شعار قسم ميدان

يقتل الإبداع.. قياس أداء الموظفين رقميا له آثار عكسية

midan - workspace
يجد عدد متزايد من الشركات والوكالات الحكومية والمؤسسات التعليمية والمنظمات الخيرية اليوم أنفسهم في خضم ظاهرة جديدة أُطلق عليها هنا اسم "الهوس بالمؤشرات". العوارض الرئيسية لهذا الهوس تكمن في الاعتقاد بأنه من الممكن -بل ومن المستحسن- استبدال التقييم المهني (الذي يأتي من خلال الموهبة والخبرة الشخصيتين) بمؤشرات رقمية (metrics) حول الأداء المقارن على أساس البيانات القياسية، وأن أفضل طريقة لتحفيز الناس داخل هذه المنظمات هي ربط المكافآت والعقوبات بأدائهم المقاس هذا.

     

يمكن أن تكون هذه المكافآت مالية، على شكل علاوات الأداء، مثلا، أو مكافآت مرتبطة بالسمعة، في شكل تصنيفات الجامعات، وتصنيفات المستشفيات، وبطاقات الأداء الطبي[1] وهلم جرا. لكن التأثير السلبي الأكثر إثارة للمشاكل هو أن الهوس بالمؤشرات يؤدي إلى النظر إلى العمل على أنه لعبة أرقام من خلال تشجيع الموظفين على تعظيم أدائهم المقاس بطرق قد تتعارض مع الهدف الأكبر للمؤسسة.

   

مثلا، إذا أصبح معدل الجرائم الكبرى في منطقة ما هو المقياس الذي يتم بموجبه ترقية ضباط الشرطة، فسيقوم بعض الضباط ببساطة بعدم تسجيل الجرائم أو بالتخفيض من مستوى جديتها في السجلات من كونها جرائم كبرى إلى جنح مثلا. في حالة الجراحين، مثلا أيضا، فإنه إذا ما نُشرت مقاييس النجاح والفشل علانية -مما يؤثر على سمعتهم ودخلهم- فإن بعض الجراحين قد يسعون إلى تحسين نتائجهم المقاسة عن طريق رفض العمل مع المرضى الذين يعانون من عوارض أكثر تعقيدا، والذين من المرجح أن تكون نتائج الجراحة عليهم سلبية. في هذه الحالة، فإن المرضى الذين لن يحصلوا على المساعدة الجراحية هم الأكثر تضرّرا!

       

undefined

  

في الحقيقة، عندما نقوم بربط المكافأة بالأداء المقاس، فإن الهوس بالمؤشرات يشجّع هذه التصرّفات. لكنه قد يؤدي أيضا إلى مجموعة متنوعة من النتائج السلبية غير المقصودة. وتشمل هذه الابتعاد عن الهدف، الذي قد يأخذ أشكالا عديدة: أي إنه عندما يتم الحكم على الأداء من خلال عدد قليل من المقاييس حيث تكون المفاعيل ذات أهمية عالية (مثل الحفاظ على الوظيفة، والحصول على زيادة في الأجر أو رفع سعر السهم)، فإن الناس سوف يركّزون جهدهم على تلبية تلك المقاييس، غالبا على حساب أهداف تنظيمية أخرى أكثر أهمية لا يتم قياسها. قد يكون المثال الأفضل لهذا هو "الدراسة من أجل النجاح في الامتحان"، وهي ظاهرة واسعة النطاق شوّهت التعليم الابتدائي والثانوي في الولايات المتحدة منذ اعتماد قانون "عدم ترك أي طفل" في عام 2001.

   

إحدى النتائج السلبية الأخرى للهوس بالمؤشرات هو التركيز على المدى القصير فقط. فالأداء المقاس بالأرقام يشجع ما أسماه عالم الاجتماع الأميركي روبرت ك. ميرتون في عام 1936 "هيمنة السرعة الفورية على الاهتمامات… حيث يكون اهتمام الفاعل هو النتائج الفورية المتوقعة مما يستبعد النظر في النتائج المستقبلية أو النتائج الأخرى". باختصار، يعني هذا إعطاء الأولوية للأهداف قصيرة الأجل على حساب الاعتبارات بعيدة المدى. هذه المشكلة متأصّلة في الشركات ذات الاكتتاب العام التي تضحي بالأبحاث والتطوير على المدى الطويل، وتدريب موظفيها، من أجل الأهداف الملحوظة في التقارير الفصلية لها!

   

كما يجب إضافة تكاليف المعاملات الخاصة بالمقاييس إلى الجوانب السلبية، أي المصاريف وأوقات العمل التي يمضيها أولئك الموظفون المكلفون بجمع الأرقام وحساب المؤشرات، فضلا عن الوقت اللازم لقراءتها. مثلما لاحظ المستشاران في شؤون الإدارة غير التقليدية، إيف موريو وبيتر تولمان في كتاب "ست قواعد بسيطة" (2014)، ينتهي المطاف بالموظفين اليوم بالعمل لفترات أطول وأصعب على الأنشطة التي لا تضيف سوى القليل إلى الإنتاجية الحقيقية لمنظمتهم، فيما ينال هذا من حماستهم في العمل. وفي حين أن المؤسسات قد تقوم في الغالب بفرض سلسلة من القواعد في محاولة لوقف ظهور المقاييس الخادعة من خلال التلاعب والغش والتحوّل عن الأهداف، فإن هذه القواعد، حتى في حال الامتثال لها، تؤدي إلى إبطاء عمل المؤسسة والتقليل من كفاءتها.

    

على عكس الاعتقاد السائد، فإن محاولات قياس الإنتاجية من خلال مقاييس الأداء تثبط المبادرة والابتكار والشهية على المخاطرة.

        

undefined

  

مثلا، عمل محللو الاستخبارات الذين استطاعوا لاحقا تحديد موقع أسامة بن لادن على هذه المشكلة لسنوات. في الحقيقة، لو تم قياس أدائهم في أي وقت خلال تلك السنوات، لكانت إنتاجية هؤلاء المحللين ستبدو صفرا. شهرا بعد شهر، كان معدل فشلهم سيكون مئة في المئة، حتى حققوا النجاح في النهاية. من منظور رؤسائهم، فإن السماح للمحللين بالعمل على المشروع لسنوات عديدة كان ينطوي على درجة عالية من المخاطرة حيث قد لا يحقق الاستثمار في كل هذا الوقت النتائج المرجوة. لكن الإنجازات العظيمة في الحقيقة تعتمد في كثير من الأحيان على مثل هذه المخاطر.

   

أصل المشكلة هو أنه عندما يتم تقييم الأشخاص من خلال مقاييس الأداء، فإنهم يتشجعون للقيام فقط بما تقيسه المؤشرات، وهذا في الغالب سيكون هدفا محددا ومعروفا. لكن هذا يعوق الابتكار، حيث إن الابتكار -من حيث التعريف- هو القيام بشيء لم يتم تحديده بعد، بل لم يتم تجربته من قبل. والابتكار يتطلب التجريب، والتجريب يشمل حكما إمكانية، إن لم نقل احتمالية، الفشل. وفي الوقت نفسه، فإن مكافأة الأفراد بحسب الأداء المقاس يقلل من الشعور بوجود هدف مشترك، والعلاقات الاجتماعية التي تحفز التعاون والفعالية، فبدلا من ذلك، يقوم هذا النوع من المكافآت بتعزيز المنافسة بينهم.

  

إن إجبار الناس في مؤسسة ما على تركيز جهودهم على مجموعة ضيقة من الأهداف القابلة للقياس يحط من قدر تجربة العمل، حيث يضطر الأشخاص إلى التركيز على أهداف محدودة يفرضها آخرون قد لا يفهمون طبيعة العمل الذي يقوم به هؤلاء الناس. كما يضعف التحفيز الذهني عندما لا يحدد الناس بأنفسهم المشاكل التي يجب حلها أو كيفية حلها، بغياب الإثارة بالدخول في المجهول وذلك لأن المجهول لا يمكن قياسه. بذلك يتم خنق عنصر الريادة الموجودة فطرة في الطبيعة البشرية بسبب الهوس بالمؤشرات.

     

undefined

   

ينتهي الأمر بالمؤسسات المأسورة بالمقاييس إلى تشجيع الموظفين الذين لديهم حس المبادرة على تركها للهروب من ثقافة الأداء الخاضع للقياس. هكذا ينتقل المعلمون من المدارس العامة إلى المدارس الخاصة، وينتقل المهندسون من الشركات الكبرى إلى الشركات الصغيرة المتخصصة، ويتحوّل الموظفون الحكوميون المغامرون إلى مستشارين. بالطبع هذه ظاهرة صحية، ولكن من المؤكد أن المنظمات الكبيرة في مجتمعنا تخسر كثيرا بسبب دفعها الموظفين القادرين على الابتكار والمبادرة إلى مغادرتها بهذا الشكل. فكلما أصبح محور العمل هو ملء المربعات التي يتم قياس الأداء من خلالها ومكافأته، نفر أولئك الذين يفكرون خارج الصندوق.

   

يقول الاقتصاديون من أمثال دايل جورجينسون من جامعة هارفارد، المتخصص في قياس الإنتاجية الاقتصادية، إن الزيادة الوحيدة في الإنتاجية الإجمالية في الاقتصاد الأميركي في السنوات الأخيرة أتت من الصناعات المنتجة لتكنولوجيا المعلومات. إذن السؤال الذي يجب طرحه هنا هو التالي: إلى أي مدى ساهمت ثقافة المؤشرات -من حيث تكلفتها على وقت الموظفين، ومعنوياتهم، ومبادرتهم، وتركيزها على المدى القصير- في الركود الاقتصادي؟

   

—————————–

ترجمة (كريم طرابلسي)

(الرابط الأصلي)