أُنس أم خوف.. كيف نفهم الدوشة والضجيج في القاهرة؟

"لازم ندوش الدوشة بدوشة أكبر من دوشتها عشان متدوشناش"، حكمة وردت على لسان "مزاجنجي" بطل فيلم "الكيف" للمخرج محمود أبو زيد، والذي قام بدوره الفنان محمود عبد العزيز، حينما ركب "مزاجنجي" مع أخيه الدكتور الكيميائي "صلاح" (الفنان يحيى الفخراني) سيارة الأجرة، فطلب صلاح من السائق أن يُغلق المسجل بأغنيته الصاخبة للفنان الشعبي "توفة العياط" الذي كان طبالا ولكن "أكرمه الله في مشواره الفني وأصبح مطربا مشهورا"، لكن صوت الفنان توفة كاد يُصيب صلاح بالصداع، بينما أخوه "مزاجنجي" والسائق مستمتعان بغنائه، فيشرح "مزاجنجي" بحكمته البالغة أن "الدوشة" الصادرة من حنجرة "توفة العياط" تمحو أصداء "الدوشة" التي تزدحم بها نفوسهم.
يتوافق مبدأ مزاجنجي: "لازم ندوش الدوشة بدوشة أكبر منها عشان متدوشناش" مع منطق كثير من البشر باختلاف الجنس والعِرق والوضع الاجتماعي والخلفية الثقافية، من بين هؤلاء إليف شافاق الروائية التركية الأكثر شهرة، إذ تقول إليف في مذكراتها "حليب أسود" إنها لا تحب الهدوء، بل تجده مزعجا، فأينما حل الهدوء أضحى الزعيق الذي بداخلها مسموعا أكثر، ويطفو إلى السطح صوتا صوتا، لتلتهم روحها فوضى الأصوات الداخلية، لذلك حينما تكتب في المنزل أو في غرفة فندق فإنها تدير مفاتيح الراديو أو التلفاز أو كليهما.
فقد اعتادت إليف الكتابة في المطارات المكتظة والمقاهي المزدحمة أو المطاعم الصاخبة، فتصل لأوج إبداعها الفني عندما تُحاط بصخب غني، فوسط معمعة الصخب هذه يغرق ضجيجها الداخلي، حينها فقط تستطيع الكتابة بسلام. ولذلك لا يزعجها سائقو السيارات عندما يفتحون نوافذهم وينشرون موسيقى البوب إلى أقاصي تلال إسطنبول السبعة وما وراءها، فهي تُدرك جيدا أن هؤلاء السائقين يخافون الهدوء مثلها: "إنهم لا يريدون أن يُتركوا وحيدين مع أصواتهم الداخلية"(1).
وفي رواية "صوت الغراب" للروائي المصري عادل عصمت نجد البطل مجهول الاسم يتغير حاله بانتقاله من المنطقة الشعبية الصاخبة التي وُلِد بها إلى منطقة أخرى هادئة، ويصف حاله في شقته الجديدة قائلا:
"كنت مقيدا على نحو لم أفهمه، ثم بدأت أُثير المشاكل كأن العفاريت قد ركبتني، أفسدت كالون البوابة الكبيرة، وخلعت مفتاح النور على السلم، وحطمت الدراجة في الحائط، ونسيت كراريسي في المدرسة، وتعاركت عراكا عنيفا كان يمنحني السكينة أحيانا، كنت أعود للبيت تملأ وجهي الخرابيش، فأنال علقة بخرطوم الحمام، في الحقيقة كنت أملأ الفراغ الذي راح يحوم حولي بعد أن فقدت عالم البيت القديم"(2).
أمضى بطل "صوت الغراب" فترة طفولته كلها في حارة شعبية بطنطا، وفي الحارة لكل حدث بريق وصوت خاص: زواج، طهور، عراك، طلاق، بزوغ فتاة جميلة، حتى أدوار الدومينو والطاولة أحداث كبيرة يمكن أن تفتح فيها المُدى (المطاوي)، نشر الغسيل ولعب الأولاد يثير حكايات يمكن متابعتها، أما في شقته بالمنطقة الجديدة فالمكان صامت، مما جعله فاقدا لحس البيت، مفتقدا للأًنس والدفء، فشغل الفراغ الذي تركه البيت القديم في نفسه بدوشة مختلفة بصخب الشجار والعراك وتحطيم الدراجة(3).
لم يكتفِ بطل "صوت الغراب" بالإصغاء إلى "الدوشة" ليُسكِت الضجيج بداخله كالمزاجنجي أو إليف شافاق، ولكن كان منتجا للدوشة بنفسه ليُفسح الطريق لصخب دواخله للصعود للخارج محدثا ضجيجا للآخرين. يلفت بطل "صوت الغراب" نظرنا إلى علاقة الصوت بالمكان الذي نعيش فيه، وأثر الصوت على ذاكرتنا وتكويننا النفسي والاجتماعي، الأمر الذي أصبح ملموسا بشكل كبير بعد أن فُرِضت حالة حظر التجوال في كثير من البلاد، فأمست المدن التي كانت تعج بالحركة والضجيج صامتة كأنها مدن أشباح، وما بين غناء وصياح وعراك تنوعت استجابات البشر، ليدعونا كل ذلك للتعرف على علاقة الإنسان بالدوشة.
للأماكن أصوات محددة، فنجد مثلا في مسلسل "أرابيسك" للمؤلف أسامة أنور عكاشة مكانين رئيسيين لكلٍّ منهما علاقة مختلفة بالصوت؛ فالحي الشعبي الذي تقطنه عائلة "حسن النعماني" عبارة عن فضاء من الأصوات: ضجيج المشاجرات، وزغاريد الأفراح، وصراخ المآتم، ونداءات الباعة الجائلين، وصناعة الحرف اليدوية، بينما المكان الآخر هو عالم "الفيلا" لصاحبها عالم المفاعل النووي وزوجته أستاذة اللغات الحية، لا نسمع فيه سوى الهمس والتواصل بأصوات خفيضة، فالصوت العالي مصدر إزعاج وتهديد لهما، وليس حياة مفعمة بالحيوية مثل حيّ حسن أرابيسك.
أما في مسلسل "الراية البيضا" الذي صوّر فيه أسامة أنور عكاشة الصراع بين الجمال والأصالة وبين القبح والابتذال، وجسّد من خلاله الصدام بين أصحاب الرأسمال المشبوه الصاعدين طبقيا مع سياسات الانفتاح وبين أصحاب القِيَم والعلم والثقافة من خلال عالمَيْ فضة المعداوي والدكتور مفيد أبو الغار، ونزاعهما حول فيلا أبو الغار التي تُصِر فضة على شرائها بأي ثمن لهدمها بينما يتمسك أبو الغار بالفيلا كأثر معماري جميل وقيمة حضارية ينبغي ألا تُزال.
نرى في مسلسل "الراية البيضا" كيف كانت "الدوشة" مرادفة لعالم فضة المعداوي الصاخب في كل شيء: ثيابها المبهرجة وألوانها الفاقعة، ونبرة صوتها المرتفعة، وموكب الدراجات النارية التي تسبق سيارتها (التمساحة)، فكان الصخب مقترنا بالإزعاج والقبح والابتذال، ولم يكن صخبا حيًّا كحارة حسن أرابيسك، بينما عكس هدوء الدكتور مفيد أبو الغار قيم التحضر والثقافة والجمال.

ولكن أسامة أنور عكاشة لم يربط بين الدوشة والطبقية بمعنى تلازم الفقر والدوشة أو الثراء والهدوء، فمن التصورات التي أضحت سائدة في مجتمعاتنا الحالية أن الطبقات البرجوازية تعيش في أماكن أكثر هدوءا تبعد عن مصادر "الدوشة" والصخب، بينما تسكن البوليتاريا أو الطبقات الشعبية في الحارات الصاخبة وتحيا وسط الضجيج.
وبالفعل، تفرض الأماكن على المارين بها نبرة صوت معينة وتُلزمهم بقوانين للصوت ينبغي مراعاتها، فهناك أحياء لا يليق بها إلا الصمت أو الصوت الهادئ، وأحياء أخرى مُباح فيها الصراخ والعويل والأصوات المتداخلة الصاخبة، ففي "مذكرات عربجي"، تلك المذكرات التي كتبها "سليمان نجيب" على لسان شخصية الأُسطى حنفي أبو محمود الذي عمل عربجيا بالقاهرة خلال فترة ثورة 1919، يحكي الأُسطى حنفي عن رجل ركب معه إلى منزل بشارع عماد الدين، ولم يعطه الأجرة إلا بطلوع الروح وشد وجذب وعراك، ولكن حينما ركب معه الزبون نفسه مرة أخرى إلى منزل عدلي باشا بقصر الدوبارة، أخذ منه الأجرة كاملة بكل هدوء لأن قصر الدوبارة من الأحياء التي لا يجوز فيها حتى الهمس، وكان الزبون -وفقا لرأي الأُسطى حنفي- نبيها ويعرف هذا الفرق جيدا (4).
تروي الباحثة نور سلامة في دراستها عن الدوشة والقاهرة أنها تُقيم في منطقة المعادي، تلك المنطقة البرجوازية المعروفة بأنها الأكثر هدوءا في القاهرة الصاخبة، وتأتي لمساعدتها في تنظيف المنزل سيدة في منتصف العقد الخامس من العمر تُدعى صفية، تُقيم بمنطقة دار السلام القريبة من المعادي لكن لا تُشبهها، فهي إحدى المناطق الشعبية (5).
في إحدى الليالي حينما انتهت صفية من عملها في وقت متأخر، طلبت من نور أن ترافقها في مشي تلك المسافة القصيرة من المنزل حتى محطة المترو لأنها خائفة، فتعجبت نور قائلة: "لقد صرتِ جدة وما زلتِ تخشين الظلام؟!"، أجابتها صفية بأنها لا تخشى الظلام، ولكن يُخيفها الصمت والهدوء بالخارج، فالدنيا "هس هس"، فلم تعتد صفية الأجواء الهادئة المفزعة لها، ففي منطقتها دار السلام تجد في زحام الشوارع وصخب الباعة وأحاديث رواد المقاهي وتجمعات الصبية والشباب الأُنس والأمن.
كانت هذه اللحظة مفارقة لنور لتبحث عن "الدوشة" وعلاقتها بالمجتمع المصري، فنور بعكس صفية لا تشعر إلا بالانزعاج في دار السلام وغيرها من المناطق المزدحمة لضجيجها، فلم تتصور من قبل أن العيش في منطقة كدار السلام قد يمنحها هذا الشعور بالأمن الذي تتحدث عنه صفية بطمأنينة تامة، في حين أن هدوء وصمت شوارع المعادي يمنحها الراحة والأمان فتستطيع السير بحرية بصحبة كلبها.
في بحثها لا تصل نور إلى تعريف محدد للدوشة، تواصل حيرتها فتسأل زملاءها من طلبة الجامعة الأميركية بالقاهرة ما تعريفهم للدوشة؟ يُجيب البعض أن الدوشة هي "القاهرة"، ويرى البعض الآخر أن الدوشة هي "أغاني المهرجانات الشعبية وصوت الباعة الجائلين في محطات المترو"، ويُعبِّر آخرون عن معنى "الدوشة" في مخيلتهم بوصف غريب قليلا وهو أن "الدوشة هي 30 مليون شخص غاضب يسكنون بجوار بعضهم بعضا".
في بحث نور، لا نجد تاريخا للصوت في القاهرة أكثر من تأكيدها المتكرر أن القاهرة مدينة تسكنها الضوضاء أبدا، ويتضمن حديثها سرديات عديدة تقول إن الهدوء ميزة طبقية يروج لها في دعايات بيع العقارات في العاصمة الإدارية الجديدة، ليشتري الناس بكثير من المال هذا الصمت والهدوء للبُعد عن الدوشة المزعجة دون أي اعتبارات لتجارب إنسانية تعيشها طبقات أخرى (6).
قد نتفق جميعا مع نور في صعوبة تعريف الدوشة اجتماعيا وإن سهُل تعريفها لغة، فتعني الدوشة -لغويا- جلبة أو ضوضاء، والضوضاء صوت عالٍ غير مرغوب فيه، ويختلف انطباعها من شخص لآخر، فبينما تُمثِّل "الدوشة" أمرا مزعجا لبعض الناس، تُمثِّل لغيرهم الأُنس والألفة. ولكن ما علاقة الدوشة بالمدينة؟ وهل ثمة علاقة قوية بين المدينة والصوت؟ وكيف تتكوّن تلك العلاقة؟
ثمة تجربتان تستعرضان العلاقة الاجتماعية بين الأصوات الصاخبة والمدينة، إحداهما لمؤرخ فرنسي، والثانية لأديب مصري، وهما إلين كوربن المؤرخ الفرنسي الذي كتب عن الأجراس في باريس القرن التاسع عشر، ويحيى حقي الذي كتب عن تجربته مع بيئة المسموعات في حي السيدة زينب بالقاهرة، نرى من خلالهما كيف شكّل صوت الأجراس تاريخ المدينة في باريس، وكيف انطبع صوت الأذان ونداءات الباعة وأصوات الحيوانات في ذاكرة يحيى حقي وطفولته.
عاش المؤرخ الفرنسي ألين كوربن (Alain Corbin) قصة حب فريدة وغير معتادة لا يعرفها إلا المؤرخون، فقد أحب كوربن القرن التاسع عشر، فدرس الروائح والأصوات وتاريخ الحواس في مجتمعات هذا القرن (6)، وشغف كوربن حبا بالصمت كذلك، فأصدر كتابا عن تاريخ الصمت من عصر النهضة حتى عصرنا الحالي، أعلن فيه كوربن عشقه للصمت وبَيّن أفضليته أكثر مما أوضح فيه تاريخ الصمت نفسه، وفي أحد فصول هذا المجلد ذي الصفحات القليلة وضّح كوربن كيف أن المدينة الحديثة جلبت معها الضوضاء والدوشة (7).

فقد ارتبطت المدن الأوروبية القديمة بأصوات موحدة، مثل: أصوات أجراس الكنائس، وأصوات أبواب المدينة التي تُفتح في الصباح وتُغلق في موعد محدد كل مساء، ولم يكن ثمة قانون يحظر الضوضاء سوى قانون أوحد صدر مع بداية التحديث في أوروبا خلال القرن السابع عشر، لينص على منع الضوضاء أثناء أيام الآحاد والأعياد وأثناء القداس والطقوس الدينية والشعائر الكنسية.
رصد كوربن تاريخ المدينة من خلال تاريخ الأصوات بها، فعلى سبيل المثال تختلف لندن القرن السادس عشر اختلافا جذريا عن لندن القرن التاسع عشر، يحكي كوربن أن هذا الاختلاف يتضح من خلال الأصوات التي تُسمع في المدينة، فخلال القرن السادس عشر كانت هناك ثلاث عربات فقط تجرها الخيول النبيلة أو البغال، وبحلول القرن الثامن عشر أو قبل ذلك بقليل كان هناك 20 ألف عربة، وتزايدت الأعداد وأصبحت المركبات التي تجرها الخيل متاحة للجميع بأسعار أرخص، ونمت حركة التجارة والنقل، فتزايدت معها أصوات الضوضاء، مما أجبر الباعة الجائلين على رفع أصواتهم والمناداة على بضائعهم بأصوات جهورية (8).
وخلال القرن العشرين ظهرت في المدينة أصوات أخرى جديدة، منها صفارات الإنذار وأجراس المصانع التي تجمع العمال لتناول وجبة الغداء أو لتُشير إلى نهاية يوم العمل، كما ظهرت الأجراس في المدارس إنذارا بانفجار أصوات الأطفال أثناء خروجهم لتملأ الأجواء مصحوبة بأصوات العربات لتقلهم إلى منازلهم (9)، وأصبحت هذه الأصوات مجتمعة هوية مميزة للمدن، عبارة عن خليط من الأصوات غير المتجانسة أفرغت المدن من هويتها الصوتية التقليدية وأعطتها سمة الضوضاء. ولكن هذا الخليط الجديد من الأصوات أو "الدوشة" المتكاثرة في المدن الحديثة ليس له المعنى ذاته المصاحب لصوت أجراس الكنائس في القرون السابقة أو في القرى الريفية.
فثمة تأكيد منه أن القرى القديمة الباقية في أوروبا ما زالت تحتفظ بهويتها التقليدية، عرف كوربن ذلك من دقات صوت الجرس، ففي القرى القديمة يمكنك سماع الضربة الأولى لقرع جرس الكنيسة وصداها الطويل الممتد في شوارع القرية، فجرس الكنيسة جزء من صميم هوية القرى الأوروبية القديمة.
ففي دراسة كوربن "أجراس القرية: الصوت والمعنى في الريف الفرنسي في القرن 19″، كشف كوربن عن الدور المركزي الذي لعبته الأصوات في الحياة اليومية في المجتمع الديني والعلماني في فرنسا على السواء، فحتى مع علمنة المجتمع لم يتوقف استخدام الأجراس. ففي تحرك الجمهورية الأولى (1792-1804) تحولت العديد من الأجراس إلى عملات معدنية ومدافع وتم الاستيلاء عليها باعتبارها من ممتلكات الدولة. وخلال عام 1729 كانت جميع أجراس باريس ترن باستمرار لمدة ثلاثة أيام بلياليها لإعلان ولادة وريث العرش الفرنسي، فتحولت الأجراس إلى وسيلة سياسية لإعلان القوة.
فالنزاع حول مَن يمتلك سلطة قرع الأجراس يُشير إلى مصدر الهيمنة في المجتمع الأوروبي، يذكر كوربن واقعة حدثت عام 1799 في كانتون برين في باريس، حيث تعرضت السلطات المحلية لتحدٍّ كبير يقرب من فضيحة حينما اقتحمت حشود من الفتيات أبواب الكنيسة ونجحن في رن أجراسها من أجل الاحتفال بأحد المهرجانات، في وقت يحظر فيه القانون الاستخدام الديني للأجراس، لكنّ القرويين استخدموا حقهم بقوة من أجل الاحتفال بعيدهم المقدس.
ومن خلال التوثيق التاريخي يُوضِّح كوربن كيف أن تاريخ التحكُّم بالصوت يُوضِّح تاريخ السلطة، فالسلطة لا تُسيطر على الصوت فحسب، ولكن لديها القدرة على فرض الصمت كذلك، ليصبح هناك طرف خاضع ليس عليه سوى الطاعة والسكوت، وطرف يمتلك الصوت دائما.
فحينما يخطب الرؤساء يصبح الصمت أمرا مفروضا على الجميع، ويلزم الخدم/الحاشية الصمت إلا حينما يُطلب منهم الحديث. ويُعتَبر الصمت في المحاكم احتراما للعدالة نوعا من أنواع ارتباط الصوت بالبروتوكولات الاجتماعية والسياسية وكذلك بالقِيَم فوق المادية، مثلما نجحت الكنائس في فرض الصمت أثناء القداس والخدمة الإلهية.
كما يلاحظ كوربن أن الأجراس لم تَعُد ضرورية لحياتنا، ولم تَعُد تتمتع بالقدر السابق لها باعتبارها رمزا للمقدس بعدما حل محله المقاييس الكمية والعلمانية للساعة، ولكن بفهم أهمية الأجراس الرمزية نفتح نافذة لفهم قضايا كثيرة في عصرنا الحالي (11).
تُوفِّر دراسة كوربن "أجراس القرية" سردا مثيرا للفضول، ومقاربة أصلية للتاريخ الثقافي والاجتماعي والسياسي في القرن التاسع عشر، فنفهم كيف أصبح يُنظر للضوضاء باعتبارها مشكلة صحية وأزمة اجتماعية في أواخر القرن التاسع عشر، فأخذت النخب والطبقات البرجوازية الأوروبية تنظر للصوت العالي باعتباره ابتذالا، ولحقت وصمة الابتذال كل ما هو عالي الصوت كالكرنفالات الشعبية والمهرجانات الصاخبة، وأصبح هناك موسيقى كلاسيكية "أكثر احتراما" تتلاءم مع القيم البرجوازية النبيلة.
فالمدن الحديثة خلقت الضوضاء ثم خلقت الامتياز الطبقي للصمت، فجعلت الهدوء فضيلة بعدما أفرغت الأصوات وعلاقة الناس بها من مضمون يساعد على خلق معنى، ليصبح كل ما هو صخب/ضوضاء شيئا منفرا، لا بد من الحذر منه، لتتمتع طبقة لها مزايا محددة بالهدوء وتنعم بالراحة.
هذه الأصوات التي تجعل المدينة مزدحمة صاخبة فرضت في المقابل وصفا بأن الطبيعة صامتة، وهذا الوصف غير دقيق، فبحسب الملحن الكندي شيفر تمتلئ الطبيعة بأصوات الطيور وألحان العصافير ونقيق الضفادع، وغيرها من الأصوات التي ينبغي أن ترهف لها آذانا للاستماع لها لأنها أكثر حيوية.
وطالما عبّر الشعراء الرومانسيون عن كراهيتهم للدوشة التي تصحب المدن، فيلوذ الشاعر كبيرون تشايلد هارولد بالجبال العالية هربا من أزيز المدن البشرية الذي يعذبه، ولكن يحيى حقي يُخبرنا عن وجهة نظر أخرى، وهي أن النشأة وسط أصوات المدينة يمكن أن يخلق معه إبداعا فنيا جميلا.
"ذكريات طفولتي ملفوفة في قماط من عالم الأصوات" (12)

يصف يحيى حقي دنيا طفولته بأنها دنيا المسموعات لا المرئيات، فبدأ منذ نعومة أظْفاره إدراك العالم من حوله من خلال الصوت، معتمدا على الأذن، يقول يحيى حقي:
"عن طريق الأذن لا العين يتولد إحساس الطفولة بأن عالم المرئيات ملفوف بعالم آخر خفي، لا تفض أسراره، مخيف، مخلوقاته لا نراها رأي العين، بل تمثل في تصورنا بالسماع عنها: الغول، وأبو رجل مسلوخة، والجن والعفاريت، والأخت المقيمة تحت الأرض، لا تتحرك شعرة في رؤوسنا لرؤية الجنازات أو سرادق المآتم ولطم الخدود، فهذا شيء مزعج ولكنه غير مخيف، لقد تكفل صوت مميز لا نسمعه إلا ليلا بأن ينقل إلينا الإحساس برهبة الموت ولغزه في عنف شديد، هو صوت البومة، لم أرهب عزرائيل رهبتي لصوت البومة".
كان يحيى حقي يسمع أصواتا كثيرة ليلا كصوت دقة نبوت الخفير على الأرض، فلا تُثير في روحه سوى المخاوف، وصوت البومة "أم قويق" التي تُعَدُّ نذير خراب، وقُرب هبوط ملك الموت على الأرض الذي لا يعود للسماء إلا وفي جعبته روح إنسان، أما صوت المؤذن فيُبدّد عنه الظلام والمخاوف.
يسرد يحيى حقي في كتابه "كناسة دكان" الفرق بين صياح الديك العجوز زميل طفولته وصوته الأجش الشبيه بصوت مدخني الجوزة، وبين أول أذان للديوك الصغيرة حتى تبلغ أشدها وينبت طرف عرفها الأحمر، فصوتها الرقيق كصوت طفل نائم بدأ تعلُّم الكلام يطربه، وصوت طائر "السقساقة" بشير خير يُنبئ بقُرب حضور ضيوف أعزاء.
آمن يحيى حقي بأن عيش الإنسان في بيئة المسموعات يُكوِّنه نفسيا ويزيد وجدانه رهافة وخياله خصوبة، كما أن أصوات الطفولة تُشكِّل وعينا مهما كانت أصواتا غير مرغوب فيها كصوت الحديد وصوت احتكاك عجلات القطار بالقضيب، ذلك الصوت الذي كان يصل لسمع يحيى حقي من مسجد السلطان حسن، حين يبلغه "الترام" القادم من شارع محمد علي يستدير بقوة فيُحدِث احتكاك العجلات بالقضيب صوتا حادا فجا وسمجا وقاسيا كأنه شحذ سكين للذبح (13).
لم ينزعج يحيى حقي الطفل من كل الأصوات التي اختزنت في وعيه وشكضّلت وجدانه وظهر صداها في أعماله الأدبية، ولكنه كره تجربة العيش في عمارة حديثة في روما تنتقل الهمسات بين جدرانها بسهولة، فيذكر يحيى حقي عن تجربة إقامته أثناء عمله الدبلوماسي في روما قائلا:
"حينما وصلت إلى روما وأنا مثقف وغشيم في الكار معا، قد بدا اعتدادي بأني موظف قد الدنيا في غشوميتي في بحثي عن سكن. أبى لي السلك الدبلوماسي إلا أن أبحث عن شقة مفروشة في عمارة حديثة مبنية بالأسمنت المسلح في أحدث أحياء روما، كان من قبل أرضا خلوية في أطراف المدينة، وقيل لي إن هذه الشقة لوكس. وتحملت في سبيل الأبهة ما لهذه العمارة الحديثة من مقدرة فائقة على توصيل الصوت، كنت أسكن في الدور الثالث فإذا لعب الأطفال البلي على سطح العمارة ترن في أذني، فكنت أتعجب كيف يمكن أن تقال كلمة في هذه العمارة وتبقى سرا" (14).
يرى بعض الموسيقيين في الأصوات الصاخبة المتداخلة فنا، مثل حليم الضبع الموسيقار المصري الذي له تجربة ثرية في التعامل مع الدوشة كمصدر موسيقي، فقد تسلّل حليم الضبع إلى إحدى جلسات الزار وقام بتسجيل غناء وطقس الجلسة على شريط عن طريق جهاز تسجيل بدائي، ثم قام بالعمل على ما سجّله، ونتج عن هذا العمل مقطوعة إلكترونيّة تجريبيّة مدتها خمس وعشرون دقيقة سُمِّيت "تعابير الزّار".
جزء من مقطوعة تعابير الزار
يُعبِّر حليم عن محاولته الأولى في التحكم في الصوت وتفكيكه بأنها محاولة للوصول للصوت الداخلي للمقطوعة المسجّلة، يتجاوز حليم الضبع الجدال حول المهرجانات الشعبية وهل تُعَدُّ فنا أم لا تعدو كونها مؤشر فساد للذوق العام، يفتقر أصحابها للرقي الموسيقي ولا تعكس سوى مناطقهم العشوائية وأحاديثها وأصواتها المزعجة.
ويتوافق حليم الضبع في رغبته في تجريد الصوت نفسه مع ما ذكره المؤلف الأميركي جون كيج (1912-1992) في إحدى كتاباته:
"تقبّل أن الصوت هو صوت، وأن الإنسان إنسان، وتخلَّ عن الأوهام المتعلقة بالنظام والتعبير عن المشاعر وكل ما إلى ذلك من هرائنا الجمالي الموروث". وعندما سأله أحد الحضور: "ما الهدف إذن من هذه الموسيقى التجريبية؟"، أجاب كيج: "لا هدف. الأصوات" (15).
على عكس جون كيج، ليس هدفنا الحديث عن الأصوات مجردة، ولا الاقتراب من النظر للدوشة كمصطلح خاص أو تجارب إنسانية ذاتية تتراوح بين الاستحسان أو الاستهجان، ولكن نرغب في أن نُسلِّط الضوء على الدوشة كتجربة حسية من رواسب ذاكرة الطفولة، لها علاقة وثيقة بالمكان ومدخل لدراسة المدن والتحولات الاجتماعية والسياسية التي مرّت بها، وأثرها على الإنسان والفن والحياة، فالتاريخ والاجتماع والجغرافيا والفيزياء يجتمعون معا عند الحديث عن الدوشة.
_______________________________________________________________-
المصادر
- أليف شافاق، حليب أسود، ترجمة أحمد العلي، دار مسكيلياني، 2016، ص 50-51.
- عادل عصمت، صوت الغراب، القاهرة، الكتب خان، 2017 ، ص 36-37.
- المرجع السابق، ص 36.
- سليمان نجيب، مذكرات عربجي، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014، ص 23.
- Noor Salama, Dawsha in/and Cairo: Listening to Places, Possibilities, and Peripheries,
- المرجع السابق.
- Let cities speak: what sounds define us now?
- Book Review: ‘A History of Silence’ by Alain Corbin ص 17
- المصدر السابق
- Let cities speak: what sounds define us now?
- Alain Corbin, Village Bells, The Culture of the Senses in the Nineteenth-Century French Countryside,
- يحيى حقي، كناسة دكان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1991، ص 11.
- المرجع السابق، ص 7 -25.
- المرجع السابق، ص 150- 1511.
- صمت: قراءة في كتابات وموسيقى جون كيج.