عزبة الصفيح في مصر.. أهلها يروون لميدان كيف عاش مرضى الجذام مع وصمة المرض؟
الوقت ظهرا، درجة الحرارة مرتفعة، نهار يليق بقيظ أغسطس/آب وشمسه التي تصب أشعتها فوق الرؤوس صبا، غير أن توهجها لم يمنع الكثير من المرضى من التردد على مكان تلقي علاجهم الأسبوعي. أما المرضى المقيمون فبعضهم داخل غرفهم والبعض الآخر مستظل تحت الشجر بين نائم ومستلقٍ يتحدث في الهاتف أو يتسامر مع أحدهم، بينما كان منزويا في ركن بعيد بجانب السور مرتديا جلبابا داكن اللون وعمامة بيضاء، لا يسترسل في الحديث، تتشتت نظراته في المكان من حوله إلى أن استقرت على مشاهدة هذا الجمع من المرضى المتحلقين في دائرة يلعبون أوراق "الكوتشينة"، يتوسطهم عجوز ينادونها "أم أحمد"، هي الأكثر احترافية في اللعب، تفوز على الرجال وتضحك، ترقبهم عيناه ويبتسم.
يخرج صوت أم كلثوم من هاتف أحدهم تغني مقطعا من أغنية "أمل حياتي": "أكتر من الفرح ده ما أحلمش، أكتر من اللي أنا فيه ما اطلبش، بعد هنايا معاك يا حبيبي، لو راح عمري أنا ماندمش"، وعلى نغمات هذا اللحن يردد صاحب الهاتف وهو يلعب: "خلينا قاعدين في الشمس يمكن الشمس تقتل القرف اللي في جتتنا".
بدا صاحب النظرات المبتسمة كأنما ابتلع الصمت طويلا، فلا يحكي إلا لِماما، يستغرقه التأمل فيُنصت أكثر مما يتحدث، وكما تعرفون الصمت مُغرٍ بمعرفة ما وراءه من البوح المخبوء تحت ركام الزمن.
"لِمَ لا تلعب معهم؟"، كان ذلك بداية الحديث معه، اتسعت ابتسامته، إنه متردد على مستعمرة الجذام لتلقي العلاج، ولا يعرفهم جيدا، ولكنه يأنس بمشاهدتهم حتى يحين دوره.
صاحب النظرات المبتسمة والصمت الطويل مريض جذام أتى من إحدى قرى الصعيد منذ أصابه المرض قديما، ترك الجذام آثاره على أصابعه المتآكلة، ولم يأكل شيئا من سماحة وجهه ووقاره المعهود، يأتي للمستعمرة مرة كل أسبوع، ثم يعود إلى عزبة الصفيح حيث يقيم.
عزبة الصفيح قرية لا تبعد كثيرا عن مستعمرة الجذام بأبو زعبل التابعة لمحافظة القليوبية إحدى محافظات القاهرة الكبرى، وتتبع المستعمرة التي تنقسم إلى عدة مبانٍ جزء منها مخصص للرجال وآخر للنساء، وخلف هذه المباني مقبرة للمرضى يعقبها عزبة الصفيح.
أُنشئت عزبة الصفيح من أجل المرضى المتعافين من الجذام، ليتزوجوا من بعضهم بعضا ويُكوِّنوا أُسرا وينجبوا أطفالا، وبالفعل تضم القرية ثلاثة أجيال من مرضى الجذام وأبناءهم وأحفادهم، فلا يوجد ساكن في القرية إلا وله صلة قريبة أو بعيدة بمريض جذام معافى نهائيا أو يواصل رحلة علاجه، فقد قَلَّ عدد المرضى في القرية مع قلة انتشار المرض، وبقي في عزبة الصفيح مرضى قليلون معمرون أتوا أطفالا إلى مستعمرة الجذام وأمضوا عمرا فيها، ثم تعافوا وتزوجوا وأقاموا عقودا طويلة في عزبة الصفيح.
لم يتعرف "ميدان" على عزبة الصفيح إلا بعد الزيارة الأولى لمستعمرة الجذام وحديث "ميدان" مع صاحب الصمت الطويل، فلم تلقَ عزبة الصفيح شهرة واسعة كتلك الشهرة العالمية التي حظيت بها المستعمرة بعد نجاح فيلم "يوم الدين" للمخرج أبو بكر شوقي وحصوله على احتفاء لجنة التحكيم لمهرجان "كان" السينمائي، الفيلم الذي يحكي قصة "راضي جمال"، وهو مريض متعافٍ من الجذام، قدّم لأول مرة دوره الحقيقي في السينما، فقد مكث زمنا طويلا في المستعمرة وقرّر خوض رحلة سفر على حماره للبحث عن أهله في قنا، ويصر على مرافقته صبي صغير، فيرتحلان معا.
راضي جمال يشبه كثيرا من مرضى المستعمرة، سواء كانوا المستظلين تحت الشجر أو المستأنسين لحديث أو الصامتين طويلا، فجميعهم حكايات حية لا يمكن اختزالها في مرض الجذام أو صورته التي قد ينفر منها البعض. قرّرنا في "ميدان" خوض رحلة إلى عزبة الصفيح، لمعرفة كيف يحيا المتعافون من المرض هناك على مقربة من المستعمرة.
لا توجد مواصلات لعزبة الصفيح سوى "التوكتوك"، سائق "التوكتوك" رجل في أوائل العقد الرابع من العمر، يبدو أنه أصغر من سنه رغم حواف ذلك الشارب المتدلي من وجهه، أخبرنا أنه يعمل نجارا مسلحا بجانب عمله سائق "توكتوك"، ليست لديه هواجس الخوف من الجذام لاعتياده الاحتكاك بمرضى المستعمرة، ولكنه يشكو ضيق الحال والوضع الاقتصادي الذي يزداد سوءا مع الوقت، ويندب غياب الخير الذي كان أيام آبائه.
يحكي السائق عن منطقة أبو زعبل وقُراها الريفية الداخلية وما أصابها من تمدُّن مشوّه، وكيف أن الزواج المبكر سمة رئيسية في هذا المكان، فقد تزوج في سن الـ 17 وهو جد حاليا، ورغم مزايا ذلك لفرحته بأحفاده، فإنه قد حمل الهم مبكرا، فتجهيز بناته للزواج قد شق عليه مع ارتفاع التكلفة لما يزيد على 150 ألف جنيه.
ننزل على أطراف عزبة الصفيح، تشبه العزبة كثيرا من القرى في مصر، تجمع بين البيوت شديدة الصغر التي تتكوّن من حجرة واحدة وعمارات مرتفعة، وشوارع ترابية بها بعض الحفر تمتد البيوت على جوانبها، وفي وسط الطريق مجموعة من الأطفال يغنون ويرقصون، والبعض قد رمى حقيبته على الأرض وأخذ يلعب، وبمجرد أن اقتربنا بداعي التعرف والتقاط صور لهم، فروا جميعا، وقالت طفلة منهم موجهة الحديث لبقية الأطفال: "اللي بيتصور بتيجي له جلطة!".
كانت هذه العبارة درسا مختلفا في التعامل مع الصور والعلاقة معها على أطراف عزبة الصفيح بأبو زعبل. هل قالتها الفتاة عبثا، مجرد مزحة لا معنى لها، أم أن الأطفال لا يمزحون، فتعكس ثقافة المكان؟ لم نتأكد من ذلك. غادر الأطفال والتفتنا لنجد إبراهيم، إبراهيم شاب صغير يقف على ناصية العزبة وينظر في شاشة هاتفه، يخبرنا بأنه طالب في الصف الثالث من الدبلوم الفني الصناعي، والده مريض جذام عمل فترة محاميا ثم عمل في أحد المصانع القريبة منهم.
وُلِد إبراهيم في عزبة الصفيح، واعتاد التعامل مع المرضى بأريحية تامة، يأكلون ويشربون معا، لأنهم ببساطة أهله. وفي حديثه مع "ميدان" يخبرنا إبراهيم عن "الست عطيات"، أقدم مريضة في المستعمرة، فعمرها يزيد على تسعين سنة، صحبنا إبراهيم حتى بيتها، ومن هنا كانت جولتنا مع "الحاجة عطيات".
حجرة صغيرة بابها مفتوح، وعلى عتبة الحجرة تجلس سيدتان، وبالداخل "الحاجة عطيات" وامرأتان أخريان، ترحب الحاجة عطيات بنا، وتدعونا للجلوس وتناول الشاي معهم، حجرتها تخلو من أي سجاد، فتبحث عن شيء لنجلس بجوارها على أرضية الحجرة الضيقة، تلك الحجرة التي تتسع لمرتبة تنام عليها قطة لا يزعجها أحاديث السيدات من حولها، وفي امتداد الغرفة حوش داخلي يحوي حبل غسيل عليها ملابس قد غُسلت للتو تتساقط منها قطرات الماء.
"أنا كان علي عيون جميلة"، هذه أول جملة نطقت بها "الحاجة عطيات" بعد عبارات الترحيب المعتادة، تحكي "الست عطيات" عن رحلتها إلى المستعمرة، لا تعرف كم بلغت من العمر، الجميع حولها يخبروننا بأقوال مختلفة، فمنهم من يقول إنها بلغت المئة، وآخرون يُصرّون على أنها ما زالت في التسعين، أما "الحاجة عطيات" نفسها فترى أنها ما زالت في الثمانين، يتندر من حولها ويقولون: "لا تصدقوها، هي بتصغّر نفسها عشان تتجوز"، فتتعجب "الحاجة عطيات" وترد عليهم: "اتجوز ايه، ده أنا بزحف!"، إشارة إلى عدم قدرتها على الحركة.
تواصل "الست عطيات" حديثها قائلة: "كنت مبسوطة في المستعمرة، مين اللي أخد باله مني وراعى مصالحي هما ولاد عمك رمضان، هما اللي نفعوني لما اتوفى، مراته وعياله هما اللي بيساعدوني دلوقتي"، عم رمضان هو الزوج الثاني لـ "الحاجة عطيات".
تروي "الست عطيات" قصة زواجها من عم رمضان، فتخبرنا أنها تعرفت عليه في المستعمرة، فهو من بلدتها بالمنصورة، وحينما تقدّم لخطبتها ذهبا معا إلى قريتهما وكُتب كتابهما وسط أهاليهما في البلد، ثم انتقلا للعيش في عزبة الصفيح، ولكنها لم تُنجب، فتزوج عم رمضان مرة أخرى، وظلّت علاقتها باقية وتوثقت صلتها بزوجته الثانية وأبنائه الذين يجاورونها ويساعدونها.
تواصل "الحاجة عطيات" حديثها لـ "ميدان": "جميع مَن دخل معي المستعمرة قد توفي، ولم يتبقَّ سواي، كانت الحجرات في مقابلة بعضها بعضا، كان يتعامل المرضى مع بعضهم بأدب وكمال، كانوا يتسامرون معا، كنا نقول مسائل عن جحا ومش جحا، (أي: نوادر وأحجيات)".
تحكي إحدى بنات زوج "الحاجة عطيات" عنها وتقول لـ "ميدان" إن الحاجة عطيات هي التي ربّت كل أطفال المنطقة، فهي كريمة الطبع وسخية العطاء، توزع كل ما يأتي إليها من المستعمرة عليهم، ولا تبخل بأي "خير" عندها على أحد، ويحبون مشاركة الحكي معها، ويجلسون على عتبة حجرتها التي تتسع على ضيقها لهم، وتنصحهم "الحاجة عطيات" دوما بمساعدة أزواجهم والعمل معهم لمواجهة صعوبات الحياة.
لا تشكو "الحاجة عطيات" من أي ألم من مرض الجذام الذي أصابها قديما رغم ما أكله من جسدها وأطرافها، وإنما أخذت تشكو من آلام عينيها، فعن آخر عملية قامت بها تقول: "حطوا حاجة ساقعة على عينيا وخفت"، توضح ابنة زوجها أنها قامت بإجراء عملية لإزالة آثار المياه البيضاء من عينيها، ورغم غياب الصداع فإنها لم تعد ترى جيدا، تُضيف "الست عطيات" على كلام ابنة زوجها: "كان علي عيون جميلة، ولكنه أمر ربنا".
"وشي كان تفاح"، تصف "الحاجة عطيات" الجمال الذي ذهب وبقيت آثاره على وجهها، فهي شقراء ذات شعر ناعم، بهتت ملامحها مع طول معاشرة المرض، ولكن ليس المرض فحسب هو الذي أزال بعض أثر الجمال عنها، ولكنه الشقاء كذلك؛ فتحكي "الست عطيات" أنها عملت منذ كانت طفلة صغيرة في إحدى قرى محافظة المنصورة في الأراضي الزراعية مقابل 8 مليمات، وحينما أُصيبت بالجذام أودعها أهلها المستعمرة فعملت مع رمضان زوجها في حمل الرمال وأعمال التنظيف في المستعمرة، تقول "الست عطيات": "أنا كنت كويسة، كانت الصحة جيدة (بتعطيش الجيم)"، ثم تسكت هنيهة وتواصل: "مكنتش أعرف أني هتكسح من شغل مسح البلاط، كنت جاية من بلدي سليمة، ولكن تعبت في مسح الأرضيات قبل حضور الأطباء حتى يأتوا ويجدوا المكاتب "مرعرعة""؛ تقولها بزهو.
رغم أن "الحاجة عطيات" لا تعرف عمرها، فعلى حد وصفها "أنا عايشة من زمان"، تذكر أنها حضرت الملك والاحتلال الإنجليزي، وكانت تسمع في الراديو خطب جمال عبد الناصر، وعاصرت الحرب في القنال، ورأت طائرات إسرائيل تدور فوق المستعمرة وقت الحرب، وشاهدت السادات يتحدث على المنصة قبل قتله.
ورغم كل هذه الأحداث والحروب التي ما زالت تتذكرها فإن "الست عطيات" تؤكد أن أيام زمان كانت أفضل، فهي حاليا ترى أنه لم يعد الأطفال أطفالا، ولا النساء نساء، ولا الرجال رجالا، والناس الآن يسمون أبناءهم أسماء تشبه أسماء اليهود، فلا تعرف كيف تنطقها، وقديما كان الناس فقراء ولكن متعاونون يساعدون بعضهم بعضا، ولكن في هذه الآونة اشتد الغلاء وزاد عدد السكان، فقد كانت هذه المنطقة مجرد جبل وصحراء خالية من البشر، أما الآن فهي مزدحمة.
لا يخلو حديث "الحاجة عطيات" من ذكر صباها وجمالها ومساندتها لزوجها، وشقاء الحياة الذي جعلها -كما ترى نفسها- أهلا للحكمة والنصيحة، لذلك لا يُغلق باب حجرتها، فتنام "الحاجة عطيات" مع أذان العشاء وتستيقظ فجرا، ويتوافد عليها النساء والأطفال وجميع أهل العزبة منذ الصباح الباكر حتى تغلق بابها للنوم، طاقة الحب التي تمنحها "الحاجة عطيات" للآخرين هي السبب الأساسي وراء تحمُّل قَدَرها الصعب.
تشارك النساء المتحلّقات حول "الحاجة عطيات" في الحديث، فتقول إحدى الفتيات لـ "ميدان": "إحنا في عزبتنا مفيش حد مريض، أهلنا مرضى، لو المرض معدي كنا اتعدينا، اللي بيخاف هو اللي بيتعدي"، وتعقب سيدة أخرى كبيرة في السن على كلام الفتاة: "أنا اتجوزت مريض عاجز وخلفت منه خمس عيال، لو كان معدي كنت اتعديت، هل يبدو علينا أننا مرضى، دي حاجة بتاعة ربنا".
فثمة قناعة سارية بين أهل عزبة الصفيح أن المرض لا يصيب إلا الخائف، وهناك قناعة أخرى بأن المرض لا يصيب إلا الناس جميلة الشكل والروح، فتحكي إحداهن عن المريضة صغيرة السن التي لا تتجاوز 15 عاما التي تراها في المستعمرة وتصفها بـ "أنها صغيرة وقمر، فالمرض يصيب الناس الحلوة"، وتضيف هذه السيدة قائلة: "أنا أحب الذهاب إلى المستعمرة، أجواؤها تبعث على الهدوء بعيدا عن الصخب، فحينما تهب نسمات العصاري تجدين بعض المرضى يتسامرون ويأنسون ببعضهم بعضا، ولكن تحزن لحال البعض لأن أغلبهم من الصعيد، ويصعب عليهم زيارة أهاليهم بشكل دوري".
لا يفرق أهل العزبة بين المريض والسليم في التعامل، فثمة مرضى يحبونهم أكثر من الأصحاء، فتحكي إحدى جارات "الحاجة عطيات" عن "أم عربي"، تلك العجوز التي تقارب "الحاجة عطيات" في السن ولكنها توفيت منذ سنوات معدودة، كانت تشبه "الحاجة عطيات"، بيتها مفتوح للجميع، كانت إذا رأت زوجها قد دخل البيت، أرسلت لها طعاما قائلة: "خدي العشا أكلي جوزك"، ولا يخرج أحد من حجرتها إلا وقد طعم وشرب مما يتوفر لديها، كانت "أم عربي" مبتورة القدمين، خفيفة الظل وطيبة الخُلق، تزوجت من مريض جذام مبتور الأطراف أيضا، فعاشا كلاهما بأطراف صناعية، ولم تكن تتمنى شيئا إلا أن تتزوج ابنتها قبل أن تتركها وترحل.
رغم أنه لم يعد يوجد مرضى في الجيل الثالث لأبناء مرضى الجذام، فإن هناك مصابين يأتون من خارج عزبة الصفيح ليُقيموا فيها، كأحلام، تلك الفتاة التي تتميز بشدة الجمال، تأكيدا لقناعة أهل العزبة "المرض لا يصيب سوى أصحاب الجمال الفاتن"، تزوجت أحلام من أحد أبناء العزبة، وتعمل كوافيرة، أحلام محبوبة من الجميع، لخفة دمها ومزاحها الدائم وضحكاتها، بيتها أنظف من بيوت النساء الأصحاء، كلما ذهبوا لزيارتها وجدوها قد قامت بحملة تنظيف كاملة، فالذبابة لا تعرف طريق منزلها، رغم بتر أحد أطرافها، فلا تشكو أحلام ولا تتذمر، وتساعد زوجها العامل بأحد مصانع البلاستيك القريبة من العزبة.
تؤكد جارات "الحاجة عطيات" أن عزبة الصفيح كانت نائية ومعزولة ولم يكن يقترب منها أحد، ولكن مع الوقت أصبحت أكثر انفتاحا واختلفت أوضاعها للأفضل، رغم ما تعانيه من الفقر والتهميش فإن أحوالهم أفضل مقارنة بغيرهم من الحالات الأكثر فقرا التي يشاهدونها على شاشات التلفاز.
ويضيق أهل العزبة ذرعا بهؤلاء القادمين إلى المستعمرة والعزبة من الإعلاميين والصحافيين المرتدين القفازات الطبية والكمامات، معلنين خوفهم من العدوى ومهوّلين من أوضاعهم، فأهل عزبة الصفيح يدركون بشاعة الصورة التي يُختزلون فيها، باعتبارهم مكانا معزولا موصوما بالجذام للأبد. فعلى الرغم من اعتيادهم تردد الصحافة والإعلام على منازلهم، فإنهم لم يقبلوا التهويل في تصوير أوضاعهم كمأساة تراجيدية، وحصرهم في مرض تعافى منه أهل القرية، ولم يعد معديا كما كان من قبل.
فحينما وُضع مرضى الجذام في بؤرة الصور، لم تركز الكاميرات سوى على التقاط موضع الإعاقة ومحل التشوه في أجسادهم وأعضائهم المتآكلة، مستدعية الشفقة والتعاطف معهم، ولكنها -في الوقت نفسه- أسقطت كل شيء آخر في شخوصهم وعلاقاتهم الاجتماعية ويومياتهم المعيشية، واختزلتهم في مواضع الإعاقة فحسب.
فيتعرض مرضى الجذام لمستوى مضاعف من الاستبعاد، فهم مستبعدون من السباق المحموم نحو الصور النموذجية في مجتمع الفرجة، كأنهم أنصاف بشر أو مجرد صور كاملة للتشوه تستدعي النفور والشفقة والوصم، فمجتمعاتنا تتحول بسرعة نحو مجتمع الفرجة أو الاستعراض كما سماه الفيسلوف الفرنسي جي ديبور، حيث أصبحت العلاقات الاجتماعية مرتكزة على فعل الاستعراض، وصار البشر متفرجين وموضعا للفرجة في الآن نفسه. (1)
وفي مجتمع الفرجة تُستبعد القيمة والمعنى ويُعلَى من شأن المظهر، ويصبح الإنسان في رحلة سيره مثقلا بالصور، مهووسا بالشكل والمظهر، فيُخضع نفسه لمعايير الصور، تتضخم الصور وينشغل البشر بها، فتتلاشى ذواتهم الحقيقية خلف هذه الصور، وتتصدر معايير الزيف ليتضخم هذا الهوس داخل النفوس للعيش في هذه الصور دون الرؤية الكاملة لما وراءها.
ولكننا نجد في تجربة "الحاجة عطيات" وعلاقاتها الاجتماعية مع جيرانها، تلك العلاقات الإنسانية الحية التي تتجاوز الصورة، فلا تصبح "الحاجة عطيات" مريضة جذام معافاة، ولكنها مربية أطفال العزبة، جدة الكثيرين، جارة طيبة وبيت مفتوح، وقلب سليم وموضع سر، وحكايات متبادلة، حياة كاملة امتدت لأكثر من ثمانين عاما عاشتها في وسط أهل عزبة الصفيح، لم تكن الصورة هي البطل ولكن الروح والمعنى.
لا يتشابه أهل القرية جميعهم مع "الحاجة عطيات" وأسرتها وأصدقائها، فليس جميع مَن في القرية معارضين لهذا الاختزال في صورة المرض والعجز والعوز والفقر والوباء الذي لا شفاء منه، خاصة هؤلاء المنتفعين من المرض، فتدر هذه "الفيديوهات" وتلك الصور التبرعات العينية إلى أهل القرية من أجهزة كهربائية حتى وجبات الطعام، فتساهم هذه الصورة المتداولة عن مرض الجذام الموصوم ومرضاه المستبعدين من العيش حياة تتشابه مع حيوات الكثير من البشر غير المرضى في جعل كثير من أهالي القرية والمستعمرة معتمدين على التبرعات، منتظرين صدقات أهل الخير بشكل يومي تقريبا.
ففي أثناء جلوسنا، نادت سيدة على النساء حول حجرة "الحاجة عطيات" ليذهبن سريعا إلى المستعمرة استجابة لنداء الأخصائي الاجتماعي في المستعمرة ليوزع عليهم ما تبقى من التبرعات، فجمعوا أنفسهن وذهبن، ولكنهن رجعن سريعا، فقد انتهى التوزيع ولم ينلن شيئا، لأن الممرضات والعاملين داخل المستعمرة يحصلون على جزء من التبرعات بجانب المرضى، فلا يتبقى دائما نصيب موفور يوزع على أرامل المرضى بالمستعمرة.
فأرامل مرضى الجذام هم الفئة الأكثر تهميشا داخل عزبة الصفيح، فلا تُصرف لهن وجبات الطعام المكوّنة من أربعة أرغفة وبيضة وعلبة زبادي، ودجاجة أسبوعيا مع خضار، مثل باقي المرضى في العزبة أو داخل المستعمرة، ولكن عادة ما يرسل إليهم أخصائي المستعمرة حينما يوجد أحد المتبرعين وفاعلي الخير، فيُعطى كل مريض مئة جنيه أو عشرة جنيهات، ولكن حينما يصلون المستعمرة، ويتكلّفون أجرة "التوكتوك" ذهابا وإيابا قد لا يحصلون على شيء.
فمن الواضح من خلال لقاءات "ميدان" مع بعض أهل العزبة أنها من المناطق التي تعتمد على التبرعات كوسيلة للحصول على متطلبات المعيشة الأولية، كالطعام والملبس، هذا الاعتماد هو الذي يجعلهم متصلين بالمستعمرة على الدوام، فخبر وجود متبرع أو فاعل خير في المستعمرة يدوّي في العزبة، ولكن هنالك مَن يستغل هذه التبرعات، فبحسب شهادة بعض النساء، هنالك من أهل عزبة الصفيح أصحاء ولكنهم لجؤوا بعد 2011 للادعاء بإصابتهم بمرض الجذام، لتُدرج أسماؤهم فيما يحصل عليه المرضى من نصيب ضئيل من مؤن الغذاء الأسبوعية أو تبرعات عينية كالملابس أو غيرها، حتى لو تطلّب هذا الادعاء شراء شهادات طبية تُثبت زورا إصابتهم بالجذام.
أثناء حديث "ميدان" مع "الحاجة عطيات"، ارتفع صوت فتاة في أواخر العشرينيات أو أول العقد الثالث من عمرها، ترفض لقاءنا مع "الحاجة عطيات" ظنا منها أننا إحدى القنوات التلفزيونية، قائلة: "بطلوا بقى كفاية اللي إحنا فيه فضحتونا على التلفزيون، كل اللي ييجي يتكلموا معاه، بلاش بلاء أزرق، معدي ولا مش معدي، أنتوا عندكم أولاد زي اللي معانا؟"، وحينما أخبرناها في "ميدان" بأننا لن نستخدم الكاميرا ولن نصور أحدا، ولن يتضرر أحد، ولا يُجبر أحد على الحديث معنا، ولكنها لم تتوقف واستمرت في السب والهجاء.
فذكرت بعض جارات "الحاجة عطيات" أن هذه الشابة لن تتحدث بهذه اللهجة إذا كانت قد وجدت متبرعين، مؤكدين: "لو جاية بملاكي كانوا هيتلموا عليكِ"، قاصدين سيارة التبرعات. وحينما أردنا في "ميدان" التواصل مع هذه الفتاة الغاضبة، وتفهم أسباب غضبها وحنقها، رفضت الحديث.
كأي مكان، تختلط في عزبة الصفيح طباع البشر بين الحسن والقبيح، لا يفرق الفقر الظاهر في أوضاع الكثيرين من أبنائها المرضى والأصحاء، فالفقر أشد بلاء هناك من الجذام، فوجوه العجائز اللاتي رافقن جلستنا في "ميدان" مع "الحاجة عطيات" لا يسهل التمييز بين ملامحهن الأصيلة وفعل الزمن والفقر بها، وثمة أطفال من أحفاد مرضى الجذام بعيون ملونة، وشابات وجوههن نضرة، في مكان آخر وسياق مغاير كن سيتوافقن مع المعايير الشكلية لصورة الجمال الزائفة الموحدة للبشر من البشرة الشقراء والعيون الملونة والأنف الصغير، ولكنه الشقاء والفقر.
ومع ذلك الوضع المؤسف لعزبة الصفيح من الفقر والتهميش، ثمة شيء مميز بها وهو تجربة التواصل المباشر مع مرضى الجذام، هذا التواصل الذي جعل أهالي العزبة أكثر إدراكا لمعاني الجمال الأصيلة التي توجد خلف الصور، فيعرفون الجمال بجمال النفوس وطيب الأرواح وكرم المعشر، لا الشكل والمظهر.
فعزبة الصفيح، تلك القرية التي أُقيمت لترسيخ العزلة لمرضى الجذام، فلا يتزوجون إلا من بعضهم بعضا في منطقة بعيدة نائية، أضحت مع الوقت مكانا مزدحما يكثر فيه صخب الأطفال وحكايات البشر، تلك الحكايات التي امتدت عبر أجيال لتوثق حياة مرضى عاشوا وماتوا مصاحبين المرض، لم تهزمهم الصورة المشوهة للمرض، وانتصر اليومي المعاش على المتخيل من هواجس العدوى والمأساة.
_________________________________________
المصادر
- جي ديبور، مجتمع الاستعراض، ترجمة أحمد حسان، دار شرقيات، 2000