المرأة بين الصين والهند.. كيف نجحت بكين فيما فشلت به نيودلهي؟
هل تتمتع المرأة في الصين بحرية أكبر من نظيرتها في الهند؟ هذا السؤال هو ما تحاول الكاتبة الصحافية الهندية بالافي أيار الإجابة عنه. تُفنِّد الكاتبة، من خلال خبرتها بالمجتمع الصيني الذي عاشت فيه لسنوات، الفوارق والتشابهات بين وضع المرأة في كلٍّ من المجتمعين الهندي والصيني، وأيهما يقرّ بحقوق المرأة وأيهما يُنكرها. تنبع أهميّة هذه المقالة إذن من كونها تُتيح نظرة إلى إستراتيجيات المساواة في اثنين من أكثر الأسواق نموا في العالم.
تعتبر تجارب النساء في أكبر حضارتين آسيويتين، الهند والصين، بغيضة على مر التاريخ. ففي الصين، كانت الفتيات تُكسر أقدامهن وتُربط لتغيير شكلها بدعوى أن تصبح أكثر جاذبية للرجال. وفي أجزاء من الهند، كانت النساء يُحرقن أثناء حرق جثث أزواجهن في طقس يسمى "ساتي". وفي كلا البلدين، ستجد أنه لا تزال تنتشر حكم شعبية تُشبِّه النساء بمختلف الحيوانات، وتسخر من ذكائهن، وحتى ترثي وجودهن ذاته.
يقول مَثَل صيني: "قلب المرأة هو أخبث شيء في العالم". كما تُحذِّر حكمة في اللغة السنسكريتية، أصل كثير من اللغات الهندية الحديثة، من "الثقة في الأنهار، والحيوانات ذات الحوافر أو القرون، وفي النساء". وتوصف الابنة المتزوجة في اللغة الصينية بأنها "الماء المسفوح"، ويقصد به الماء الذي لا نفع فيه. وفي اللغة المالايالامية، لغة جنوبي ولاية كيرلا الهندية، وهي ظاهريا أكثر المناطق الهندية تقدُّما، تُقارن خيبة الأمل في مواقف الحياة بخيبة أمل مَن علم أن زوجته وضعت أنثى.
قدّر أمارتيا سن، عالم الاقتصاد الهندي الحاصل على جائزة نوبل، في مقالة شهيرة نشرتها مجلة "نيويورك ريفيوز" في عام 1990، عدد إجمالي مَن يُعرفن بـ "الفتيات المفقودات" بمئة مليون فتاة، منهن 37 مليون فتاة في الهند، و44 مليون فتاة في الصين. ومن حيث عدد المواليد، إذا تساوت الظروف الأخرى كلها، فإن عدد الذكور يفوق عدد الإناث بصورة طبيعية، ففي مقابل كل 100 أنثى يولد 105 ذكر. لكن الأمور ليست متساوية، إذ إن الإجهاض المُتعمّد على أساس جنس الجنين في الدول التي تُفضِّل الذكور على الإناث يعني أن هناك ملايين الإناث لم يَرِينَ النور، كما أن أعداد الإناث اللاتي يتوفَّين في سنّ الطفولة، جراء نقص التغذية أو سوء الرعاية الطبية، تكون غير متكافئة إذا ما قورنت بعدد الذكور.
لقد عشت في الصين لمدة سبع سنوات، بين عامَيْ 2002-2009، عملت فيها صحافية لرصد "صعود" هذه البلاد لحساب جريدة هندية شهيرة. خلال ذلك الوقت، كان هناك سؤال فظّ إنّما كشاف ضمن الأسئلة التي تُطرح عليَّ من المحيطين بي من كلا البلدين: "أيهما أفضل؟" وأي البلدين أُفضِّل؟ هل من الأفضل للمرء أن يكون هنديا أم صينيا؟
كان من المستحيل الإجابة عن هذا السؤال باختصار وبمعزل عن الواقع الذي عاشه مختلف الأفراد في المجتمع نفسه، إذ كان من الخطأ الجمع في جملة واحدة بين مسلم محتجز في سنجان وبين رجل من مال وأعمال في قوانغتشو، وهو لا يقل خطأ عن الجمع بين عامل في جمع الفضلات البشرية في سهل الغانج الهندي وبين مهندس برمجيات في بنجلور. لكن حتى مع مقاومتي للضغط الذي أتعرّض له لإعطاء إجابة حاسمة، بالنظر إلى التحفظات الكثيرة التي لا مناص منها، كنت أجدني أميل أكثر، وعلى نحو غير متوقع، إلى الصين وليس الهند حينما يتعلق الأمر بالمساواة بين الجنسين. بالتأكيد لم تكن ظروف النساء في الصين بالظروف السهلة، لكن "السهولة" أمر نسبي.
تغذّى مخيالي الأدبي في سنوات صباي على قصص المرأة الصينية المقهورة، من "أو-لان"، وهي الشخصية الخيالية صاحبة المعاناة الطويلة بطلة رواية الكاتبة الأميركية بيرل إس. باك "الأرض الطيبة"، وحتى جدة الكاتبة البريطانية الصينية تشونغ تشانغ التي رُبطت قدماها وهي في الثانية من العمر، بحسب ما ورد في رواية "بجعات برية" المستقاة من تاريخها العائلي.
وبالتالي فلم تكن مخيلتي مستعدة لروح نساء الصين الطليقة كليا التي لاحظتها فور وصولي بكين في صيف 2002. تحتل النساء الصينيات المجال العام بطريقة يستحيل أن يوجد مثلها في معظم المناطق الهندية، فلا يمشينَ بظهور مقوسة محنيّة لدى العبور بجانب الرجال، ولا يتجنبن نظرات العيون. إنهن يقرعن أجراس دراجاتهن بقوة وبصوت مرتفع، بل إنهن أحيانا يتسكعن وتغلب عليهنّ الثقة بالنفس ويتدافعنَ إلى مقدمة طوابير الانتظار.
كانت فرصة أن تقع عيناي على امرأة تقود سيارة أجرة أو حافلة في بكين أكبر من مثيلتها في مدن أخرى مثل لندن أو لوس أنجلوس. كانت لجنة السكن الخاصة بالحي الذي سكنته في بكين تحتل وظائفها نساء صارمات، ومديرتها امرأة، تصفيفة شعرها تشبه تصفيفة ماوتسي، تستطيع بنظرة واحدة أن تجعل السكان الشاردين في القاعة يصطفون في طابور منظم.
وفي المطار كان الرجال غالبا ما يُفتَّشون من قِبَل حارسات أمن يقمن بالأمر بلا مبالاة احترافية. هؤلاء الحارسات جعلنني أقارن الوضع بما يحدث في مطارات الهند، حيث توضع لافتات "للنساء فقط" على طوابير معينة تُفضي إلى كبائن بستائر مغلقة حيث تُفتِّش ضابطات الأمن النساء. وما كان يزعجني أن هذا الإجراء كان إلزاميا لكل النساء، ومع ذلك كان هناك طابور واحد فقط لهن في مقابل عدد من الطوابير للرجال.
واجهت موقفا في مطار نيودلهي مرة حين كان طابور النساء طويلا كثعبان يتلوّى وتحمل النساء فيه أطفالهن الضجرين، بينما كانت طوابير الرجال شبه خالية. طلبت أن يفتشني أحد رجال الأمن لتسريع الإجراءات، خصوصا أنني كنت متأخرة بالفعل، فبدوت كأنني طلبت منهم تعريتي لأرقص في صالة انتظار المسافرين. قال لي موظف أمن معاتبا: "سيدتي، هذه ليست الثقافة الهندية". أُجبرت على السكوت في نهاية المطاف، ودفعوني لأنتظر دوري في آخر طابور النساء. كم أشتاق إلى الصين في مواقف مثل هذه!
تدعم الإحصاءات انطباعاتي عن التمكين النسبي الذي تتمتع به المرأة الصينية. بحسب بيانات منظمة العمل الدولية فإن نسبة مشاركة الإناث البالغات (أعمارهن بين 15-64) في سوق العمل وصلت إلى 60% في الصين في 2020، وهي نسبة أعلى من الولايات المتحدة (56%)، وأكثر بثلاث مرات من النسبة الضعيفة المسجلة في الهند 20%.
وصلت نسبة الإناث اللاتي يُجِدن القراءة والكتابة في الهند، في الوقت الذي كنت أعيش فيه في الصين (2002-2009)، إلى أعلى من 50% قليلا، فيما كانت النسبة في الصين تصل إلى 90%. وبحسب بيانات حديثة للبنك الدولي فإنه بحلول عام 2018 تحسّنت تلك النسبة في الهند ووصلت إلى 66%، ومع ذلك ما زالت تتخلّف بـ 16 نقطة عن نسبة الرجال الذين يُجيدون القراءة والكتابة. ولم تزل في الهند 186 مليون امرأة تقريبا لا تُجيد قراءة أو كتابة جملة بسيطة بأي لغة. وفي مقارنة واضحة وكاشفة مع الصين، فإن 95% من النساء هناك يُجِدن القراءة والكتابة. ومن حيث معدل الموت أثناء الولادة، وهو مقياس آخر لجودة حياة الإناث، فإن الهند تتخلف عن الصين بهامش كبير. نحو 113 امرأة من بين كل 100 ألف امرأة تلقى حتفها جراء مضاعفات الولادة في الهند في الفترة بين 2016-2018، مقارنة بـ 18 امرأة فقط من بين كل 100 ألف في الصين في المدة ذاتها.
يظهر الأثر التراكمي للتحيزات المتجذرة على أساس الجنس في رفض التعليم والفرص التي تُحقِّق للمرأة ذاتها، وبمرور الوقت تسلبهن شعورهن بالقيمة الذاتية باعتبارهن كائنات بشرية. وهناك تكلفة اقتصادية باهظة تنتج عن هذا، وتُفاقِم من هذه المشكلة العاطفية. خلصت دراسة للميثاق العالمي للأمم المتحدة إلى أنه إذا شاركت نساء الهند في القوى العاملة بنسبة مساوية لنسبة الرجال، لانتعش الناتج الإجمالي المحلي بنسبة زيادة تصل إلى 27%.
إذا قُدِّرت النساء، فستكون لهن فرص أعلى في القدوم إلى الحياة في المقام الأول بدلا من إجهاضهن. وبالتالي من المحتمل أن يحصلن بهذا التقدير على تعليم وصحة أفضل، وبدوره يرفع من صحة أسرهن، وينعش الاقتصاد. وبالتالي يمكن القول جدلا إن الاستثمار في النساء وتحسين الظروف لهن هو أهم لمستقبل الدولة من بناء بنية تحتية برَّاقة، أو تقليل الحواجز الجمركية.
ولهذا السبب، وعلى الرغم من إنجازات الهند المعتبرة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، فإن الدولة متأخرة وستستمر في التأخر عن الصين، حتى تتمكّن من تحسين وضع النساء في الهند، وهو التغيير الذي يتطلّب هندسة اجتماعية كبيرة لا يوجد مَن يتحمس لها، وفي المقابل يتحمسون للقطارات السريعة، والتماثيل العملاقة، والأسلحة التي تتبختر بها الحكومة الحالية في ترسانتها، وهي كلها أشياء تهدف للإشارة إلى وصول الهند إلى الساحة العالمية، لكن هذا الوصول ستظل تلاحقه الانتقادات اللاذعة، ومحكوم عليه بالتبخر والموت أمام الواقع المزري للإنكار المنهجي لقوة النساء.
في الغرب حيث اكتسب مصطلح الشيوعية سمعة سيئة على مدى طويل، عادة ما تُدفن إنجازات الثورة الشيوعية الصينية تحت التجاوزات المرعبة لحملات التعبئة الجماهيرية التي دعا إليها ماو تسي تونغ مثل "القفزة العظيمة للأمام"، و"الثورة الثقافية". لكن ماو تحدّى أيضا التقاليد الجنسية عن طريق الانفصال عن الماضي، حتى إنه اشتهر بقوله المأثور إن "النساء يرفعن نصف السماء". وأعطى تشريعُ عام 1950 الحقَّ للنساء في الطلاق للمرة الأولى. كما شجّع ماو النساء على العمل خارج المنزل، وقضى على عادات موروثة مثل ربط القدمين واتخاذ محظيات دون الزواج منهن. والأهم من ذلك أن الشعب حينها تلقّى للمرة الأولى تعليمه وفق منظومة تؤمن رسميا بالمساواة بين الجنسين.
كان ماو بالكاد يرقى لأن يكون نسويًّا بالمعايير الحديثة. كانت الأجندة النفعية التي تهدف إلى رفع الإنتاج المحلي هي أصل كل الجهود الهادفة لزيادة مشاركة الإناث في القوى العاملة، وليس الرغبة في توسيع الخيارات أمام النساء. أصبحت المصالح الفردية للمرأة خاضعة للأهداف الجماعية، حتى إنهن غالبا ما كن يُمنعن من العناية بأطفالهن الذين كانوا يُفصلون عنهن لوضعهم في دور رعاية أطفال ترعاها الحكومة. علاوة على ذلك، لم يقابل هذا التوسع لدور المرأة في المجال العام توسعا مكافئا لدور الرجال في المجال الخاص، ونتج عن ذلك أن حملت النساء على عاتقها ضعف الأعباء.
وعلى الرغم من هذه القيود، فإن الشيوعية سرّعت من انهيار التسلسلات الهرمية الإقطاعية، وحدَّت من كراهية النساء التي كانت مقبولة باسم الدين والنصوص المقدسة. صاحب ثورة ماو بؤس واسع النطاق، وتفكك اجتماعي، لكنها على الرغم من ذلك وضعت الصين في قلب الحداثة التي ما زالت الهند تفتقر إليها حتى اليوم.
بالتأكيد ما زالت المنافع التي جلبتها الثورة الشيوعية الصينية على النساء محل جدال، لكن من الأمور التي ما زال الجدل يدور حولها أكثر هي أنه في عصر ما بعد ماو ولأكثر من ثلاثة عقود (1979-2015) خضعت الصين لواحد من أكبر جهود الهندسة السكانية، وهي سياسة الطفل الواحد، التي بموجبها كانت نسبة ضخمة من سكان الدولة لا يمكنهم بأي حال سوى إنجاب طفل واحد. كان تداعيات ذلك على معدل جنس المواليد مدمرا. أجهضت كثير من الأُسر سرا الأجنة الإناث، وفي الفترة التي كنت أعيشها في بكين، كانت نسبة المواليد الذكور تصل إلى 117 ذكرا في مقابل 100 أنثى، وهو أحد أكثر المعدلات انحرافا عن المعدلات العالمية لجنس المواليد.
لكن في الهند، وبدون أي قيود سكانية مماثلة، فإن معدل جنس المواليد كان على القدر نفسه من السوء تقريبا: 110 مولود ذكر في مقابل 100 أنثى، وارتفعت النسبة ارتفاعا مخيفا في مقاطعات بعض الولايات مثل بنجاب وهاريانا حتى وصلت 130 مولودا ذكرا في مقابل 100 أنثى.
وعلاوة على ذلك، كان هناك وجه آخر لعُملة سياسة الطفل الواحد في صالح الإناث من الأطفال في الصين. سألتني بريتي شودري، وهي ممثلة لمجلس القرية في فريد أباد في ولاية هاريانا الهندية، أثناء زيارتها لبكين ضمن وفد الشباب: "إذا كانت ولاية هريانا قد فرضت سياسة الطفل الواحد، فما الذي لا يمكن للنساء تحقيقه؟"، وكانت حجتها أن تحرير المرأة من عبء تربية عدة أطفال سيكون ميزة تمكينية لصالحها. بالإضافة إلى ذلك فإنه إذا كانت الأسرة لا يمكنها سوى إنجاب طفل واحد، فستكون الموارد كلها مُسخَّرة لإطعام هذا الطفل وتعليمه، بصرف النظر عن جنس هذا الطفل.
في نهاية المطاف، ورغم الثورة الشيوعية، فإن تفضيل الذكور ما زال موجودا بقوة في الصين. علاوة على ذلك فإن الممارسات الكارهة للنساء التي قُضِي عليها أو تبدلت بممارسات أرقى خلال سنوات الثورة عادت لتظهر مرة أخرى تحت شعار الرأسمالية الحمراء الجديد الذي تتبناه الدولة.
ربما لم تعد المحظيات موجودات بشكلهن التقليدي، لكن المفهوم ذاته بالإبقاء على صحبة عشيقات عاد للظهور مجددا. كما تنخفض معدلات توظيف الإناث باستمرار خلال العقدين الماضيين. ونتج ذلك جزئيا عن تضافر الجهود لتشجيع المرأة على التركيز على الزواج والأسرة بدلا من مسارها المهني، وذلك من خلال نشر فكرة -ساعدت الدولة فيها- "النساء المُهمَلة" اللاتي لا يمكنهن العثور على أزواج بسبب مستوى تعليمهن المرتفع أو طلباتهن "غير الواقعية".
ومع ذلك، وإذا كان بيدي الخيار، فإنني كنت سأُفضِّل أن أُولد امرأة صينية عن أن أُولد هندية، إذ كانت لتصبح فرصي في الصحة والتعليم أعلى، كما كانت لترتفع احتمالية سيطرتي على خيارات حياتي. وعلى الرغم مما جعلتنا مجلات الأزياء نصدقه، فإنه ليس أعظم أحلام المرأة أن تمشي في قاعة الزفاف بفستان عرس صُمَّم خصيصا لها، إنما مجرد أن تكون قادرة على الخروج لتمشي بدون خوف، حتى وإن كان في وقت متأخر من الليل، وحتى إن كانت وحيدة لا يصحبها أحد، وعلى الأغلب فإن هذا الحلم قد تحقق في الصين.
—————————————————————————————————-
هذا المقال مترجم عن Noema Mag ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.