعة العامة"، التي تؤثر على المجتمع في مجموعه، وتتطلب تدخلا عاما من الدولة، لمنع آثارها التي تمس الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فهي تعوق النمو الاقتصادي الذي ينعكس على الإيرادات والنفقات الحكومية، كما تخفض دخول ونفقات القطاع العائلي، لتؤدي إلى مزيد من الاعتماد الشعبي على الدعم الحكومي المُهدّد أصلا، ما يؤدي بمجموعه إلى حلقة خبيثة من الركود الاقتصادي والتدهور الاجتماعي والاضطراب السياسي الشامل.

وعلى أهمية ما سبق من آثار مباشرة، يبقى الأهم حقا، وما يعنينا هنا أكثر من غيره، هو ما يمكن استشرافه من آثار هيكلية بعيدة المدى، مما يمسّ قواعد وآليات عمل النظام الأساسية بالأخص، وهنا نجد عديدا من الآراء المتضاربة للخبراء مختلفي التخصصات، لكن يغلب الاتفاق على بعض الآثار الاقتصادية والاجتماعية الإستراتيجية حال استطالت أزمة كورونا لما يصل لعام أو عام ونصف كما ترى بعض التوقعات، من أهمها:

    

أولا: تراجع كبير في الثقة العامة بالقطاع الخاص وتغليب منطق الربح في القطاعات الاجتماعية الأساسية، مثل الصحة والبحث العلمي، التي تأكّدت خطورة تركها للقطاع الخاص مع احتمالات انهيار الأنظمة الصحية حتى في أعتى الدول تقدُّما ورفاهة، وبروز ضعف الاستعداد العام أمام احتمالات الأوبئة سريعة الانتشار.

ثانيا: هزّة قوية في الإيمان بنجاعة ومتانة نظام التجارة الدولية وسلاسل التوريد والقيمة العالمية الكبيرة والمعقدة، التي تبيّنت مخاطرها وهشاشتها بمجرد ظهور تهديد متوسط الخطورة مثل فيروس كورونا الحالي، بحيث ستعاود الكثير من الدول الاهتمام بتوفير حدٍّ أدنى من الاكتفاء الذاتي من السلع الإستراتيجية، وبناء قواعد راسخة للقطاعات الأساسية بها؛ لتكون مستعدة لأي اضطرابات مماثلة بالتجارة الدولية تعوق انتقال السلع الأساسية بين الدول.

ثالثا: اتجاهات للانغلاق وتعزيز الدول القومية، تدعمه خبرة الدول حاليا مع ميل كلٍّ منها للحلول الفردية وضعف التعاون الدولي، حتى داخل أكبر وأنجح التكتلات الإقليمية، مثل الاتحاد الأوروبي الذي خرجت من بعض دوله شكاوى مُرّة من العزلة وعدم التعاون ووهم الأخوة الأوروبية، بل واتجه كثير منها لطلب المساعدة والتعاون من الصين عوضا عن تلك الشراكة الأوروبية العاجزة.

رابعا: ستتغيّر أساليب الإنتاج الزراعي والحيواني الكبير، ومعها أنماط الاستهلاك الغذائي والاشتراطات الصحية، كما ستتعزّز برامج البحث العلمي المشتبكة مع جوانبها الاجتماعية والبيئية، متجاوزة الاكتفاء الحالي بالاعتبارات الإنتاجية والتكاليفية المباشرة؛ ما يعني من جهة دورا أكبر وتدخلا أعمق من جانب الدولة في تنظيمها وعملها، ومن جهة أخرى وزنا أقل نسبيا لاعتبارات الربح قصيرة الأجل لصالح اعتبارات السلامة الإنسانية والاجتماعية والبيئية الأشمل؛ لتجنّب تكرار سيناريو فيروس كورونا المُستجد، خصوصا مع تجاوزه أثرا وخطرا أسلافه السابقين مثل سارس وميرس.

ستتغيّر أنماط العمل، ويزداد الاتجاه للاستفادة من التقنيات الحديثة للعمل عن بُعد، خصوصا بعد اتساعها وتجربتها عمليا وإجباريا في خضم الأزمة
ستتغيّر أنماط العمل، ويزداد الاتجاه للاستفادة من التقنيات الحديثة للعمل عن بُعد، خصوصا بعد اتساعها وتجربتها عمليا وإجباريا في خضم الأزمة

خامسا: ستزداد المخاوف من الهيمنة المالية والمصرفية الهائلة، بما يتصل بها من هشاشة اقتصادية تُهدِّد بالانهيارات السريعة دوما مع كل صدمة عرض أو طلب فعلية أو لمجرد مخاوف استثمارية، وارتباطا بذلك، من المُرجَّح حدوث تراجع جزئي في هيمنة السياسات النقدية والبنوك المركزية التي تغوّلت على السياسات الاقتصادية لأغلب حكومات العالم منذ السبعينيات لصالح عودة السياسات المالية (الإيرادات والنفقات الحكومية) وصعود السياسات الدخلية (المتعلقة بهيكلة الأجور والدخول عموما والإعانات وما في حكمها).

سادسا: ربما تتراجع جزئيا النزعة الاستهلاكية التي سادت منذ السبعينيات مع التجربة المؤلمة للركود وانقطاع الدخول وفقدان الأمان الوظيفي، فتزداد الميول الادخارية ونزعات "المينيماليزم" أو التقليل من الاستهلاك والشراء قدر الإمكان، تخوفا من الأزمات المشابهة التي تتجاوز كونها مجرد أزمات اقتصادية تقليدية لكونها أزمات توقف كامل للحياة، كذا بحكم ما سيتعلّمه ويعتاده الناس من عادات فترة الأزمة الطويلة، حتى وإن عاودوا رفع استهلاكهم مؤقتا كنوع من التعويض بعد انقضاء الأزمة.

سابعا: ستتغيّر أنماط العمل، ويزداد الاتجاه للاستفادة من التقنيات الحديثة للعمل عن بُعد، خصوصا بعد اتساعها وتجربتها عمليا وإجباريا في خضم الأزمة، وما سيظهر لها من مزايا للشركات والعاملين على السواء، فضلا عما ستوفّره من تكاليف نقل وحركة وبنية تحتية تتحمّلها الحكومات.

أساليب جديدة ونظرة مختلفة للحياة

وبالنظر لهذه التغيّرات كافة؛ يمكننا استنتاج تفتّح إمكانات لبعض التحوّلات النوعية في الوعي الاجتماعي، أي تحوّلات على مستوى الأيديولوجية تتماشى مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية المذكورة، بما يفتح أبوابا لتغيرات حقيقية أوسع في كامل حياتنا، إنها الرؤية الجديدة للاقتصاد التي يمكن لكورونا أن يهبنا إياها، والتي ستشمل غالبا تغيّرات جذرية في المواقف تجاه أبقار الرأسمالية المقدسة.

undefined

فأولا، من المُرجَّح جدا أن تكسب دعوات تقرير "حدود النمو" المذكور آنفا مزيدا من القبول على حساب أيديولوجية "النمو للنمو" المرتبطة بالتراكم المستمر لرأس المال، فبعد ظهور عينات بسيطة من مخاطر الاختلال البيئي والتغير المناخي الناتجة عنها من جهة، ومع تجربة العزل الإجباري والتوقف المؤقت عن العمل من جهة أخرى؛ ستتبيّن بمزيد من الوضوح أهمية اعتماد أفق واقعي للنمو الاقتصادي والتوسع الاستهلاكي، كما ستظهر إمكانات جديدة للناس تتعلّق بخفض يوم وأسبوع العمل، خصوصا مع ما قد يتكوّن من عادات استهلاكية جديدة أكثر رشدا وتوازنا.

ثانيا، ربما تتّجه الحكومات إلى مزيد من السيطرة على أسواقها المحلية، وتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي، وتقصير سلاسل توريدها من الخارج، وتقليص هيمنة رأس المال المالي ودور البورصات والأموال الساخنة؛ لتقليل المخاطر والهشاشة المتصلة بها، كما ستقلّص هيمنة القطاع الخاص وحافز الربح على القطاعات الإنسانية والاجتماعية الإستراتيجية لصالح مزيد من الصالح الاجتماعي العام عليها.

ثالثا، وأخيرا وليس آخرا، سيتنامى وعي متناقض تجاه عالمية النظام الرأسمالي، فمن ناحية، ستستعيد الدولة القومية بعض قوتها وأهميتها في المدى القصير، ويتراجع التعاون الدولي وربما تتقلّص التجارة الدولية وحرية حركة رأس المال جزئيا، لكن من ناحية أخرى كذلك، سيزداد الوعي بأهمية التنسيق الدولي في الملفات ذات التأثيرات العالمية العابرة للحدود. ومع ذلك، لن يكفي هذا التغيّر المحتمل في نظرتنا للاقتصاد لإحداث تغيّر موازٍ في واقعنا معه، فهذا يشترط فعلا اجتماعيا وتوازنات قوى، وبالمُجمل نضالات شعبية ربما لا تتراكم القوى الكافية لها في المدى المنظور، وإن ظلّت النظرة الجديدة خطوة مهمة على طريقها.

المصدر : الجزيرة