شعار قسم ميدان

حديث خاص لـ"ميدان".. الغزاويون يتكلمون عن أحلامهم المدمّرة تحت وطأة "حارس الأسوار"

حتى الساعة الواحدة بعد منتصف ليل الخامس عشر من مايو/أيار الحالي، جلست الفلسطينية "آية معين العالول" منشغلة بمستقبلها كونها خريجة للقسم الإنجليزي بكلية التجارة جامعة الأزهر في غزة، فالفتاة الأولى على دفعتها، التي تعمل الآن في شركة الاتصالات الفلسطينية، حصلت مؤخرا على منحة دراسية في إدارة الأعمال الدولية بجامعة في إسطنبول، ويهمها أن تُثبِت جدارتها الدراسية عبر الإنترنت بعدما حالت ظروف جائحة كورونا دون سفرها إلى تركيا.

لكن آية الآن، حسب ما تُسجِّله مراسلة "ميدان"، ترقد طريحة على سرير بمستشفى دار الشفاء الطبي في مدينة غزة، تتماثل للشفاء من حروق وجروح تسبَّب بها قصف قوات الاحتلال الإسرائيلي لمنزلها الكائن في شارع الوحدة (وسط غزة)، إذ كانت آية تقطن في شقة سكنية بالطابق الأول من "عمارة الأحلام 3" المكوَّنة من سبعة طوابق، قبل أن تهدمها طائرات الاحتلال على رؤوس قاطنيها. تأمل آية أيضا أن تُشفى أمها التي ترقد على سرير مجاور لها جراء جروح مشابهة، بعد أن استُشهد والدها "الدكتور أيمن" الذي لم ينجُ من القصف.

كانت عائلة "العالول" واحدة من عدة عائلات فلسطينية نالت منها العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة المُسماة "حارس الأسوار"، التي شُنَّت على القطاع منذ مساء العاشر من مايو/أيار حتى توقَّفت بعد مبادرة مصرية لوقف إطلاق النار صباح الجمعة 21 مايو/أيار. وقد وضعت إسرائيل غزة تحت قصف عنيف من الجو عبر الطائرات الحربية، ومن البحر عبر زوارق الحربية الإسرائيلية، ما أسفر عن سقوط 232 شهيدا فلسطينيا، بينهم 65 طفلا، و39 سيدة، و17 مُسِنا.

بينما جلست آية باحثة عن مكان لتقديم امتحانها السبت الماضي، فُصِل الإنترنت فجأة عن محيط سكنها جراء قصف قوات الاحتلال لعدد من الأبراج التي احتضنت شبكات توزيع الإنترنت بغزة، وتقول: "كنت أستعد للامتحان، وأسمع الأخبار على الراديو في الوقت نفسه، حتى حلَّ المساء، ثم انتهى فجأة كل شيء". في تلك الليلة، خشيت آية، "آخر العنقود" لوالديها، من القصف المتواصل، فقرَّرت أن تنام معهما في الغرفة ذاتها. تُخبرنا آية: "لم يسبق لي أن سمعت تلك الأصوات الناجمة عن القصف في العدوان الإسرائيلي السابق على غزة".

سرعان ما أجهشت الشابة الفلسطينية بالبكاء، ثم روت لـ "ميدان" لحظة وقوع المجرزة التي استشهد فيها والدها، فتقول: "نام والداي على السرير، وفرشت أنا بجوارهما، وأخذت أفكر في امتحاني الذي نويت تقديمه عند شقيقي الذي يسكن بالقرب منا حيث يوجد إنترنت. خلال ثوانٍ معدودات ليس إلا صرنا بين الأنقاض بعد قصف البناء، وشعرت بأمي إلى جواري على قيد الحياة، فيما سكت أبي منذ اللحظة الأولى عن التواصل معنا". من على سريرها بمستشفى الشفاء، تقول آية إنها لم تعُد مهمومة بامتحانها، بل باتت تُفكِّر في حروقها وفي أمها الجريحة، وفي الحياة القاسية بعد رحيل أبيها، وفي مكان سكنهما بعد الخروج من المستشفى؛ فلا بيت لهما الآن.

حين شقَّ الضوء عتمة الليل، أخذت الشابة الفلسطينية "لينا أبو عمشة" تتفقد جميع أفراد عائلتها، ممنونة لبقائهم على قيد الحياة فحسب كما تقول: "طلع علينا الصبح بحمد الله". خرجت لينا في تلك الليلة مع 35 فردا (أربع عائلات) من بيتها الكائن في شارع البعلي بمدينة بيت حانون (شمال غزة) تحت نيران الصواريخ والقذائف الإسرائيلية، متوجهة نحو مستشفى المدينة، لكن بمجرد تحرُّكهم، استهدفت طائرات الاحتلال مكانا قريبا جدا من المستشفى؛ ما دفع بعائلة أبو عمشة إلى النزوح نحو بيوت معارف لهم.

سرعان ما استشعرت العائلة النازحة أنها ثقيلة على مُضيفيها، فقرَّرت خوض رحلة نزوح جديدة أخطر من سابقتها. تقول لينا: "قرَّرنا التوجه نحو مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين ’الأونروا‘ عند مخيم الشاطئ"، وتكمل مُحاوِلة تمالك نفسها وهي تحكي لنا رحلة نزوح امتدت عشر ساعات (من السادسة صباحا إلى الرابعة عصرا): "مشينا على أقدامنا من شارع لآخر لتجنُّب الأماكن المهدَّدة قدر الإمكان، وكان بيننا مصابون من مسيرات العودة، وسيدة لم تمر عشرة أيام على وضعها مولودها، وجُلّ همنا حينئذ أن نُشعِر الأطفال الصغار بالأمان حتى نصل إلى مخيم الشاطئ".

حين وصلت عائلة لينا إلى المدرسة، اضطرت لطلب بعض الفُرُش من سكان المخيم حتى يستطيع كبار السن والمرضى أن يلتقطوا أنفاسهم من رحلة النزوح القاسية. لم يزل الأطفال حينذاك في رعب شديد حال دون وقوفهم على شباك المدرسة خوفا من أن تنال منهم القذائف، بل وخشي بعضهم الذهاب إلى الحمام أو اللعب بالكرة التي حصلوا عليها، كما يحكي "محمد"، شقيق لينا الأصغر ذو السنوات الأربع. وتقول لينا: "أقصى ما يهمنا الآن هو الاطمئنان على والدي، الذي تمسك بالبقاء في المنزل مع أمه المُقعَدة بسبب صعوبة النزوح بها".

يقف الثلاثيني "شعبان سليم" بالقرب من أنقاض مكتبة "اقرأ" التي يملكها، وضمَّت كتبا ثقافية وعلمية، وقسما للطباعة والتصوير، وقرطاسية. استجمع الرجل قواه في وسط مشهد الدمار والهدم من حوله، ثم انتشل الكتب، الواحد تلو الآخر، من حطام مكتبته التي أرداها الإسرائيليون ركاما، قبل أن تُتم عامها الخامس في أغسطس/آب المُقبل. لقد أمضى شعبان وقتا طويلا في ترتيب الكتب والأدوات بُغية جذب الزبائن، وقضى العشرات من شباب غزة بدورهم وقتهم فيها من أجل القراءة. لطالما كانت المكتبة حلم شعبان، الذي دفعه إلى وضع "القرش على القرش" كي يفتتحها ويشغلها، ويفي بالالتزامات التجارية التي وقعت على عاتقه بعد شرائه البضائع والأجهزة. أما الآن، فيسعى الرجل للوصول إلى حاسوبه وبعض النقود التي حازها فقط لا أكثر، بعد قصف قوات الاحتلال "عمارة كحيل" التي حوت مقر مكتبته في شارع الثلاثيني غرب غزة، بعدما دُمِّرَ البناء ذو الطوابق السبعة كاملا بمكتباته ومراكزه العامة ومعاهده التعليمية، بالإضافة إلى عدد من المشاريع الشبابية التي أُنشئت فيه.

يروي شعبان لـ "ميدان" كيف تلقَّى في الساعة السادسة صباح يوم 18 مايو/أيار الخبر الصادم بأن العمارة التي تضم مكتبته ومصدر رزقه ستُهدم بالصواريخ في غضون دقائق. مخاطرا بحياته، تحرَّك شعبان من بيته مُسرعا نحو شارع الثلاثيني، فوجد العمارة قد سويت بالأرض بفعل أربعة صواريخ إسرائيلية. قبل يومين من القصف، وقف شعبان في مكتبته مُتطلِّعا إلى خطط مستقبلية لعرض بضاعة جديدة من الكتب والروايات استوردها من مصر لتوِّه في إبريل/نيسان الماضي. يقول شعبان: "لا تزال الكراتين تحتوي على الكثير من تلك البضاعة؛ مصاحف وكتب سيرة جلبتها للبيع أثناء شهر رمضان، وكتب وروايات لم نكن قد عرضناها بعد. ما من تبرير لقصف العمارة، فكلها مؤسسات تعليمية إلى جانب مكتبتي ومكتبة أخرى. لم أتخيل للحظة واحدة أن هنالك ذريعة للقصف، إنها حرب ثقافية ضد العلم في قطاع غزة".

مع بدء كل عدوان إسرائيلي على غزة يصبح مدخل قسم الطوارئ في مستشفى دار الشفاء الموقع الأهم، فعند مدخله تتجمَّع سيارات الإسعاف المليئة بالمصابين والشهداء، ويصبح أقارب الضحايا مع المنقذين والصحفيين والأطباء أسياد المكان. يزداد التزاحم أمام المستشفى بينما يمضي المسعفون يومهم ذهابا وإيابا بسياراتهم إلى الأماكن نفسها لكي ينقلوا المزيد من الجرحى والشهداء، أو إلى مكان جديد وصلتهم منه للتو نداءات الاستغاثة.

الأطباء هُنا هُم الأبطال بعد رجال المقاومة، فهُم يعملون على مدار الساعة في قسم الطوارئ لأجل إنقاذ العشرات من الجرحى. في خضم الضغط، وبعدما استراح الطبيب الجرَّاح "محمد شعبان" لدقائق قليلة التقط فيها أنفاسه، تحدَّث الرجل إلى "ميدان" عن الآلام والدماء التي يمضي يومه متنقِّلا بينها، والحالات الحرجة التي يعمل معها يوميا بسبب القصف العنيف والمباشر والانتقامي للطيران الإسرائيلي، فيقول: "إنها إصابات قاتلة في الرأس أو البطن، وهي إصابات تحتاج إلى العناية المركزة ودخول غرفة العمليات". لا يملك قطاع غزة الكثيرين من أمثال محمد شعبان، إذ يعاني القطاع الصحي في غزة من نقص في أطباء الجراحات المتخصصة، مثل جراحة الصدر والأوعية الدموية والمخ والأعصاب.

يحمل شعبان عبء مداواة الجرحى على مدار الساعة، ومثله مثل بقية الغزاويين، يحمل أيضا في قلبه وعقله هموم عائلته وزملائه وأحبائه. في خضم عمله الدؤوب والمؤلم، أتاه خبر قصف منزل زميله الطبيب "أيمن أبو عوف"، وسرعان ما حملت إليه سيارات الإسعاف مصابي المجزرة الجديدة. لم يكن من بينهم أيمن أو زوجته وأبناؤه، الذين استشهدوا جراء القصف مباشرة.

على بُعد أمتار من قسم الطوارئ، وداخل ساحة المستشفى نفسه، يتخذ عشرات الصحفيين من المكان مقر عمل لهم. ينتظر العرب والعالم باستمرار أخبار العدسة الإخبارية الكبيرة من أعلى، وأخبار المقاومة والصواريخ وأعداد الشهداء، لكنّ الغزاويين على الأرض ينتظرون أخبارا أكثر تفصيلا عن الشهيد تلو الآخر، وعن الأسماء والعائلات، ومواعيد خروج الجثامين ودفنها وجنازاتها. بينما وقف الصحافيون في ساحة المستشفى، اتجهت الطفلة "نادين عبد اللطيف" ذات السنوات العشرة نحو الكاميرات، وتحدثت إليها باللغة الإنجليزية عن الأحوال الصعبة لأطفال غزة. تحاول الصغيرة لفت الأنظار إلى البشر قبل الصواريخ، وإلى الأرض قبل السماوات التي شغلت محللي الشؤون العسكرية. لقد وصلت نادين إلى المكان نازحة وفَزِعة بسبب قصف قريب من منزلها، فالتقطتها عدسات الكاميرا تبكي وتتحدث بعفوية عمَّا نال منها ومن عائلتها.

تحدَّثنا قليلا إلى نادين التي التحفت الكوفية الفلسطينية، فقالت إن من حق أطفال القطاع أن يعيشوا بأمان. إلى جانبها يقف شقيقها "جود"، فتضحك أمامه وتشد من أزره حين يرتجف خوفا من القصف، وتقول: "أكاد أموت وأنا أرى الأطفال يخرجون من تحت الركام دون أهلهم، هذا صعب للغاية". تُخبرنا نادين أنها بصدد تغيير طموحاتها بعد ما جرى الأيام الماضية، وكأن أعوامها العشر قد تضاعفت تحت وطأة الآلام، وأهوال ما رأت عيناها الصغيرتان. على غرار الآلاف من أطفال الجيل الجديد، تطلَّعت نادين سابقا إلى أن تصبح "يوتيوبر"، أي صانعة محتوى على موقع يوتيوب الشهير للمحتوى المرئي. الآن، تريد نادين أن تكون طبيبة لتنقذ الأطفال والجرحى الغزاويين.

المصدر : الجزيرة